علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن أحمد البغدادي:
الظفري، المقرىء الفقيه، الأصولي، الواعظ المتكلم، أبو الوفاء، أحد الأئمة الأعلام، وشيحْ الإسلام: وُلد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في جمادى الآخرة. كذا نقله عنه ابن ناصر السلفي.
قال ابن الجوزي. ورأيتُه بخطّه.
وحفظ القرآن. وقرأ بالروايات القرآن على أبي الفتح بن شيطا، وغيره.
وكان يقول: شيخي في القراءة: ابن شيطا. وفي النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفي الزهد: أبو بكر الدينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسين القزويني، ذكر جماعة غيرهم من الرجال والنساء. وفي آداب التصوف: أبو منصور صاحب الزيادة العطار، وأثنى عليه بالزهد والتخلق بأخلاق متقدمي الصوفية. وفي الحديث: ابن النوري، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني. وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون. وفي الأصول: أبو الوليد وأبو القاسم بن التبان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى المملوء عقلاً وزهدًا وورعًا. قرأت عليه سنة سبع وأربعين، ولم أخل بمجالسه وخلوته التي تتسع لحضوري، والمشي معه ماشيًا وفي ركابه إلى أن توفي. وحظيت من قربه بما لم يحْظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني. والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إمام الدنيا وزاهِدُها، وفارسُ المناظرة وواحدها. كان يُعَلمني المناظرة، وانتفعتُ بمصنَّفاته. وأبو نصر بن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، حضرت مجالس درسه ونظره. وقاضي القضاة الشامي انتفعت به غاية النفع، وأبو الفضل الهمذاني. وأكبرهم سنًا وأكثرهم فضلاً: أبو الطيب الطبريّ حظيتُ برؤيته، ومشيت في ركابه. وكانت صحبتي له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة، فحظيت بالجمال والبركة.
ومن مشايخي: أبو محمد التميمي. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
ومنهم: أبو بكر الخطيب. كان حافظ وقته. وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا. وأقبل علي أبو منصور بن يوسف، فحظيتُ منه بأكبر حظوة. وقدمني على الفتاوى، مع حضور من هو أسن مني، وأجلسني في حلقة البرامكة، بجامع المنصور، لما مات شيخي سنة ثمان وخمسين. وقام بكل مؤونتي وتحملي، فقمتُ من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد.
وأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام، وكتابة، وشعر، وآداب. وكان جدّي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة. وهو المنشىء لرسالة عزل الطايع وتولية القادر ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جزلاً وعلمًا. وبيت أبي بيت الزهري صاحب الكلام والدرس على مذهب أبي حنيفة.
وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة، مع عفة وتقى. ولا أزاحم فقيهًا في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة. وتقلبت عليَّ الدول فما أخذتني دولة سلطان ولا عامة عما أعتقده أنه الحق، فأوذيت من أصحابي حتى طلب الدم وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس - فيا من خفت الكل لأجله، لا تخيب ظني فيك - وعصمني الله تعالى في عنفوان شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم.
قال: والغالب على أحداث طائفة أصحاب أحمد العفة، وعلى مشايخهم الزهادة والنظافة. آخر كلامه.
..
قال ابن الجوزي: وأفتى ابن عقيل، ودرَسَ وناظر الفحول، واستفتى في الديوان في زمن القائم، في زمرة الكبار. وجمع علم الفروع والأصول وصنَّف فيها الكتب الكبار. وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أني رأيتُ بخطه:
إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة.
قال: وكان له الخاطر العاطر، والبحث كن الغامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى ب " الفنون " مناطًا لخواطره وواقعاته. من تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل.
وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة. فلما كانت سنة خمسٍ وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتنٌ بين الحنابلة والأشاعرة فترك الوعظ واقتصر على التدريس. ومتعه الله تعالى بسمعه وبصره، وجميع جوارحه.
قال: وقرأت بخطه. قال: بلغتُ الاثنتي عشرة سنة، وأنا في سنة الثمانين وما أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر، وقوة البصر، لرؤية الأهلة الخفية، إلاّ أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة.
قلتُ: وذكر ابن عقيل في فنونه:
قال حنبلي : أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه.
قال ابن الجوزي: وكان ابن عقيل قوي الدين، حافظًا للحدود. وتوفي له ولدان، فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه. وكان كريمًا ينفق ما يجد، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه. وكانت بمقدار كفنه، وقضاء دينه.
وقال ابن عقيل: قدم علينا أبو المعالي الجويني بغداد، أول ما دخل الغزالي فتكلم مع أبي إسحاق، وأبي نصر الصباغ، وسمعتُ كلامه. ثم ذكر عنه مسألة العلم بالأعراض المشهورة عنه، وبالغ في الرد عليه.
ولما ورد الغزالي بغداد، ودرس بالنظامية، حضَره ابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهُما. وكان ابن عقيل كثير المناظرة للكيا الهراسي. وكان الكيا ينشده في المناظرة:
ارفق بعبدك إنَّ فيه فهاهة ... جبلية ولك العراق وماؤها
قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء بن عقيل ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته. ولقد تكلم يومًا مع شيخنا أبي الحسن الكيا الهرّاسي في مسألة، فقال شيخنا: هذا ليس بمذهبك. فقال: أنا لي اجتهادٌ، متى ما طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، فقال له شيخنا: كذلك الظنُّ بك.
وذكر ابن النجار في تاريخه: أن ابن عقيل قرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وعلى أبي محمد التميمي، وقرأ الأصول والخلاف على القاضي أبي الطيّب الطبري، وأبي نصر بن الصباغ، وقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني.
وكان ابن عقيل رحمه الله عظيم الحرمة، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك.
وكان شهمًا مقدامًا، يُواجه الأكابر بالإنكار بلفظه، وخطه، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس، مع شهرته بالزهد والمكاشفات، وعكوف العامة عليه، يتهدده في أمر كان يفعله ويقول له: إن عدتَ إلى هذا ضربتُ عنقك.
وكتبَ مرة إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير لما بنى سور بغداد، وأظهر العوام، في الاشتغال ببنائه المنكرات:
لولا اعتقاد صحة البعث، وأن لنا دارًا أكون فيها على حال أحمدها، لما نصبت نفسي إلى مالك عصري، وعلى الله أعتمد في جميع ما أورده، بعد أن أشهده: أني محبٌ متعصبٌ. لكن إذا تقابل دين محمد ودولة بني جهير، فوالله ما أردت هذه بهذه، ولو كنت كذلك كنت كافرًا. فقلت: إن هذا الخرق الذي جرى بالشريعة لمناصبة واضعها. فما بالنا نعقد الختمات ورواية الأحاديث؟ فإذا نزلت بنا الحوادث تقدمنا بجميع الختمات، والدعاء عقيبها، ثم بعد ذلك طبول وصَواني، ومخانيث، وخيال، وكشف عورات الرجال مع حضور النساء، إسقاطًا لحكم اللّه تعالى.
وما عندي يا شرف الدين، أن تقوم بسخطة من سخطات الله تعالى. ترى بأي وَجهٍ تلقى محمدًا صلى الله عليه وسلم بل لو رأيته في المنام مقطبًا كان ذلك يزعجك في يقظتك. وأيّ حرمةٍ تبقى لوجوهنا وأيدينا وألسنتنا عند الله، إذا وضعنا الجباه ساجدة له ثم كيف تطالب الأجناد بتقبيل عتبة، ولثم ترابها، وتقيم الحدّ في دهليز الحريم، صباحًا ومساءً، على قدح نبيذٍ مختلف فيه، ثم تمرح العوام في المسكر المجمع على تحريمه؟ هذا مضاف إلى الزنا الظاهر بباب بدر، ولبس الحرير على جميع المتعلقين والأصحاب.
يا شرف الدين، اتق سخط الله تعالى فإن سخطه لا يقاومه سماء ولا أرض وإن فسدت حالي بما قلتُ فلَعَلَّ اللّهَ يلطف بي، ويكفيني هوائج الطباع. ثم لا تلمنا على ملازمة البيوت، والاختفاء عن العوام لأنهم إن سألونا لم نقل إلاّ ما يقتضي الإعظام لهذه القبائح، والإنكار لها، والنياحة على الشريعة. أترى لو جاءت معتبة من الله سبحانه في منام أو على لسان نبي - لو كان للوحي نزول - أو ألقى إلى روع مسلم بإلهام: هل كانت إلا إليك. فاتق اللّه تقوى من علم بمقدار سخطه، فقد قال: " فَلَمَّا آسَفُونا انتقَمْنَا مِنْهُم " الزخرف: 56، وقد ملأتكم في عيونكم مدائح الشراء ومداجاة المتمولين بدولتكم، الأغنياء الأغبياء، الذين خسروا الله فيكم، فحسنوا لكم طرائقكم. والعاقل من عرف نفسه، ولا يغره مدح من لا يخبرها.
وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة " ملكشاه " وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودَعوه إلى إنكار الصانع:
أيُّها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فَقدوه جحَدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس ولم يجحدها العقل ولا يمكننا جحدها لقيام العقل على إثباتها.
فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن ههنا دَخل الإلحادُ على جُهّال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التي تنمى ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة فعَلِموا أن ذلك صادر عن أمرٍ وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهُما من طريق الاستدلال بما صَدر عنهما من التأثيرات قلنا: فما لكم جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسًا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة وكما أن لهذا الجسد عقلاً وروحًا بهما قوامه لا يحركهما الحس، لكن شهدت بهما أدِلةُ العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه - وله المثل الأعلى - ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله.
وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لي أنه أعادهُ عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له.
وكتب ابن عقيل أيضَا مرة إلى أبي شجاع، وزير الخليفة المقتدي. كان ديناً كثير التعبد، لكن كانت به وسوسة في عباداته:
أما بعد، فإن أجل تحصيل عند العقلاء، بإجماع العلماء: الوقتُ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص. فالتكاليف كثيرة، والآداب خاطفة. وأقلّ متَعَبدٍ به الماء. ومن اطلع على أسرار الشريعة علم قدر التخفيف.
فمن ذلك قوله: " صُبوا على بول الأعرابي ذنوبًا من الماء " .
وقوله في المني: " أمطه عنك " .
وقوله في الخف: " طهوره أن تدلكه بالأرض " . وفي ذيل المرأة: " يطهره ما بعده " .
وقوله: " يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام " . و " كان يحمل بنت أبي العاص في الصلاة " .
ونهى الراعي في إعلام السائل عن الماء وما يرده، وقال: " يا صاحب الميزاب لا تخبره " ، فإن خطر بالبال نوعُ احتياط في الطهارة، كالاحتياط في غيرها في مراعاة الإطالة، وغيبوبة الشمس، والزكاة، فإنه يفوتُ من الأعمال ما لا يفي به الاحتياط في الماء، الذي أصله الطهارة.
وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وركب الحمار وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء. وقد توضأ من سقاية المسجد. ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول في المسجد. وتوضأ من جرة نصرانية وما احترز تعليمًا لنا وتشريعًا. وأعلمنا أن الماء أصله الطهارة. وتوضأ من غدير كان ماؤه نقاعة الحناء.
فأما قوله: " تنزهوا من البول " فإن للتنزه حدًا معلومًا. فأما الاستشعار: فإنه إذا نما وانقطع الوقت، ولا يقتضي مثله الشرع.
وكتب ابن عقيل غير مَرّة إلى قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني رسائل تتضمن توبيخه على تقصير وقع منه في حقّه. وفيها كلام خشن وعتاب غليظ.
ولما دخل السلطان جلال الدولة إلى بغداد، ومعه وزيره نظام الملك، سنة أربع وثمانين، قال النظام: أريدُ أن أستدعي بهم، وأسألهم عن مذهبهم، فقد قيل: إنهم مجسمة - يعني: الحنابلة.
قال ابن عقيل: فأحببتُ أن أصوغ لهم كلامًا يجوز أن يقال إذًا، فقلت: ينبغي لهؤلاء الجماعة أن يُسألوا عن صاحبنا؟ فإذا أجمعوا على حفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، إلا ما كان للرأي فيه مدخل من الحوادث الفقهية، فنحن على مذهب ذلك الرجل الذي أجمعوا على تعديله، على أنهم على مَذهب قومٍ أجمعنا على سلامتهم من البدعة. فإن وافقوا على أننا على مذهبه فقد أجمعوا على سلامتنا معه؟ لأن متبع السليم سليم. وإن ادّعوا علينا أنّا تركنا مذهبه، وتمذهبنا بما يخالف الفقهاء، فليذكروا ذلك ليكون الجواب بحسبه. وإن قالوا: أحمد ما شبَّه وأنتم ما شبَّهتم، قلنا: الشافعي لم يكن أشعريًّا، وأنتم أشعرية. فإن كان مكذوبًا عليكم فقد كذب علينا. ونحن نفزع من التأويل مع نفي التشبيه، فلا يُعَاب علينا إلا ترك الخوض والبحث وليس بطريقة السلف. ثم ما يريد الطاعنون علينا، ونحن لا نزاحمهم على طلب الدنيا.
..
وقرأتُ بخط الحافظ أبي محمد البرزالي قال: قرأتُ بخط الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: كتب بعضُهم إلى أبي الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفتمن الإنصاف.
فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها. لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار. والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام.
وكان رحمه اللّه بارعًا في الفقه وأصوله. - وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة. وكانت له يد طولى في الوعظ، والمعارف. وكلامه في ذلك حسن، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة وإشارات دقيقة.
ومن معاني كلامه يستمدّ أبو الفرج بن الجوزي في الوعظ.
فمن ذلك ما قاله في الفنون:
لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال: " إلاَّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان " النحل: 106.
من قدَّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتقر أوامره، وزواجره.
وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًّا لرمقك، وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجلٍ، ووعيد آجل، وَخَرق العوائد لأجلك، أنزل الكتب إليك. أيحسن بك - مع هذا الإكرام - أن تُرى على ما نهاك منهمكًا، وعما أمرك متنكبًا، وعن داعيه معرضًا، ولسنته هاجرًا، ولداعي عدوك فيه مطيعًا؟ يعظمك وهُوَ هُو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
هل عاديتَ خادمًا طالتْ خدمته لك لترك صلاة. هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي. فإن لم تعترف العبيد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للحق سبحانهُ، اقتضاء المساوي المكافي.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكةُ السماء سجودٌ له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمسٍ أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفرة ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجَوْرَ بعد الكور!.
لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يُرى إلا عابدًا للّه في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير مواضعها.
ومن كلامه في تقرير البعث والمعاد:
واللّه لا أقنع من الله سبحانه بهذه اللمحة التي مزجت بالعلاقم، ولا أقنع من الأبدي السَّرمدي ولا يليق بذا الكرم إلا إدامة النعم. والله ما لوّح إلا وقد أعدّ ما تخافه الآمال. وما قدح أحدٌ في كمال جود الخالق وإنعامه بأكثر من جحده البعث مع تشريف النفوس، وتعليق القلوب بالإعادة، والجزاء على الأعمال الشاقة، التي هجر القوم فيها اللذات، فصبروا على البلاءة طمعًا في العطاء.
قال: ويَدُلُّ على أنّ لنا إعادةً تتضمن بقاءً دائمًا، وعيشًا سالمًا: أن أصح الدلالة قد دلّت على كمال البارىء سبحانه وتعالى، وخروجه عن النقائص. وقد استقرينا أفعالَه، فرأيناهُ قد أعدّ كل شيء لشيء. فالسمعُ للمسموعات، والعين للمبصرات، والأسنان للطحن، والمنخران للشمّ، والمعدة لطبخ الطعام. وقد بقي للنفس غرض قد عجن في طينها: وهو البقاء بغير انقطاع، وبلوغ الأغراض من غير أذى. وقد عدمت النفس ذلك في الدنيا. ثم إنا نرى طالما لم يقابل ولا تقتضي الحكمة لذلك. فينبغي أن يكون لها ذلك في دار أخرى.
قال: ولأنظر إلى صُورة البلى في القبور، فكم من بداية خالفتها النهاية. فإن بداية الآدمي والطير ماء مُسَخَّن مستقذَرٌ ، ومبادي النبات حَبٌّ عَفِن، ثم يخرج الآدمي والطاوس. وكذلك خروجُ الموتى بعد البلى.
قال: وبينا أنا نائم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، لاحت لي مقبرة، وكأن قائلاً يقول: هذه خيم البلى، على باب الرجاء وعلى الوفاء. قال: وهذا الإلقاء من الله تعالى لكثرة لهجي بالبعث، وتشوفي إلى الاجتماع بالسلف النطاف، وتبرمي من مخالطة السفساف.
وكان ابن عقيل يقول: لا يعظم عندكَ بَذْلُك نفسك في ذاتِ الله فهي التي بذلتها بالأمس في حب مغنية، وهوى أمرد، وخاطرتَ بها في الأسفار لأجل زيادة الدنيا. فلما جئت إلى طاعة الله تعالى عظمت ما بذلتَه، والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد، وإذا أعاد أفاد، وإذا أفاد خلد فائدته على الآباد. وذاك الله الذي يحسن فيه بذل النفوس، وإبانة الرءوس. أليس هو القائل: " وَلاَ تَحْسَبَن الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتًا " آل عمران: 170.
سَمع ابن عقيل الحديث الكثير من أبي بكر بن بشران، وأبي الفتح بن شيطا، وأبي الحسن التوزي، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي على المباركي، وغيرهم.
وحدث، وروى عنه ابن ناصر، وعمر بن ظفر المغازلي، وأبو المعمر الأنصاري، وأبو الرضى الفارسي وأبو القاسم الناصحي وأبو المظفر السَّنجيّ وأبو الفتح محمد بن يحيى البرداني، وغيرهم. وأجاز لأبي سعد بن السمعاني الحافظ، وعبد الحق اليوسفي، ويحيى بن بوش.
..
ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم.
وأكبر تصانيفه: كتاب " الفنون " وهو كتاب كبير جدًا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قَيَّدَها فيه.
وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد. وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة...
قلتُ: وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد، قال: سمعتُ بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة.
وله في الفقه كتاب " الفصول " ، ويُسمى " كفاية المفتي " في عشر مجلدات، كتاب " عمدة الأدلة " ، كتاب " المفردات " ، كتاب " المجالس النظريات " ، كتاب " التذكرة " مجلد، كتابُ " الإشارة " مجلد لطيف، وهو مختصر كتاب " الروايتين والوجهين " ، كتاب " المنثور " .
وفي الأصلين كتاب " الإرشاد في أصول الدين " ، وكتاب " الواضح في أصول الفقه " ، و " الانتصار لأهل الحديث " ، مجلد، " نفي التشبيه " ، " مسألة في الحرف والصوت " ، جزء، " مسائل مشكلة في آيات من القرآن " وأحاديث سُئل عنها فأجاب. وله كتاب " تهذيب النفس " ، " تفضيل العبادات على نعيم الجنات " .
وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم.
ومن كلامه في ذلك: ومن عجيب ما نسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحَدِّث. وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم. وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وذكر مسائل من كلام أحمد، ثم قال: وما يقصد هذا إلا مبتدع، قد تمزق فؤاده من خمود كلمته، وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصلُ أحمد، وفرعي فرع فلان. فحسبك بمن يرضى به في الأصول قدوة.
وكان يقول: هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد: فإنه قل فيهم من تعلق بطرفٍ من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم.
وكان مع ذلك يتكلم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح، واتباع الدليل الذي يظهر له ويقول: الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد.
..
وكان يقول: عندي أن من أكبر فضائل المجتهد: أن يتردد في الحكم عند تردد الحجة والشبهة فيه. وإذا وقف على أحد المترددين دلّه على أنه ما عرف الشبهة، ومن لا تعترضه شبهة لا تصفو لي حجة. وكل قلب لا يقرعه التردد، فإنما يظهر فيه التقليد والجمود على ما يقال له ويسمع من غيره.
واختار ابن عقيل وجوب الرضى بقضاء الله تعالى في الأمراض والمصائب. ذكره في مواضع من كلامه. لكنه فسر الرضى في الفنون: بأنه الرضى عن الله تعالى بها، ثقة بحكمه وإن كانت مؤلمة للطبع، كما لا يبغض الطبيب عند بطء الدمّل وفتح العروق. وليس المراد هشاشة النفس وانشراحها لها، فإن هذا عنده مستحيل. وصَرَّح بأنه لم يحصل للأنبياء.
ومن كلامه الحسن: أنهُ وَعظ يومًا فقال: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً فإن اللّه تعالى يقول: " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُم لَعَنَاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ".
وسُئل فقيل له: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، تضره ولا تنفعه.
فقيل له: فعزلة العالم؟ قال: مَا لَك ولها، معها حِذَاؤها وسِقاؤُها: ترد الماء وترعى الشجر، إلى أن يلقاها ربها.
ومن كلامه في صفة الأرض أيام الربيع: إن الأرض أهدتْ إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم، فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم.
وقال: كأنَ الأرض أيام زهرتها مرآة السماء في انطباع صورتها.
قال ابن النجار: قرأتُ في كتاب أبي نصر المعمر بن محمد بن الحسن البيع بخطه، وأنبأنا عنه أبو القاسم الأزجي، قال: أنشدنا أبو الوفاء عليّ بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبليّ لنفسه:
يقولون لي: ما بال جسمك ناحلٌ ... ودمعك من آماق عينيك هاطلُ.
وما بال لون الجسم بدل صفرةً ... وقد كان محمرًّا فلونك حائلُ.
فقلتُ: سقامًا حلّ في باطن الحشا ... ولوعة قلب بلبلته البلابلُ
وأنَّى لمثلي أن يبين لناظر ... ولكنني للعالمين أُجاملُ
فلا تغتررْ يوماً ببشري وظاهري ... فلي باطن قد قطّعته النوازلُ
وما أنا إلا كالزناد تضمّنتْ ... لهيباً، ولكنّ اللهيبَ مُداخلُ
إذا حُمل المرء الذي فوق طوره ... يرى عن قريب من تجلد عاطلُ
لعمري إذا كان التجمّل كلفة ... يكون كذا بين الأنام مجامِلُ
فأما الذي أثنى له الدهر عطفه ... ولان له وعر الأمور مواصلُ
بألطاف قربٍ يسهل الصعب عندها ... وينعم فيها بالذي كان يأملُ
تراه رخيّ البال من كل علقةٍ ... وقد صميت منه الكَلا والمفاصلُ
توفي أبو الوفاء بن عقيل رحمه اللّه بكرة الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاثة عشرة وخمسمائة - وقيل: توفي سادس عشر الشهر - والأول أصح. وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور. وكان الإمام عليه في جامع القصر ابن شافع. وكان الجمعُ يفوت الإحصاء.
قال ابن ناصر: حزَرْتُهم بثلاثمائة ألف. ودُفن في دكة قبر الإمام أحمد رضي الله عنه. وقبره ظاهر رضي اللّه عنه. فما كان في مذهبنا أحدٌ مثله. آخر كلام ابن ناصر.
وذكر المبارك بن كامل الخفاف: أنه جرت فتنة - يعني: على حمله - قال: وتجارَحُوا، وقال الشيخ مطيع: كفن ونطع.
قال ابن الجوزي: حدثني بعض الأشياخ: أنه لما احتضر ابن عقيل، بكى النساء.
فقال: قد وقَّعتُ عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنا بلقائه.
وكان لابن عقيل ولدان ماتا في حياته: أحدهما:
أبو الحسن عقيل:
كان في غاية الحسن. وكان شابًا، فهمًا، ذا خط حسن.
قال ابن القطيعي: حكى والده أنه وُلد ليلة حادي عشر رمضان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
وذكر غيره: أنه سمع من هبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري، وعلي بن حسين بن أيوب، وغيرهما، وتفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع. وسمع الحديث الكثير، وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني، فقبل قوله. وكان فقيهًا فاضلاً يفهم المعاني جيدًا، ويقول الشعر. وكان يشهد مجلس الحكم، ويحضر المواكب.
وتوفي رحمه الله يوم الثلاثاء، منتصف محرم سنة عشر وخمسمائة. وصُلي عليه يوم الأربعاء. كذا ذكر ابن شافع وغيره.
وفي تاريخ ابن المنادي: أنه توفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودُفن يوم السبت بدكة الإمام أحمد..
قال والده: مات ولدي عقيل. وكان قد تفقه وناظر وجمع أدباً حسناً فتَعَزّيتُ بقصة عمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبدِ
لكن قاتله من لا يقاد به ... من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ
فأسلاها، وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله. فنظرتُ إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القتل والمقتول لجلالة القاتل.
وذكر عن الإمام أبي الوفاء: أنه كب عليه وقبَّله، وهو في أكفانه. وقال: يا بُنَيَّ، استودعتُك الله الذي لا تضيع ودائعه. الربُ خيرٌ لك مني. ثم مضى، وصلى عليه بجنان ثابت. رحمه الله.
والآخر:
أبو منصور هبة الله:
ولد في ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وتفقه وظهر منه أشياء تدل على عقل غرير، ودين عظيم. ثم مرض وطال مرضه، وأنفق عليه أبوه مالاً في المرض، وبالغ.
قال أبو الوفاء: قال لي ابني، لما تقارب أجله: يا سيدي قد أنفقتَ وبالغتَ في الأدوية، والطب، والأدعية، ولله تعالى في اختيارٌ، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قول إسحاق لإبراهيم: " افعَل مَا تُؤمَرُ " إلاّ وقد اختاره الله تعالى للحظوة.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وله نحو أربع عشرة سنة.
وحمل أبو الوفا رحمه الله في نفسه من شدة الألم أمرًا عظيمًا، ولكنه تصبَّر، ولم يظهر منه جزع. وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين.
وقال في آخر عمره - وقد دخل في عشر التسعين، وذكر من رأى في زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه، وغيرهم -:
قد حمدتُ ربي إذْ أخرجني ولم يبق لي مرغوب فيه، فكفاني صحبة التأسف على ما يفوت لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب. وإنما هوّن فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين وثقتي إلى وعد المبدىء لهم، فلكأني أسمع داعي البعث قد دعا، كما سمعتُ ناعيهم وَقَد نعى. حاشا المبدىء لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة، المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك. لا والله، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه: نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت، واجتماع بلا فرقة، ولدات بغير نغصة.
(ابن رجب في كتابه ذيل طبقات الحنابلة)
الظفري، المقرىء الفقيه، الأصولي، الواعظ المتكلم، أبو الوفاء، أحد الأئمة الأعلام، وشيحْ الإسلام: وُلد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في جمادى الآخرة. كذا نقله عنه ابن ناصر السلفي.
قال ابن الجوزي. ورأيتُه بخطّه.
وحفظ القرآن. وقرأ بالروايات القرآن على أبي الفتح بن شيطا، وغيره.
وكان يقول: شيخي في القراءة: ابن شيطا. وفي النحو والأدب: أبو القاسم بن برهان. وفي الزهد: أبو بكر الدينوري، وأبو بكر بن زيدان، وأبو الحسين القزويني، ذكر جماعة غيرهم من الرجال والنساء. وفي آداب التصوف: أبو منصور صاحب الزيادة العطار، وأثنى عليه بالزهد والتخلق بأخلاق متقدمي الصوفية. وفي الحديث: ابن النوري، وأبو بكر بن بشران، والعشاري، والجوهري وغيرهم. وفي الشعر والترسل: ابن شبل، وابن الفضل. وفي الفرائض: أبو الفضل الهمذاني. وفي الوعظ: أبو طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون. وفي الأصول: أبو الوليد وأبو القاسم بن التبان. وفي الفقه: القاضي أبو يعلى المملوء عقلاً وزهدًا وورعًا. قرأت عليه سنة سبع وأربعين، ولم أخل بمجالسه وخلوته التي تتسع لحضوري، والمشي معه ماشيًا وفي ركابه إلى أن توفي. وحظيت من قربه بما لم يحْظ به أحد من أصحابه مع حداثة سني. والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إمام الدنيا وزاهِدُها، وفارسُ المناظرة وواحدها. كان يُعَلمني المناظرة، وانتفعتُ بمصنَّفاته. وأبو نصر بن الصباغ، وأبو عبد الله الدامغاني، حضرت مجالس درسه ونظره. وقاضي القضاة الشامي انتفعت به غاية النفع، وأبو الفضل الهمذاني. وأكبرهم سنًا وأكثرهم فضلاً: أبو الطيب الطبريّ حظيتُ برؤيته، ومشيت في ركابه. وكانت صحبتي له حين انقطاعه عن التدريس والمناظرة، فحظيت بالجمال والبركة.
ومن مشايخي: أبو محمد التميمي. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
ومنهم: أبو بكر الخطيب. كان حافظ وقته. وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا. وأقبل علي أبو منصور بن يوسف، فحظيتُ منه بأكبر حظوة. وقدمني على الفتاوى، مع حضور من هو أسن مني، وأجلسني في حلقة البرامكة، بجامع المنصور، لما مات شيخي سنة ثمان وخمسين. وقام بكل مؤونتي وتحملي، فقمتُ من الحلقة أتتبع حلق العلماء لتلقط الفوائد.
وأما أهل بيتي: فإن بيت أبي كلهم أرباب أقلام، وكتابة، وشعر، وآداب. وكان جدّي محمد بن عقيل كاتب حضرة بهاء الدولة. وهو المنشىء لرسالة عزل الطايع وتولية القادر ووالدي أنظر الناس وأحسنهم جزلاً وعلمًا. وبيت أبي بيت الزهري صاحب الكلام والدرس على مذهب أبي حنيفة.
وعانيتُ من الفقر والنسخ بالأجرة، مع عفة وتقى. ولا أزاحم فقيهًا في حلقة، ولا تطلب نفسي رتبة من رتب أهل العلم القاطعة لي عن الفائدة. وتقلبت عليَّ الدول فما أخذتني دولة سلطان ولا عامة عما أعتقده أنه الحق، فأوذيت من أصحابي حتى طلب الدم وأوذيت في دولة النظام بالطلب والحبس - فيا من خفت الكل لأجله، لا تخيب ظني فيك - وعصمني الله تعالى في عنفوان شبابي بأنواع من العصمة، وقصر محبتي على العلم وأهله، فما خالطتُ لعَّابًا قط، ولا عاشرتُ إلا أمثالي من طلبة العلم.
قال: والغالب على أحداث طائفة أصحاب أحمد العفة، وعلى مشايخهم الزهادة والنظافة. آخر كلامه.
..
قال ابن الجوزي: وأفتى ابن عقيل، ودرَسَ وناظر الفحول، واستفتى في الديوان في زمن القائم، في زمرة الكبار. وجمع علم الفروع والأصول وصنَّف فيها الكتب الكبار. وكان دائم التشاغل بالعلم، حتى أني رأيتُ بخطه:
إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عُمري، حتى إذا تعطَّل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعةٍ، أعملتُ فكري في حال راحتي، وأنا مستطرح، فلا أنهض إلاَّ وقد خطر لي ما أسطره. وإني لأجدُ من حرصي على العلم. وأنا في عشر الثمانين أشدّ مما كنت أجدُه وأنا ابن عشرين سنة.
قال: وكان له الخاطر العاطر، والبحث كن الغامض والدقائق، وجعل كتابه المسمى ب " الفنون " مناطًا لخواطره وواقعاته. من تأمل واقعاته فيه عرف غور الرجل.
وتكلم على المنبر بلسان الوعظ مدة. فلما كانت سنة خمسٍ وسبعين وأربعمائة جرت فيها فتنٌ بين الحنابلة والأشاعرة فترك الوعظ واقتصر على التدريس. ومتعه الله تعالى بسمعه وبصره، وجميع جوارحه.
قال: وقرأت بخطه. قال: بلغتُ الاثنتي عشرة سنة، وأنا في سنة الثمانين وما أرى نقصًا في الخاطر والفكر والحفظ، وحدة النظر، وقوة البصر، لرؤية الأهلة الخفية، إلاّ أن القوة بالإضافة إلى قوة الشبيبة والكهولة ضعيفة.
قلتُ: وذكر ابن عقيل في فنونه:
قال حنبلي : أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه.
قال ابن الجوزي: وكان ابن عقيل قوي الدين، حافظًا للحدود. وتوفي له ولدان، فظهر منه من الصبر ما يتعجب منه. وكان كريمًا ينفق ما يجد، ولم يخلف سوى كتبه وثياب بدنه. وكانت بمقدار كفنه، وقضاء دينه.
وقال ابن عقيل: قدم علينا أبو المعالي الجويني بغداد، أول ما دخل الغزالي فتكلم مع أبي إسحاق، وأبي نصر الصباغ، وسمعتُ كلامه. ثم ذكر عنه مسألة العلم بالأعراض المشهورة عنه، وبالغ في الرد عليه.
ولما ورد الغزالي بغداد، ودرس بالنظامية، حضَره ابن عقيل، وأبو الخطاب، وغيرهُما. وكان ابن عقيل كثير المناظرة للكيا الهراسي. وكان الكيا ينشده في المناظرة:
ارفق بعبدك إنَّ فيه فهاهة ... جبلية ولك العراق وماؤها
قال السلفي: ما رأت عيناي مثل الشيخ أبي الوفاء بن عقيل ما كان أحد يقدر أن يتكلم معه لغزارة علمه، وحسن إيراده، وبلاغة كلامه، وقوة حجته. ولقد تكلم يومًا مع شيخنا أبي الحسن الكيا الهرّاسي في مسألة، فقال شيخنا: هذا ليس بمذهبك. فقال: أنا لي اجتهادٌ، متى ما طالبني خصمي بحجة كان عندي ما أدفع به عن نفسي، وأقوم له بحجتي، فقال له شيخنا: كذلك الظنُّ بك.
وذكر ابن النجار في تاريخه: أن ابن عقيل قرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وعلى أبي محمد التميمي، وقرأ الأصول والخلاف على القاضي أبي الطيّب الطبري، وأبي نصر بن الصباغ، وقاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني.
وكان ابن عقيل رحمه الله عظيم الحرمة، وافر الجلالة عند الخلفاء والملوك.
وكان شهمًا مقدامًا، يُواجه الأكابر بالإنكار بلفظه، وخطه، حتى إنه أرسل مرة إلى حماد الدباس، مع شهرته بالزهد والمكاشفات، وعكوف العامة عليه، يتهدده في أمر كان يفعله ويقول له: إن عدتَ إلى هذا ضربتُ عنقك.
وكتبَ مرة إلى الوزير عميد الدولة ابن جهير لما بنى سور بغداد، وأظهر العوام، في الاشتغال ببنائه المنكرات:
لولا اعتقاد صحة البعث، وأن لنا دارًا أكون فيها على حال أحمدها، لما نصبت نفسي إلى مالك عصري، وعلى الله أعتمد في جميع ما أورده، بعد أن أشهده: أني محبٌ متعصبٌ. لكن إذا تقابل دين محمد ودولة بني جهير، فوالله ما أردت هذه بهذه، ولو كنت كذلك كنت كافرًا. فقلت: إن هذا الخرق الذي جرى بالشريعة لمناصبة واضعها. فما بالنا نعقد الختمات ورواية الأحاديث؟ فإذا نزلت بنا الحوادث تقدمنا بجميع الختمات، والدعاء عقيبها، ثم بعد ذلك طبول وصَواني، ومخانيث، وخيال، وكشف عورات الرجال مع حضور النساء، إسقاطًا لحكم اللّه تعالى.
وما عندي يا شرف الدين، أن تقوم بسخطة من سخطات الله تعالى. ترى بأي وَجهٍ تلقى محمدًا صلى الله عليه وسلم بل لو رأيته في المنام مقطبًا كان ذلك يزعجك في يقظتك. وأيّ حرمةٍ تبقى لوجوهنا وأيدينا وألسنتنا عند الله، إذا وضعنا الجباه ساجدة له ثم كيف تطالب الأجناد بتقبيل عتبة، ولثم ترابها، وتقيم الحدّ في دهليز الحريم، صباحًا ومساءً، على قدح نبيذٍ مختلف فيه، ثم تمرح العوام في المسكر المجمع على تحريمه؟ هذا مضاف إلى الزنا الظاهر بباب بدر، ولبس الحرير على جميع المتعلقين والأصحاب.
يا شرف الدين، اتق سخط الله تعالى فإن سخطه لا يقاومه سماء ولا أرض وإن فسدت حالي بما قلتُ فلَعَلَّ اللّهَ يلطف بي، ويكفيني هوائج الطباع. ثم لا تلمنا على ملازمة البيوت، والاختفاء عن العوام لأنهم إن سألونا لم نقل إلاّ ما يقتضي الإعظام لهذه القبائح، والإنكار لها، والنياحة على الشريعة. أترى لو جاءت معتبة من الله سبحانه في منام أو على لسان نبي - لو كان للوحي نزول - أو ألقى إلى روع مسلم بإلهام: هل كانت إلا إليك. فاتق اللّه تقوى من علم بمقدار سخطه، فقد قال: " فَلَمَّا آسَفُونا انتقَمْنَا مِنْهُم " الزخرف: 56، وقد ملأتكم في عيونكم مدائح الشراء ومداجاة المتمولين بدولتكم، الأغنياء الأغبياء، الذين خسروا الله فيكم، فحسنوا لكم طرائقكم. والعاقل من عرف نفسه، ولا يغره مدح من لا يخبرها.
وكتب ابن عقيل إلى السلطان جلال الدولة " ملكشاه " وقد كانت الباطنية أفسدوا عقيدته، ودَعوه إلى إنكار الصانع:
أيُّها الملك، اعلم أن هؤلاء العوام والجهال يطلبون الله من طريق الحواس، فإذا فَقدوه جحَدوه. وهذا لا يحسن بأرباب العقول الصحيحة. وذلك أن لنا موجودات ما نالها الحس ولم يجحدها العقل ولا يمكننا جحدها لقيام العقل على إثباتها.
فإن قال لك أحد من هؤلاء: لا تثبت إلا ما ترى. فمن ههنا دَخل الإلحادُ على جُهّال العوام، الذين يستثقلون الأمر والنهي، وهم يرون أن لنا هذه الأجساد الطويلة العميقة، التي تنمى ولا تفسد، وتقبل الأغذية وتصدر عنها الأعمال المحكمة، كالطب، والهندسة فعَلِموا أن ذلك صادر عن أمرٍ وراء هذه الأجساد المستحيلة وهو الروح والعقل، فإذا سألناهم: هل أدركتم هذين الأمرين بشيء من إحساسكم قالوا: لا، لكننا أدركناهُما من طريق الاستدلال بما صَدر عنهما من التأثيرات قلنا: فما لكم جحدتم الإله، حيث فقدتموه حسًا، مع ما صدر عنه من إنشاء الرياح والنجوم، وإدارة الأفلاك، وإنبات الزرع، وتقليب الأزمنة وكما أن لهذا الجسد عقلاً وروحًا بهما قوامه لا يحركهما الحس، لكن شهدت بهما أدِلةُ العقل من حيث الآثار، كذلك الله سبحانه - وله المثل الأعلى - ثبت بالعقل، لمشاهدة الإحساس من آثار صنائعه، وإتقان أفعاله.
وأرسل هذا الفصل إلى السلطان مع بعض خواصه. قال: فحكى لي أنه أعادهُ عليه فاستحسنه، وهش إليه، ولعن أولئك، وكشف إليه ما يقولون له.
وكتب ابن عقيل أيضَا مرة إلى أبي شجاع، وزير الخليفة المقتدي. كان ديناً كثير التعبد، لكن كانت به وسوسة في عباداته:
أما بعد، فإن أجل تحصيل عند العقلاء، بإجماع العلماء: الوقتُ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص. فالتكاليف كثيرة، والآداب خاطفة. وأقلّ متَعَبدٍ به الماء. ومن اطلع على أسرار الشريعة علم قدر التخفيف.
فمن ذلك قوله: " صُبوا على بول الأعرابي ذنوبًا من الماء " .
وقوله في المني: " أمطه عنك " .
وقوله في الخف: " طهوره أن تدلكه بالأرض " . وفي ذيل المرأة: " يطهره ما بعده " .
وقوله: " يغسل بول الجارية، وينضح بول الغلام " . و " كان يحمل بنت أبي العاص في الصلاة " .
ونهى الراعي في إعلام السائل عن الماء وما يرده، وقال: " يا صاحب الميزاب لا تخبره " ، فإن خطر بالبال نوعُ احتياط في الطهارة، كالاحتياط في غيرها في مراعاة الإطالة، وغيبوبة الشمس، والزكاة، فإنه يفوتُ من الأعمال ما لا يفي به الاحتياط في الماء، الذي أصله الطهارة.
وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وركب الحمار وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء. وقد توضأ من سقاية المسجد. ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول في المسجد. وتوضأ من جرة نصرانية وما احترز تعليمًا لنا وتشريعًا. وأعلمنا أن الماء أصله الطهارة. وتوضأ من غدير كان ماؤه نقاعة الحناء.
فأما قوله: " تنزهوا من البول " فإن للتنزه حدًا معلومًا. فأما الاستشعار: فإنه إذا نما وانقطع الوقت، ولا يقتضي مثله الشرع.
وكتب ابن عقيل غير مَرّة إلى قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني رسائل تتضمن توبيخه على تقصير وقع منه في حقّه. وفيها كلام خشن وعتاب غليظ.
ولما دخل السلطان جلال الدولة إلى بغداد، ومعه وزيره نظام الملك، سنة أربع وثمانين، قال النظام: أريدُ أن أستدعي بهم، وأسألهم عن مذهبهم، فقد قيل: إنهم مجسمة - يعني: الحنابلة.
قال ابن عقيل: فأحببتُ أن أصوغ لهم كلامًا يجوز أن يقال إذًا، فقلت: ينبغي لهؤلاء الجماعة أن يُسألوا عن صاحبنا؟ فإذا أجمعوا على حفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله، إلا ما كان للرأي فيه مدخل من الحوادث الفقهية، فنحن على مذهب ذلك الرجل الذي أجمعوا على تعديله، على أنهم على مَذهب قومٍ أجمعنا على سلامتهم من البدعة. فإن وافقوا على أننا على مذهبه فقد أجمعوا على سلامتنا معه؟ لأن متبع السليم سليم. وإن ادّعوا علينا أنّا تركنا مذهبه، وتمذهبنا بما يخالف الفقهاء، فليذكروا ذلك ليكون الجواب بحسبه. وإن قالوا: أحمد ما شبَّه وأنتم ما شبَّهتم، قلنا: الشافعي لم يكن أشعريًّا، وأنتم أشعرية. فإن كان مكذوبًا عليكم فقد كذب علينا. ونحن نفزع من التأويل مع نفي التشبيه، فلا يُعَاب علينا إلا ترك الخوض والبحث وليس بطريقة السلف. ثم ما يريد الطاعنون علينا، ونحن لا نزاحمهم على طلب الدنيا.
..
وقرأتُ بخط الحافظ أبي محمد البرزالي قال: قرأتُ بخط الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: كتب بعضُهم إلى أبي الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفتمن الإنصاف.
فكتب إليه يقول: هُم قوْم خُشُنٌ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، وغربتْ نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل دققوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك قالوا: الله أعلم بما فيها، من خشية باريها. لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآي والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار. والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام.
وكان رحمه اللّه بارعًا في الفقه وأصوله. - وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة. وكانت له يد طولى في الوعظ، والمعارف. وكلامه في ذلك حسن، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة وإشارات دقيقة.
ومن معاني كلامه يستمدّ أبو الفرج بن الجوزي في الوعظ.
فمن ذلك ما قاله في الفنون:
لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال: " إلاَّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان " النحل: 106.
من قدَّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتقر أوامره، وزواجره.
وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًّا لرمقك، وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجلٍ، ووعيد آجل، وَخَرق العوائد لأجلك، أنزل الكتب إليك. أيحسن بك - مع هذا الإكرام - أن تُرى على ما نهاك منهمكًا، وعما أمرك متنكبًا، وعن داعيه معرضًا، ولسنته هاجرًا، ولداعي عدوك فيه مطيعًا؟ يعظمك وهُوَ هُو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
هل عاديتَ خادمًا طالتْ خدمته لك لترك صلاة. هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي. فإن لم تعترف العبيد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للحق سبحانهُ، اقتضاء المساوي المكافي.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكةُ السماء سجودٌ له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمسٍ أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفرة ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجَوْرَ بعد الكور!.
لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يُرى إلا عابدًا للّه في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير مواضعها.
ومن كلامه في تقرير البعث والمعاد:
واللّه لا أقنع من الله سبحانه بهذه اللمحة التي مزجت بالعلاقم، ولا أقنع من الأبدي السَّرمدي ولا يليق بذا الكرم إلا إدامة النعم. والله ما لوّح إلا وقد أعدّ ما تخافه الآمال. وما قدح أحدٌ في كمال جود الخالق وإنعامه بأكثر من جحده البعث مع تشريف النفوس، وتعليق القلوب بالإعادة، والجزاء على الأعمال الشاقة، التي هجر القوم فيها اللذات، فصبروا على البلاءة طمعًا في العطاء.
قال: ويَدُلُّ على أنّ لنا إعادةً تتضمن بقاءً دائمًا، وعيشًا سالمًا: أن أصح الدلالة قد دلّت على كمال البارىء سبحانه وتعالى، وخروجه عن النقائص. وقد استقرينا أفعالَه، فرأيناهُ قد أعدّ كل شيء لشيء. فالسمعُ للمسموعات، والعين للمبصرات، والأسنان للطحن، والمنخران للشمّ، والمعدة لطبخ الطعام. وقد بقي للنفس غرض قد عجن في طينها: وهو البقاء بغير انقطاع، وبلوغ الأغراض من غير أذى. وقد عدمت النفس ذلك في الدنيا. ثم إنا نرى طالما لم يقابل ولا تقتضي الحكمة لذلك. فينبغي أن يكون لها ذلك في دار أخرى.
قال: ولأنظر إلى صُورة البلى في القبور، فكم من بداية خالفتها النهاية. فإن بداية الآدمي والطير ماء مُسَخَّن مستقذَرٌ ، ومبادي النبات حَبٌّ عَفِن، ثم يخرج الآدمي والطاوس. وكذلك خروجُ الموتى بعد البلى.
قال: وبينا أنا نائم سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، لاحت لي مقبرة، وكأن قائلاً يقول: هذه خيم البلى، على باب الرجاء وعلى الوفاء. قال: وهذا الإلقاء من الله تعالى لكثرة لهجي بالبعث، وتشوفي إلى الاجتماع بالسلف النطاف، وتبرمي من مخالطة السفساف.
وكان ابن عقيل يقول: لا يعظم عندكَ بَذْلُك نفسك في ذاتِ الله فهي التي بذلتها بالأمس في حب مغنية، وهوى أمرد، وخاطرتَ بها في الأسفار لأجل زيادة الدنيا. فلما جئت إلى طاعة الله تعالى عظمت ما بذلتَه، والله ما يحسن بذل النفس إلا لمن إذا أباد أعاد، وإذا أعاد أفاد، وإذا أفاد خلد فائدته على الآباد. وذاك الله الذي يحسن فيه بذل النفوس، وإبانة الرءوس. أليس هو القائل: " وَلاَ تَحْسَبَن الذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْوَاتًا " آل عمران: 170.
سَمع ابن عقيل الحديث الكثير من أبي بكر بن بشران، وأبي الفتح بن شيطا، وأبي الحسن التوزي، وأبي محمد الجوهري، وأبي طالب العشاري، والقاضي أبي يعلى، وأبي على المباركي، وغيرهم.
وحدث، وروى عنه ابن ناصر، وعمر بن ظفر المغازلي، وأبو المعمر الأنصاري، وأبو الرضى الفارسي وأبو القاسم الناصحي وأبو المظفر السَّنجيّ وأبو الفتح محمد بن يحيى البرداني، وغيرهم. وأجاز لأبي سعد بن السمعاني الحافظ، وعبد الحق اليوسفي، ويحيى بن بوش.
..
ولابن عقيل تصانيف كثيرة في أنواع العلم.
وأكبر تصانيفه: كتاب " الفنون " وهو كتاب كبير جدًا، فيه فوائد كثيرة جليلة، في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات. وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قَيَّدَها فيه.
وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مائتا مجلد. وقع لي منه نحو من مائة وخمسين مجلدة...
قلتُ: وأخبرني أبو حفص عمر بن علي القزويني ببغداد، قال: سمعتُ بعض مشايخنا يقول: هو ثمانمائة مجلدة.
وله في الفقه كتاب " الفصول " ، ويُسمى " كفاية المفتي " في عشر مجلدات، كتاب " عمدة الأدلة " ، كتاب " المفردات " ، كتاب " المجالس النظريات " ، كتاب " التذكرة " مجلد، كتابُ " الإشارة " مجلد لطيف، وهو مختصر كتاب " الروايتين والوجهين " ، كتاب " المنثور " .
وفي الأصلين كتاب " الإرشاد في أصول الدين " ، وكتاب " الواضح في أصول الفقه " ، و " الانتصار لأهل الحديث " ، مجلد، " نفي التشبيه " ، " مسألة في الحرف والصوت " ، جزء، " مسائل مشكلة في آيات من القرآن " وأحاديث سُئل عنها فأجاب. وله كتاب " تهذيب النفس " ، " تفضيل العبادات على نعيم الجنات " .
وكان ابن عقيل كثير التعظيم للإمام أحمد وأصحابه، والرد على مخالفيهم.
ومن كلامه في ذلك: ومن عجيب ما نسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحَدِّث. وهذا غاية الجهل لأنه قد خرج عنه اختيارات بناها على الأحاديث بناء لا يعرفه أكثرهم. وخرج عنه من دقيق الفقه ما لا تراه لأحد منهم. وذكر مسائل من كلام أحمد، ثم قال: وما يقصد هذا إلا مبتدع، قد تمزق فؤاده من خمود كلمته، وانتشار علم أحمد، حتى إن أكثر العلماء يقولون: أصلي أصلُ أحمد، وفرعي فرع فلان. فحسبك بمن يرضى به في الأصول قدوة.
وكان يقول: هذا المذهب إنما ظلمه أصحابه لأن أصحاب أبي حنيفة والشافعي إذا برع واحد منهم في العلم تولى القضاء وغيره من الولايات. فكانت الولاية لتدريسه واشتغاله بالعلم. فأما أصحاب أحمد: فإنه قل فيهم من تعلق بطرفٍ من العلم إلا ويخرجه ذلك إلى التعبد والتزهد لغلبة الخير على القوم، فينقطعون عن التشاغل بالعلم.
وكان مع ذلك يتكلم كثيرًا بلسان الاجتهاد والترجيح، واتباع الدليل الذي يظهر له ويقول: الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد.
..
وكان يقول: عندي أن من أكبر فضائل المجتهد: أن يتردد في الحكم عند تردد الحجة والشبهة فيه. وإذا وقف على أحد المترددين دلّه على أنه ما عرف الشبهة، ومن لا تعترضه شبهة لا تصفو لي حجة. وكل قلب لا يقرعه التردد، فإنما يظهر فيه التقليد والجمود على ما يقال له ويسمع من غيره.
واختار ابن عقيل وجوب الرضى بقضاء الله تعالى في الأمراض والمصائب. ذكره في مواضع من كلامه. لكنه فسر الرضى في الفنون: بأنه الرضى عن الله تعالى بها، ثقة بحكمه وإن كانت مؤلمة للطبع، كما لا يبغض الطبيب عند بطء الدمّل وفتح العروق. وليس المراد هشاشة النفس وانشراحها لها، فإن هذا عنده مستحيل. وصَرَّح بأنه لم يحصل للأنبياء.
ومن كلامه الحسن: أنهُ وَعظ يومًا فقال: يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت عهداً فإن اللّه تعالى يقول: " فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُم لَعَنَاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة ".
وسُئل فقيل له: ما تقول في عزلة الجاهل؟ فقال: خبال ووبال، تضره ولا تنفعه.
فقيل له: فعزلة العالم؟ قال: مَا لَك ولها، معها حِذَاؤها وسِقاؤُها: ترد الماء وترعى الشجر، إلى أن يلقاها ربها.
ومن كلامه في صفة الأرض أيام الربيع: إن الأرض أهدتْ إلى السماء غبرتها بترقية الغيوم، فكستها السماء زهرتها من الكواكب والنجوم.
وقال: كأنَ الأرض أيام زهرتها مرآة السماء في انطباع صورتها.
قال ابن النجار: قرأتُ في كتاب أبي نصر المعمر بن محمد بن الحسن البيع بخطه، وأنبأنا عنه أبو القاسم الأزجي، قال: أنشدنا أبو الوفاء عليّ بن عقيل بن محمد بن عقيل الحنبليّ لنفسه:
يقولون لي: ما بال جسمك ناحلٌ ... ودمعك من آماق عينيك هاطلُ.
وما بال لون الجسم بدل صفرةً ... وقد كان محمرًّا فلونك حائلُ.
فقلتُ: سقامًا حلّ في باطن الحشا ... ولوعة قلب بلبلته البلابلُ
وأنَّى لمثلي أن يبين لناظر ... ولكنني للعالمين أُجاملُ
فلا تغتررْ يوماً ببشري وظاهري ... فلي باطن قد قطّعته النوازلُ
وما أنا إلا كالزناد تضمّنتْ ... لهيباً، ولكنّ اللهيبَ مُداخلُ
إذا حُمل المرء الذي فوق طوره ... يرى عن قريب من تجلد عاطلُ
لعمري إذا كان التجمّل كلفة ... يكون كذا بين الأنام مجامِلُ
فأما الذي أثنى له الدهر عطفه ... ولان له وعر الأمور مواصلُ
بألطاف قربٍ يسهل الصعب عندها ... وينعم فيها بالذي كان يأملُ
تراه رخيّ البال من كل علقةٍ ... وقد صميت منه الكَلا والمفاصلُ
توفي أبو الوفاء بن عقيل رحمه اللّه بكرة الجمعة، ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاثة عشرة وخمسمائة - وقيل: توفي سادس عشر الشهر - والأول أصح. وصُلي عليه في جامعي القصر والمنصور. وكان الإمام عليه في جامع القصر ابن شافع. وكان الجمعُ يفوت الإحصاء.
قال ابن ناصر: حزَرْتُهم بثلاثمائة ألف. ودُفن في دكة قبر الإمام أحمد رضي الله عنه. وقبره ظاهر رضي اللّه عنه. فما كان في مذهبنا أحدٌ مثله. آخر كلام ابن ناصر.
وذكر المبارك بن كامل الخفاف: أنه جرت فتنة - يعني: على حمله - قال: وتجارَحُوا، وقال الشيخ مطيع: كفن ونطع.
قال ابن الجوزي: حدثني بعض الأشياخ: أنه لما احتضر ابن عقيل، بكى النساء.
فقال: قد وقَّعتُ عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنا بلقائه.
وكان لابن عقيل ولدان ماتا في حياته: أحدهما:
أبو الحسن عقيل:
كان في غاية الحسن. وكان شابًا، فهمًا، ذا خط حسن.
قال ابن القطيعي: حكى والده أنه وُلد ليلة حادي عشر رمضان سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
وذكر غيره: أنه سمع من هبة الله بن عبد الرزاق الأنصاري، وعلي بن حسين بن أيوب، وغيرهما، وتفقه على أبيه، وناظر في الأصول والفروع. وسمع الحديث الكثير، وشهد عند قاضي القضاة أبي الحسن بن الدامغاني، فقبل قوله. وكان فقيهًا فاضلاً يفهم المعاني جيدًا، ويقول الشعر. وكان يشهد مجلس الحكم، ويحضر المواكب.
وتوفي رحمه الله يوم الثلاثاء، منتصف محرم سنة عشر وخمسمائة. وصُلي عليه يوم الأربعاء. كذا ذكر ابن شافع وغيره.
وفي تاريخ ابن المنادي: أنه توفي يوم الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وخمسمائة. ودُفن يوم السبت بدكة الإمام أحمد..
قال والده: مات ولدي عقيل. وكان قد تفقه وناظر وجمع أدباً حسناً فتَعَزّيتُ بقصة عمرو بن عبد ودّ الذي قتله علي رضي الله عنه، فقالت أمه ترثيه:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله ... ما زلتُ أبكي عليه دائم الأبدِ
لكن قاتله من لا يقاد به ... من كان يُدعى أبوه بيضة البلدِ
فأسلاها، وعزاها جلالة القاتل، وفخرها بأن ابنها مقتوله. فنظرتُ إلى قاتل ولدي الحكيم المالك، فهان عليَّ القتل والمقتول لجلالة القاتل.
وذكر عن الإمام أبي الوفاء: أنه كب عليه وقبَّله، وهو في أكفانه. وقال: يا بُنَيَّ، استودعتُك الله الذي لا تضيع ودائعه. الربُ خيرٌ لك مني. ثم مضى، وصلى عليه بجنان ثابت. رحمه الله.
والآخر:
أبو منصور هبة الله:
ولد في ذي الحجة سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وحفظ القرآن وتفقه وظهر منه أشياء تدل على عقل غرير، ودين عظيم. ثم مرض وطال مرضه، وأنفق عليه أبوه مالاً في المرض، وبالغ.
قال أبو الوفاء: قال لي ابني، لما تقارب أجله: يا سيدي قد أنفقتَ وبالغتَ في الأدوية، والطب، والأدعية، ولله تعالى في اختيارٌ، فدعني مع اختياره. قال: فوالله ما أنطق الله سبحانه وتعالى ولدي بهذه المقالة التي تشاكل قول إسحاق لإبراهيم: " افعَل مَا تُؤمَرُ " إلاّ وقد اختاره الله تعالى للحظوة.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة. وله نحو أربع عشرة سنة.
وحمل أبو الوفا رحمه الله في نفسه من شدة الألم أمرًا عظيمًا، ولكنه تصبَّر، ولم يظهر منه جزع. وكان يقول: لولا أن القلوب توقن باجتماع ثانٍ لتفطرت المرائر لفراق المحبوبين.
وقال في آخر عمره - وقد دخل في عشر التسعين، وذكر من رأى في زمانه من السادات من مشايخه وأقرانه، وغيرهم -:
قد حمدتُ ربي إذْ أخرجني ولم يبق لي مرغوب فيه، فكفاني صحبة التأسف على ما يفوت لأن التخلف مع غير الأمثال عذاب. وإنما هوّن فقداني للسادات نظري إلى الإعادة بعين اليقين وثقتي إلى وعد المبدىء لهم، فلكأني أسمع داعي البعث قد دعا، كما سمعتُ ناعيهم وَقَد نعى. حاشا المبدىء لهم على تلك الأشكال والعلوم أن يقنع لهم من الوجود بتلك الأيام اليسيرة، المشوبة بأنواع التنغيص وهو المالك. لا والله، لا قنع لهم إلا بضيافة تجمعهم على مائدة تليق بكرمه: نعيم بلا ثبور، وبقاء بلا موت، واجتماع بلا فرقة، ولدات بغير نغصة.
(ابن رجب في كتابه ذيل طبقات الحنابلة)
تعليق