الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
فهذه آية عظيمة من كتاب الله عز وجل يذكِّر الله سبحانه عباده فيها بشأن القلوب وأعمالها وسرائرها مما لا يعلمه الناس وهو بها عالم ، كما ينبه الله عز وجل من خلال هذه الآية إلى أن هذه السرائر ستبلى وتُختبر يوم القيامة ، ويظهر ما فيها من الإخلاص والمحبة والصدق أو ما يضادها من النفاق والكذب والرياء ؛ وذلك في يوم القيامة ، يوم الجزاء والحساب ؛ وهذا واضح من الآية وما قبلها وبعدها ؛ حيث يقول الله عز وجل : [ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ ]( الطارق : 8-10 ) .
والقلب هو محط نظر الله عز وجل وعليه يدور القبول والرد كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة ، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة فإنه يفسد بفسادها أقوال العبد وأعماله وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذاً بالله تعالى ، ويوضح هذا الأمر قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ).
.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى : [ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ]( الطارق : 9 ) : (( وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة ، وهو أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة ؛ فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحاً ، فتبدو سريرته على وجهه نوراً وإشراقاً وحياءاً ، ومن كانت سريرته فاسدة كان عمله تابعاً لسريرته ، لا اعتبار بصورته ، فتبدو سريرته على وجهه سواداً وظلمة وشيناً ، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ، ويكون الحكم والظهور لها )) .
والسرائر جمع سريرة ، وهي سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه لله ؛ فالإيمان من السرائر ، وشرائعه من السرائر ، فتختبر ذلك اليوم ، حتى يظهر خيرها من شرها ، ومؤديها من مضيعها ، وما كان لله مما لم يكن له .
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ( يبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زيناً في الوجوه ، وشيناً فيها .
والمعنى : تختبر السرائر بإظهارها ، وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب ، والحمد والذم ) .
مما سبق يتبين لنا عِظَمُ شأن القلب وخطورة السريرة ؛ حيث إنها محط نظر الله عز وجل وعليها مدار القبول عنده سبحانه وحسب صلاحها وفسادها يكون حسن الخاتمة وسوؤها ، وكلما صلحت السريرة تمت الأعمال الصالحة وزكت ولو كانت قليلة ، والعكس من ذلك في قلة بركة الأعمال حينما تفسد السريرة ويصيبها من الآفات ما يصيبها ، وهذا هو الذي يفسر لنا تفوُّق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على غيرهم ممن جاء بعدهم ممن قد يكون أكثر من بعض الصحابة عبادة وقربات ؛ حيث إن أساس التفاضل بين العباد عند الله عز وجل هو ما وقر في القلب من سريرة صالحة مطابقة لما ظهر في العلانية من أعمال وأقوال .
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم كانوا أفضل منكم قيل له : بأي شيء ؟ قال : إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم ) .
.
وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب وإصلاح السرائر كثيرة ومتنوعة ،وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله عز وجل والخوف منه وإخلاص العمل له سبحانه ومن ذلك :
* قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم لغد ، والأمانة ألا تخالف سريرةٌ علانيةً ، واتقوا الله عز وجل ؛ فإنما التقوى بالتوقي ، ومن يتق الله يقه ) .
* وعن الحسن رحمه الله تعالى قال : ( ابن آدم ! لك قول وعمل ، وعملك أوْلى بك من قولك ، ولك سريرة وعلانية ؛ وسريرتك أوْلى بك من علانيتك ) .
* وعن ابن عيينة رحمه الله تعالى قال : ( إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل ، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل ، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور ).
* ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( فكل محبة لغيره فهي عذاب على صاحبها وحسرة عليه إلا محبته ومحبة ما يدعو إلى محبته ويعين على طاعته ومرضاته ؛ فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر )).
والحمد لله رب العالمين
يُتبع إن شاء الله تعالى
تعليق