يقول ابن القيم - رحمه الله - : "فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده، وأقرب إلى نجاته: من تدبّر القرآن، وإطالةِ التأمل، وجمْع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تُطلع العبدَ على معالمِ الخير والشر بحذافيرهما، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما، ومآل أهلهما، وتَتُلُّ في يده (تضع) مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبّت قواعدَ الإيمان في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصّره مواقعَ العِبر، وتُشهده عدل الله وفضله، وتعرّفه ذاته، وأسماءه وصفاته وأفعاله، وما يحبه وما يبغضه، وصراطَه الموصلَ إليه، وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه، وقواطع الطريق وآفاتها، وتعرّفه النفسَ وصفاتها، ومفسداتِ الأعمال ومصححاتها، وتعرّفه طريقَ أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم، وأحوالهم وسيماهم، ومراتبَ أهل السعادة وأهل الشقاوة، وأقسامَ الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه، وافتراقهم فيما يفترقون فيه.
وبالجملة تعرِّفُهُ الربَّ المدعوّ إليه، وطريقَ الوصول إليه، وما له من الكرامة إذا قدم عليه.
وتعرّفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطانُ، والطريقُ الموصلة إليه، وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.
فهذه.. أمورٌ ضروري للعبد معرفتها، ومشاهدتها ومطالعتها، فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميّز له بين الحقِّ والباطل في كل ما اختلف فيه العالم؛ فتريه الحقَّ حقًّا، والباطل باطلا. وتعطيه فرقانًا ونورًا يفرق به بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، وتعطيه قوّة في قلبه، وحياةً وسعةً وانشراحًا وبهجةً وسرورًا؛ فيصير في شأن والناس في شأن آخر.
فإنَّ معاني القرآن دائرةٌ على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال، وما يُنزّه عنه من سمات النقص.
وعلى الإيمانِ بالرسل، وذكْر براهينِ صدقهم، وأدلّة صحة نبوتهم، والتعريف بحقوقهم، وحقوق مرسلهم. وعلى الإيمانِ بملائكته، وهم رسله في خلْقه وأمره، وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته، وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي، وما يختصّ بالنوع الإنساني منهم، من حين يستقرُّ في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقدم عليه.
وعلى الإيمانِ باليوم الآخر، وما أعدَّ الله فيه لأوليائه من دارِ النعيم المطلق، التي لا يشعرون فيها بألمٍ ولا نكد وتنغيص، وما أعدّ لأعدائه من دار العقاب الوبيل، التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح، وتفاصيل ذلك أتمّ تفصيل وأبينه.
وعلى تفاصيلِ الأمر والنهي، والشرعِ والقدر، والحلالِ والحرام، والمواعظِ والعِبَر، والقصصِ والأمثال، والأسباب والحكم، والمبادئ والغايات، في خلقه وأمره.
فلا تزال معانيه تنهضُ العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذّره وتخوّفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثّه على التدبّر والتخفّف للقاء اليوم الثقيل.
وتهديه في ظُلَم الآراءِ والمذاهبِ إلى سواء السبيل، وتصدّه عن اقتحام طرقِ البدع والأضاليل، وتبعثُه على الازدياد من النّعم بشكر ربه الجليل.
وتبصّره بحدود الحلال والحرام، وتوقفه عليها؛ لئلا يتعدّاها فيقع في العناء الطويل، وتثبّت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل.
وتسهّل عليه الأمورَ الصعاب، والعقباتِ الشاقَّة غاية التسهيل، وتناديه كلما فترت عزماتُه، وونى في سيره: تقدّمَ الركبُ وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاق، والرحيلَ الرحيل، وتحدو به وتسير أمامه سيرَ الدليل، وكلما خرج عليه كمين من كمائن العدو، أو قاطعٌ من قطّاع الطريق نادته: الحذرَ الحذر! فاعتصم بالله، واستعن به، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.
وفي تأمّل القرآن وتدبّره، وتفهّمه أضعاف ما ذكرنا من الحِكم والفوائد".
مدراج السالكين:1/451-453، لشيخ الإسلام ابن القيم
منقول
تعليق