الشك هو: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.[1]
وقال السمعاني: هو التردد بين طرفي نقيض.[2]
وقال الرازي: هو أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النفي والإثبات.[3]
ومذهب الشك هو العماد الذي يتكئ عليه الفكر الغربي المعاصر منذ أن دعا إلى الشك الفيلسوف رينيه ديكارت؛ إذ يقول: أنا أشك إذن أنا موجود. والشك عند ديكارت هو خطوة التأمل الفلسفي الأولى والأساسية، وهو السبيل الأمثل للوصول إلى اليقين، وهو وسيلة للحصول على معرفة الحقيقة معرفة أكثر وضوحاً[4] حين يقول:«الشك خطوة ضرورية لا بد من اتخاذها فخبرتي بالخطأ وتعرضي له منذ عهد بعيد واحتمال تجدده بفعل تلك الأحكام التي خضعت لها ولم أتبين صحتها، سواء كانت أحكاماً فرضها الغير من معلمين أو مرشدين، أو من وكّل إليهم أمري، أم أحكاماً فرضها عليّ الحس أو الخيال-وتعرضها للخطأ معروف- إن كل هذا يدعوني إلى الشك»[5].
ولا يستثني ديكارت أي شيء من لزوم الريبة فيه، وإخضاعه لعملية الشك قبل الوثوق به حتى الغيبيات التي لا تدرك بالعقل وحده، ويدل على ذلك قوله:«إن هناك ثمة أحكاماً كثيرة تسرعنا في إصدارها على الأشياء ربما تحول دون بلوغنا الحق، وعلقت بعقولنا قبل التيقن منها، حتى أنه لم يعد هناك أمل في التخلص منها إلا إذا شرعنا مرة أخرى في حياتنا إلى وضع جميع الأشياء التي قد تنطوي على أقل قسط من الريبة موضع الشك».[6]
وأصحاب مذهب الشك يقسمونه إلى قسمين:[7]
الأول: الشك المنهجي، ويصفونه بالمعتدل، ويدّعون أن الغرض منه هو التوصل إلى الحقائق، ومن يأخذ بهذا الشك فهو أقرب إلى الموضوعية من الجامد أو الجاحد.
الثاني: الشك المذهبي أو المعرفي؛ لأنه شك في أصل المعرفة، ويصفونه بالمتطرف: وهذا شك لا غرض منه سوى العبثية؛ لأنه هو في نفسه مذهب فلا ثوابت له، فصاحبه يشك ويشك في أنه يشك، وهو مذهب السوفسطائيين.
ومنه ما روى محمد بن عيسى النظام قال: مات ابن لصالح بن عبد القدوس فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النظام وهو غلام حدث كالمتوجع له، فرآه منحرفاً فقال له أبو الهذيل: لا أعرف لجزعك وجهاً إذا كان الناس عندك كالزرع؟ فقال له صالح: يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك، فقال له أبو الهذيل: وما كتاب الشكوك؟ قال: هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان، فقال له النظام: فشك أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت، وإنْ كان قد مات فشك أيضاً في أنه قد قرأ الكتاب وإن كان لم يقرأه.[8]
والمسوقون للفكر الليبرالي الغربي في العالم الإسلامي يتأسون بالغربيين في ذلك، ويجعلون الشك هو الخطوة الأولى للمعرفة، وأنه بدون شك فلا معرفة، بل الجمود والتقليد والتخلف، ولهم مقولات فيه منها:
1- لذا لا بد للإنسان - ولا يتأتى ذلك له للأسف غالباً إلا في العيش في جو ثقافي فلسفي - أن يشك ولو مرة واحدة.[9]
2- لقد بلغ التفكير في الإسلام مبلغاً فلسفياً لم تبلغه ثقافة أو حضارة أخرى، حتى إن المسلمين وعلى رأسهم كبار المتكلمين أقروا مبدأ الشك والبحث للوصول إلى اليقين.[10]
3- مرض ثقافتنا الإسلامية هو اليقين الأعمى. الشك بما هو حَيرة بين خيارات أو سيناريوهات عدة ممكنة، وبما هو ارتياب في حقيقة واقعة ما، وبما هو إحجام عن إصدار حكم قيمة على فعل ما، وبما هو تساؤل عن المرويات والمعتقدات، وبما هو شك في امتلاك الحقيقة ناهيك عن الحقيقة المطلقة... لا محل له من الإعراب في ثقافتنا الإسلامية المشابهة في هذا الصدد، لثقافات القبائل البدائية التي لا تعرف الشك. كل شيء آت لا ريب فيه. أحكامنا قطعية. .... حقائقنا بديهيات، ومعارفنا مسلّمات مستغنية عن البرهان. اليقين الأعمى ساد بين النخب منذ انتصار الإسلام الحنبلي.[11]
بيد أن مذهب الشك هذا قديم وليس حديثاً كما يظن كثير من الناس أن أول من قال به ديكارت، فأهل الكلام من أهل القبلة كان الشك منتشراً فيهم، خاصة المعتزلة، حتى جعلوه واجباً، ونُقل عن أبي هشام الجبائي قوله: أول الواجبات هو الشك لتوقف القصد إلى النظر عليه.[12]
وعقد الجاحظ مبحثاً بعنوان (الشك واليقين) قال فيه: وبعد هذا فاعرف مواضع الشّكّ وحالاتها الموجبة له لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلُّماً، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرُّف التوقُّف ثمَّ التثبُّت لقد كان ذلك ممَّا يحتاج إليه . ثمّ اعلم أنّ الشكّ في طبقاتٍ عند جميعهم ولم يُجْمعوا على أن اليقين طبقاتٌ في القوَّة والضعف.[13]
وقيل لأبي الهذيل : إنَّك إذا راوَغْت واعتلَلْتَ وأنتَ تكلِّم النظام وقمت فأحْسَنُ حالاتِك أنْ يشكَّ النَّاسُ فيكَ وفيهِ قال : خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد.[14]
بل إن الجاحظ جعل اليقين للعوام، والشك للخواص فقال: والعوامُّ أقلُّ شكوكاً من الخواص؛ لأنَّهم لا يتوقَّفون في التصديق والتكذيب، ولا يرتابون بأنفسهم، فليس عندهم إلاّ الإقدامُ على التَّصديق المجرّد أو على التكذيب المجرد وألغوا الحال الثالثة من حال الشَّكّ التي تشتمل على طبقات الشك وذلك على قدر سُوء الظنِّ وحُسن الظّن بأسباب ذلك وعلى مقادير الأغلب.[15]
يتبع
تعليق