أبو ذر الغفاري أمير الزهاد
قالوا عنه
" ما اقلت الغبراء ولا اظلت الخضراء من رجل اصدق من أبي ذر "
رسول الله صلى الله عليه وسلم
" رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده "
رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قيل يا رسول الله سمهم لنا قال
" علي منهم يقول ذلك ثلاثا وأبو ذر والمقداد وسلمان أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبهم "
رسول الله صلى الله عليه وسلم
السيرة
أقبل على مكة نشوان مغتبطا..
صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم ، بيد أن الغاية
التي يسعى اليها ، أنسته جراحه ، وأفاضت على روحه الحبور والبشور.
ودخلها متنكرا ، كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوفوا بآلهة الكعبة
العظام أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه ، أو طال به السفر والارتحال فأوى اليها يستريح ويتزود.
فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ويستمع اليه لفتكوا به.
وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به ، ولكن بعد أن يقابل الرجل الذي قطع الفيافي
ليراه ، وبعد أن يؤمن به ، ان اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته..
ولقد مضى يتسمع الأنباء من بعيد ، وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد صلى الله
عليه وسلم اقترب منهم في حذر ، حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله
على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه.
في صبيحة يوم ذهب الى هناك ، فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالسا وحده ،
فاقترب منه وقال : نعمت صباحا يا أخا العرب ..
فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام : " وعليك السلام يا أخاه "
قال أبو ذر : أنشدني مما تقول ..
فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام : " ما هو بشعر فأنشدك ، ولكنه قرآن كريم "
قال أبو ذر رضي الله عنه : اقرأ علي .
فقرأالرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبو ذر رضي الله عنه يصغي ..
ولم يمضي من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر رضي الله عنه :
( أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )
وسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ممن أنت يا أخا العرب..؟
فأجابه أبو ذر رضي الله عنه : من غفار ..
وتألقت ابتسامة على فم الرسول صلى الله عليه وسلم ، واكتسى وجهه الدهشة والعجب..
وضحك أبو ذر رضي الله عنه كذلك ، فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول
عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالاسلام أمامه انما هو رجل من غفار ..
فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق ..
وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع .. انهم حلفاء الليل والظلام ، والويل
لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلة غفار.
أفيجيء منهم اليوم ، والاسلام لا يزال دينا غصا مستخفيا ، واحد ليسلم..؟
يقول أبو ذر رضي الله عنه وهو يروي القصة بنفسه :
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوبه تعجبا ، لما كان من غفار ، ثم قال : ان الله يهدي من يشاء )
ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى ، وأراد بهم الخير.
وانه لذو بصر بالحق ، فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى ، وأراد بهم الخير.
وانه لذو بصر بالحق ، فقد روي عنه أنه أحد الذين كلنوا يتألهون في الجاهلية ،
أي يتمردون على عبادة الأصنام ، ويذهبون الى الايمان باله خالق عظيم.
وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفه عبادة الأصنام وعبادها ، ويدعو الى عبادة
الله الواحد القهار ، حتى حث اليه الخطى ، وشد الرحال.
أسلم أبو ذر من فوره
كان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..
وحين أسلم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهمس بالدعوة همسا..
يهمس بها الى نفسه ، والى الخمسة الذين آمنوا معه ، ولم يكن أمام أبي ذر رضي الله
عنه الا أن يحمل ايمانه بين جنبيه ، ويتسلل به مغادرا مكة ، وعائدا الى قومه...
ولكن أبا ذر "جندب بن جنادة " رضي الله عنه ، ، يحمل طبيعة فوارة جياشة.
فتوجه الى الرسول عليه الصلاة والسلام فور اسلامه بهذا السؤال : يا رسول الله ، بم تأمرني ..؟
فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: " ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري "
فقال أبو ذر رضي الله عنه : والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد..
هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته :
[ أشهد أن لا اله الا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله ]
كانت هذه الصيحة أول صيحة بالاسلام تحدت كبرياء قريش وقرعت أسماعها.. صاحها رجل
غريب ليس له في مكة حسب ولا نسب ولا حمى ..
ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه .. فقد أحاط به المشركون وضربوه
وترامى النبأ الى العباس رضي االله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء يسعى ،
وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم الا بالحيلة لذكية ، قال له :
( يا معشر قريش ، أنتم تجار ، وطريقكم على غفار ، وهذا رجل من رجالها ، ان يحرض قومه عليكم ، يقطعوا على قوافلكم الطريق )
فثابوا الى رشدهم وتركوه.
ولكن أبا ذر ، وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله ، لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد ...
وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم ، يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين
( أساف ، واثلة ) ودعوانهما ، حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا..
فتصرخ المرأتان ، ويهرول الرجال كالجراد ، ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه
وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه ( يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله )
ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد ، وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل.
بيد أن وقته لم يأت بعد ، فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه ، حتى
اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه..
ويعود أبو ذر رضي الله عنه الى عشيرته وقومه ، فيحدثههم عن النبي الذي ظهر
يدعو الى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق ، ويدخل قومه في الاسلام ، واحدا اثر واحد..
ولا يكتفي بقبيلته غفار ، بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه ..
وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن ، ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة ، ويستقر بها والمسلمون معه.
وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان ، أثارت أقدامهم النقع..
ولولا تكبيراتهم الصادعة ، لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك
اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..
لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم ، جاء بهما ابو ذر رضي الله عنه مسلمين جميعا
رجالا ونساء شيوخا وشبابا ، وأطفالا..
وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة ..
فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن اسلامه وايمانه ، وقال معبرا عن دهشته :
" ان الله يهدي من يشاء "
أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة ، وقد قطعت في الاسلام بضع سنين منذ
هداها الله على يد أبي ذر ، وتجيء معها قبيلة أسلم ..
ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان ، قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.
أليس الله يهدي من يشاء حقا ؟
لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..
ونظر الى قبيلة غفار وقال :
"غفار غفر الله لها "
ثم الى قبيلة أسلم فقال :
"وأسلم سالمها الله "
وأبو ذر رضي الله عنه هذا الداعية الرائع .. القوي الشكيمة ، العزيز المنال..
سوف تفنى القرون والأجيال ، والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم فيه :
" ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"
أصدق لهجة في أبي ذر..؟
لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه ، ولخص حياته كلها في هذه
الكلمات..فالصدق الجسور ، هو جوهر حياة أبي ذر كلها..
صدق باطنه ، وصدق ظاهره..
صدق عقيدته وصدق لهجته..
وألقى الرسول يوما هذا السؤال :
" يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء ؟ "
فأجاب قائلا :
" اذن والذي بعثك بالحق، لأضربن بسيفي "
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام :
"أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ اصبر حتى تلقاني"
ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟
لان تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته ، وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..
ولقد عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى عليه السؤال ، ليزوده هذه النصيحة الثمينة :
" اصبر حتى تلقاني "
ولسوف يحفظ أبوذر رضي الله عنه وصية معلمه ، فلن يحمل السيف الذي تود به
الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..
أجل اذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم ،
فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار .. ولسوف يفعل ..
ومضى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده عصر أبي بكر ، وعصر عمر
رضي الله عنهما في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..
ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم
وأغنيائهم في كل مكان من الأرض ، زهدا وتقشفا يكاد يكون فوق طاقة البشر..
ان واليا من ولاته في العراق ، أو في الشام ، أوفي صنعاء أو في أي من البلاد
النائية البعيدة ، لا يكاد يصل اليها نوعا من الحلوى ، لا يجد عامة الناس قدرة على
شرائه ، حتى يكون الخبر قد وصل الى عمر بعد أيام. وحتى تكون أوامره الصارمة
قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي الى المدينة ليلقى حسابه العسير ..
وما دام لا يضايق أبا ذر رضي الله عنه في حياته شيء مثلما يضايقه استغلال السلطة ،
واحتكار الثروة ، فان ابن الخطاب رضي الله عنه بمراقبته الصارمة للسلطة ، وتوزيعه
العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..
وهكذا تفرغ لعبادة ربه ، وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت اذا رأى مخالفة هنا ، أو هناك.. وقلما كان يرى..
بيد أن أعظم ، وأعدل ، وأروع حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم ، تاركا
وراءه فراغا هائلا ، ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفر منه ولا طاقة للناس به.
وتستمر الفتوح في مدها ، ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها.. ويرى أبو ذر رضي الله عنه الخطر ..
ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله..
ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري ، توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات..
رأى أبو ذر رضي الله عنه كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته..
بل راح يمد يمينه الى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه ، ونهض قائما يواجه المجتمع
بسيفه الذي لم تعرف له كبوة.. لكن سرعان ما رن في فؤاده صدى الوصية التي
أوصاه بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأعاد السيف الى غمده ، فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..
لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم يوما وعلى ملأ من أصحابه ، أن الأرض لم تقل ،
وأن السماء لم تظل أصدق لهجة من أبي ذر..
ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة ، وصدق الاقتناع ، فما حاجته الى السيف..؟
ان كلمة واحدة يقولها ، لأمضى من ملء الأرض سيوفا ..
وخرج أبو ذر رضي الله عنه الى معاقل السلطة والثروة ، يغزوها بمعارضته معقلا معقلا..
وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون ..
حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد.. طاره اليها ذكره.
وأصبح لا يمر بأرض ، بل ولا يبلغ اسمه قوما الا أثار تسؤلات هامة تهدد مصالح ذوي السلطة والثراء.
فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان .. ويردده الانس عنه كأنه نشيد.. هذه الكلمات :
( بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة )
ولم يعد الانس يبصرونه قادما الا استقبلوه بهذه الكلمات :
" بشر الكانزين بمكاو من نار"
لا حاجة لي في دنياكم
هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان رضي الله عنهما بعد أن وصل الى المدينة ، وجرى بينهما حوار طويل.
لقد خرج عثمان رضي الله عنه من حواره مع صاحبه ، بقرار أن يحتفظ به الى جواره
في المدينة ، محددا بها اقامته ولقد عرض عثمان رضي الله عنه قراره على أبي ذر
رضي الله عنه عرضا رفيقا ، رقيقا ، فقال له :
( ابق هنا يجانبي ، تغدو عليك القاح وتروح )
وأجابه أبو ذر رضي الله عنه :
( لا حاجة لي في دنياكم )
ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج الى الربدة فأذن له..
ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله ، حافظا في اعماق روحه النصيحة
التي وجهها اليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف.. لكأن الرسول صلى الله
عليه وسلم رأى الغيب كله .. غيب أبي ذر رضي الله عنه ومستقبله ، فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية.
جاءه يوما وهو في الربدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة ، فزجرهم بكلمات حاسمة :
( والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة ، أو جبل ، لسمعت ، وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي..
ولوسيرني ما بين الأفق الى الأفق ، لسمعت وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي..
ولو ردني الى منزلي ، لسمعت وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي )
و لقيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يوما ، فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه :
( مرحبا أبا ذر .. مرحبا بأخي )
ولكن أبا ذر رضي الله عنه دفعه عنه وهو يقول :
( لست بأخيك ، انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا )
كذلك لقيه أبو هريرة رضي الله عنه يوما واحتضنه مرحبا، ولكن أبا ذر نحاه عنه بيده وقال له :
( اليك عني .. ألست الذي وليت الامارة ، فتطاولت في البنيان ، واتخذت لك ماشية وزرعا )
ومضى أبو هريرة رضي الله عنه يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..
وقد يبدو أبو ذر رضي الله عنه مبالغا في موقفه من الجكم والثروة..
ولكن لأبي ذر رضي الله عنه منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه ، ومع ايمانه ، فأبو ذر رضي الله عنه يقف بأحلامه وأعماله..
بسلوكه ورؤاه ، عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه..
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ..
عرضت عليه الامارة بالعراق فقال :
( لا والله.. لن تميلوا علي بدنياكم أبدا )
ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله :
أليس لك ثوب غير هذا..؟ لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟
فأجابه أبو ذر رضي الله عنه :
( يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني )
قال له : والله انك لمحتاج اليهما ..
فأجاب أبو ذر رضي الله عنه :
( اللهم اغفر له.. انك لمعظم للدنيا ، ألست ترى علي هذه البردة ؟
ولي أخرى لصلاة الجمعة ، ولي عنزة أحلبها ، وأتان أركبها ، فأي نعمة أفضل ما نحن فيه )
وجلس يوما يحدث ويقول :
أوصاني خليلي بسبع..
أمرني بحب المساكين والدنو منهم..
وأمرني أن أنظر الى من هو دوني، ولاأنظر الى من هو فوقي..
وأمرني ألا أسأل أحد شيئا..
وأمرني أن أصل الرحم..
وأمرني أن أقول الحق وان كان مرا..
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..
وأمرني أن أكثر من : لا حول ولا قوة الا بالله )
ولقد عاش هذه الوصية ، وصاغ حياته وفقها، حتى صار " ضميرا " بين قومه وأمته..
ويقول الامام علي رضي الله عنه :
( لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر )
عاش يناهض استغلال الحكم، واحتكار الثروة..
يمنعونه من الفتوى ، فيزداد صوته بها ارتفاعا ، ويقول لمانعيه :
( والذي نفسي بيده ، لو وضعتم السيف فوق عنقي ، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها )
مشهد الختام
ان هذه السيدة السمراء الضامرة ، الجالسة الى جواره تبكي ، هي زوجته..
وانه ليسألها : ( فيم البكاء والموت حق..؟ )
فتجيبه بأنها تبكي : لأنك تموت ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا .
( لا تبكي ، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول :
ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، تشهده عصابة من المؤمنين..
وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، ولم يبق منهم غيري ..
وهأنذا بالفلاة أموت ، فراقبي الطريق ، فستطلع علينا عصابة من المؤمنين ، فاني والله ما كذبت ولا كذبت )
وفاضت روحه الى الله..ولقد صدق..
فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء ، تؤلف جماعة من المؤمنين ، وعلى رأسهم
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وان ابن مسعود رضي الله عنه ليبصر المشهد قبل أن يبلغه مشهد جسد ممتد يبدو كأنه
جثمان ميت ، والى جواره سيدة وغلام يبكيان..
ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد ، ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان ، حتى
تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والاسلام أبي ذر رضي الله عنه .
وتفيض عيناه بالدمع ، ويقف على جثمانه الطاهر يقول :
( صدق رسول الله نمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك )
ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها :
( تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك )
كان ذلك في غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ
لملاقاة الروم ، الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به.
وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ.. وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..
ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين ، تعللوا بشتى المعاذير..
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا
ومشقة ، فجعل الرجل يتخلف ، ويقولون يا رسول الله تخلف فلان، فيقول :
" دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم.. وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه "
وتلفت القوم ذات مرة ، فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام :
لقد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره..
وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته الأولى ..
كان بعير أبي ذر رضي الله عنه قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الاعياء خطاه..
وحاول أبو ذر رضي الله عنه أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد ، ولكن الاعياء كان يلقي ثقله على البعير..
ورأى أبو ذر رضي الله عنه أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر ،
فنزل من فوق ظهر البعير ، وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه ،
مهرولا ، وسط صحراء ملتهبة ، ليدرك رسوله عليه السلام وصحبه..
وفي الغداة ، وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا ، بصر أحدهم فرأى سحابة من
النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..
وقال الذي رأى : يا رسول الله ، هذا رجل يمشي على الطريق وحده.. وقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
" كن أبا ذر "
وعادوا لما كانوا فيه من حديث ، ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم ، وعندها يعرفون من هو ..
وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا .. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا ،
وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة ، ولم يتخلف عن رسول الله واخوانه المجاهدين..
وحين بلغ أول القافلة ، صاح صائهحم : يارسول الله : انه والله أبا ذر.. وسار أبو ذر صوب الرسول.
ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية ، وقال :
" يرحم الله أبا ذر .. يمشي وحده .. ويموت وحده .. ويبعث وحده "
وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد ، مات أبو ذر رضي الله عنه وحيدا ، في فلاة الربدة..
بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ
وحيدا في عظمة زهده ، وبطولة صموده..
ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك ، لأن زحام فضائله المتعددة ، لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه
منقول
قالوا عنه
" ما اقلت الغبراء ولا اظلت الخضراء من رجل اصدق من أبي ذر "
رسول الله صلى الله عليه وسلم
" رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده "
رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قيل يا رسول الله سمهم لنا قال
" علي منهم يقول ذلك ثلاثا وأبو ذر والمقداد وسلمان أمرني بحبهم وأخبرني أنه يحبهم "
رسول الله صلى الله عليه وسلم
السيرة
أقبل على مكة نشوان مغتبطا..
صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم ، بيد أن الغاية
التي يسعى اليها ، أنسته جراحه ، وأفاضت على روحه الحبور والبشور.
ودخلها متنكرا ، كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوفوا بآلهة الكعبة
العظام أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه ، أو طال به السفر والارتحال فأوى اليها يستريح ويتزود.
فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم ، ويستمع اليه لفتكوا به.
وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به ، ولكن بعد أن يقابل الرجل الذي قطع الفيافي
ليراه ، وبعد أن يؤمن به ، ان اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته..
ولقد مضى يتسمع الأنباء من بعيد ، وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد صلى الله
عليه وسلم اقترب منهم في حذر ، حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله
على محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه.
في صبيحة يوم ذهب الى هناك ، فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالسا وحده ،
فاقترب منه وقال : نعمت صباحا يا أخا العرب ..
فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام : " وعليك السلام يا أخاه "
قال أبو ذر : أنشدني مما تقول ..
فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام : " ما هو بشعر فأنشدك ، ولكنه قرآن كريم "
قال أبو ذر رضي الله عنه : اقرأ علي .
فقرأالرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبو ذر رضي الله عنه يصغي ..
ولم يمضي من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر رضي الله عنه :
( أشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله )
وسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ممن أنت يا أخا العرب..؟
فأجابه أبو ذر رضي الله عنه : من غفار ..
وتألقت ابتسامة على فم الرسول صلى الله عليه وسلم ، واكتسى وجهه الدهشة والعجب..
وضحك أبو ذر رضي الله عنه كذلك ، فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول
عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالاسلام أمامه انما هو رجل من غفار ..
فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق ..
وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع .. انهم حلفاء الليل والظلام ، والويل
لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلة غفار.
أفيجيء منهم اليوم ، والاسلام لا يزال دينا غصا مستخفيا ، واحد ليسلم..؟
يقول أبو ذر رضي الله عنه وهو يروي القصة بنفسه :
( فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوبه تعجبا ، لما كان من غفار ، ثم قال : ان الله يهدي من يشاء )
ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى ، وأراد بهم الخير.
وانه لذو بصر بالحق ، فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى ، وأراد بهم الخير.
وانه لذو بصر بالحق ، فقد روي عنه أنه أحد الذين كلنوا يتألهون في الجاهلية ،
أي يتمردون على عبادة الأصنام ، ويذهبون الى الايمان باله خالق عظيم.
وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفه عبادة الأصنام وعبادها ، ويدعو الى عبادة
الله الواحد القهار ، حتى حث اليه الخطى ، وشد الرحال.
أسلم أبو ذر من فوره
كان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..
وحين أسلم كان الرسول صلى الله عليه وسلم يهمس بالدعوة همسا..
يهمس بها الى نفسه ، والى الخمسة الذين آمنوا معه ، ولم يكن أمام أبي ذر رضي الله
عنه الا أن يحمل ايمانه بين جنبيه ، ويتسلل به مغادرا مكة ، وعائدا الى قومه...
ولكن أبا ذر "جندب بن جنادة " رضي الله عنه ، ، يحمل طبيعة فوارة جياشة.
فتوجه الى الرسول عليه الصلاة والسلام فور اسلامه بهذا السؤال : يا رسول الله ، بم تأمرني ..؟
فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: " ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري "
فقال أبو ذر رضي الله عنه : والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد..
هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته :
[ أشهد أن لا اله الا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله ]
كانت هذه الصيحة أول صيحة بالاسلام تحدت كبرياء قريش وقرعت أسماعها.. صاحها رجل
غريب ليس له في مكة حسب ولا نسب ولا حمى ..
ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه .. فقد أحاط به المشركون وضربوه
وترامى النبأ الى العباس رضي االله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء يسعى ،
وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم الا بالحيلة لذكية ، قال له :
( يا معشر قريش ، أنتم تجار ، وطريقكم على غفار ، وهذا رجل من رجالها ، ان يحرض قومه عليكم ، يقطعوا على قوافلكم الطريق )
فثابوا الى رشدهم وتركوه.
ولكن أبا ذر ، وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله ، لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد ...
وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم ، يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين
( أساف ، واثلة ) ودعوانهما ، حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا..
فتصرخ المرأتان ، ويهرول الرجال كالجراد ، ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه
وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه ( يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله )
ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد ، وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل.
بيد أن وقته لم يأت بعد ، فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه ، حتى
اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه..
ويعود أبو ذر رضي الله عنه الى عشيرته وقومه ، فيحدثههم عن النبي الذي ظهر
يدعو الى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق ، ويدخل قومه في الاسلام ، واحدا اثر واحد..
ولا يكتفي بقبيلته غفار ، بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه ..
وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن ، ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة ، ويستقر بها والمسلمون معه.
وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان ، أثارت أقدامهم النقع..
ولولا تكبيراتهم الصادعة ، لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك
اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..
لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم ، جاء بهما ابو ذر رضي الله عنه مسلمين جميعا
رجالا ونساء شيوخا وشبابا ، وأطفالا..
وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة ..
فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن اسلامه وايمانه ، وقال معبرا عن دهشته :
" ان الله يهدي من يشاء "
أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة ، وقد قطعت في الاسلام بضع سنين منذ
هداها الله على يد أبي ذر ، وتجيء معها قبيلة أسلم ..
ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان ، قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.
أليس الله يهدي من يشاء حقا ؟
لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..
ونظر الى قبيلة غفار وقال :
"غفار غفر الله لها "
ثم الى قبيلة أسلم فقال :
"وأسلم سالمها الله "
وأبو ذر رضي الله عنه هذا الداعية الرائع .. القوي الشكيمة ، العزيز المنال..
سوف تفنى القرون والأجيال ، والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم فيه :
" ما أقلت الغبراء ، ولا أظلت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"
أصدق لهجة في أبي ذر..؟
لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه ، ولخص حياته كلها في هذه
الكلمات..فالصدق الجسور ، هو جوهر حياة أبي ذر كلها..
صدق باطنه ، وصدق ظاهره..
صدق عقيدته وصدق لهجته..
وألقى الرسول يوما هذا السؤال :
" يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء ؟ "
فأجاب قائلا :
" اذن والذي بعثك بالحق، لأضربن بسيفي "
فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام :
"أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ اصبر حتى تلقاني"
ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟
لان تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته ، وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..
ولقد عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى عليه السؤال ، ليزوده هذه النصيحة الثمينة :
" اصبر حتى تلقاني "
ولسوف يحفظ أبوذر رضي الله عنه وصية معلمه ، فلن يحمل السيف الذي تود به
الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..
أجل اذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم ،
فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار .. ولسوف يفعل ..
ومضى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده عصر أبي بكر ، وعصر عمر
رضي الله عنهما في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..
ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم
وأغنيائهم في كل مكان من الأرض ، زهدا وتقشفا يكاد يكون فوق طاقة البشر..
ان واليا من ولاته في العراق ، أو في الشام ، أوفي صنعاء أو في أي من البلاد
النائية البعيدة ، لا يكاد يصل اليها نوعا من الحلوى ، لا يجد عامة الناس قدرة على
شرائه ، حتى يكون الخبر قد وصل الى عمر بعد أيام. وحتى تكون أوامره الصارمة
قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي الى المدينة ليلقى حسابه العسير ..
وما دام لا يضايق أبا ذر رضي الله عنه في حياته شيء مثلما يضايقه استغلال السلطة ،
واحتكار الثروة ، فان ابن الخطاب رضي الله عنه بمراقبته الصارمة للسلطة ، وتوزيعه
العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..
وهكذا تفرغ لعبادة ربه ، وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت اذا رأى مخالفة هنا ، أو هناك.. وقلما كان يرى..
بيد أن أعظم ، وأعدل ، وأروع حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم ، تاركا
وراءه فراغا هائلا ، ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفر منه ولا طاقة للناس به.
وتستمر الفتوح في مدها ، ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها.. ويرى أبو ذر رضي الله عنه الخطر ..
ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله..
ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري ، توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات..
رأى أبو ذر رضي الله عنه كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته..
بل راح يمد يمينه الى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه ، ونهض قائما يواجه المجتمع
بسيفه الذي لم تعرف له كبوة.. لكن سرعان ما رن في فؤاده صدى الوصية التي
أوصاه بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأعاد السيف الى غمده ، فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..
لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم يوما وعلى ملأ من أصحابه ، أن الأرض لم تقل ،
وأن السماء لم تظل أصدق لهجة من أبي ذر..
ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة ، وصدق الاقتناع ، فما حاجته الى السيف..؟
ان كلمة واحدة يقولها ، لأمضى من ملء الأرض سيوفا ..
وخرج أبو ذر رضي الله عنه الى معاقل السلطة والثروة ، يغزوها بمعارضته معقلا معقلا..
وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون ..
حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد.. طاره اليها ذكره.
وأصبح لا يمر بأرض ، بل ولا يبلغ اسمه قوما الا أثار تسؤلات هامة تهدد مصالح ذوي السلطة والثراء.
فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان .. ويردده الانس عنه كأنه نشيد.. هذه الكلمات :
( بشر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة )
ولم يعد الانس يبصرونه قادما الا استقبلوه بهذه الكلمات :
" بشر الكانزين بمكاو من نار"
لا حاجة لي في دنياكم
هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان رضي الله عنهما بعد أن وصل الى المدينة ، وجرى بينهما حوار طويل.
لقد خرج عثمان رضي الله عنه من حواره مع صاحبه ، بقرار أن يحتفظ به الى جواره
في المدينة ، محددا بها اقامته ولقد عرض عثمان رضي الله عنه قراره على أبي ذر
رضي الله عنه عرضا رفيقا ، رقيقا ، فقال له :
( ابق هنا يجانبي ، تغدو عليك القاح وتروح )
وأجابه أبو ذر رضي الله عنه :
( لا حاجة لي في دنياكم )
ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج الى الربدة فأذن له..
ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله ، حافظا في اعماق روحه النصيحة
التي وجهها اليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف.. لكأن الرسول صلى الله
عليه وسلم رأى الغيب كله .. غيب أبي ذر رضي الله عنه ومستقبله ، فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية.
جاءه يوما وهو في الربدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة ، فزجرهم بكلمات حاسمة :
( والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة ، أو جبل ، لسمعت ، وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي..
ولوسيرني ما بين الأفق الى الأفق ، لسمعت وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي..
ولو ردني الى منزلي ، لسمعت وأطعت ، وصبرت واحتسبت ، ورأيت ذلك خيرا لي )
و لقيه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يوما ، فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه :
( مرحبا أبا ذر .. مرحبا بأخي )
ولكن أبا ذر رضي الله عنه دفعه عنه وهو يقول :
( لست بأخيك ، انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا )
كذلك لقيه أبو هريرة رضي الله عنه يوما واحتضنه مرحبا، ولكن أبا ذر نحاه عنه بيده وقال له :
( اليك عني .. ألست الذي وليت الامارة ، فتطاولت في البنيان ، واتخذت لك ماشية وزرعا )
ومضى أبو هريرة رضي الله عنه يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..
وقد يبدو أبو ذر رضي الله عنه مبالغا في موقفه من الجكم والثروة..
ولكن لأبي ذر رضي الله عنه منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه ، ومع ايمانه ، فأبو ذر رضي الله عنه يقف بأحلامه وأعماله..
بسلوكه ورؤاه ، عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه..
أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ..
عرضت عليه الامارة بالعراق فقال :
( لا والله.. لن تميلوا علي بدنياكم أبدا )
ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله :
أليس لك ثوب غير هذا..؟ لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟
فأجابه أبو ذر رضي الله عنه :
( يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني )
قال له : والله انك لمحتاج اليهما ..
فأجاب أبو ذر رضي الله عنه :
( اللهم اغفر له.. انك لمعظم للدنيا ، ألست ترى علي هذه البردة ؟
ولي أخرى لصلاة الجمعة ، ولي عنزة أحلبها ، وأتان أركبها ، فأي نعمة أفضل ما نحن فيه )
وجلس يوما يحدث ويقول :
أوصاني خليلي بسبع..
أمرني بحب المساكين والدنو منهم..
وأمرني أن أنظر الى من هو دوني، ولاأنظر الى من هو فوقي..
وأمرني ألا أسأل أحد شيئا..
وأمرني أن أصل الرحم..
وأمرني أن أقول الحق وان كان مرا..
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..
وأمرني أن أكثر من : لا حول ولا قوة الا بالله )
ولقد عاش هذه الوصية ، وصاغ حياته وفقها، حتى صار " ضميرا " بين قومه وأمته..
ويقول الامام علي رضي الله عنه :
( لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر )
عاش يناهض استغلال الحكم، واحتكار الثروة..
يمنعونه من الفتوى ، فيزداد صوته بها ارتفاعا ، ويقول لمانعيه :
( والذي نفسي بيده ، لو وضعتم السيف فوق عنقي ، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها )
مشهد الختام
ان هذه السيدة السمراء الضامرة ، الجالسة الى جواره تبكي ، هي زوجته..
وانه ليسألها : ( فيم البكاء والموت حق..؟ )
فتجيبه بأنها تبكي : لأنك تموت ، وليس عندي ثوب يسعك كفنا .
( لا تبكي ، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول :
ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض ، تشهده عصابة من المؤمنين..
وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، ولم يبق منهم غيري ..
وهأنذا بالفلاة أموت ، فراقبي الطريق ، فستطلع علينا عصابة من المؤمنين ، فاني والله ما كذبت ولا كذبت )
وفاضت روحه الى الله..ولقد صدق..
فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء ، تؤلف جماعة من المؤمنين ، وعلى رأسهم
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وان ابن مسعود رضي الله عنه ليبصر المشهد قبل أن يبلغه مشهد جسد ممتد يبدو كأنه
جثمان ميت ، والى جواره سيدة وغلام يبكيان..
ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد ، ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان ، حتى
تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والاسلام أبي ذر رضي الله عنه .
وتفيض عيناه بالدمع ، ويقف على جثمانه الطاهر يقول :
( صدق رسول الله نمشي وحدك ، وتموت وحدك ، وتبعث وحدك )
ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها :
( تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك )
كان ذلك في غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ
لملاقاة الروم ، الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به.
وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ.. وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..
ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين ، تعللوا بشتى المعاذير..
وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا
ومشقة ، فجعل الرجل يتخلف ، ويقولون يا رسول الله تخلف فلان، فيقول :
" دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم.. وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه "
وتلفت القوم ذات مرة ، فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام :
لقد تخلف أبو ذر ، وأبطأ به بعيره..
وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم مقالته الأولى ..
كان بعير أبي ذر رضي الله عنه قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الاعياء خطاه..
وحاول أبو ذر رضي الله عنه أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد ، ولكن الاعياء كان يلقي ثقله على البعير..
ورأى أبو ذر رضي الله عنه أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر ،
فنزل من فوق ظهر البعير ، وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه ،
مهرولا ، وسط صحراء ملتهبة ، ليدرك رسوله عليه السلام وصحبه..
وفي الغداة ، وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا ، بصر أحدهم فرأى سحابة من
النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..
وقال الذي رأى : يا رسول الله ، هذا رجل يمشي على الطريق وحده.. وقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
" كن أبا ذر "
وعادوا لما كانوا فيه من حديث ، ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم ، وعندها يعرفون من هو ..
وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا .. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا ،
وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة ، ولم يتخلف عن رسول الله واخوانه المجاهدين..
وحين بلغ أول القافلة ، صاح صائهحم : يارسول الله : انه والله أبا ذر.. وسار أبو ذر صوب الرسول.
ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية ، وقال :
" يرحم الله أبا ذر .. يمشي وحده .. ويموت وحده .. ويبعث وحده "
وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد ، مات أبو ذر رضي الله عنه وحيدا ، في فلاة الربدة..
بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ
وحيدا في عظمة زهده ، وبطولة صموده..
ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك ، لأن زحام فضائله المتعددة ، لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه
منقول
تعليق