بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى ، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز ، وختمهم بمحمد عليه الصلاة والسلام الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزير ، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة خالصة أخلص من الذهب الإبريز ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا شهادة يكون صاحبها في حرز حريز… أما بعد:
فإنا نتكلم عن سيرة عالم من علماء هذه الأمة وملك من ملوكها العظام ..
إنه لا ينتمي لعصر الوحي فحسب ، بل إنه الرجل الذي حاول نقل عصر الوحي بمُثُلِه وفضائله إلى دنيا مائجة هائجة ، مفتونة مضطربة، متلفعة بالظلم والقهر، ثم نجح في محاولته نجاحًا يبهر الألباب، فهل تدهش وتذهل لأنه بمفرده حاول تحقيق هذا المستحيل ؟!.. أم تدهش وتذهل لأنه بمفرده قد حقق هذا المستحيل فعلاً؟!.. ليس في عشرين سنة ، ولا في عشرة أعوام ، بل في عامين وخمسة شهور وبضعة أيام.
قال فيه بعض الكتاب:" الخليفة الكامل".
وقال بعضهم :" أريد منكم أن تأخذوا الأقلام بأيديكم وتجمعوا أذهانكم وتكتبوا كل صفة تتمنون أن يتصف بها الحاكم في نفسه، وفي أهله، وفي أمانته وسياسته، وفي لينه وشدته، حتى إذا اكتملت الصورة الخيالية التي صورتها أمانيكم وآمالكم ، جئتكم بحقيقة واقعية بملك من ملوكنا تعدلها وقد تزيد عليها".
اسمه ، نسبه:
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقًا أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الراشد أشج بني أمية، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين، وكان حسن الأخلاق والخَلْق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاهًا مُنيبًا قانتًا لله حنيفًا، زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قِلَّة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين مَلُّوه وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سَقَوْه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين، وكان ـ رحمه الله ـ فصيحًا مفوهًا..
والده:
هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعًا كريمًا، بقى أميرًا لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقَيِّمِه: اجمع لي أربعمائة دينار من طيب مالي؛ فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وهي حفيدة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقيل: اسمها ليلى، كما أن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه فضلًا عن التزامه وحرصه عل تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف، فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مُرَّة في الشام أن يبعث إليه ما يسمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده..
أمه:
أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ووالدها عاصم بن عمر بن الخطاب، كان من نبلاء الرجال خيرًا صالحًا بليغًا شاعرًا فصيحًا، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأمه مات سنة 70هـ.
أما جدته لأمه فقد كان لها موقف مشهور مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فيُروَى عن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعس بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل
فإذا امرأة تقول لابنته: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء
فقالت لها: يا أمتاه، أو ما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم؟
قالت: وما كان من عزمته يا بنية؟
قالت: إنه أمر مناديًا، فنادى أن لا يُشابَ اللبنُ بالماء
فقالت لها: يا بنتاه، قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء؛ فإنك بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر
فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه واللهِ ما كنتُ لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء
وعمر يسمع كل ذلك، فقال: يا أسلم عَلِّمِ الباب واعرف الموضع، ثم مضى في عسِّه، فلما أصبحا قال: يا أسلم امضِ إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها، وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها، وإذا تلك أمها، وإذا ليس لها رجل، فأتيت عمر فأخبرته، فدعا عمر ولده، فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أُزوِّجه، فقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتًا ولدت البنتُ عمر بن عبد العزيز.
ويُذكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأي ذات ليلة رؤيا، فقال: ليت شعري من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلًا كما ملئت جورًا؟
مولده:
اختلف المؤرخون في سنة مولده والراجح أنه ولد عام 61هـ، وهو قول أكثر المؤرخين بالمدينة.
لقبه:
كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يلقب بــــالأشج، وكان يقال له: أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز كان كان صغيرًا دخل إلى إصطبل أبيه عندما كان واليًا على مصر ليرى الخيل، فضربه فرس في وجهه فشجه فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذًا لسعيد، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان الفاروق عمر يقول: إن من ولدي رجلًا بوجهه أثر يملأ الأرض عدلًا، وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك، وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهورًا عند الناس، بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه، وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه، كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلًا.
زوجاته:
نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها وتأثر بعلمائها، وأكبَّ على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابها، وما زال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدَّمه على كثير منهم، وزَوَّجَه ابنته فاطمة بنت عبد الملك، وهي امرأة صالحة تأثرت كثيرًا بعمر بن عبد العزيز، وآثَرَت ما عند الله على متاع الدنيا، وهي التي قال فيها الشاعر:
بنت الخليفة والخليفة جدها *** أخت الخلائف والخليفة زوجها
ومن زوجاته ـ أيضًا ـ لميس بنت الحارث، وأم عثمان بنت شعيب بن زبان.
مكانته العلمية:
اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام...
وقال عنه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلم العلماء.
وقال عنه الذهبي: كان إمامًا فقيهًا مجتهدًا عارفًا بالسنن، كبير الشأن حافظًا قانتًا لله، أوَّاهًا منيبًا، يُعَدُّ في حُسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، وقد احتج العلماء والفقهاء بقوله وفعله.
وقال عنه الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز، ويذكر محاسنه وينشرها؛ فاعلم أن من وراء ذلك خيرًا إن شاء الله.
صفاته الخَلْقية:
كان رحمه الله أسمر دقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، بجبهته شجة، غائر العينين.
ولايته على المدينة وأعماله فيها:
لما قدم عليها واليًا فصلى الظهر دعا بعشرة: عروة، وعبيد الله، وسليمان بن يسار، والقاسم، وسالمًا، وخارجة، وأبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا بكر بن سليمان، وعبد الله بن عامر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إني دعوتكم لأمر تؤجرون فيه، ونكون فيه أعوانًا على الحق، ما أريد أن أقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدى، أو بلغكم عن عامل ظلامة فأحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني" . فجزوه خيرًا وافترقوا.
وبنى في مدة ولايته هذه مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ووسعه عن أمر الوليد له بذلك.
واتسعت ولايته فصار واليًا على الحجاز كلها، وراح الأمير الشاب ينشر بين الناس العدل والأمن، وراح يذيقهم حلاوة الرحمة، وسكينة النفس، صارخًا بكلمة الحق والعدل...
نائيًا بنفسه عن مظالم العهد وآثامه...
متحديًا جباريه وطغاته … وعلى رأسهم الحجاج بن يوسف الثقفي ..
وكان عمر يمقته أشد المقت بسبب طغيانه وعَسْفه، وكان نائبًا على الحج في إحدى السنين فأرسل عمر إلى الوليد يسأله أن يأمر الحجاج ألا يذهب إلى المدينة ولا يمر بها، رغم أنه يعرف ما للحجاج من مكانة في نفوس الخلفاء الأمويين…وأجاب الخليفة طلب عمر وكتب إلى الحجاج يقول:" إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه بالمدينة، فلا عليك ألا تمر بمن يكرهك، فنح نفسك عن المدينة".
وراح هذا الأمير الشاب يعمر ويعمر بادئًا بالمسجد النبوي وفي كل الحجاز، الآبار والطرق ، وفي حدود ولايته وسلطانه رد للأموال العامة كرامتها وحرمتها، فلم تعد سهلة المنال لكل ناهب خالس، كما لم تعد ألعوبة في يد كل مسرف ومترف، وفتح أبواب المدينة للهاربين من ظلم الولاة في كل أقطار الدولة، وحماهم من المطاردة، ووفر لهم الطمأنينة والأمن .
ووشى به الحجاج وشاية إلى الوليد كانت سببًا في عزله.. ولما عُزِل منها وخرج منها التفت إليها وبكى
وقال لمولاه:" يا مزاحم نخشى أن نكون ممن نفت المدينة"
يعني أن المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد وينصع طيبها
ونزل بمكان قريب منها يُقال له السويداء حينًا، ثم قدم دمشق على بني عمه.
كيفية خلافته:
أخي الكريم سترى من بداية هذا العنصر وهو نقطة التحول في حياة عمر رضي الله عنه… سترى ربيب الملك، وحفيد المجد، وابن القصور الناعمة، والمباهج الهاطلة، ذلك الشاب بعد أن تحمل مسؤولية أمة محمد عليه الصلاة والسلام كيف تحولت حياته وتغير جدول أوقاته، وكان توليه الملك في عز شبابه في الخامسة والثلاثين من عمره.
لما مرض سليمان بدابق قال:" يا رجاء أستخلف ابني؟!!"
قال:" ابنك غائب"
قال:"فالآخر؟"
قال:"هو صغير"
قال:"فمن ترى؟"
قال:" عمر بن عبد العزيز "
قال:"أتخوف بني عبد الملك أن لا يرضوا"
قال:"فوله، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتابًا وتختمه، وتدعوهم إلى بيعةٍ مختوم عليها"
قال: فكتب العهد وختمه، وخرج رجاء ، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب
قالوا: ومن فيه؟
قال: مختوم، ولا تُخبرون بمن فيه حتى يموت
فامتنعوا، فقال سليمان: انطلق إلى أصحاب الشُّرط ونادِ الصلاة جامعة، ومرهم بالبيعة، فمن أبى فاضرب عنقه
ففعل، فبايعوا
قال رجاء: فلما خرجوا أتاني هشام في موكبه
فقال: قد علمت موقفك منّا، وأنا أتخوف أن يكون أمير المؤمنين أزالها عني، فأعلمني ما دام في الأمر نفس
قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين وأطلعك، لا يكون ذاك أبدًا
فأدارني وألاصني، فأبيت عليه فانصرف، فبينا أنا أسير إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز
فقال: رجاء، قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون جعلها إليّ ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص
قلت: سبحان الله، يستكتمني أمرًا أطلعك عليه!!.
ويذهب رجاء ذات يوم ليعود الخليفة، فيجده في اللحظات الأخيرة من حياته، فيجلس إلى جواره حتى تفيض روحه فيسجيه ويتكتم النبأ، وخرج فأرسل إلى كعب بن حامد العبسي رئيس الشرط ليجمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق
فقال لهم:بايعوا
قالوا: قد بايعنا مرة أنبايع أخرى؟
قال لهم : هذه رغبة أمير المؤمنين
فبايعوا على من عهد إليه في هذا الكتاب المختوم ، فبايعوا رجلًا رجلًا فلما بايعوا وأحكم الأمر
قال لهم : إن الخليفة قد مات وقرأ عليهم الكتاب..
ولم يكد يفيق عمر من غمرة المفاجأة، حتى راح يرتجف كعصفور غطته الثلوج، وصعق عمر حتى ما يستطيع القيام، وقال: والله ما سألتها الله في سرٍّ ولا علن
واستقبل رجاء بن حيوة يقول له في عتاب: ألم أناشدك الله يا رجاء ؟.
ثم سار إلى الخليفة المسجى، فصلى عليه، وشيعوه إلى مثواه، وعاد يفري أهل بيته فيه، ويلقى فيه العزاء، وفي الغداة دخل أمير المؤمنين المسجد فإذا هو غاص بحشود هائلة من الوافدين، فرأى أنها فرصة للتخلص من هذا المنصب الكبير قبل أن يتشبث بكاهله
وصعد المنبر وخطب الناس:" أما بعد فقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه وعلى غير مشورة من المسلمين وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم ".
فضجوا وصاحوا من كل طرف:"لا نريد غيرك "
وقال له بلال بن أبي بردة: من كانت الخلافة شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها،
وأنت كما قال مالك بن أسماء:
وتزيدين أطيب الطيب طيباً *** وإذا الــدر زان حســـن وجــوهٍ
ثم ألقى بعد ذلك خطبته، وكانت ولايته سنة 99هـ.
أول خطبة له رحمه الله:
حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس وإلا فليفارقنا ، يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها ، ويعيننا على الخير بجهده ، ويدلنا على الخير ما نهتدي إليه ، ولا يغتابنّ عندنا أحدًا ، ولا يعرضن فيما لا يعنيه . فانقشع عنه الشعراء … وثبت معه الفقهاء والزهاد.
آخر خطبة له رحمه الله:
حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم لم تخلقوا عبثًا، ولم تتركوا سدىً وإن لكم معادًا ينزل الله فيه للحكم فيكم والفصل بينكم ، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله تعالى، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدًا إلا من حذر اليوم الآخر وخافه، وباع فانيًا بباقٍ، ونافدًا بما لا نفاد له، وقليلًا بكثير، وخوفًا بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيكون من بعدكم للباقين، كذلك ترد إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله لا يرجع، قد قضى نحبه حتى تغيبوه في صدع من الأرض، في بطن صدع غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحباب، وواجه التراب والحساب، فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير لما قدم، فاتقوا الله قبل القضاء، راقبوه قبل نزول الموت بكم، أما إني أقول هذا …
ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله
وفي رواية : وأيم الله إني لأقول قولي هذا ولا أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم من نفسي، ولكنها سنن من الله عادلة أمر فيها بطاعته، ونهى فيها عن معصيته، وأستغفر الله
ووضع كمّه على وجهه فبكى حتى بلّ لحيته فما عاد لمجلسه حتى مات رحمه الله .
نبذة من حياته مع أهله:
تخييره زوجته:
لما ولي الخلافة خيّر امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على أنه لا فراغ له إليها وبين أن تلحق بأهلها فبكت وبكى جواريها لبكائها، فسُمعت ضجة في داره، ثم اختارت مقامها معه على كل حال رحمها الله .
ولده ينصحه:
دخل عبد الملك بن عمر على أبيه فقال: يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غدًا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها ، أو سنة فلم تحيها ؟!
فقال أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرًا .. يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة ، وعروة عروة ، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقًا يكثر فيه الدماء ، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يراق في سببي محجمة من دم ، أوما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيي فيه سنة ؟!.).
تضجر خادمه:
قال أبو أمية الخصمي غلام عمر : دخلت يومًا على مولاتي فغدّتني عدسًا، فقلت : كل يوم عدس ؟
قالت : يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين.
قصة مع خادم له:
رأى أمير المؤمنين خادمًا له يسحب برذونه، فسأله : كيف حال الناس ؟
فأجابه : كل الناس في راحة إلا أنت وأنا وهذا البرذون !.
من أقواله:
قال: أكثر من ذكر الموت ، فإن كنت في ضيق من العيش وسّعه عليك ، وإن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك. وقال: أيها الناس أصلحوا أسراركم تصلح علانيتكم واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم.
وقال له رجل أوصني فقال: أوصيك بتقوى الله وإيثاره تخف عنك المؤونة وتحسن لك من الله المعونة.
وقال لعمر بن حفص:إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملًا من الخير.
وقال: قد أفلح مَنْ عُصم من المراء والغضب والطمع.
وقال: مَنْ عَدَّ كلامه مِنْ عمله قَلَّ كلامُه.
مواقف من حياته:
*نفسي تتوق إلى غاية ما في الاخرة*
أخي المسلم إن الكلام عن حياة الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز يحتاج منا الى تأمل وتدبر، فأنت لا تكاد تلم بصورة من صور حياته الفريدة حتى تسلمك الى اخرى اكثر بهاء فتعالوا لنعيش هذه اللحظات مع حياة الخليفة الخامس.
أول هذه المواقف يرويها أحد الشعراء وهو (دكين بن سعيد الدارمي) فيقول: امتدحت عمر بن عبد العزيز يوم كان واليًا على المدينة فأمر لي بخمس عشرة ناقة من كرائم الابل فلما صرن في يدي تأملتهن فراعني منظرهن أي أدهشني منظرهن وكرهت أن امضي في فجاج الارض وحدي خوفًا عليهن ولم تسمح نفسي ببيعهن وفيما أنا كذلك قدمت علينا رفقة تبتغي السفر نحو ديارنا في (نجد) فسألتهم الصحبة فقالوا : مرحبًا بك ونحن سنخرج الليلة فأعد نفسك للخروج معنا فذهبت إلى عمر بن عبد العزيز مودعًا فوجدت في مجلسه شيخين لا أعرفهما فلما هممت بالانصراف التفت إليّ عمر وقال: يا دكين إن لي نفسًا تواقة فإن عرفت أنني بلغت أكثر مما أنا فيه فائتني ولك مني البر والاحسان.
فقلت: اشهد لي بذلك أيها الأمير
فقال: أشهد الله تعالى على ذلك
فقلت: ومن خلقه؟
فقال: هذين الشيخين
وكان هذان الشيخان هما: الأول: سالم بن عبدالله بن عمر الخطاب، والثاني: أبو يحيى مولى الأمير، فانصرف بالنوق إلى ديار قومه ثم دارت الأيام دورتها، ويقول دكين فبينما أنا بصحراء في أرض اليمامة في نجد إذا ناع ينعي أمير المؤمنين سليمان بن عبدالملك
فقلت للناعي: ومن الخليفة الذي قام بعده؟
فقال: عمر بن عبدالعزيز
فما أن سمعت مقالته حتى شددت رحالي نحو بلاد الشام فلما بلغت دمشق لقيت جريرًا منصرفًا من عند الخليفة، وجرير هذا شاعر معروف من كبار شعراء العصر الاموي ، فانطلقت حتى بلغت دار الخليفة فاذا هو في باحة الدار وقد احاط به اليتامى والأرامل وأصحاب الظلامات فلم أجد سبيلًا إليه من تزاحمهم عليه
فرفعت صوتي قائلا:
يا عمر الخيرات والمكارم *** وعمر الدسائع العظائم
إني امرؤ من قطن من دارم *** طلبت ديني من أخي المكارم
معنى الدسائع هي الجفنة العظيمة التي يستعملها اهل الجود في اطعام المساكين وقطن وادي بحضرموت ـ دارم ـ بنو دارم من عرب الحجاز ـ
المهم إن مولى عمر بن عبد العزيز وهو أبو يحيى عرف هذا الرجل
فقال: يا امير المؤمنين إن عندي لهذا البدوي شهادة عليك
فقال عمر: أعرفها
ثم التفت إلي وقال: أدن مني يا دكين
فلما صرت بين يديه مال علي وقال: أتذكر ما قلته لك في المدينة من أن نفسي ما نالت شيئًا قط إلا تاقت ورغبت إلى ما هو أعلى منه؟
فقلت: نعم يا امير المؤمنين
فقال: وها أنا ذا قد نلت غاية ما في الدنيا وهو ـ الملك ـ فنفسي تتوق إلى غاية ما في الاخرة وهو الجنة وتسعى إلى الفوز برضوان الله عز وجل ولئن كان الملوك يجعلون الملك سبيلًا لبلوغ عز الدنيا فلأجعلنه إلى بلوغ عز الآخرة
ثم قال: يا دكين إني والله ما أخذت شيئًا من أموالهم لا درهمًا ولا دينارًا منذ وليت هذا الأمر وإنني لا أملك إلا ألف درهم فخذ نصفها واترك لي نصفها
فأخذت المال الذي أعطانيه فوالله ما رأيت أعظم منه بركة
فهذه صورة أخي المسلم تدل على مدى صدق الخليفة العادل في وعده وقوة ذاكرته وعزمه على أن يجعل من الحكم سببًا لدخوله الجنة.
*حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته بعد اليوم مهما كان بعيد الدار*
أما الصورة الثانية من حياة سيدنا عمر فيرويها لنا قاضي الموصل (يحي بن يحيى الغساني) فيقول : بينما عمر بن عبدالعزيز يطوف ذات يوم في أسواق حمص ليتفقد الباعة ويتعرف على الأسعار إذ قام إليه رجل عليه بردان أحمران وقال: يا أمير المؤمنين لقد سمعت أنك أمرت من كان مظلومًا أن يأتيك
فقال: نعم
قال: وها قد أتاك رجل مظلوم بعيد الدار
فقال عمر: وأين أهلك؟
فقال الرجل: في (عدن)
فقال عمر: والله إن مكانك من مكان عمر ببعيد
ثم نزل عن دابته ووقف أمامه وقال: ما ظلامتك؟
فقال: ضيعة لي وثب عليها رجل ممن ينتسبون إليك وانتزعها مني
فكتب عمر كتابا إلى (عروة بن محمد) واليه على عدن يقول فيه: أما بعد فإذا جاءك كتابي هذا فاسمع بينة حامله وحجته فإن ثبت له حق فادفع إليه حقه ثم ختم الكتاب وناوله للرجل، فلما همَّ الرجل بالانصراف
قال له عمر: على رسلك إنك قد أتيتنا من بلد بعيد ولا ريب في أنك استنفذت في رحلك هذا زادًا كثيرًا وابليت ثيابًا جديدة ولعله نفقت لك دابة أي هلكت وماتت.
ثم حسب ذلك كله فبلغ أحد عشر دينارًا فدفعها إليه وقال: أشع ذلك في الناس حتى لا يتثاقل مظلوم عن رفع ظلامته بعد اليوم مهما كان بعيد الدار
فانظر أيها المسلم الكريم إلى هذه المواقف المشرقة في حياة من سبقونا في الإسلام، كان هناك تواضع بين الناس، وكان هناك تراحم فيما بين المسلمين، فندعو الله أن يوفقنا ويهدينا إلى سواء السبيل اللهم آمين
وفاته:
توفي عمر بن عبدالعزيز بدير سمعان من أعمال حمص في آخر رجب عام 101ه وعمره تسع وثلاثون سنة وستة أشهر، وكانت وفاته بالسم، وكانت بنو أمية كما يقول تاريخ الخلفاء قد تبرموا به، لكونه شدد عليهم، وانتزع من أيديهم كثيرًا مما غصبوه، وكان قد أهمل التحرز أي لم يهتم بسلامته.
قال مجاهد: قال لي عمر بن عبدالعزيز: ما يقول الناس فيّ؟
قلت: يقولون مسحور
قال: ما أنا بمسحور وإني لأعلم الساعة التي سقيت فيها، ثم دعا غلامًا له فقال له: ويحك ما حملك على أن تسقيني السم؟
قال: ألف دينار أُعطيتها وعلى أن أُعتق
قال: هاتها
فجاء بها، فألقاها في بيت المال وقال: اذهب حيث لا يراك أحد.
وعن عبيد بن حسان قال: لما احتضر عمر بن عبدالعزيز قال: اخرجوا عني، فلا يبقى عندي أحد
وكان عنده مسلمة بن عبدالملك قال: فخرجوا، فقعد على الباب هو وفاطمة، فسمعوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه أنس ولا جان، ثم قال: تلك الدار الآخرة فجعلها للذين لا يريدون علوًا في الارض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين، ثم هدأ الصوت فقال مسلمة لفاطمة: قد قبض صاحبك.، فدخلوا فوجدوه قد أسلم الروح.
ويقول ابن الجوزي في سيرة عمر: بلغني أن المنصور قال لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن ابي بكر يعظه
قال: مات عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وترك أحد عشر ابنًا، وبلغت تركته سبعة عشر دينارًا، كفن منها بخمسة دنانير، واشتُرِيَ له موضع قبره بدينارين، وقسم الباقي على بنيه، وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهمًا!
ويقارن عبدالرحمن بن القاسم فيقول: ولما مات هشام بن عبدالملك وخلف أحد عشر ابنًا قسمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف أي مليون، ورأيت رجلًا من ولد عمر بن عبد العزيز قد تصدق بمائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلا من ولد هشام يتصدق عليه.
فلله درك يا أمير المؤمنين...
تعليق