السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه
والصلاة والسلام على خير من وطئ الحصى ، إنه المصطفى وكفى
أما بعد ،،
أحبتي في الله إننا اليوم مع محدث الديار المصرية وامامها وفقيهها ومفتيها ، شيخ الاسلام
وأكرر كلمة شيخي وحبيبي الشيخ ابو اسحاق الحويني " إن مجرد مطالعة سير السلف ، يحصل منه من الإفادة ما لا يتخيله البعض ".
إننا اليوم مع
السري السخي، الملي الوفي
كان لعلمه عقول، ولماله بذول
إنه الامام الرباني " ابو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن المصري " صاحب المذهب
ولد بقرية صغيرة من قرى مصر تسمي " قرقشندة " وهى من أسفل أعمال مصر " الصعيد "
قال يحيي بن بكير " ولد الليث سنة أربع وتسعين "
وقال سعيد بن أبي مريم " ولد اليث سنة ثلاث وتسعين "
قال الامام الذهبي - صاحب السير - : " والاول أصح، لان يحيى يقول: سمعت الليث يقول: ولدت في شعبان سنة أربع، قال الليث: وحججت سنة ثلاث عشرة ومئة" ا.هـ .
ذكر طرف من شيوخه
سمع وتلقى العلم من الاكابر
وقد أوردهم الذهبي في السير على النحو التالى
" عطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، وابن شهاب الزهري،وعبد الرحمن بن القاسم، والحارث بن يعقوب، ودراجا أبا السمح الواعظ، وعقيل بن خالد، ويونس بن يزيد، وحكيم بن عبدالله بن قيس،وهشام بن عروة، وعبد الله بن عبدالرحمن بن أبي حسين، وأيوب بن موسى، وبكر بن سوادة، وأبا كثير الجلاح، والحارث بن يزيد الحضرمي، وخالد بن يزيد، وصفوان بن سليم، وخير بن نعيم، وأبا الزناد ،وقتادة، ومحمد بن يحيى بن حبان، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، ويحيى ابن سعيد الانصاري، وخلقا كثيرا " ا. هـ باختصار .
وقال الذهبي ايضا انه كان يروى عن تلاميذه ومن ذلك
" أنه روى عن نافع، ثم روى حديثا بينه وبينه فيه أربعة أنفس " ا.هـ
طرف من الرواة عنه
أما الرواة عنه فحدث ولا حرج فمنهم ابن لهيعة، وهشيم، وابن وهب، وابن المبارك ، وآدم بن أبي إياس، وأحمد بن يونس، وشعيب بن الليث، ولده، ويحيى بن بكير، وعبد الله بن عبد الحكم، ومنصور بن سلمة، ويونس بن محمد،وعيسى بن حماد زغبة، وعبد الله بن صالح الكاتب، وعمرو بن خالد، وعبد الله بن يوسف التنيسي.
كرمه وجوده
قال بن حبان في كتابه مشاهير علماء الامصار
" كان أحد الائمة في الدنيا فقها وورعا وفضلا وعلما ونجدة وسخاء لا يختلف إليه أحد إلا أدخله في جملة عياله ينفق عليهم كما ينفق على خاصة عياله فإذا أرادوا الخروج من عنده زودهم ما يبلغهم إلى أوطانهم رحمة الله عليه " ا.هـ
فلننظر إلى ذلك الامام بعين الاعتبار وللنظر إلى سخاءه وجوده وكرمه ، فمن كرمه أنه إذا جاءه الجائي لطلب العلم إلا انفق عليه كما ينفق على احد اولاده فياله من كرم
وليسعد لقول الله تعالى " وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "التوبة99
" مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " البقرة245
" مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " البقرة261
وقال رسول اله عليه وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً " متفق عليه .
والايات في الباب والاحاديث كثيرٌ كثير .
فكان الليث رحمه الله من المنفقين كأنه لا يخشى الفقر ، ثم إن اقام عنده أحد فأراد السفر زدوه الليث بكل ما يحتاج وإنه جود لو نعلم كبير .
ومما يدل على كرمه الواسع أيضا
ما ذكره ابو نعيم في الحلية فقال
"حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا الوليد بن أبان، حدثنا أبو حام، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار، قال: سمعت أبي يقول: كنت عند الليث بن سعد يوماً جالساً فأتته امرأة ومعها قدح فقالت: يا أبا الحارث إن زوجي يشتكي وقد نعت له العسل، فقال: اذهبي إلى أبي قسيمة فقولي له يعطيك مطراً من عسل فذهبت فلم ألبث أن جاء أبو قسيمة فساره بشيء لا أدرى ما قال له، فرفع رأسه إليه فقال: اذهب فأعطها مطراً، أنها سألت بقدرها وأعطيناها بقدرنا، والمطر، الفرق، والفرق عشرون ومائة رطل" . ا، هـ
لله دره
سألته بقدرها فأعطاها بقدره ، والله إن قدره لكبير وإن كرمه لجميل .
ومما يدل على كرمه الزائد ما أروده بن الجوزي في كتابه صفة الصفوة
" عن محمد بن موسى الصائغ قال: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت في جامع مصر يوماً فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث. فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم: قال رد علي الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه. فرق وبكى حتى رحمته. ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار.
قال: أنت أبو السري؟قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية. فجاءت فوقفت بين يديه فقال لها: جيئي بكيس كذا وكذا فجاءت بكيس فيه ألف دينار فقال: يا أبا السري خذ هذا إليك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحداً من المخلوقين بعد مدحتك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها.
فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلي وأنعم.
قال: لا ترد علي شيئاً أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علي، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته فقال لي: اذكر شيئاً فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثني هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار. فقلت: عهدي بصلتك بالأمس. قال: لا تردن علي شيئاً أصلك به. متى رأيتك؟ قلت: الجمعة الداخلة.
قال: كأنك فتت عضواً من أعضائي. فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعاً فقال لي: خذ في شيء أذكرك به، فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه. ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثني الوسادة، إذا ثلثمائة دينار قد أعدها للحج. ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيه أربعون ثوباً.
قلت: رحمك الله أكتفي بثوبين.
فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك ".
المحب متبع
كان الليث رحمه الله متبع للاثر اشد الاتباع ، مستن بسنة رسول الله ، لا يحب مجالس الامراء مع كونه غني كبير مشتهر.
قال ابو نعيم في الحلية
" كان الشافعي يقول: الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس" ا . هـ .
ولكن لكل فضله ولكل علمه وتقاه وزهده وعبادته
ولقد ذكرنا في بداية الحديث أن الليث بن سعد صاحب مذهب ، إلا ان اصحابه لم يقوموا على نشر مذهبه ، كما قام أصحاب مالك والشافعي واحمد وابو حنيفة ، فلقد قام اصحابهم بنشر مذاهبهم في الافاق ، وهو ما لم يقم به اصحاب الليث لذلك لم يعلم له الان مذهب وكذا الحال بالنسبة للامام سفيان الثوري ، وغيرهم .....
مكانة الليث
قال الذهبي في السير :
" كان الليث رحمه الله فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، ورئيسها، ومن يفتخر بوجوده الاقليم، بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها، من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه، ومشورته، ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الاقليم، فاستعفي من ذلك." ا. هـ
لو نظرنا إلى كلام الذهبي لوجدنا أنه كان يسهل على الليث التقرب من الامراء والوزراء ، بحيث أن ولى مصر وقضاتها يستشيرونه ويرجعون إليه فكان لهم أول مرجعية عندما يطرأ أمرا من الامور .
وذكر الذهبي أن المنصور أراده ليكون واليا على احد الاقاليم ولكنه رفض
وحكى بن خلكان في كتابه وفيات الاعيان
" أن الليث بن سعد قال : قال لي أبو جعفر- يعني المنصور - : تلي لي مصر قلت: لا يا أمير المؤمنين إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي، فقال: ما بك ضعف معي، ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك لي ".
ونعم الليث ، فهذه سنة الائمة الكبار كانوا لا يحبون التقرب إلى السلطان ولا يحبون أن يكون بيدهم السلطة ولا يسعون لها .
وكما حكى عن سفيان الثوري أن ناسا قالوا له لو دخلت على السلاطين؟ قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلتُ فيه، قيل له: تقول وتتحفّظ، قال: تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي.
فكان هذا حال سلفنا الصالح ، مع ان هؤلاء السلاطين منهم من كان يحكم بالكتاب والسنة ومنهم من على الاقل يدعى أنه يحكم بالكتاب والسنة وكانوا يقربون العلماء ، فما بال هؤلاء لو كانوا في عصرنا ...
ورحم الله الليث فقد عاش في زمان قل فيه الهوى وقل من تجد من أهل الاهواء
حتى ان سعيد بن مريم يقول : سمعت الليث يقول : بلغت الثمانين، وما نازعت صاحب هوى قط.
فعلق الذهبي على ذاك الكلام قائلاً
" كانت الاهواء والبدع خاملة في زمن الليث، ومالك، والاوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة.
فأما في زمن أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الاثر، ورفع أهل الاهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك، واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال، واشتد النزاع، وتولدت الشبه.
نسأل الله العافية " ا . هـ .
فما بال الليث لو كان في زماننا ، فهل يا ترى كان سيقول تلك الكلمة ؟؟
فقه الليث
وذكر صاحب الحلية - أبو نعيم الاصبهاني - مسندا الكلام إلى عبد الله بن صالح أنه قال
" سمعت الليث بن سعد يقول: لما قدمت على هارون الرشيد قال لي يا ليث ما صلاح بلدكم. قلت: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي فقال: صدقت يا أبا الحارث " ا. هـ .
يا له من فقيه ، نعم من رأس العين يأتى الكدر ، وإن صلاح الرعية في صلاح الامير ، فإذا صلح الامير صلحت الرعية ، وإذا فسد الامير فسدت الرعية
كما انه إذا صلح المنبع صلح الفرع ، وإذا فسد المنبع فسد الفرع ..
وذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد
" كان الليث له كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها: أما أولها، فيجلس لنائبه السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمرا، أو من السلطان، كتب إلى أمير المؤمنين، فأتيه العزل، ويجلس لاصحاب الحديث، وكان
يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم.
ويجلس للمسائل، يغشاه الناس، فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس، لا يسأله أحد فيرده، كبرت حاجته أو صغرت، وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السكر "
هكذا يكون العلم وهكذا يكون العلماء ممن فتح الله عيهم ومن عليهم بالرزق الوفير والمال الكثير فهم يعرفون في أموالهم حق الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
" إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي ربه فيه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواءٌ ... الحديث " والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال حسن صحيح وأخرج الامام احمد في مسنده
فكان الليث من الصنف الاول الذي آتاه الله المال والعلم معاً ، عرف حق الله فيه وانفق ايما إنفاق ، وان ما ذكرناه في اول لقاء كان نبذة بسيطة جدا عن انفاقه وإلا فإنه كان يحول عليه الحول ينفق خمسين ألف دينار وعليه دين ، وقيل ثمانين ألف دينار ، وكان يرسل لمالك على رأس كل سنة ألف دينا ، ولما احترقت كتب بن لهيعة أرسل له ألف دينار ، إلى غير ذلك من مواقف جوده وكرمه ، والتى وافقت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر صاحب الحلية أبو نعيم الاصفهانى قصة الليث مع هارون الرشيد والتى تدل على الفقه الواسع للامام ، وقد اوردها الذهبي في سيره اختصارا وتكلم عنها بكلام نذكره في موقعه إن شاء الله
قال ابو نعيم
" حدثنا أبو علي الحسن بن مليح الطريفي - بمصر - حدثنا لولو الخادم - خادم الرشيد - قال: جرى بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة في شيء من الأشياء، فقال هارون لها في عرض كلامه: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم واغتما جميعا بهذه اليمين، ونزلت بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين فلم يجد مخرجاً منها مخرجاً، ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن يحمل إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم وأدخلوا عليه، وكنت واقفاً بين يديه لأمر إن حدث يأمرني بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه وكنت المعبر عنه، وهل له منها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان إذ ذاك فيهم الليث بن سعد فيمن أشخص من مصر، وهو جالس في آخر المجلس لم يتكلم بشيء وهارون يراعي الفقهاء واحداً واحداً، فقال: بقي ذلك الشيخ في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، فقلت له: إن أمير المؤمنين يقول لك مالك لا تتكلم كما تكلم أصحابك. فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مقنع، فقال: قل إن أمير المؤمنين يقول لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم، ولما أحضرت هذا المجلس فقال يخلي أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك، فانصرف من كان. بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس ثم قال: تكلم! فقال: يدنيني أمير المؤمنين فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام، وليس عليك منه عين، فقال يا أمير المؤمنين أتكلم على الأمان وعلى طرح التعمل والهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما أمر به؟ قال: لك ذلك، قال: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع، فأمر له فأحضر، فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصحفه حتى يصل إلى سورة الرحمن فأخذه وتصحفه حتى وصل إلى سورة الرحمن فأخذه وتصحفه حتى وصل إلى سورة الرحمن فقال: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ فلما بلغ: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " الرحمن 46. قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف، فقال: يقول أمير المؤمنين والله، فاشتد على الرشيد وعلى ذلك، فقال له هارون: ما هذا. قال: يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط، فنكس أمير المؤمنين رأسه - وكانت زبيدة في بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب - ثم رفع هارون رأسه إليه، فقال: والله، قال الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن بلغ آخر اليمين، ثم قال إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله. قال هارون: إني أخاف مقام الله، فقال: يا أمير المؤمنين فهي جنتان وليست جنة واحدة، كما ذكر الله تعالى في كتابه، فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر، وقال هارون: أحسنت والله بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخلع لليث بن سعد، ثم قال هارون: يا شيخ اختر ما شئت وسل ما شئت تجب فيه، فقال: يا أمير المؤمنين وهذا الخادم الواقف على رأسك، فقال: وهذا الخادم، فقال: يا أمير المؤمنين والضياع التي لك بمصر ولابنة عمك أكون عليها وتسلم إلي لأنظر في أمورها، قال: بل نقطعك إقطاعاً، فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد من هذا شيئاً بل تكون في يدي لأمير المؤمنين، فلا يجري على حيف العمال وأعز بذلك، فقال: لك ذلك، وأمر أن يكتب له ويسجل. بما قال، وخرج من بين يدي أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم، وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحمل إليه واستأذن في الرجوع إلى مصر فحمل مكرماً أو كما قال " ا. هـ.
دلت هذه الحكاية عن فقه الليث الواسع ، إذا ان فقهاء الامصار لم يتوصلوا إلى ما وصل اليه ذلك الفقيه .
وإن كان الذهبي ذكر انها لو صحت فهي قبل خلافة هارون الرشيد
ثناء العلماء عليه
عن يعقوب ابن داود وزير المهدي، قال: قال أمير المؤمنين لما قدم الليث العراق: الزم هذا الشيخ، فقد ثبت عندي أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه
قال عبد العزيز بن محمد: رأيت الليث عند ربيعة يناظرهم في المسائل، وقد فرفر أهل الحلقة
وفرفر أهل الحلقة أي كسرهم، وغلبهم بحجته
قال يحى بن بكير، حدثنا شرحبيل بن جميل قال: أدركت الناس أيام هشام الخليفة، وكان الليث بن سعد حدث السن، وكان بمصر عبيدالله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يزيد، ويزيد بن أبي حبيب، وابن هبيرة، وإنهم يعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلامه عن حداثة سنه، ثم قال ابن بكير: لم أر مثل الليث.
وروى عبدالملك بن يحيى بن بكير، عن أبيه، قال: ما رأيت أحدا أكمل من الليث.
وقال ابن بكير: كان الليث فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، فما زال يذكر خصالا جميلة، ويعقد بيده، حتى عقد عشرة: لم أر مثله
عن ابن وهوب، قال: لولا مالك، والليث، هلكت، كنت أظن كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل به
عن عثمان بن صالح قال : كان أهل مصر ينتقصون عثمان، حتى نشأ فيهم الليث، فحدثهم بفضائله، فكفوا.
روى عبدالملك بن شعيب، عن أبيه، قال: قيل لليث: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أو كل ما في صدري في كتبي ؟ لو كتبت ما في صدري، ما وسعه هذا المركب.
عن الاثرم قال : سمعت أبا عبدالله يقول: ما في هؤلاء المصريين أثبت من
الليث، لا عمرو بن الحارث ولا أحد، وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكير، ما أصح حديث ليث بن سعد، وجعل يثني عليه، فقال رجل لابي عبدالله، إن إنسانا ضعفه.
فقال: لا يدري
وقال الفضل بن زياد: قال أحمد: ليث كثير العلم، صحيح الحديث .
وقال أحمد بن سعد الزهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الليث ثقة ثبت
وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ليس في المصريين أصح حديثا من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث يقاربه
وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم: قال ابن معين: الليث عندي أرفع من ابن إسحاق.
وعن أحمد بن صالح - وذكر الليث - فقال: إمام قد أوجب الله علينا حقه، لم يكن بالبلد بعد عمرو بن الحارث مثله.
قال ابن سعد: استقل الليث بالفتوى، وكان ثقة، كثير الحديث، سريا من الرجال، سخيا، له ضيافة.
وقال أبو زرعة الرازي: سمعت يحيى بن بكير يقول: الليث أفقه من
مالك، ولكن الحظوة لمالك رحمه الله
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الليث أتبع للاثر من مالك.
قال قتيبة: كان الليث يركب في جميع الصلوات إلى الجامع، ويتصدق كل يوم على ثلاث مئة مسكين.
قال عبد العزيز الدراوردي: لقد رأيت الليث، وإن ربيعة ويحيى بن سعيد ليتزحزحون له زحزحة.
قال سعيد الآدم: قال العلاء بن كثير: الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا.
وفاته رحمه الله :
قال يحيى بن بكير، وسعيد بن أبي مريم: مات الليث للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومئة.
قال يحيى: يوم الجمعة، وصلى عليه موسى بن عيسى.
وقال سعيد: مات ليلة الجمعة.
قال خالد بن عبد السلام الصدفي: شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي، فما رأيت جنازة قط أعظم منها، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن، وهم يعزي بعضهم بعضا، ويبكون، فقلت: يا أبت، كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة، فقال: يا بني، لا ترى مثله أبدا .
رحم الله الامام الفقيه الورع التقي السهل الثري السخي الدري
رحم الله الليث بن سعد أبا الحارث المصري
يا ليت لنا فقيه مثله ومحدث على رسمه ، فنحن في اشد الحاجة لعلمه
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده
وما كان من خطأ أو سهو فمني ومن الشيطان
والله الموفق إلى سواء السبيل وهو بكل جميل كفيل
وهو حسبنا ونعم الوكيل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه
والصلاة والسلام على خير من وطئ الحصى ، إنه المصطفى وكفى
أما بعد ،،
أحبتي في الله إننا اليوم مع محدث الديار المصرية وامامها وفقيهها ومفتيها ، شيخ الاسلام
وأكرر كلمة شيخي وحبيبي الشيخ ابو اسحاق الحويني " إن مجرد مطالعة سير السلف ، يحصل منه من الإفادة ما لا يتخيله البعض ".
إننا اليوم مع
السري السخي، الملي الوفي
كان لعلمه عقول، ولماله بذول
إنه الامام الرباني " ابو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن المصري " صاحب المذهب
ولد بقرية صغيرة من قرى مصر تسمي " قرقشندة " وهى من أسفل أعمال مصر " الصعيد "
قال يحيي بن بكير " ولد الليث سنة أربع وتسعين "
وقال سعيد بن أبي مريم " ولد اليث سنة ثلاث وتسعين "
قال الامام الذهبي - صاحب السير - : " والاول أصح، لان يحيى يقول: سمعت الليث يقول: ولدت في شعبان سنة أربع، قال الليث: وحججت سنة ثلاث عشرة ومئة" ا.هـ .
ذكر طرف من شيوخه
سمع وتلقى العلم من الاكابر
وقد أوردهم الذهبي في السير على النحو التالى
" عطاء بن أبي رباح، وابن أبي مليكة، وابن شهاب الزهري،وعبد الرحمن بن القاسم، والحارث بن يعقوب، ودراجا أبا السمح الواعظ، وعقيل بن خالد، ويونس بن يزيد، وحكيم بن عبدالله بن قيس،وهشام بن عروة، وعبد الله بن عبدالرحمن بن أبي حسين، وأيوب بن موسى، وبكر بن سوادة، وأبا كثير الجلاح، والحارث بن يزيد الحضرمي، وخالد بن يزيد، وصفوان بن سليم، وخير بن نعيم، وأبا الزناد ،وقتادة، ومحمد بن يحيى بن حبان، ويزيد بن عبدالله بن الهاد، ويحيى ابن سعيد الانصاري، وخلقا كثيرا " ا. هـ باختصار .
وقال الذهبي ايضا انه كان يروى عن تلاميذه ومن ذلك
" أنه روى عن نافع، ثم روى حديثا بينه وبينه فيه أربعة أنفس " ا.هـ
طرف من الرواة عنه
أما الرواة عنه فحدث ولا حرج فمنهم ابن لهيعة، وهشيم، وابن وهب، وابن المبارك ، وآدم بن أبي إياس، وأحمد بن يونس، وشعيب بن الليث، ولده، ويحيى بن بكير، وعبد الله بن عبد الحكم، ومنصور بن سلمة، ويونس بن محمد،وعيسى بن حماد زغبة، وعبد الله بن صالح الكاتب، وعمرو بن خالد، وعبد الله بن يوسف التنيسي.
كرمه وجوده
قال بن حبان في كتابه مشاهير علماء الامصار
" كان أحد الائمة في الدنيا فقها وورعا وفضلا وعلما ونجدة وسخاء لا يختلف إليه أحد إلا أدخله في جملة عياله ينفق عليهم كما ينفق على خاصة عياله فإذا أرادوا الخروج من عنده زودهم ما يبلغهم إلى أوطانهم رحمة الله عليه " ا.هـ
فلننظر إلى ذلك الامام بعين الاعتبار وللنظر إلى سخاءه وجوده وكرمه ، فمن كرمه أنه إذا جاءه الجائي لطلب العلم إلا انفق عليه كما ينفق على احد اولاده فياله من كرم
وليسعد لقول الله تعالى " وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "التوبة99
" مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " البقرة245
" مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " البقرة261
وقال رسول اله عليه وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً " متفق عليه .
والايات في الباب والاحاديث كثيرٌ كثير .
فكان الليث رحمه الله من المنفقين كأنه لا يخشى الفقر ، ثم إن اقام عنده أحد فأراد السفر زدوه الليث بكل ما يحتاج وإنه جود لو نعلم كبير .
ومما يدل على كرمه الواسع أيضا
ما ذكره ابو نعيم في الحلية فقال
"حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، حدثنا الوليد بن أبان، حدثنا أبو حام، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار، قال: سمعت أبي يقول: كنت عند الليث بن سعد يوماً جالساً فأتته امرأة ومعها قدح فقالت: يا أبا الحارث إن زوجي يشتكي وقد نعت له العسل، فقال: اذهبي إلى أبي قسيمة فقولي له يعطيك مطراً من عسل فذهبت فلم ألبث أن جاء أبو قسيمة فساره بشيء لا أدرى ما قال له، فرفع رأسه إليه فقال: اذهب فأعطها مطراً، أنها سألت بقدرها وأعطيناها بقدرنا، والمطر، الفرق، والفرق عشرون ومائة رطل" . ا، هـ
لله دره
سألته بقدرها فأعطاها بقدره ، والله إن قدره لكبير وإن كرمه لجميل .
ومما يدل على كرمه الزائد ما أروده بن الجوزي في كتابه صفة الصفوة
" عن محمد بن موسى الصائغ قال: سمعت منصور بن عمار يقول: تكلمت في جامع مصر يوماً فإذا رجلان قد وقفا على الحلقة فقالا: أجب الليث. فدخلت عليه فقال: أنت المتكلم في المسجد؟ قلت: نعم: قال رد علي الكلام الذي تكلمت به. فأخذت في ذلك المجلس بعينه. فرق وبكى حتى رحمته. ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، قال: ابن من؟ قلت: ابن عمار.
قال: أنت أبو السري؟قلت: نعم. قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيتك. ثم قال: يا جارية. فجاءت فوقفت بين يديه فقال لها: جيئي بكيس كذا وكذا فجاءت بكيس فيه ألف دينار فقال: يا أبا السري خذ هذا إليك وصن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحداً من المخلوقين بعد مدحتك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها.
فقلت: رحمك الله إن الله قد أحسن إلي وأنعم.
قال: لا ترد علي شيئاً أصلك به، فقبضتها وخرجت. قال: لا تبطئ علي، فلما كان في الجمعة الثانية أتيته فقال لي: اذكر شيئاً فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه فلما أردت أن أقوم قال: انظر ما في ثني هذه الوسادة وإذا خمسمائة دينار. فقلت: عهدي بصلتك بالأمس. قال: لا تردن علي شيئاً أصلك به. متى رأيتك؟ قلت: الجمعة الداخلة.
قال: كأنك فتت عضواً من أعضائي. فلما كانت الجمعة الداخلة أتيته مودعاً فقال لي: خذ في شيء أذكرك به، فتكلمت، فبكا وكثر بكاؤه. ثم قال لي: يا منصور انظر ما في ثني الوسادة، إذا ثلثمائة دينار قد أعدها للحج. ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور، فجاءت بإزار فيه أربعون ثوباً.
قلت: رحمك الله أكتفي بثوبين.
فقال لي: أنت رجل كريم ويصحبك قوم فأعطهم. وقال للجارية التي تحمل الثياب معه: وهذه الجارية لك ".
المحب متبع
كان الليث رحمه الله متبع للاثر اشد الاتباع ، مستن بسنة رسول الله ، لا يحب مجالس الامراء مع كونه غني كبير مشتهر.
قال ابو نعيم في الحلية
" كان الشافعي يقول: الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس" ا . هـ .
ولكن لكل فضله ولكل علمه وتقاه وزهده وعبادته
ولقد ذكرنا في بداية الحديث أن الليث بن سعد صاحب مذهب ، إلا ان اصحابه لم يقوموا على نشر مذهبه ، كما قام أصحاب مالك والشافعي واحمد وابو حنيفة ، فلقد قام اصحابهم بنشر مذاهبهم في الافاق ، وهو ما لم يقم به اصحاب الليث لذلك لم يعلم له الان مذهب وكذا الحال بالنسبة للامام سفيان الثوري ، وغيرهم .....
مكانة الليث
قال الذهبي في السير :
" كان الليث رحمه الله فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، ورئيسها، ومن يفتخر بوجوده الاقليم، بحيث إن متولي مصر وقاضيها وناظرها، من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه، ومشورته، ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الاقليم، فاستعفي من ذلك." ا. هـ
لو نظرنا إلى كلام الذهبي لوجدنا أنه كان يسهل على الليث التقرب من الامراء والوزراء ، بحيث أن ولى مصر وقضاتها يستشيرونه ويرجعون إليه فكان لهم أول مرجعية عندما يطرأ أمرا من الامور .
وذكر الذهبي أن المنصور أراده ليكون واليا على احد الاقاليم ولكنه رفض
وحكى بن خلكان في كتابه وفيات الاعيان
" أن الليث بن سعد قال : قال لي أبو جعفر- يعني المنصور - : تلي لي مصر قلت: لا يا أمير المؤمنين إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي، فقال: ما بك ضعف معي، ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك لي ".
ونعم الليث ، فهذه سنة الائمة الكبار كانوا لا يحبون التقرب إلى السلطان ولا يحبون أن يكون بيدهم السلطة ولا يسعون لها .
وكما حكى عن سفيان الثوري أن ناسا قالوا له لو دخلت على السلاطين؟ قال: إني أخشى أن يسألني الله عن مقامي ما قلتُ فيه، قيل له: تقول وتتحفّظ، قال: تأمروني أن أسبح في البحر ولا تبتل ثيابي.
فكان هذا حال سلفنا الصالح ، مع ان هؤلاء السلاطين منهم من كان يحكم بالكتاب والسنة ومنهم من على الاقل يدعى أنه يحكم بالكتاب والسنة وكانوا يقربون العلماء ، فما بال هؤلاء لو كانوا في عصرنا ...
ورحم الله الليث فقد عاش في زمان قل فيه الهوى وقل من تجد من أهل الاهواء
حتى ان سعيد بن مريم يقول : سمعت الليث يقول : بلغت الثمانين، وما نازعت صاحب هوى قط.
فعلق الذهبي على ذاك الكلام قائلاً
" كانت الاهواء والبدع خاملة في زمن الليث، ومالك، والاوزاعي، والسنن ظاهرة عزيزة.
فأما في زمن أحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبي عبيد، فظهرت البدعة، وامتحن أئمة الاثر، ورفع أهل الاهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك، واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول، فطال الجدال، واشتد النزاع، وتولدت الشبه.
نسأل الله العافية " ا . هـ .
فما بال الليث لو كان في زماننا ، فهل يا ترى كان سيقول تلك الكلمة ؟؟
فقه الليث
وذكر صاحب الحلية - أبو نعيم الاصبهاني - مسندا الكلام إلى عبد الله بن صالح أنه قال
" سمعت الليث بن سعد يقول: لما قدمت على هارون الرشيد قال لي يا ليث ما صلاح بلدكم. قلت: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي فقال: صدقت يا أبا الحارث " ا. هـ .
يا له من فقيه ، نعم من رأس العين يأتى الكدر ، وإن صلاح الرعية في صلاح الامير ، فإذا صلح الامير صلحت الرعية ، وإذا فسد الامير فسدت الرعية
كما انه إذا صلح المنبع صلح الفرع ، وإذا فسد المنبع فسد الفرع ..
وذكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد
" كان الليث له كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها: أما أولها، فيجلس لنائبه السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمرا، أو من السلطان، كتب إلى أمير المؤمنين، فأتيه العزل، ويجلس لاصحاب الحديث، وكان
يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت، فإن قلوبهم معلقة بأسواقهم.
ويجلس للمسائل، يغشاه الناس، فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس، لا يسأله أحد فيرده، كبرت حاجته أو صغرت، وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السكر "
هكذا يكون العلم وهكذا يكون العلماء ممن فتح الله عيهم ومن عليهم بالرزق الوفير والمال الكثير فهم يعرفون في أموالهم حق الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم
" إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالا وعلما فهو يتقي ربه فيه ويصل به رحمه ويعلم لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواءٌ ... الحديث " والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال حسن صحيح وأخرج الامام احمد في مسنده
فكان الليث من الصنف الاول الذي آتاه الله المال والعلم معاً ، عرف حق الله فيه وانفق ايما إنفاق ، وان ما ذكرناه في اول لقاء كان نبذة بسيطة جدا عن انفاقه وإلا فإنه كان يحول عليه الحول ينفق خمسين ألف دينار وعليه دين ، وقيل ثمانين ألف دينار ، وكان يرسل لمالك على رأس كل سنة ألف دينا ، ولما احترقت كتب بن لهيعة أرسل له ألف دينار ، إلى غير ذلك من مواقف جوده وكرمه ، والتى وافقت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر صاحب الحلية أبو نعيم الاصفهانى قصة الليث مع هارون الرشيد والتى تدل على الفقه الواسع للامام ، وقد اوردها الذهبي في سيره اختصارا وتكلم عنها بكلام نذكره في موقعه إن شاء الله
قال ابو نعيم
" حدثنا أبو علي الحسن بن مليح الطريفي - بمصر - حدثنا لولو الخادم - خادم الرشيد - قال: جرى بين هارون الرشيد وبين ابنة عمه زبيدة مناظرة وملاحاة في شيء من الأشياء، فقال هارون لها في عرض كلامه: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة، ثم ندم واغتما جميعا بهذه اليمين، ونزلت بهما مصيبة لموضع ابنة عمه منه، فجمع الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين فلم يجد مخرجاً منها مخرجاً، ثم كتب إلى سائر البلدان من عمله أن يحمل إليه الفقهاء من بلدانهم، فلما اجتمعوا جلس لهم وأدخلوا عليه، وكنت واقفاً بين يديه لأمر إن حدث يأمرني بما شاء فيه، فسألهم عن يمينه وكنت المعبر عنه، وهل له منها مخلص، فأجابه الفقهاء بأجوبة مختلفة، وكان إذ ذاك فيهم الليث بن سعد فيمن أشخص من مصر، وهو جالس في آخر المجلس لم يتكلم بشيء وهارون يراعي الفقهاء واحداً واحداً، فقال: بقي ذلك الشيخ في آخر المجلس لم يتكلم بشيء، فقلت له: إن أمير المؤمنين يقول لك مالك لا تتكلم كما تكلم أصحابك. فقال: قد سمع أمير المؤمنين قول الفقهاء وفيه مقنع، فقال: قل إن أمير المؤمنين يقول لو أردنا ذلك سمعنا من فقهائنا ولم نشخصكم من بلدانكم، ولما أحضرت هذا المجلس فقال يخلي أمير المؤمنين مجلسه إن أراد أن يسمع كلامي في ذلك، فانصرف من كان. بمجلس أمير المؤمنين من الفقهاء والناس ثم قال: تكلم! فقال: يدنيني أمير المؤمنين فقال: ليس بالحضرة إلا هذا الغلام، وليس عليك منه عين، فقال يا أمير المؤمنين أتكلم على الأمان وعلى طرح التعمل والهيبة والطاعة لي من أمير المؤمنين في جميع ما أمر به؟ قال: لك ذلك، قال: يدعو أمير المؤمنين بمصحف جامع، فأمر له فأحضر، فقال: يأخذه أمير المؤمنين فيتصحفه حتى يصل إلى سورة الرحمن فأخذه وتصحفه حتى وصل إلى سورة الرحمن فأخذه وتصحفه حتى وصل إلى سورة الرحمن فقال: يقرأ أمير المؤمنين، فقرأ فلما بلغ: " ولمن خاف مقام ربه جنتان " الرحمن 46. قال: قف يا أمير المؤمنين ههنا، فوقف، فقال: يقول أمير المؤمنين والله، فاشتد على الرشيد وعلى ذلك، فقال له هارون: ما هذا. قال: يا أمير المؤمنين على هذا وقع الشرط، فنكس أمير المؤمنين رأسه - وكانت زبيدة في بيت مسبل عليه ستر قريب من المجلس تسمع الخطاب - ثم رفع هارون رأسه إليه، فقال: والله، قال الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم إلى أن بلغ آخر اليمين، ثم قال إنك يا أمير المؤمنين تخاف مقام الله. قال هارون: إني أخاف مقام الله، فقال: يا أمير المؤمنين فهي جنتان وليست جنة واحدة، كما ذكر الله تعالى في كتابه، فسمعت التصفيق والفرح من خلف الستر، وقال هارون: أحسنت والله بارك الله فيك، ثم أمر بالجوائز والخلع لليث بن سعد، ثم قال هارون: يا شيخ اختر ما شئت وسل ما شئت تجب فيه، فقال: يا أمير المؤمنين وهذا الخادم الواقف على رأسك، فقال: وهذا الخادم، فقال: يا أمير المؤمنين والضياع التي لك بمصر ولابنة عمك أكون عليها وتسلم إلي لأنظر في أمورها، قال: بل نقطعك إقطاعاً، فقال: يا أمير المؤمنين ما أريد من هذا شيئاً بل تكون في يدي لأمير المؤمنين، فلا يجري على حيف العمال وأعز بذلك، فقال: لك ذلك، وأمر أن يكتب له ويسجل. بما قال، وخرج من بين يدي أمير المؤمنين بجميع الجوائز والخلع والخادم، وأمرت زبيدة له بضعف ما أمر به الرشيد، فحمل إليه واستأذن في الرجوع إلى مصر فحمل مكرماً أو كما قال " ا. هـ.
دلت هذه الحكاية عن فقه الليث الواسع ، إذا ان فقهاء الامصار لم يتوصلوا إلى ما وصل اليه ذلك الفقيه .
وإن كان الذهبي ذكر انها لو صحت فهي قبل خلافة هارون الرشيد
ثناء العلماء عليه
عن يعقوب ابن داود وزير المهدي، قال: قال أمير المؤمنين لما قدم الليث العراق: الزم هذا الشيخ، فقد ثبت عندي أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه
قال عبد العزيز بن محمد: رأيت الليث عند ربيعة يناظرهم في المسائل، وقد فرفر أهل الحلقة
وفرفر أهل الحلقة أي كسرهم، وغلبهم بحجته
قال يحى بن بكير، حدثنا شرحبيل بن جميل قال: أدركت الناس أيام هشام الخليفة، وكان الليث بن سعد حدث السن، وكان بمصر عبيدالله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، والحارث بن يزيد، ويزيد بن أبي حبيب، وابن هبيرة، وإنهم يعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلامه عن حداثة سنه، ثم قال ابن بكير: لم أر مثل الليث.
وروى عبدالملك بن يحيى بن بكير، عن أبيه، قال: ما رأيت أحدا أكمل من الليث.
وقال ابن بكير: كان الليث فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، فما زال يذكر خصالا جميلة، ويعقد بيده، حتى عقد عشرة: لم أر مثله
عن ابن وهوب، قال: لولا مالك، والليث، هلكت، كنت أظن كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل به
عن عثمان بن صالح قال : كان أهل مصر ينتقصون عثمان، حتى نشأ فيهم الليث، فحدثهم بفضائله، فكفوا.
روى عبدالملك بن شعيب، عن أبيه، قال: قيل لليث: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك، فقال: أو كل ما في صدري في كتبي ؟ لو كتبت ما في صدري، ما وسعه هذا المركب.
عن الاثرم قال : سمعت أبا عبدالله يقول: ما في هؤلاء المصريين أثبت من
الليث، لا عمرو بن الحارث ولا أحد، وقد كان عمرو بن الحارث عندي، ثم رأيت له أشياء مناكير، ما أصح حديث ليث بن سعد، وجعل يثني عليه، فقال رجل لابي عبدالله، إن إنسانا ضعفه.
فقال: لا يدري
وقال الفضل بن زياد: قال أحمد: ليث كثير العلم، صحيح الحديث .
وقال أحمد بن سعد الزهري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الليث ثقة ثبت
وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: ليس في المصريين أصح حديثا من الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث يقاربه
وقال أحمد بن سعد بن أبي مريم: قال ابن معين: الليث عندي أرفع من ابن إسحاق.
وعن أحمد بن صالح - وذكر الليث - فقال: إمام قد أوجب الله علينا حقه، لم يكن بالبلد بعد عمرو بن الحارث مثله.
قال ابن سعد: استقل الليث بالفتوى، وكان ثقة، كثير الحديث، سريا من الرجال، سخيا، له ضيافة.
وقال أبو زرعة الرازي: سمعت يحيى بن بكير يقول: الليث أفقه من
مالك، ولكن الحظوة لمالك رحمه الله
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: الليث أتبع للاثر من مالك.
قال قتيبة: كان الليث يركب في جميع الصلوات إلى الجامع، ويتصدق كل يوم على ثلاث مئة مسكين.
قال عبد العزيز الدراوردي: لقد رأيت الليث، وإن ربيعة ويحيى بن سعيد ليتزحزحون له زحزحة.
قال سعيد الآدم: قال العلاء بن كثير: الليث بن سعد سيدنا وإمامنا وعالمنا.
وفاته رحمه الله :
قال يحيى بن بكير، وسعيد بن أبي مريم: مات الليث للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومئة.
قال يحيى: يوم الجمعة، وصلى عليه موسى بن عيسى.
وقال سعيد: مات ليلة الجمعة.
قال خالد بن عبد السلام الصدفي: شهدت جنازة الليث بن سعد مع والدي، فما رأيت جنازة قط أعظم منها، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن، وهم يعزي بعضهم بعضا، ويبكون، فقلت: يا أبت، كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة، فقال: يا بني، لا ترى مثله أبدا .
رحم الله الامام الفقيه الورع التقي السهل الثري السخي الدري
رحم الله الليث بن سعد أبا الحارث المصري
يا ليت لنا فقيه مثله ومحدث على رسمه ، فنحن في اشد الحاجة لعلمه
هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده
وما كان من خطأ أو سهو فمني ومن الشيطان
والله الموفق إلى سواء السبيل وهو بكل جميل كفيل
وهو حسبنا ونعم الوكيل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليق