العلم من الأدوات المهمة التي أعطاها الله للإنسان ليرقى بها في الدنيا, وليتعرف بها على ربه وخالقه فيرقى بها في الآخرة, وللعلم مناحي كثيرة فهناك العلوم الغيبية التي تأتى بها الرسالات السماوية و التي تتكلم عن أسماء وصفات الخالق العظيم وصفات الملائكة والجن والروح والجنة والنار والحساب وما شابه ذلك. وهناك العلوم الكونية التي تختص بالأرض والشمس والكواكب والنجوم والأجرام السماوية وخواص المادة والضوء والصوت وما شابه ذلك ويمكن معرفة الكثير منها بالحسابات المعروفة وقوانين الطاقة والمادة وهناك العلوم الإنسانية والفلسفة والمنطق, و غيرها الكثير.
ولقد شهدت الآونة الأخيرة تطوراً هائلاً فى العلوم بعد التطور الهائل في سُبل الاتصال وبعد وضع الكثير من المعلومات على شبكة الإنترنت فمع كل يوم جديد يضاف إلى هذه الشبكة آلاف المعلومات ويتم مناقشة آلاف الرسائل في الجامعات من الماجستير والدكتوراه وإذا أضافت كل رسالة معلومة واحدة للبشرية فإن كم المعلومات التراكمي للإنسان يصبح هائلاً.
ويوجد الآن مصدران معتمدان للنشر العالمي الجيد وهما:
وقد سجلت قاعدة بيانات SCOPUS عدد 2946 بحثا متميزا في عام 2000 بينما ازداد العدد إلى 5545 في عام 2008 بينما ارتفع إلى 77651 بحثا في عام 2009. وبينما كانت عدد الدول المشتركة في شبكة المعلومات الدولية قليلا وقت إنشائها فإنه قد ارتفع ليصل إلى 233 دولة تضيف رصيدها العلمي اليومي إليها في زيادة مضطردة. بل إن الدول تتباهى باستعمال رصد المؤشر H-index في قائمة النشر للأبحاث العلمية المتميزة وتتصدر ذلك الولايات المتحدة بمؤشر قيمته 891 درجة (مما يعنى 3652547 بحثا متميزا) تليها انجلترا بمؤشر قيمته 538 درجة بينما القيمة البحثية لمصر 76 درجة (مما يعنى أن مصر هي الخمسين على مستوى العالم في البحث العلمي).
و بعد كل ما سبق نقرأ في كتاب ربنا حتى يومنا هذا و إلي قيام الساعة "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً " 85 الإسراء, و قد نزلت هذه الآية منذ أكثر من 14 قرنا من الزمان في وقت كان العلم بالفعل قليل, فلم يكن بمقدور أحد أن يعترض علي أن علمه و علم أهل زمانه كلهم قليل, و بمُضي الزمان حتى وصلنا إلي زماننا الحالي الذي اتسع فيه العلم و تشعبت فروعه, و تراكمت أبحاثه في كل المجالات التي خطرت و التي لم تخطر علي البال, فجاب الإنسان معظم الأرض دراسةً و تعميراً, و دخل في أعماقها و غاص في بحارها, و انطلق في الفضاء و صار يأتي بالعلم من علي بعد مليارات السنوات الضوئية, فتراكمت المعارف بشكل مذهل يفوق قدرات العقل البشري علي التصور, فكان لابد من سؤال هام, هل مازال العلم قليلاً في زماننا حتى يخاطبنا الله بقوله "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" 85 الإسراء.
يقول الطبري في تفسيره بأن هناك خلاف حول المخاطبين بهذه الآية, فهناك من يقول بان الآية تخاطب أهل زمان النبي صلي الله عليه و سلم فقط, و هناك من يقول بأنها عامة لكل زمان, و هو ما انتصر له الطبري و غيره الكثير من المفسرين لأن خطاب العموم (و ما أوتيتم) في الآية واضح أنه لكل زمان.
يقول ابن كثير في تفسيره لهذا الآية الكريمة (أي وما اطلعتم عليه من علم إلا على القليل فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى والمعنى أن علمكم في علم الله قليل). وفى قصة موسى عليه السلام والخضر عليه السلام (أن الخضر نظر إلى عصفور على حافة السفينة فنقر فى البحر نقرة أي شرب منه بمنقاره فقال يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق فى علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من البحر).
و من الملفت للنظر أن الله خاطب عموم البشر فقال (و ما أوتيتم من العلم) و لم يخاطب الفرد فيقول (و ما أوتيت من العلم) مع أنها قد تكون صحيحة في كل زمان إلي قيام الساعة, لأن علم أي إنسان بمفرده مهما بلغ قليل إلي علوم الآخرين, و لا يساوي حتى ما يشربه عصفور من النهر!, و يكفي أن تنظر إلي مكتبة بيتك لتتحقق من قولي, فلو كنت تملك غرفة مليئة بالكتب فسوف تشعر أمامها بالعجز العلمي, فكل هذا علم أنت لا تعرف منه إلا القليل, و ليس أمامك في العمر الكثير لتعرفه و مهما طال الأجل فهو قصير, و مكتبتك هذه مكتبة صغيرة إذا قورنت بالمكتبات العامة, و لذا فمهما عرفت من أي علم فهو ضئيل. ولما سئل العالم الإنجليزي الكبير نيوتن عن مدى علمه فقال (مثل ظلطة ملونة على شاطئ المحيط). ولما سئل العالم الألماني أينشتاين قال (إن علمه لا يعدو أن يكون طابع بريد ألصقوه في مسلة فرعونية), ولما سئل الفيلسوف الفارسي السعدي قال (لا تنظر إلى الشمس يكفي أنك تعيش على القليل من نورها.. فما بالك بنور الله!).
فما بالك أيها الإنسان لو جمعت علوم الأولين و الآخرين, و قال لك رب العالمين "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"
فالله سبحانه وتعالى يعطى من العلم من يشاء بالقدر الذي يشاء في الوقت الذي يشاء. والإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة أن العلم الهائل الذي تم تحصيله إلى اليوم كان غائبا عن الناس سابقا وأن العلم كلما ازداد كلما كان ذلك اعترافا بالنقص في العلم البشرى قبل اكتشافه, وأن هذا النقص سيستمر إلى قيام الساعة, و العلم كلما تقدم أثبت لأهله بأن الجهل في زيادة مستمرة بدرجة تفوق العلم الذي وصلوا إليه, فكل معلومة نكتسبها تطرح علي العقول العديد من الأسئلة التي تحتاج إلي بحوث علمية تستغرق سنوات و ربما وصلنا إلي إجابة و ربما لم نصل, فيكون الذي نحصله من العلوم باستمرار أقل مما هو مطروح من أسئلة تحتاج إلي أجوبة, و لهذا يقول جوي بول (معلوماتنا كقطر في دائرة، فكلما اتسع القطر يتسع المحيط أضعافاً، لعل الأجيال القادمة تستطيع أن تتقدم في أعمالها العلمية وتكتشف أسرارًا جديدة عن الكائنات، لكنه من المؤسف جدّاً فينبغي أن نقاوم غرورنا ونعترف بأننا لا نعلم شيئاً عن أسرار الخلقة وعن سر الوجود، فرموز الحياة والموت وفلسفة الخلق وأشياء كثيرة أخرى ألغاز قد لا يكشف عنها العلم في القريب العاجل).
و هذه الآية أتت في سياق الكلام عن الروح التي نحيا بها "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُيتم مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا", و منذ عهد النبي صلي الله عليه و سلم و معرفة كنه الروح و أسرارها أمل يراود الكثير من العلماء, و مع ذلك فقد ظلت حتى يومنا هذا غيب لا ندرك حقيقته بكل ما أوتينا من علم, و لا نعرف عنها إلا أثرها من الإحياء و الإماتة. و إذا تركنا الروح و انطلقنا في عالم الجسد نجد الجهل الفاضح في كل الاتجاهات فكم من مرضٍ عجز الطب عن شفائه, و فهم كيفية حدوثه, و أمام القلب و العقل و النفس يقف العلم حائراً لم يصل إلي الشيء الكثير في مجال كشف وفهم الطريقة التي يؤدى بها كل منهم عمله، و كيف يحدث ربط بينهم بحيث يكون الإنسان وحدة متكاملة لا خلل فيها, فالأمور التي لم يتوصل الطب إلي إدراكها أكثر من تلك التي تم التوصل إليها حتى وقتنا هذا.
و إذا سألنا كيف تحول تراب الأرض إلي هذا الإنسان المبدع و ما حوله من كائنات حية مسخرة لأجله, لوجدت جهلاً أكبر لا شفاء له إلا في وحي رب العالمين إلي رسله و أنبيائه الكرام.
و إذا سألنا عن إحصاء دقيق لكل الكائنات الحية التي تعيش علي الأرض و تحت التراب, و في الجو و البحار و الأنهار و المحيطات, و لو سألت عن كل كائن و تفصيل معيشته و كيف يرزقه رب العالمين, و لو سألت عن عدد قطرات المطر و حبات الرمال في الصحراء و أوراق الأشجار و الأزهار و عن الأنفس متى تولد و متى تموت, و ما يحدث لها بين المولد و الإماتة, و غيرها الكثير من الأسئلة التي لا تجد مُجيب, و لو وجدت مجيب لما أجابك إلا بالقليل, و صدق الله إذ يقول {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }الأنعام59.
و إذا تركنا الإنسان بأرضه و توجهنا إلي فضاء كونه نري أبعاداً لا يحصيها العلم تثبت أنه كلما تقدم العلم وتطورت الاكتشافات الكونية أدرك العلماء ضعفهم وعجزهم أمام عظمة الكون، وأدركوا جهلهم بأسراره وعجائبه, فعلماء الكون يعترفون بأن علمهم محدود فما وصلوا إليه من تقدم لم يكشف أكثر من 5% من أسرار هذا الكون العجيب, فهناك كواكب و مجرات كثيرة لم يكتشفها الإنسان، و لم يصل العلم بعد إلي حواف الكون المنظور, فكيف بما وراءه من عوالم و أكوان, و سُكان لا يعلمهم إلا رب العالمين, و العلم لا يقدم لنا حول نشأة الكون ومن خلق الوجود ولماذا خُلق الكون وهل توجد كائنات حية أخرى؟ إلا العديد من الأسئلة التي لا تجد إجابات.
إن اعتراف العلماء بقلة معلوماتهم عن الكون رغم التطور الهائل الذي شهده العصر الحديث، يعني أن الله تبارك وتعالى لا يسمح لأحد من خلقه أن يحيط بشيء من العلم إلا بإذنه، ولذلك قال تعالى (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) 255 البقرة, ومهما تطور العلم سيبقى علم العلماء محدوداً وقليلاً، فينبغي علي كل إنسان أن يعترف بجهله، وأن لا يكابر في دعوى العلم لأنه غاية الجهل كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (من ادعى من العلم غايته فقد أظهر من جهله نهايته), فالاعتراف بالجهل هو بداية طريق العلم, حتى تحصل على ما تجهله، وتدرك ما لم تعرفه ، و تذكر دوماً قول الله تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) 85 الإسراء, حتى تعرف الحجم الطبيعي لعلومنا أمام علم الله المحيط الشامل الذي قال عن نفسه {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } الطلاق12, و قال أيضاً{لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} الجن28.
أ. د. صلاح الدين عبد الحكيم محمد خلف
ولقد شهدت الآونة الأخيرة تطوراً هائلاً فى العلوم بعد التطور الهائل في سُبل الاتصال وبعد وضع الكثير من المعلومات على شبكة الإنترنت فمع كل يوم جديد يضاف إلى هذه الشبكة آلاف المعلومات ويتم مناقشة آلاف الرسائل في الجامعات من الماجستير والدكتوراه وإذا أضافت كل رسالة معلومة واحدة للبشرية فإن كم المعلومات التراكمي للإنسان يصبح هائلاً.
ويوجد الآن مصدران معتمدان للنشر العالمي الجيد وهما:
(1) قاعدة بيانات SCOPUS
(2) قاعدة بيانات ISI
وتعتمد بيانات كل منهما على مصادر المعلومات المتاحة لكل منهما عن طريق الأبحاث العالمية المنشورة في المجلات العالمية المتميزة. و تقدر قيمة الأبحاث العلمية المتميزة بعدد مرات رجوع الباحثين إليها والاستزادة من تلك المعلومات.(2) قاعدة بيانات ISI
وقد سجلت قاعدة بيانات SCOPUS عدد 2946 بحثا متميزا في عام 2000 بينما ازداد العدد إلى 5545 في عام 2008 بينما ارتفع إلى 77651 بحثا في عام 2009. وبينما كانت عدد الدول المشتركة في شبكة المعلومات الدولية قليلا وقت إنشائها فإنه قد ارتفع ليصل إلى 233 دولة تضيف رصيدها العلمي اليومي إليها في زيادة مضطردة. بل إن الدول تتباهى باستعمال رصد المؤشر H-index في قائمة النشر للأبحاث العلمية المتميزة وتتصدر ذلك الولايات المتحدة بمؤشر قيمته 891 درجة (مما يعنى 3652547 بحثا متميزا) تليها انجلترا بمؤشر قيمته 538 درجة بينما القيمة البحثية لمصر 76 درجة (مما يعنى أن مصر هي الخمسين على مستوى العالم في البحث العلمي).
و بعد كل ما سبق نقرأ في كتاب ربنا حتى يومنا هذا و إلي قيام الساعة "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً " 85 الإسراء, و قد نزلت هذه الآية منذ أكثر من 14 قرنا من الزمان في وقت كان العلم بالفعل قليل, فلم يكن بمقدور أحد أن يعترض علي أن علمه و علم أهل زمانه كلهم قليل, و بمُضي الزمان حتى وصلنا إلي زماننا الحالي الذي اتسع فيه العلم و تشعبت فروعه, و تراكمت أبحاثه في كل المجالات التي خطرت و التي لم تخطر علي البال, فجاب الإنسان معظم الأرض دراسةً و تعميراً, و دخل في أعماقها و غاص في بحارها, و انطلق في الفضاء و صار يأتي بالعلم من علي بعد مليارات السنوات الضوئية, فتراكمت المعارف بشكل مذهل يفوق قدرات العقل البشري علي التصور, فكان لابد من سؤال هام, هل مازال العلم قليلاً في زماننا حتى يخاطبنا الله بقوله "وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" 85 الإسراء.
يقول الطبري في تفسيره بأن هناك خلاف حول المخاطبين بهذه الآية, فهناك من يقول بان الآية تخاطب أهل زمان النبي صلي الله عليه و سلم فقط, و هناك من يقول بأنها عامة لكل زمان, و هو ما انتصر له الطبري و غيره الكثير من المفسرين لأن خطاب العموم (و ما أوتيتم) في الآية واضح أنه لكل زمان.
يقول ابن كثير في تفسيره لهذا الآية الكريمة (أي وما اطلعتم عليه من علم إلا على القليل فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى والمعنى أن علمكم في علم الله قليل). وفى قصة موسى عليه السلام والخضر عليه السلام (أن الخضر نظر إلى عصفور على حافة السفينة فنقر فى البحر نقرة أي شرب منه بمنقاره فقال يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق فى علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من البحر).
و من الملفت للنظر أن الله خاطب عموم البشر فقال (و ما أوتيتم من العلم) و لم يخاطب الفرد فيقول (و ما أوتيت من العلم) مع أنها قد تكون صحيحة في كل زمان إلي قيام الساعة, لأن علم أي إنسان بمفرده مهما بلغ قليل إلي علوم الآخرين, و لا يساوي حتى ما يشربه عصفور من النهر!, و يكفي أن تنظر إلي مكتبة بيتك لتتحقق من قولي, فلو كنت تملك غرفة مليئة بالكتب فسوف تشعر أمامها بالعجز العلمي, فكل هذا علم أنت لا تعرف منه إلا القليل, و ليس أمامك في العمر الكثير لتعرفه و مهما طال الأجل فهو قصير, و مكتبتك هذه مكتبة صغيرة إذا قورنت بالمكتبات العامة, و لذا فمهما عرفت من أي علم فهو ضئيل. ولما سئل العالم الإنجليزي الكبير نيوتن عن مدى علمه فقال (مثل ظلطة ملونة على شاطئ المحيط). ولما سئل العالم الألماني أينشتاين قال (إن علمه لا يعدو أن يكون طابع بريد ألصقوه في مسلة فرعونية), ولما سئل الفيلسوف الفارسي السعدي قال (لا تنظر إلى الشمس يكفي أنك تعيش على القليل من نورها.. فما بالك بنور الله!).
فما بالك أيها الإنسان لو جمعت علوم الأولين و الآخرين, و قال لك رب العالمين "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"
فالله سبحانه وتعالى يعطى من العلم من يشاء بالقدر الذي يشاء في الوقت الذي يشاء. والإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة أن العلم الهائل الذي تم تحصيله إلى اليوم كان غائبا عن الناس سابقا وأن العلم كلما ازداد كلما كان ذلك اعترافا بالنقص في العلم البشرى قبل اكتشافه, وأن هذا النقص سيستمر إلى قيام الساعة, و العلم كلما تقدم أثبت لأهله بأن الجهل في زيادة مستمرة بدرجة تفوق العلم الذي وصلوا إليه, فكل معلومة نكتسبها تطرح علي العقول العديد من الأسئلة التي تحتاج إلي بحوث علمية تستغرق سنوات و ربما وصلنا إلي إجابة و ربما لم نصل, فيكون الذي نحصله من العلوم باستمرار أقل مما هو مطروح من أسئلة تحتاج إلي أجوبة, و لهذا يقول جوي بول (معلوماتنا كقطر في دائرة، فكلما اتسع القطر يتسع المحيط أضعافاً، لعل الأجيال القادمة تستطيع أن تتقدم في أعمالها العلمية وتكتشف أسرارًا جديدة عن الكائنات، لكنه من المؤسف جدّاً فينبغي أن نقاوم غرورنا ونعترف بأننا لا نعلم شيئاً عن أسرار الخلقة وعن سر الوجود، فرموز الحياة والموت وفلسفة الخلق وأشياء كثيرة أخرى ألغاز قد لا يكشف عنها العلم في القريب العاجل).
و هذه الآية أتت في سياق الكلام عن الروح التي نحيا بها "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُيتم مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا", و منذ عهد النبي صلي الله عليه و سلم و معرفة كنه الروح و أسرارها أمل يراود الكثير من العلماء, و مع ذلك فقد ظلت حتى يومنا هذا غيب لا ندرك حقيقته بكل ما أوتينا من علم, و لا نعرف عنها إلا أثرها من الإحياء و الإماتة. و إذا تركنا الروح و انطلقنا في عالم الجسد نجد الجهل الفاضح في كل الاتجاهات فكم من مرضٍ عجز الطب عن شفائه, و فهم كيفية حدوثه, و أمام القلب و العقل و النفس يقف العلم حائراً لم يصل إلي الشيء الكثير في مجال كشف وفهم الطريقة التي يؤدى بها كل منهم عمله، و كيف يحدث ربط بينهم بحيث يكون الإنسان وحدة متكاملة لا خلل فيها, فالأمور التي لم يتوصل الطب إلي إدراكها أكثر من تلك التي تم التوصل إليها حتى وقتنا هذا.
و إذا سألنا كيف تحول تراب الأرض إلي هذا الإنسان المبدع و ما حوله من كائنات حية مسخرة لأجله, لوجدت جهلاً أكبر لا شفاء له إلا في وحي رب العالمين إلي رسله و أنبيائه الكرام.
و إذا سألنا عن إحصاء دقيق لكل الكائنات الحية التي تعيش علي الأرض و تحت التراب, و في الجو و البحار و الأنهار و المحيطات, و لو سألت عن كل كائن و تفصيل معيشته و كيف يرزقه رب العالمين, و لو سألت عن عدد قطرات المطر و حبات الرمال في الصحراء و أوراق الأشجار و الأزهار و عن الأنفس متى تولد و متى تموت, و ما يحدث لها بين المولد و الإماتة, و غيرها الكثير من الأسئلة التي لا تجد مُجيب, و لو وجدت مجيب لما أجابك إلا بالقليل, و صدق الله إذ يقول {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }الأنعام59.
و إذا تركنا الإنسان بأرضه و توجهنا إلي فضاء كونه نري أبعاداً لا يحصيها العلم تثبت أنه كلما تقدم العلم وتطورت الاكتشافات الكونية أدرك العلماء ضعفهم وعجزهم أمام عظمة الكون، وأدركوا جهلهم بأسراره وعجائبه, فعلماء الكون يعترفون بأن علمهم محدود فما وصلوا إليه من تقدم لم يكشف أكثر من 5% من أسرار هذا الكون العجيب, فهناك كواكب و مجرات كثيرة لم يكتشفها الإنسان، و لم يصل العلم بعد إلي حواف الكون المنظور, فكيف بما وراءه من عوالم و أكوان, و سُكان لا يعلمهم إلا رب العالمين, و العلم لا يقدم لنا حول نشأة الكون ومن خلق الوجود ولماذا خُلق الكون وهل توجد كائنات حية أخرى؟ إلا العديد من الأسئلة التي لا تجد إجابات.
إن اعتراف العلماء بقلة معلوماتهم عن الكون رغم التطور الهائل الذي شهده العصر الحديث، يعني أن الله تبارك وتعالى لا يسمح لأحد من خلقه أن يحيط بشيء من العلم إلا بإذنه، ولذلك قال تعالى (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) 255 البقرة, ومهما تطور العلم سيبقى علم العلماء محدوداً وقليلاً، فينبغي علي كل إنسان أن يعترف بجهله، وأن لا يكابر في دعوى العلم لأنه غاية الجهل كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (من ادعى من العلم غايته فقد أظهر من جهله نهايته), فالاعتراف بالجهل هو بداية طريق العلم, حتى تحصل على ما تجهله، وتدرك ما لم تعرفه ، و تذكر دوماً قول الله تعالى ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) 85 الإسراء, حتى تعرف الحجم الطبيعي لعلومنا أمام علم الله المحيط الشامل الذي قال عن نفسه {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } الطلاق12, و قال أيضاً{لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} الجن28.
أ. د. صلاح الدين عبد الحكيم محمد خلف
أستاذ جراحة القلب و الصدر - كلية طب - جامعة المنصورة - مصر
تعليق