الحمد لله وحده والصلاة على من لا نبي بعده وآله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين:
ثم أما بعد :
إخوتي في الله
اعلموا أنّ من أكمل الناس خلالاً، وأفضلهم حالاً، وأفصحهم مقالاً، من اصطفاه ربّ البريّة، ليكون هاديا للبشريّة، صلوات الله وسلامه عليه، حيث امتن الله عزّ وجلّ علينا ببعثته، فقال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
وزكّاه ربّه بما كان عليه من مكارم الأخلاق، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4].
ثم أمرنا الله عزّ وجلّ بالاقتداء به صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً[الأحزاب:21].
وكما اختار الله نبيّه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم للنبوة والرسالة اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمة قلوبا وأعمقها علمًا وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، جاهدوا في الله حقّ جهاده في حياة نبيهم، وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيّون، والقادة الفاتحون، والعبّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم، لما قاموا به من نشر الدين، وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة رضي الله عنه.
ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين. فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغاليّة، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة".
عباد الله: من المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء االكفار والمنافقين وأفراخهم من المستشرقين.
والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بأثافي الأساطير والأكاذيب، ويصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح والألاعيب، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا ترجفهم أقاويل المفترين ولا تصرفهم عن محبّة أبي هريرة تُرهات الممترين، لأنّهم بفضله ومناقبه عارفون عالمون، وبشرف الدفاع عنه مكافحون منافحون.
ولئن كان سفهاء الأحالام وأُجراء الأقلام قد سودوا الصحائف والكتب بالنيل من حافظ الإسلام الجهبذ، فإنّ كبار النفوس والعقول من رجالات الأمة لفحول قد ملؤوها مدحًا وثناءً، ونوروا سطورها ضياءً وسناءً، فما هؤلاء المحبين الموالين، إلاّ كما قال الشاعر:
والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب.
أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ صَخْرٍ، الإِمَامُ الفَقِيْهُ المُجْتَهِدُ الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، سَيِّدُ الحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ، دعا له النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ولأمه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ المُؤْمِنِيْنَ، وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا)).
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يوما: ((أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟)) قال: فقُلْتُ له: يا رسول الله، أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، فلم يكن لأبي هريرة في الدنيا مطمع، بل كان همه الآخرة، والآخرة خير وأبقى، كان يقول رضي الله عنه: إِنَّ إِخْوَانِي المُهَاجِرِيْنَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَ إِخْوَانِي مِنَ الأَنْصَارِ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرًَا مِسْكِيْنا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ، أَلْزَمُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِي حِينَ يَنْسَونَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ يَوْما: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِي جَمِيعَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلاَّ وَعَى مَا أَقُوْلُ))، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ، ثم يقول: ولولا آية أنزلها الله في كتابه ما حدّثت الناس شيئا أبدا، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة: 159].
عباد الله، لقد ظل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث الناس سبعًا وأربعين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، على مرأى ومسمع من كبار الصحابة والتابعين، ويبلغ الآخذون عنه كما ذكر ذلك البخاري ثمانمائة من أهل العلم، ولا يعرف أن أحدًا من الصحابة بلغ مبلغه في الآخذين عنه، وكلهم يجمع على جلالته والثقة به، حفظ الكثير من الأحاديث، وآتاه الله قلبا واعيا وحفظا دقيقا، وعرف بالصدق والإيمان والتقوى والمروءة والأخلاق، وكان يتحمل ألم الجوع حتى لا يفوته شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
يقول الإمام البخاري في صحيحه: قال أبو هريرة رضي الله: (والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع، وأشد الحجر على بطني)، كل ذلك حرصا على العلم وتحصيله، بل شهد له النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ببروعه في العلم، وأمّن عليه الصلاة والسلام على دعاء أبي هريرة رضي الله عنه حين قال: اللهم إني أسألك علما لا ينسَى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((آمين)).
إن أبا هريرة رضي الله عنه محفوف بالعناية الإلهية والدعوات النبوية الكريمة، فيا عجبا كيف يستكثر المنافقون على أبي هريرة رضي الله عنه حفظَ بضعة آلاف من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لم تبلغ العشرة آلاف حديث؟!
أوَمَا يعلم هؤلاء أن أبا هريرة رضي الله عنه أصبَح بعد دعوة الحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مهيّئا لحفظ ما شاء من العلوم ببركة دعوة الحبيب عليه الصلاة والسلام؟!
أوَما يعلم هؤلاء أن صغارَ المسلمين اليوم يحفظون من الأحاديث أكثر مما حفظ أبو هريرة رضي الله عنه وهو محفوف بدعوة نبوية كريمة؟!
بل إن كثيرا من العلماء المعاصرين والسابقين حفظوا من مشكاة الوحي والسنة النبوية أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة رضي الله عنه من الأحاديث، فهل نستكثر عليهم ذلك وقد وهبهم الله من فضله ورحمته؟! فكيف نستكثر ونستكبر على أبي هريرة ما حفظ من السنة؟! ولكن ما نقول إلا كما قال الله في كتابه: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
عباد الله، إن حفظ القرآن لو قيس بعدد أحاديث السنّة لبلغ مئات الآلاف من الأحاديث، ومع ذلك نجد من أبناء المسلمين اليوم من يحفظه وهو لا يتجاوز الرابعة من عمره، ألا فلعنه الله على من يلمزون أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم خير القرون المفضلة الذين زكاهم الله جملة بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ورضي عنهم بقوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
يقول طلحة بن عبيد الله وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة والملقب بطلحة الخير: لا أشك بأن أبا هريرة رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ما لم نسمع، وشهد له عبد الله بن عمر فقال: يا أبا هريرة، أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وأحفظنا لحديثه.
قال الشافعي رضي الله عنه: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره".
الذين يطعنون في هذا الصحابي الجليل بأن الطعن به طعن بالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم الذي وثّقه، وطعن بكبار الصحابة والتابعين الذين روَوا عنه ووثّقوه، وتطاول على السنة الشريفة، قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66].
يقول الإمام القرطبي رضي الله عنه: "إن الطاعن في رواية هذا الصحابي طاعن في الدين خارج عن الشريعة مبطل للقرآن".
يتبع بإذن الله
ثم أما بعد :
إخوتي في الله
اعلموا أنّ من أكمل الناس خلالاً، وأفضلهم حالاً، وأفصحهم مقالاً، من اصطفاه ربّ البريّة، ليكون هاديا للبشريّة، صلوات الله وسلامه عليه، حيث امتن الله عزّ وجلّ علينا ببعثته، فقال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
وزكّاه ربّه بما كان عليه من مكارم الأخلاق، فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم:4].
ثم أمرنا الله عزّ وجلّ بالاقتداء به صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والاهتداء بهديه، والتخلق بأخلاقه فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلاْخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً[الأحزاب:21].
وكما اختار الله نبيّه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم للنبوة والرسالة اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمة قلوبا وأعمقها علمًا وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، جاهدوا في الله حقّ جهاده في حياة نبيهم، وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيّون، والقادة الفاتحون، والعبّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم، لما قاموا به من نشر الدين، وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة رضي الله عنه.
ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين. فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغاليّة، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة".
عباد الله: من المفارقات العجيبة أنّه بقدر ما شُدَّت قلوب المؤمنين إلى محبة هذا الصحابي الجليل بقدر ما اشتد عداء االكفار والمنافقين وأفراخهم من المستشرقين.
والمستغربين لهذا الرجل الأصيل، فراحوا يُشوِّهون صورته المشرقة بأثافي الأساطير والأكاذيب، ويصفونه بالغفلة والبله والميل إلى المزاح والألاعيب، بل نسبوا إليه الكذب فيما روى من أحاديث الصادق الأمين، وهالهم ما حفظه من ذلك في قلة السنين، لكن أهل الإيمان لا ترجفهم أقاويل المفترين ولا تصرفهم عن محبّة أبي هريرة تُرهات الممترين، لأنّهم بفضله ومناقبه عارفون عالمون، وبشرف الدفاع عنه مكافحون منافحون.
ولئن كان سفهاء الأحالام وأُجراء الأقلام قد سودوا الصحائف والكتب بالنيل من حافظ الإسلام الجهبذ، فإنّ كبار النفوس والعقول من رجالات الأمة لفحول قد ملؤوها مدحًا وثناءً، ونوروا سطورها ضياءً وسناءً، فما هؤلاء المحبين الموالين، إلاّ كما قال الشاعر:
هل يضر البحر أمسى زاخرًا أن رمى فيه غلامٌ بحجر
والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب.
أَبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيُّ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ صَخْرٍ، الإِمَامُ الفَقِيْهُ المُجْتَهِدُ الحَافِظُ، صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، سَيِّدُ الحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ، دعا له النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ولأمه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ المُؤْمِنِيْنَ، وَحَبِّبْهُمْ إِلَيْهِمَا)).
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يوما: ((أَلاَ تَسْأَلُنِي مِنْ هَذِهِ الغَنَائِمِ الَّتِي يَسْأَلُنِي أَصْحَابُكَ؟)) قال: فقُلْتُ له: يا رسول الله، أَسْأَلُكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، فلم يكن لأبي هريرة في الدنيا مطمع، بل كان همه الآخرة، والآخرة خير وأبقى، كان يقول رضي الله عنه: إِنَّ إِخْوَانِي المُهَاجِرِيْنَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، وَكَانَ إِخْوَانِي مِنَ الأَنْصَارِ يَشْغَلُهُمْ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ، وَكُنْتُ امْرًَا مِسْكِيْنا مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ، أَلْزَمُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ، وَأَعِي حِينَ يَنْسَونَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فِي حَدِيثٍ يُحَدِّثُهُ يَوْما: ((إِنَّهُ لَنْ يَبْسُطَ أَحَدٌ ثَوْبَهُ حَتَّى أَقْضِي جَمِيعَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَجْمَعُ إِلَيْهِ ثَوْبَهُ إِلاَّ وَعَى مَا أَقُوْلُ))، فَبَسَطْتُ نَمِرَةً عَلَيَّ، حَتَّى إِذَا قَضَى رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مَقَالَتَهُ جَمَعْتُهَا إِلَى صَدْرِي، فَمَا نَسِيتُ مِنْ مَقَالَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تِلْكَ مِنْ شَيْءٍ، ثم يقول: ولولا آية أنزلها الله في كتابه ما حدّثت الناس شيئا أبدا، وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة: 159].
عباد الله، لقد ظل أبو هريرة رضي الله عنه يحدث الناس سبعًا وأربعين سنة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، على مرأى ومسمع من كبار الصحابة والتابعين، ويبلغ الآخذون عنه كما ذكر ذلك البخاري ثمانمائة من أهل العلم، ولا يعرف أن أحدًا من الصحابة بلغ مبلغه في الآخذين عنه، وكلهم يجمع على جلالته والثقة به، حفظ الكثير من الأحاديث، وآتاه الله قلبا واعيا وحفظا دقيقا، وعرف بالصدق والإيمان والتقوى والمروءة والأخلاق، وكان يتحمل ألم الجوع حتى لا يفوته شيء من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
يقول الإمام البخاري في صحيحه: قال أبو هريرة رضي الله: (والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد على الأرض بكبدي من الجوع، وأشد الحجر على بطني)، كل ذلك حرصا على العلم وتحصيله، بل شهد له النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ببروعه في العلم، وأمّن عليه الصلاة والسلام على دعاء أبي هريرة رضي الله عنه حين قال: اللهم إني أسألك علما لا ينسَى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((آمين)).
إن أبا هريرة رضي الله عنه محفوف بالعناية الإلهية والدعوات النبوية الكريمة، فيا عجبا كيف يستكثر المنافقون على أبي هريرة رضي الله عنه حفظَ بضعة آلاف من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لم تبلغ العشرة آلاف حديث؟!
أوَمَا يعلم هؤلاء أن أبا هريرة رضي الله عنه أصبَح بعد دعوة الحبيب صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم مهيّئا لحفظ ما شاء من العلوم ببركة دعوة الحبيب عليه الصلاة والسلام؟!
أوَما يعلم هؤلاء أن صغارَ المسلمين اليوم يحفظون من الأحاديث أكثر مما حفظ أبو هريرة رضي الله عنه وهو محفوف بدعوة نبوية كريمة؟!
بل إن كثيرا من العلماء المعاصرين والسابقين حفظوا من مشكاة الوحي والسنة النبوية أضعاف أضعاف ما حفظه أبو هريرة رضي الله عنه من الأحاديث، فهل نستكثر عليهم ذلك وقد وهبهم الله من فضله ورحمته؟! فكيف نستكثر ونستكبر على أبي هريرة ما حفظ من السنة؟! ولكن ما نقول إلا كما قال الله في كتابه: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46].
عباد الله، إن حفظ القرآن لو قيس بعدد أحاديث السنّة لبلغ مئات الآلاف من الأحاديث، ومع ذلك نجد من أبناء المسلمين اليوم من يحفظه وهو لا يتجاوز الرابعة من عمره، ألا فلعنه الله على من يلمزون أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم خير القرون المفضلة الذين زكاهم الله جملة بقوله: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، ورضي عنهم بقوله: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 100].
يقول طلحة بن عبيد الله وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة والملقب بطلحة الخير: لا أشك بأن أبا هريرة رضي الله عنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ما لم نسمع، وشهد له عبد الله بن عمر فقال: يا أبا هريرة، أنت كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وأحفظنا لحديثه.
قال الشافعي رضي الله عنه: "أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره".
ومن هنا فإني أحذر
الذين يطعنون في هذا الصحابي الجليل بأن الطعن به طعن بالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم الذي وثّقه، وطعن بكبار الصحابة والتابعين الذين روَوا عنه ووثّقوه، وتطاول على السنة الشريفة، قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة: 65، 66].
يقول الإمام القرطبي رضي الله عنه: "إن الطاعن في رواية هذا الصحابي طاعن في الدين خارج عن الشريعة مبطل للقرآن".
يتبع بإذن الله
تعليق