التفكير.. فريضة قرآنية
القرآن الكريم هو أعظم كتاب عرفه العالم، وهو كتاب هداية في المقام الأول، فهذه وظيفته الأولى، ولكنه حوى قواعد المعارف الإنسانية، وطرق التفكير والتنظير، وأساليب التعامل بما يتناسب مع تنويعة التركيب البشري المعقد، ليجد المطلع على القرآن والدارس له "الكتالوج" الذي يساعده في فهم العقل البشري، وسبر أغوار النفس البشرية، مصداقاً لقوله -سبحانه وتعالى-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38].
إنه حوى القواعد الكلية، والأطر العامة، والمناهج الأساسية، ولم ينس أن يعطي نماذج عملية، لتساعد من يأخذ منه القواعد والمناهج أن يعرف كيف يطبقها في حياته، بل لم يقف عند إعطاء القواعد والنماذج للأشخاص، فتعدى ذلك إلى إعطاء الجماعات الإنسانية كيفية التفكير بشكل كلي، وألا تقف عند هذا الحد الجزئي، فترتقي إلى المستوى الأعلى حسب الوظيفة التي تقوم بها كل جماعة إنسانية.
ومن عظمة هذا الكتاب أن آياته معدودة محدودة، غير أنها تصلح لتطبيقات شتى، فهي لا تخلق من كثرة الرد، فكلما أعاد الإنسان فيها النظر، أخرج منها اللآلئ والدرر، ليكون بذلك شاهداً على صلاحيته للجماعة الإنسانية، تطبيقاً للجميع، سواء آمنوا عقدياً بما حواه، أم اكتفوا به ككتاب خالد معجز للبشر، يستفيد منه كل من اطلع عليه.
ومن عظمة هذا الكتاب أنه أوضح للناس البناء الروحي، كما وضع لهم قواعد التفكير البشري، ليساعدهم بهذا على التوازن بين ما تصلح به النفس، وبين ما يتغذى به الجسد بوجه عام، والعقل كقيمة عليا في حياة البشر بشكل خاص، وذلك لما للعقل من مكانة سامية، فهو مع القلب كصف الارتكاز الذي تنطلق منه حركة بقية الأجزاء في الإنسان.
القرآن والعقل:
أما فيما يخص البناء الفكري للعقل البشري، فإن أول ما نلحظ أن القرآن الكريم أعطى العقل أهمية خاصة، وجعل العقل مناط التكليف، ولولاه في الإنسان لكان الإنسان كائناً غير محاسب كما كثير من المخلوقات الأرضية والسماوية، لكن الله -سبحانه- كرمه بهذا العقل ليعلي من شأنه، ولعلنا نلحظ هذا من كثير من الآيات، مثل قوله: (أفلا تعقلون) و(أم لهم قلوب يعقلون بها) وغيرها من الآيات، وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ربط العقل بالقلب.
كما أنه ذم التقليد الأعمى في أكثر من موطن، بل لا بدّ من إعمال العقل، فعاب على المشركين رفضهم الهداية لا لشيء إلا لقولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 22]، مع أن القرآن لا يجبر أحداً على الإيمان؛ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29] فهو يذم التقليد الأعمى، ولا يجعله سبيلاً للتفكير الصحيح.
وثاني ما نلحظه أن التفكير البشري يجب أن يكون قائماً على ضوابط حاكمة، ولا يحق للإنسان أن يفكر خبط عشواء، بل لا بدّ أن ينطلق العقل البشري من هذه الضوابط التي تجعله يخرج بحكم أقرب إلى الصواب، وبقدر ما يستعمل الإنسان هذه القواعد، بقدر ما يكون للصواب أقرب، ويطالعنا القرآن بهذا في عتاب الله لداود -عليه السلام-، حين امتحنه الله -تعالى- بنزول الملائكة لتعلمه الحكم: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [ص: 23]، فأسرع داود في الحكم كما حكى القرآن: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [ص: 24]، فعاب الله -تعالى- عليه أنه أسرع في الجواب، ولم ينطلق حكمه على الأمر المعروض له من قواعد حاكمة، بل كان تأثير خطاب، ربما استخدم فيه صاحبه بعض المؤثرات التي تجعل الإنسان يحكم دائماً لكل من يشكو له، ولكن الله -تعالى- علم داود ألا ينخدع بزخرف القول، وأن يحكم بالقسط بين الناس، وأن يعمل العقل قبل العاطفة: (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) [ص: 24].
المؤثرات الخارجية لا المحسوبات:
وفي مجال التفكير -أيضاً- حثنا القرآن أن نبني أطروحاتنا الفكرية على معطيات ننطلق من خلالها، حتى نصل إلى النتيجة المسلَّمة، إن كان الأمر مجال تسليم وإذعان، ولم يكن يتحمل أكثر من وجه، ومثال ذلك: الحديث عن الخلق والخالق، وادعاء البعض أنهم خلقوا، فيأمرهم أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من الأشياء وأن يخلقوا ذبابة لا قيمة لها في الحياة إن استطاعوا؛ (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 73، 74].
وفي مقام اتهام محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه هو الذي اخترع القرآن من عنده أن يأتوا بعشر سور، وفي موطن آخر يدعوهم إلى أن يأتوا بسورة، فإن كان هو بشراً استطاع أن يفعل هذا، فإنه من الممكن حسب المعطيات التي طرحوها أن يقوم أي بشر بالفعل البشري من اختراع آيات، وعند عجزهم، تقع المسلمة أن كل البشر عاجزون عن الإتيان بآية واحدة من مئات وآلاف الآيات، يعني أن الذي يقول: إن هذا القرآن ليس كلامي، بل هو من عنده، أنه إنسان صادق، لأن أحداً لم يستطع أن يأتي بمثله.
ومن قواعد البناء الفكري للقرآن أن الأوهام والأكاذيب يجب أن تقابل باليقين القطعي، الذي يجعل الزاعم عاجزاً عن الدفاع عن هذه الأوهام، وأنها تسقط من تلقاء نفسها، لضحالتها، ولبعدها عن المنهج العلمي في الخطاب والتفكير، ولذا لما قال إبراهيم -عليه السلام- للنمرود: (ربي الذي يحيي ويميت)، فقال النمرود: (أنا أحيي وأميت)، وأتى برجلين قد حكم عليهما بالقتل، فقتل واحداً وأبقى الآخر، مبتعداً عن المنهج العلمي للمصطلح، إذ المقصود أن عملية الموت والحياة هي من العمليات التي اختص الله -تعالى- بها نفسه، وليس المقصود به إيهام المعنى كما فعل النمرود، فضربه إبراهيم بحجته البالغة، فقال له: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب)، فساعتها: (بهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)، وانتهت حلبة الجدال بوضع اليقين أمام الوهم، فتلاشى.
مقصد العلل والحكم الكامنة:
ومن قواعد التفكير السليم التمحيص والتحليل، وعدم الوقوف عند ظواهر الأمور، بل يجب الخوض ومعرفة العلل والحكم الكامنة وراء الأقوال والمواقف والتصرفات، وألا تكون نظرة الإنسان عجلى، ويضرب القرآن بذلك الأمثال الثلاثة التي دارت بين موسى -عليه السلام- وبين الخضر، فكان موسى يحكم عليها بنظرته السريعة والتي يعرفها متعجلاً دون أن يسأل عن السبب والحكمة، أو أن يبحث عن العلل وراء الأحكام.
وفي البنية الفكرية للإنسان يجب أن يعتمد الحق الذي يؤمن به، وألا يخاف الناس ونقدهم، فالنقد طبيعة البشر، ولكن إخفاء الحقيقة فيه ضياع لها، وربما كان في نشر رأي الإنسان نشر للحق، وأن يرزق الرأي أتباعا له، وفي هذا يعتب الله -تعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن الله أمره بالزواج من زينب بنت جحش -رضي الله عنها- والتي كان تزوجها ولده من التبني زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، فتحرَّج الرسول –صلى الله عليه وسلم- من ذلك، ووجد شيئاً في نفسه، مع كون زواجه -صلى الله عليه وسلم- منها فيه إبطال لعادة التبني، فعاب الله عليه ذلك: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)، ففي التفكير والوصول إلى النتائج يجب ألا ينظر الإنسان إلى المؤثرات الخارجية، ولا إلى المحسوبات، لأن في هذا ضياعاً لحقائق الأمور، وإبعاداً للعقل أن يفكر بحيدة وصدق، وكم من النظريات والأحكام العادلة قوبلت بنقد وتجهم، لكن كتب لها البقاء، لأنها قامت على الحق والصواب، والتزمت المنهج العلمي في التفكير، وأصبحت الأقوال المهجورة، والأحكام المتروكة هي درة من درر التفكير البشري.
ولعل ما قاله الإمام ابن تيمية من القول بأن الطلاق بلفظ ثلاث يقع مرة واحدة مخالفاً بذلك ما كان شائعاً منذ زمن عمر –رضي الله عنه- إلى زمنه جعل الناس يخاصمونه، بل وصل الأمر إلى أن يسجن ويعتقل، ولكنه أصر على الحق الذي رآه، وعلم أن قول عمر –رضي الله عنه- كان لحكمة انتهى زمانها حسب فهمه واختياره، ولكن لم يجرؤ أحد أن يخالف عمر –رضي الله عنه-، حتى جاء ابن تيمية، فأصبح قوله أصدق لحال الناس، وأخذ به جمهور الفقهاء من لدن زمن ابن تيمية إلى يومنا هذا، مع بقاء المسألة في حيز الاختلاف العلمي.
كما أنه من أهم قواعد بنية التفكير البشري المأخوذ من القرآن أن يقوم على التجديد، ومراعاة العصر والمصر، وألا يكون جامداً، إلا ما كان في المعتقد والمتعبد، بل حتى المتعبد به يجب أن يفسح له مجال التجديد إن كانت هناك ضرورة تدعو إلى هذا، وما سوى المعتقد وبعض المتعبد فمجال التجديد رحب، ويجب اعتماده، وإلا مات منهج التفكير، وأصيبت بنيته بعطب يصعب علاجه، ومن هنا كان القرآن حمال أوجه، حتى يصلح للناس جميعاً، مع اختلاف البنية الاجتماعية والفكرية والثقافية للجماعة البشرية، ومع تنوع الأيديولوجيات والمناهج، فإنه يبقى القرآن وعقيدته الأصلح للناس جميعا، عبر العصور والدهور.
ولا شك أن يكون القرآن الكريم هو "الكتالوج" المعاصر، ولا ينفك عنه وصف العصرنة، لأنه مع كل جيل جديد يأتي لنا بإصدار جديد من حيث الاستفادة من أوجهه الحمالة، مع حفاظه على الثوابت التي لا حاجة للتغيير، فهو لا ينظر إلى التجديد الفكري ولا التغيير البنيوي لأجله وذاته، ولكن يجعل التجديد وقت الحاجة، تحقيقاً لمصالح العباد، والتي جاء التشريع القرآني من أجلها، كما قال الإمام ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها قائم على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وهي رحمة كلها، وعدل كلها، وحكمة كلها، فكل أمر خرج عن الرحمة إلى ضدها، وعن العدل إلى الجور، وعن الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة وإن نسب إليها" ا. هـ
ولم يكن للقرآن الكريم أن يقوم تشريعه على مصالح العباد، دون أن يضع قواعد البنية الفكرية للإنسان، فهو كتاب الهداية، كما أنه كتاب الفكر والعقل، لمن آمن به أو لم يؤمن به، سعياً للوصول إلى صالح البشرية كلها، إذ الإسلام دين الإنسانية، والقرآن كتاب البشر، لأنه من رب البشر إلى البشر، قبل أن يكون كتاباً للمسلمين
القرآن الكريم هو أعظم كتاب عرفه العالم، وهو كتاب هداية في المقام الأول، فهذه وظيفته الأولى، ولكنه حوى قواعد المعارف الإنسانية، وطرق التفكير والتنظير، وأساليب التعامل بما يتناسب مع تنويعة التركيب البشري المعقد، ليجد المطلع على القرآن والدارس له "الكتالوج" الذي يساعده في فهم العقل البشري، وسبر أغوار النفس البشرية، مصداقاً لقوله -سبحانه وتعالى-: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام: 38].
إنه حوى القواعد الكلية، والأطر العامة، والمناهج الأساسية، ولم ينس أن يعطي نماذج عملية، لتساعد من يأخذ منه القواعد والمناهج أن يعرف كيف يطبقها في حياته، بل لم يقف عند إعطاء القواعد والنماذج للأشخاص، فتعدى ذلك إلى إعطاء الجماعات الإنسانية كيفية التفكير بشكل كلي، وألا تقف عند هذا الحد الجزئي، فترتقي إلى المستوى الأعلى حسب الوظيفة التي تقوم بها كل جماعة إنسانية.
ومن عظمة هذا الكتاب أن آياته معدودة محدودة، غير أنها تصلح لتطبيقات شتى، فهي لا تخلق من كثرة الرد، فكلما أعاد الإنسان فيها النظر، أخرج منها اللآلئ والدرر، ليكون بذلك شاهداً على صلاحيته للجماعة الإنسانية، تطبيقاً للجميع، سواء آمنوا عقدياً بما حواه، أم اكتفوا به ككتاب خالد معجز للبشر، يستفيد منه كل من اطلع عليه.
ومن عظمة هذا الكتاب أنه أوضح للناس البناء الروحي، كما وضع لهم قواعد التفكير البشري، ليساعدهم بهذا على التوازن بين ما تصلح به النفس، وبين ما يتغذى به الجسد بوجه عام، والعقل كقيمة عليا في حياة البشر بشكل خاص، وذلك لما للعقل من مكانة سامية، فهو مع القلب كصف الارتكاز الذي تنطلق منه حركة بقية الأجزاء في الإنسان.
القرآن والعقل:
أما فيما يخص البناء الفكري للعقل البشري، فإن أول ما نلحظ أن القرآن الكريم أعطى العقل أهمية خاصة، وجعل العقل مناط التكليف، ولولاه في الإنسان لكان الإنسان كائناً غير محاسب كما كثير من المخلوقات الأرضية والسماوية، لكن الله -سبحانه- كرمه بهذا العقل ليعلي من شأنه، ولعلنا نلحظ هذا من كثير من الآيات، مثل قوله: (أفلا تعقلون) و(أم لهم قلوب يعقلون بها) وغيرها من الآيات، وفي الآية الأخيرة إشارة إلى ربط العقل بالقلب.
كما أنه ذم التقليد الأعمى في أكثر من موطن، بل لا بدّ من إعمال العقل، فعاب على المشركين رفضهم الهداية لا لشيء إلا لقولهم: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 22]، مع أن القرآن لا يجبر أحداً على الإيمان؛ (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) [البقرة: 256]، (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29] فهو يذم التقليد الأعمى، ولا يجعله سبيلاً للتفكير الصحيح.
وثاني ما نلحظه أن التفكير البشري يجب أن يكون قائماً على ضوابط حاكمة، ولا يحق للإنسان أن يفكر خبط عشواء، بل لا بدّ أن ينطلق العقل البشري من هذه الضوابط التي تجعله يخرج بحكم أقرب إلى الصواب، وبقدر ما يستعمل الإنسان هذه القواعد، بقدر ما يكون للصواب أقرب، ويطالعنا القرآن بهذا في عتاب الله لداود -عليه السلام-، حين امتحنه الله -تعالى- بنزول الملائكة لتعلمه الحكم: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) [ص: 23]، فأسرع داود في الحكم كما حكى القرآن: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [ص: 24]، فعاب الله -تعالى- عليه أنه أسرع في الجواب، ولم ينطلق حكمه على الأمر المعروض له من قواعد حاكمة، بل كان تأثير خطاب، ربما استخدم فيه صاحبه بعض المؤثرات التي تجعل الإنسان يحكم دائماً لكل من يشكو له، ولكن الله -تعالى- علم داود ألا ينخدع بزخرف القول، وأن يحكم بالقسط بين الناس، وأن يعمل العقل قبل العاطفة: (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) [ص: 24].
المؤثرات الخارجية لا المحسوبات:
وفي مجال التفكير -أيضاً- حثنا القرآن أن نبني أطروحاتنا الفكرية على معطيات ننطلق من خلالها، حتى نصل إلى النتيجة المسلَّمة، إن كان الأمر مجال تسليم وإذعان، ولم يكن يتحمل أكثر من وجه، ومثال ذلك: الحديث عن الخلق والخالق، وادعاء البعض أنهم خلقوا، فيأمرهم أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من الأشياء وأن يخلقوا ذبابة لا قيمة لها في الحياة إن استطاعوا؛ (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 73، 74].
وفي مقام اتهام محمد -صلى الله عليه وسلم- أنه هو الذي اخترع القرآن من عنده أن يأتوا بعشر سور، وفي موطن آخر يدعوهم إلى أن يأتوا بسورة، فإن كان هو بشراً استطاع أن يفعل هذا، فإنه من الممكن حسب المعطيات التي طرحوها أن يقوم أي بشر بالفعل البشري من اختراع آيات، وعند عجزهم، تقع المسلمة أن كل البشر عاجزون عن الإتيان بآية واحدة من مئات وآلاف الآيات، يعني أن الذي يقول: إن هذا القرآن ليس كلامي، بل هو من عنده، أنه إنسان صادق، لأن أحداً لم يستطع أن يأتي بمثله.
ومن قواعد البناء الفكري للقرآن أن الأوهام والأكاذيب يجب أن تقابل باليقين القطعي، الذي يجعل الزاعم عاجزاً عن الدفاع عن هذه الأوهام، وأنها تسقط من تلقاء نفسها، لضحالتها، ولبعدها عن المنهج العلمي في الخطاب والتفكير، ولذا لما قال إبراهيم -عليه السلام- للنمرود: (ربي الذي يحيي ويميت)، فقال النمرود: (أنا أحيي وأميت)، وأتى برجلين قد حكم عليهما بالقتل، فقتل واحداً وأبقى الآخر، مبتعداً عن المنهج العلمي للمصطلح، إذ المقصود أن عملية الموت والحياة هي من العمليات التي اختص الله -تعالى- بها نفسه، وليس المقصود به إيهام المعنى كما فعل النمرود، فضربه إبراهيم بحجته البالغة، فقال له: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب)، فساعتها: (بهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين)، وانتهت حلبة الجدال بوضع اليقين أمام الوهم، فتلاشى.
مقصد العلل والحكم الكامنة:
ومن قواعد التفكير السليم التمحيص والتحليل، وعدم الوقوف عند ظواهر الأمور، بل يجب الخوض ومعرفة العلل والحكم الكامنة وراء الأقوال والمواقف والتصرفات، وألا تكون نظرة الإنسان عجلى، ويضرب القرآن بذلك الأمثال الثلاثة التي دارت بين موسى -عليه السلام- وبين الخضر، فكان موسى يحكم عليها بنظرته السريعة والتي يعرفها متعجلاً دون أن يسأل عن السبب والحكمة، أو أن يبحث عن العلل وراء الأحكام.
وفي البنية الفكرية للإنسان يجب أن يعتمد الحق الذي يؤمن به، وألا يخاف الناس ونقدهم، فالنقد طبيعة البشر، ولكن إخفاء الحقيقة فيه ضياع لها، وربما كان في نشر رأي الإنسان نشر للحق، وأن يرزق الرأي أتباعا له، وفي هذا يعتب الله -تعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن الله أمره بالزواج من زينب بنت جحش -رضي الله عنها- والتي كان تزوجها ولده من التبني زيد بن حارثة -رضي الله عنه-، فتحرَّج الرسول –صلى الله عليه وسلم- من ذلك، ووجد شيئاً في نفسه، مع كون زواجه -صلى الله عليه وسلم- منها فيه إبطال لعادة التبني، فعاب الله عليه ذلك: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه)، ففي التفكير والوصول إلى النتائج يجب ألا ينظر الإنسان إلى المؤثرات الخارجية، ولا إلى المحسوبات، لأن في هذا ضياعاً لحقائق الأمور، وإبعاداً للعقل أن يفكر بحيدة وصدق، وكم من النظريات والأحكام العادلة قوبلت بنقد وتجهم، لكن كتب لها البقاء، لأنها قامت على الحق والصواب، والتزمت المنهج العلمي في التفكير، وأصبحت الأقوال المهجورة، والأحكام المتروكة هي درة من درر التفكير البشري.
ولعل ما قاله الإمام ابن تيمية من القول بأن الطلاق بلفظ ثلاث يقع مرة واحدة مخالفاً بذلك ما كان شائعاً منذ زمن عمر –رضي الله عنه- إلى زمنه جعل الناس يخاصمونه، بل وصل الأمر إلى أن يسجن ويعتقل، ولكنه أصر على الحق الذي رآه، وعلم أن قول عمر –رضي الله عنه- كان لحكمة انتهى زمانها حسب فهمه واختياره، ولكن لم يجرؤ أحد أن يخالف عمر –رضي الله عنه-، حتى جاء ابن تيمية، فأصبح قوله أصدق لحال الناس، وأخذ به جمهور الفقهاء من لدن زمن ابن تيمية إلى يومنا هذا، مع بقاء المسألة في حيز الاختلاف العلمي.
كما أنه من أهم قواعد بنية التفكير البشري المأخوذ من القرآن أن يقوم على التجديد، ومراعاة العصر والمصر، وألا يكون جامداً، إلا ما كان في المعتقد والمتعبد، بل حتى المتعبد به يجب أن يفسح له مجال التجديد إن كانت هناك ضرورة تدعو إلى هذا، وما سوى المعتقد وبعض المتعبد فمجال التجديد رحب، ويجب اعتماده، وإلا مات منهج التفكير، وأصيبت بنيته بعطب يصعب علاجه، ومن هنا كان القرآن حمال أوجه، حتى يصلح للناس جميعاً، مع اختلاف البنية الاجتماعية والفكرية والثقافية للجماعة البشرية، ومع تنوع الأيديولوجيات والمناهج، فإنه يبقى القرآن وعقيدته الأصلح للناس جميعا، عبر العصور والدهور.
ولا شك أن يكون القرآن الكريم هو "الكتالوج" المعاصر، ولا ينفك عنه وصف العصرنة، لأنه مع كل جيل جديد يأتي لنا بإصدار جديد من حيث الاستفادة من أوجهه الحمالة، مع حفاظه على الثوابت التي لا حاجة للتغيير، فهو لا ينظر إلى التجديد الفكري ولا التغيير البنيوي لأجله وذاته، ولكن يجعل التجديد وقت الحاجة، تحقيقاً لمصالح العباد، والتي جاء التشريع القرآني من أجلها، كما قال الإمام ابن القيم: "إن الشريعة مبناها وأساسها قائم على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض، وهي رحمة كلها، وعدل كلها، وحكمة كلها، فكل أمر خرج عن الرحمة إلى ضدها، وعن العدل إلى الجور، وعن الحكمة إلى العبث فليس من الشريعة وإن نسب إليها" ا. هـ
ولم يكن للقرآن الكريم أن يقوم تشريعه على مصالح العباد، دون أن يضع قواعد البنية الفكرية للإنسان، فهو كتاب الهداية، كما أنه كتاب الفكر والعقل، لمن آمن به أو لم يؤمن به، سعياً للوصول إلى صالح البشرية كلها، إذ الإسلام دين الإنسانية، والقرآن كتاب البشر، لأنه من رب البشر إلى البشر، قبل أن يكون كتاباً للمسلمين
تعليق