مواقف إيمانية
من حياة الصالحين أويس بن عامر القرني لو أقسم على الله لأبره
من حياة الصالحين أويس بن عامر القرني لو أقسم على الله لأبره
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الذي جعل عباده الصالحين منارة يقتدي بها السائرون إلى الله...
وعلامات يهتدي بها من أراد طاعة الله ورضاه...
وبلسماً يشفي الأنفس من أمراض الشهوات والشبهات...
والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبدالله:
قائد الغر المحجلين...
وحامل لواء الصالحين...
وهادي أنفس الحائرين...
أما بعد:
فلا شك أن الإطلاع على سير الصالحين...
ومعرفة أخبار المتقين...
وسبر آثار الطائعين...
لها في النفس آثار مدهشة، وعلامات بينة، وآيات واضحة...
فهو يحي القلوب الميتة، ويذيب قسوتها، ويزيل الصدأ الذي تراكم عليها...
ويشعل في النفوس جذوة الإيمان...
ويصد عنها كيد الشيطان...
ويلينها لطاعة الرحمن...
ويذهب عنها ما تراكم عليها من غبار الغفلات...
وما تعاقب عليها من صد الشهوات...
وما علق بها من شؤم الخطيئات...
فيعود إليها بريقها الذي خبت أنواره...
وصفاؤها الذي أمحت آثاره...
وفي هذا البحث بعض سير الصالحين، اخترناها لتكون علاجاً لقسوة القلوب التي كثر الشاكون منها...
وشفاء من مرض التعلق بالدنيا الذي عمّت به البلوى إلا من رحم الله...
ودعوة للمسلمين إلى السير في دروب الدار الآخرة لينقذوا أنفسهم من نار وقودها الناس والحجارة...
يحدوهم الشوق إلى نعيم الجنة...
ويسوقهم الخوف من عذاب جهنم...
ويقلقهم الركون إلى هذه الدنيا الزائلة التي طالما غرت كثيراً من الناس...
فالله الله في المبادرة إلى الأعمال الصالحة، والمسارعة إلى استغلال أنفاس الحياة فيما يعود على الإنسان بالنفع في الدنيا والآخرة، قبل أن تغادر الروح البدن...
ويندم الإنسان على ما فرط أيما ندم...
أويس بن عامر القرني
أويس بن عامر القرني
رجل من أولياء الله الصالحين، جعل نصب عينه مراقبة الله، ورعاية حرماته...
زهد في الدنيا بعد أن جاءت إليه راغمة، وتعالت نفسه على الرئاسة والإمارة بعد أن دُعي إليها من الخليفة عمر بن الخطاب، وعزفت نفسه عن الشهرة بعد أن كانت منه قاب قوسين أو أدنى...
وترفعت نفسه عن المجد المبتذل المزيف؛ فأبى المجد الصادق الحقيقي إلا أن يسير في ركابه ...
أرأيت إنساناً يختار أن يعيش أجيراً فقيراً و في مقدوره أن يكون سيداً مطاعاً، وثرياً واسع الثراء، وزعيماً يصدر القوم عن رأيه !!!
نعم إنه أويس القرني، عاش حياته خامل الذكر، فقير الحال، يحتقره أكثر الناس؛ لما يظهر عليه من رثاثة الثياب، وضآلة البدن، والعمل في خدمة الناس كأجير يرعى الإبل، بل أنه كان يتوسل إلى أحدهم أن يكف عن أذيته والسخرية منه، ومن رثاثة ثيابه...
هذا الرجل قد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بالصلاح والتقوى، وأنه لو أقسم على الله لأبره ...
قال عمر بن الخطاب ط سمعت رسول الله ج يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر في أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبريء منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها، لو أقسم على الله لأبر قسمه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)(1).
وعن أبي هريرة ضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء، الأبرياء، الشعثة روؤسهم، المغبرة وجوههم،الخمصة بطونهم، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم يُنكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن طلعوا لم يفرح لطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا...
قالوا يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟
قال ؛: ذاك أويس القرني...
قالوا : ومن أويس القرني...
قال: أشهل ذو صهوبة([1])، بعيد ما بين المنكبين، معتدل، آدم([2]) شديد الأدمة، ضارب بذقنه إلى صدره، رام ببصره إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله يتلوا القرآن، ويبكي على نفسه، ذو طمرين([3])، لايؤبه له([4])، مئتزر بإزار صوف...
مجهول في أهل الأرض، معروف في أهل السماء، لو أقسم على الله تعالى لأبر قسمه، ألا وأن تحت منكبه الأسير لمعة بياض، ألا وأنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد أدخلوا الجنة، وقيل لأويس: قف فاشفع، فيشفعه الله ﻷ في مثل عدد ربيعة ومضر
يا عمر ويا علي إذا أنتما لقيتماه، فأطلبا إليه أن يستغفر لكما...
فمكث عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب يطلبانه عشر سنين، لا يقدران عليه، فلما كان آخر السنة التي توفي فيها عمر ط قام على جبل أبي قبيس فنادى بأعلى صوته:
يا أهل الحجيج من اليمن
أفيكم أويس من مراد؟
فقام شيخ كبير اللحية فقال:
- إنا لا ندري من أويس، ولكن هناك ابن أخ لي يقال له أويس، وهو أخمل ذكراً، واقل مالاً، وأهون أمراً، من أن نرفعه إليك، وإنه ليرعى أبلنا، حقير بين أظهرنا...
فعمى عليه عمر كأنه لا يريده، وقال: أين ابن أخيك هذا؟ أبحرمنا هو؟
قال: نعم...
قال عمر: وأين يصاب...
قال الرجل بأراك عرفات...
ثم ركب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب من ساعتهما سراعا إلى عرفات فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة ، فأوقفا راحلتيهما؛ ثم اقبلا عليه فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فخفف أويس الصلاة وقال: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته، ثم قالا: من الرجل؟
قال: راعي إبل وأجير قوم...
قالا: لسنا نسأل عن الرعاية ولا عن الإجارة...
ما اسمك؟
قال: عبدالله...
قالا: قد علمنا أن أهل السموات والأرض كلهم عبيد الله...
فما اسمك الذي سمتك به أمك؟
قالا: يا هذان ما تريدان مني؟
قالا: وصف لنا محمد صلى الله عليه وسلم أويس القرني فقد عرفنا الصهوبة والشهولة؛ فأخبرنا؛ أن تحت منكبك الأيسر لمعة بيضاء، فأوضحها لنا فإن كانت بك، فأنت هو فأوضح منكبه؛ فإذا اللمعة تلوح...
فابتدراها يقبلانها وقالا: نشهد إنك أويس القرني فاستغفر لنا يغفر الله لك...
قال: ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحد من بني آدم، ولكنه في البر والبحر، في المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات...
ثم قال: يا هذان إنه قد شهر الله لكما حالي، وعرفكما أمري، فمن أنتما؟
قال علي: أما هذا فهو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وأما أنا فعلي بن أبي طالب، فاستوى أويس قائماً...
وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته...
السلام عليك يا ابن أبي طالب ورحمة الله وبركاته...
جزاكما الله عن هذه الأمة خيراً...
قالا: وأنت جزاك الله خيراً عن نفسك...
وقال له عمر: أنت أخي، لا أريدك تفارقني أبداً، وعندما رأى عمر رثاثة ثيابه، وضآلة بدنه...
قال له: مكانك يرحمك الله؛ حتى أتيك بنفقة من عطائي، وكسوة من فضل ثيابي، وهذا المكان ميعاد بيني وبينك...
قال أويس: لا أراك بعد اليوم تعرفني...
ما أصنع بالنفقة؟...
وما أصنع بالكسوة؟...
أما ترى علي إزاراً من صوف، ورداء من صوف، متى تراني أخرقهما، أما ترى نعلاي مخصوفتين.. متى تراني أبليهما؟
أما تراني قد أخذت من أجرتي أربعة دراهم متى تراني أكلهما...
ثم قال: يا أمير المؤمنين إن بين يدي ويديك عقبة كوؤدا، لا يكاد يجاوزهما إلا ضامر مخف مهزول فأخف رحمك الله...
فلما سمع عمر رضي الله عنه ذلك ضرب بدرته الأرض! ثم نادى بأعلى صوته....
ألا يا ليت أم عمر لم تلده...
ليتها كانت عاقراً لم تعالج حملها...
يا ويلتاه من يوم تشخص فيه الأبصار...
يا ويلتاه من يوم صبيحته القيامة...
يا وليتاه من جواز السراط...
يا وليتاه من الوقوف بين يدي رب العالمين...
ثم التفت أويس إلى عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وقال:
وداعاً لا لقاء بعده...
يا أمير المؤمنين خذا من هذا الطريق؛ حتى أخذ أنا من الطريق الآخر، فولى عمر وصاحبه ناحية مكة، وساق أويس أبله حتى وافى القوم بإبلهم وخلا عن الرعي، وأقبل على العبادة...
هذا الحديث أخرجه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه حلية الأولياء 2/80 عن أبيه عن حامد بن محمد عن مسلمة بن شبيب عن الوليد بن إسماعيل الحراني عن مجالد بن يزيد عن نوفل بن عبدالله عن الضحاك بن مزاحم عن أبي هريرة وأورده الحسن الواسطي في كتابه مجمع الأحباب بدون إسناد، وأورده أيضاً ابن الجوزي في صفة الصفوة بدون إسناد، وتعقبه الذهبي في سير أعلام النبلاء وقال: هذا سياق منكر...
يذكر أن أويساً سافر إلى الكوفة بعد أن رفض دعوة عمر بن الخطاب للبقاء معه في المدينة؛ ليعينه على أمور المسلمين، كل ذلك خوفاً على نفسه من الفتنة، ورعاية لحقوق الله ـ وزهداً في الدنيا واستصغاراً لشأنها...
ثم انظر إلى أخباره في الكوفة تجد عجباً!!
لقد تحمل العري والجوع وأذية الأشرار صابرا محتسبا!!
علماً أنه لو أراد أن يكون أميراً على ذلك البلد لحصل على ذلك، ولو أراد أن يكون بيته مزاراً للناس لتقاطروا عليه من كل حدب وصوب؛ يقبلون يديه ورجليه؛ ليفوزوا بأعظم منحة، وهي أن يستغفر لهم ...
عن يسير بن جابر قال: كان هناك محدث بالكوفة يحدثنا؛ فإذا فرغ من حديثه انصرف ، ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحد يقول مثله يدخل القلب، ويؤثر في النفس، قال : فأحببت ذلك الرجل، ثم أني فقدته بعد مدة، فقلت لأصحابي هل تعرفون رجلاً كان يجالسنا صفته كذا وكذا...
قال رجل منهم: نعم أعرفه.. ذلك أويس القرني...
قلت: أفتعرف منزله؟
قال: نعم...
فانطلقت معه حتى جئت حجرته؛ فخرج إلينا فقت يا أخي: ما حبسك عنا؟
قال: العري!
قال: وكان أصحابه يسخرون منه، ويؤذونه، قال: قلت خذ هذا الثوب فألبسه حتى تتمكن من الحضور إلينا...
قال: لا تفعل؛ فإنهم إذاً يؤذونني إذا رأوه...
قال: فلم أزل به حتى لبسه، ثم خرج عليهم فعندما رأوه، قالوا: من ترون خدع هذا عن برده.
قال: فعاد إلى موضعه وقال: أرأيت...
قال : فأتيت القوم في مجلسهم فقلت: ما تريدون من هذا الرجل...
قد آذيتموه، فهو يعرى مرة ويكتسي مرة...
قال: فأخذتهم بلساني أخذاً شديداً...
قال: ثم أن وفداً من أهل الكوفة ذهب إلى المدينة المنورة، وعندما علم بهم عمر بن الخطاب سألهم عن أويس القرني، وكانوا لا يعلمون عن حاله شيئاً، وكان معهم ابن عم له يولع به؛ فإن رآه مع قوم أغنياء قال: ما هو إلا يستأكلهم...
وإن رآه مع قوم فقراء قال: ما هو إلا يخدعهم...
وأويس لا يقول: في ابن عمه ذلك إلا خيراً غير أنه إذ مر به استتر منه ، مخافة أن يأثم في سبه ، فعندما سأل عمر عنه تقدم ابن عمه ذاك وقال: يا أمير المؤمنين هو ابن عمي، وهو رجل حقير خامل الذكر، لم يبلغ ما أن تعرفه أنت. قال عمر: ويلك هلكت.. ويلك هلكت، ذلك من أولياء الله الصالحين، ثم عرف القوم خبره...
ثم أن ذلك الرجل ندم على ما كان يفعل بأويس وعندما عاد على الكوفة ذهب إلى ابن عمه أويس قبل أن يدخل بيته وقال: استغفر لي يا ابن عمي...
قال أويس: ما هذه بعادتك؛ فما بدا لك...
قال: سمعت عمر يقول كذا وكذا، فاستغفر لي يرحمك الله...
قال أويس لا أفعل حتى تجعل لي عليك:
- أن لا تسخر مني فيما بعد...
- وأن لا تخبر أحداً بالذي سمعت من عمر...
قال يسير: فما لبث أن فشا أمره في الكوفة وتكاثر عليه الناس، يطلبون منه أن يستغفر لهم...
فاختفى من الكوفة فجأة ولم يعثر له على أثر.. وكان ذلك آخر العهد به ..
هذا الخبر قد ورد أكثره في صحيح مسلم... وكان أويس إذا أمسى يقول: هذه ليلة ركوع فيركع حتى يصبح...
ومرة يقول: هذه ليلة سجود فيسجد حتى يصبح...
وكان إذا أمسى يتصدق بما في بيته من طعام وغيره ويقول: اللهم من بات جائعاً فلا تؤاخذني به؛ فإنني لا أملك إلا ما بطني، ومن بات عرياناً؛ فلا تؤاخذني فإنني لا أملك إلا ما على ظهري...
قالوا: وبلغ من عري أويس: أنه جلس في قوصرة([5]) لا يبرحها؛ لأنه لا يجد ما يلبس!...
وكان يلتقط كسر الخبر الجاف من المزابل، فيغسلها ويأكل بعضها، ويتصدق ببعضها ويقول:
اللهم أني أبرأ إليك من كل ذي كبد جائع...
لا إله إلا الله... ومن يطيق ذلك!!!
اللهم أزل حب الدنيا من قلوبنا، وأجرنا من فتنة المحيا والممات
وهنا سؤال يطرح نفسه.
لماذا يعمد هذا الرجل الصالح إلى إخراج كل ما بيته من قليل أو كثير، ثم يضطر إذا عضه الجوع بنا به؛ أن يبحث في المزابل عن كسر الخبز اليابس التي لا يستطيع الناس أن يأكلوها ليبسها ...
والجواب أن أويسا قد جعل الموت نصب عينيه؛ يظن أنه إذا أصبح لن يعيش إلي المساء، وإذا أمسى لن يعيش إلى الصباح؛ ولذلك يسارع إلى التصدق بما عنده حتى لايفجأه الموت ولديه شيء من حطام الدنيا..
أسمع إليه يتحدث عن الموت عندما طلب منه أحدهم الوصية
قال: توسد الموت إذا نمت وأجعله نصب عينيك إذا قمت...
وادع الله أن يصلح قلبك، ويثبتك، فلم تعالج شيئاً أشد عليك منه...
بينما هو مقبل إذا هو مدبر...
وبينما هو مدبر إذا مقبل...
ولا تنظر في صغير الخطيئة...
ولكن انظر إلي عظمة من عصيت...
هذه نظرة أويس للموت والحياة وقد تحدث عن الموت أيضاً في وصيته لهرم بن حيان التي سبق ذكرها.
هوبة: يميل لون شعره إلى الإحمرار .
([2]) آدم: أسمر.
([3]) ذو طمرين: صاحب ثوبين رثين .
([4]) لا يؤبه له: لا يهتم به أحد أو يفكر في أمره.
([5]) عشة.
الحمد لله رب العالمين، الذي جعل عباده الصالحين منارة يقتدي بها السائرون إلى الله...
وعلامات يهتدي بها من أراد طاعة الله ورضاه...
وبلسماً يشفي الأنفس من أمراض الشهوات والشبهات...
والصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبدالله:
قائد الغر المحجلين...
وحامل لواء الصالحين...
وهادي أنفس الحائرين...
أما بعد:
فلا شك أن الإطلاع على سير الصالحين...
ومعرفة أخبار المتقين...
وسبر آثار الطائعين...
لها في النفس آثار مدهشة، وعلامات بينة، وآيات واضحة...
فهو يحي القلوب الميتة، ويذيب قسوتها، ويزيل الصدأ الذي تراكم عليها...
ويشعل في النفوس جذوة الإيمان...
ويصد عنها كيد الشيطان...
ويلينها لطاعة الرحمن...
ويذهب عنها ما تراكم عليها من غبار الغفلات...
وما تعاقب عليها من صد الشهوات...
وما علق بها من شؤم الخطيئات...
فيعود إليها بريقها الذي خبت أنواره...
وصفاؤها الذي أمحت آثاره...
وفي هذا البحث بعض سير الصالحين، اخترناها لتكون علاجاً لقسوة القلوب التي كثر الشاكون منها...
وشفاء من مرض التعلق بالدنيا الذي عمّت به البلوى إلا من رحم الله...
ودعوة للمسلمين إلى السير في دروب الدار الآخرة لينقذوا أنفسهم من نار وقودها الناس والحجارة...
يحدوهم الشوق إلى نعيم الجنة...
ويسوقهم الخوف من عذاب جهنم...
ويقلقهم الركون إلى هذه الدنيا الزائلة التي طالما غرت كثيراً من الناس...
فالله الله في المبادرة إلى الأعمال الصالحة، والمسارعة إلى استغلال أنفاس الحياة فيما يعود على الإنسان بالنفع في الدنيا والآخرة، قبل أن تغادر الروح البدن...
ويندم الإنسان على ما فرط أيما ندم...
أويس بن عامر القرني
أويس بن عامر القرني
رجل من أولياء الله الصالحين، جعل نصب عينه مراقبة الله، ورعاية حرماته...
زهد في الدنيا بعد أن جاءت إليه راغمة، وتعالت نفسه على الرئاسة والإمارة بعد أن دُعي إليها من الخليفة عمر بن الخطاب، وعزفت نفسه عن الشهرة بعد أن كانت منه قاب قوسين أو أدنى...
وترفعت نفسه عن المجد المبتذل المزيف؛ فأبى المجد الصادق الحقيقي إلا أن يسير في ركابه ...
أرأيت إنساناً يختار أن يعيش أجيراً فقيراً و في مقدوره أن يكون سيداً مطاعاً، وثرياً واسع الثراء، وزعيماً يصدر القوم عن رأيه !!!
نعم إنه أويس القرني، عاش حياته خامل الذكر، فقير الحال، يحتقره أكثر الناس؛ لما يظهر عليه من رثاثة الثياب، وضآلة البدن، والعمل في خدمة الناس كأجير يرعى الإبل، بل أنه كان يتوسل إلى أحدهم أن يكف عن أذيته والسخرية منه، ومن رثاثة ثيابه...
هذا الرجل قد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفه بالصلاح والتقوى، وأنه لو أقسم على الله لأبره ...
قال عمر بن الخطاب ط سمعت رسول الله ج يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر في أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبريء منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها، لو أقسم على الله لأبر قسمه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)(1).
وعن أبي هريرة ضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يحب من خلقه الأصفياء الأخفياء، الأبرياء، الشعثة روؤسهم، المغبرة وجوههم،الخمصة بطونهم، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم يُنكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن طلعوا لم يفرح لطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا...
قالوا يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟
قال ؛: ذاك أويس القرني...
قالوا : ومن أويس القرني...
قال: أشهل ذو صهوبة([1])، بعيد ما بين المنكبين، معتدل، آدم([2]) شديد الأدمة، ضارب بذقنه إلى صدره، رام ببصره إلى موضع سجوده، واضع يمينه على شماله يتلوا القرآن، ويبكي على نفسه، ذو طمرين([3])، لايؤبه له([4])، مئتزر بإزار صوف...
مجهول في أهل الأرض، معروف في أهل السماء، لو أقسم على الله تعالى لأبر قسمه، ألا وأن تحت منكبه الأسير لمعة بياض، ألا وأنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد أدخلوا الجنة، وقيل لأويس: قف فاشفع، فيشفعه الله ﻷ في مثل عدد ربيعة ومضر
يا عمر ويا علي إذا أنتما لقيتماه، فأطلبا إليه أن يستغفر لكما...
فمكث عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب يطلبانه عشر سنين، لا يقدران عليه، فلما كان آخر السنة التي توفي فيها عمر ط قام على جبل أبي قبيس فنادى بأعلى صوته:
يا أهل الحجيج من اليمن
أفيكم أويس من مراد؟
فقام شيخ كبير اللحية فقال:
- إنا لا ندري من أويس، ولكن هناك ابن أخ لي يقال له أويس، وهو أخمل ذكراً، واقل مالاً، وأهون أمراً، من أن نرفعه إليك، وإنه ليرعى أبلنا، حقير بين أظهرنا...
فعمى عليه عمر كأنه لا يريده، وقال: أين ابن أخيك هذا؟ أبحرمنا هو؟
قال: نعم...
قال عمر: وأين يصاب...
قال الرجل بأراك عرفات...
ثم ركب عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب من ساعتهما سراعا إلى عرفات فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة ، فأوقفا راحلتيهما؛ ثم اقبلا عليه فقالا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فخفف أويس الصلاة وقال: وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته، ثم قالا: من الرجل؟
قال: راعي إبل وأجير قوم...
قالا: لسنا نسأل عن الرعاية ولا عن الإجارة...
ما اسمك؟
قال: عبدالله...
قالا: قد علمنا أن أهل السموات والأرض كلهم عبيد الله...
فما اسمك الذي سمتك به أمك؟
قالا: يا هذان ما تريدان مني؟
قالا: وصف لنا محمد صلى الله عليه وسلم أويس القرني فقد عرفنا الصهوبة والشهولة؛ فأخبرنا؛ أن تحت منكبك الأيسر لمعة بيضاء، فأوضحها لنا فإن كانت بك، فأنت هو فأوضح منكبه؛ فإذا اللمعة تلوح...
فابتدراها يقبلانها وقالا: نشهد إنك أويس القرني فاستغفر لنا يغفر الله لك...
قال: ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحد من بني آدم، ولكنه في البر والبحر، في المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات...
ثم قال: يا هذان إنه قد شهر الله لكما حالي، وعرفكما أمري، فمن أنتما؟
قال علي: أما هذا فهو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وأما أنا فعلي بن أبي طالب، فاستوى أويس قائماً...
وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته...
السلام عليك يا ابن أبي طالب ورحمة الله وبركاته...
جزاكما الله عن هذه الأمة خيراً...
قالا: وأنت جزاك الله خيراً عن نفسك...
وقال له عمر: أنت أخي، لا أريدك تفارقني أبداً، وعندما رأى عمر رثاثة ثيابه، وضآلة بدنه...
قال له: مكانك يرحمك الله؛ حتى أتيك بنفقة من عطائي، وكسوة من فضل ثيابي، وهذا المكان ميعاد بيني وبينك...
قال أويس: لا أراك بعد اليوم تعرفني...
ما أصنع بالنفقة؟...
وما أصنع بالكسوة؟...
أما ترى علي إزاراً من صوف، ورداء من صوف، متى تراني أخرقهما، أما ترى نعلاي مخصوفتين.. متى تراني أبليهما؟
أما تراني قد أخذت من أجرتي أربعة دراهم متى تراني أكلهما...
ثم قال: يا أمير المؤمنين إن بين يدي ويديك عقبة كوؤدا، لا يكاد يجاوزهما إلا ضامر مخف مهزول فأخف رحمك الله...
فلما سمع عمر رضي الله عنه ذلك ضرب بدرته الأرض! ثم نادى بأعلى صوته....
ألا يا ليت أم عمر لم تلده...
ليتها كانت عاقراً لم تعالج حملها...
يا ويلتاه من يوم تشخص فيه الأبصار...
يا ويلتاه من يوم صبيحته القيامة...
يا وليتاه من جواز السراط...
يا وليتاه من الوقوف بين يدي رب العالمين...
ثم التفت أويس إلى عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وقال:
وداعاً لا لقاء بعده...
يا أمير المؤمنين خذا من هذا الطريق؛ حتى أخذ أنا من الطريق الآخر، فولى عمر وصاحبه ناحية مكة، وساق أويس أبله حتى وافى القوم بإبلهم وخلا عن الرعي، وأقبل على العبادة...
هذا الحديث أخرجه الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه حلية الأولياء 2/80 عن أبيه عن حامد بن محمد عن مسلمة بن شبيب عن الوليد بن إسماعيل الحراني عن مجالد بن يزيد عن نوفل بن عبدالله عن الضحاك بن مزاحم عن أبي هريرة وأورده الحسن الواسطي في كتابه مجمع الأحباب بدون إسناد، وأورده أيضاً ابن الجوزي في صفة الصفوة بدون إسناد، وتعقبه الذهبي في سير أعلام النبلاء وقال: هذا سياق منكر...
يذكر أن أويساً سافر إلى الكوفة بعد أن رفض دعوة عمر بن الخطاب للبقاء معه في المدينة؛ ليعينه على أمور المسلمين، كل ذلك خوفاً على نفسه من الفتنة، ورعاية لحقوق الله ـ وزهداً في الدنيا واستصغاراً لشأنها...
ثم انظر إلى أخباره في الكوفة تجد عجباً!!
لقد تحمل العري والجوع وأذية الأشرار صابرا محتسبا!!
علماً أنه لو أراد أن يكون أميراً على ذلك البلد لحصل على ذلك، ولو أراد أن يكون بيته مزاراً للناس لتقاطروا عليه من كل حدب وصوب؛ يقبلون يديه ورجليه؛ ليفوزوا بأعظم منحة، وهي أن يستغفر لهم ...
عن يسير بن جابر قال: كان هناك محدث بالكوفة يحدثنا؛ فإذا فرغ من حديثه انصرف ، ويبقى رهط فيهم رجل يتكلم بكلام لا أسمع أحد يقول مثله يدخل القلب، ويؤثر في النفس، قال : فأحببت ذلك الرجل، ثم أني فقدته بعد مدة، فقلت لأصحابي هل تعرفون رجلاً كان يجالسنا صفته كذا وكذا...
قال رجل منهم: نعم أعرفه.. ذلك أويس القرني...
قلت: أفتعرف منزله؟
قال: نعم...
فانطلقت معه حتى جئت حجرته؛ فخرج إلينا فقت يا أخي: ما حبسك عنا؟
قال: العري!
قال: وكان أصحابه يسخرون منه، ويؤذونه، قال: قلت خذ هذا الثوب فألبسه حتى تتمكن من الحضور إلينا...
قال: لا تفعل؛ فإنهم إذاً يؤذونني إذا رأوه...
قال: فلم أزل به حتى لبسه، ثم خرج عليهم فعندما رأوه، قالوا: من ترون خدع هذا عن برده.
قال: فعاد إلى موضعه وقال: أرأيت...
قال : فأتيت القوم في مجلسهم فقلت: ما تريدون من هذا الرجل...
قد آذيتموه، فهو يعرى مرة ويكتسي مرة...
قال: فأخذتهم بلساني أخذاً شديداً...
قال: ثم أن وفداً من أهل الكوفة ذهب إلى المدينة المنورة، وعندما علم بهم عمر بن الخطاب سألهم عن أويس القرني، وكانوا لا يعلمون عن حاله شيئاً، وكان معهم ابن عم له يولع به؛ فإن رآه مع قوم أغنياء قال: ما هو إلا يستأكلهم...
وإن رآه مع قوم فقراء قال: ما هو إلا يخدعهم...
وأويس لا يقول: في ابن عمه ذلك إلا خيراً غير أنه إذ مر به استتر منه ، مخافة أن يأثم في سبه ، فعندما سأل عمر عنه تقدم ابن عمه ذاك وقال: يا أمير المؤمنين هو ابن عمي، وهو رجل حقير خامل الذكر، لم يبلغ ما أن تعرفه أنت. قال عمر: ويلك هلكت.. ويلك هلكت، ذلك من أولياء الله الصالحين، ثم عرف القوم خبره...
ثم أن ذلك الرجل ندم على ما كان يفعل بأويس وعندما عاد على الكوفة ذهب إلى ابن عمه أويس قبل أن يدخل بيته وقال: استغفر لي يا ابن عمي...
قال أويس: ما هذه بعادتك؛ فما بدا لك...
قال: سمعت عمر يقول كذا وكذا، فاستغفر لي يرحمك الله...
قال أويس لا أفعل حتى تجعل لي عليك:
- أن لا تسخر مني فيما بعد...
- وأن لا تخبر أحداً بالذي سمعت من عمر...
قال يسير: فما لبث أن فشا أمره في الكوفة وتكاثر عليه الناس، يطلبون منه أن يستغفر لهم...
فاختفى من الكوفة فجأة ولم يعثر له على أثر.. وكان ذلك آخر العهد به ..
هذا الخبر قد ورد أكثره في صحيح مسلم... وكان أويس إذا أمسى يقول: هذه ليلة ركوع فيركع حتى يصبح...
ومرة يقول: هذه ليلة سجود فيسجد حتى يصبح...
وكان إذا أمسى يتصدق بما في بيته من طعام وغيره ويقول: اللهم من بات جائعاً فلا تؤاخذني به؛ فإنني لا أملك إلا ما بطني، ومن بات عرياناً؛ فلا تؤاخذني فإنني لا أملك إلا ما على ظهري...
قالوا: وبلغ من عري أويس: أنه جلس في قوصرة([5]) لا يبرحها؛ لأنه لا يجد ما يلبس!...
وكان يلتقط كسر الخبر الجاف من المزابل، فيغسلها ويأكل بعضها، ويتصدق ببعضها ويقول:
اللهم أني أبرأ إليك من كل ذي كبد جائع...
لا إله إلا الله... ومن يطيق ذلك!!!
اللهم أزل حب الدنيا من قلوبنا، وأجرنا من فتنة المحيا والممات
وهنا سؤال يطرح نفسه.
لماذا يعمد هذا الرجل الصالح إلى إخراج كل ما بيته من قليل أو كثير، ثم يضطر إذا عضه الجوع بنا به؛ أن يبحث في المزابل عن كسر الخبز اليابس التي لا يستطيع الناس أن يأكلوها ليبسها ...
والجواب أن أويسا قد جعل الموت نصب عينيه؛ يظن أنه إذا أصبح لن يعيش إلي المساء، وإذا أمسى لن يعيش إلى الصباح؛ ولذلك يسارع إلى التصدق بما عنده حتى لايفجأه الموت ولديه شيء من حطام الدنيا..
أسمع إليه يتحدث عن الموت عندما طلب منه أحدهم الوصية
قال: توسد الموت إذا نمت وأجعله نصب عينيك إذا قمت...
وادع الله أن يصلح قلبك، ويثبتك، فلم تعالج شيئاً أشد عليك منه...
بينما هو مقبل إذا هو مدبر...
وبينما هو مدبر إذا مقبل...
ولا تنظر في صغير الخطيئة...
ولكن انظر إلي عظمة من عصيت...
هذه نظرة أويس للموت والحياة وقد تحدث عن الموت أيضاً في وصيته لهرم بن حيان التي سبق ذكرها.
هوبة: يميل لون شعره إلى الإحمرار .
([2]) آدم: أسمر.
([3]) ذو طمرين: صاحب ثوبين رثين .
([4]) لا يؤبه له: لا يهتم به أحد أو يفكر في أمره.
([5]) عشة.
تعليق