الحمد للّه رب العالمين إله الأولين والآخرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الأمين والمبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فـإن من شـعائر الإسـلام الحـج إلى بيت اللّه الحرام، وقد حج النـبي صلى اللّه عليه وسلم مرة واحدة، وحج معه أصحابه رضي الله عـنهم الذين نقـلوا لنا هديـه وسـنته في ذلـك، وكـان لهم معه عليه الصلاة والسلام وبعده مواقف محمودة وأحوال مرضية في اتباع السنة والعـناية بهـا وتعـليم الـناس إياها، مع استغلال تلك الأزمان الشريفة والمناسـك العظيمة بمـا هي جديرة به من الأعمال الصالحة والقربات المتنوعة وغير ذلك.
وقـد جمعـت من تلك المواقف والأحوال مع دراستها والإفادة ممـا ذكـره أهـل العـلم والتعليق عليها، وإبراز الفوائد المستنبطة منها والـدروس النيرة الـتي جـاءت فيها، مع بيان بعض الأحكام الشرعية المتعـلقة بذلـك، مـا جـاء في هـذا البحث الذي جعلت عنوانه (مع السلف الصالح في الحج)،
وقد سرت في كتابته حسب المخطط التالي:
- المقدمة.
- المبحث الأول: فرضية الحج والترغيب فيه وبيان حكمه وأسراره.
- المبحث الثاني: قدسية البيت الحرام ومكانته.
- المبحث الثالث: حث السلف على أداء الحج مع العناية بتصحيح النية وطيب النفقة.
- المبحث الرابع: أقوالهم في بيان الحج المبرور وتطبيقهم ذلك.
- المبحث الخامس: فضل يوم عرفة وأحوالهم فيه.
- المبحث السادس: فضل يوم العيد وأيام التشريق وأقوالهم في ذلك.
- المبحث السابع: عنايتهم بمعرفة السنة وتأدبهم في تعلمها.
- المبحث الثامن: تمسكهم بالسنة وتحذيرهم من الخلاف.
- المبحث التاسع: حرصهم على اتباع السنة وتطبيقها.
- المبحث العاشر: الاهتمام بالسنة وثمار اتباعها.
- المبحث الحادي عشر: المداومة على العمل الصالح بعد الحج.
- الخاتمة.
وقـد قـمـت في هـذا الـبحث بترقيم الآيات وتخريج الأحاديث والآثـار، وتوثيـق النقول وإحالتها إلى مصادرها الأصلية ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
ولا أدعـي بهـذا العمـل الإحاطـة بتـلك المواقـف والـدروس المسـتنبـطة مـنها، فـمـا ذكـرته أمثـلة موجـزة، وفي بطون كتب السنة والسير والتراجم الشيء الكثير.
أسـأل الله عز وجـل أن ينفع به، وأن يغفر لي خطئي وزللي وتقصيري إنه غفور رحيم.
وصلى الله وسلم على نبينا محـمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المبحث الأول فرضية الحج والترغيب فيه وبيان حكمه وأسراره
وقد تضمن قولُه سبحانه: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا ﴾ [سورة آل عمران آية 97] من الحكـم والأسرارِ ما يحث النفوسَ المؤمنةَ على أداء فريضة الحجِ، ويقوي العزائمَ وينهض الهممَ للقيام بهذا النسك العظيم، إيماناَ باللّه ورضًا بفرضيته واستسلامًا لأمر الله وحُكْـمِه، واقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم القائل: )لتأخذوا مناسككـم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه (، وفي بيان أسرار هذه الآية ونكاتها ولطائفها يقول ابنُ القيم: (ومن فوائد هذه الآية وأسرارِها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمُه، يَذْكُرُه بلفظ الأمر والنهي وهو الأكثر، أو بلفظ الإيجاب والكتابةِ والتحريم، نحو: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ﴾ [سورة البقرة آية 183] ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [سورة المائدة آية 3] ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ﴾ [سورة الأنعام آية 151] وفي الحج أتي بهذا النظم الدال على تأكد الوجوب من عشرة أوجه: أنه قدم اسمه تعالى، وقدم عليه لام الاستحقاق والاختصاص، ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العمومِ الداخلة عليهاِ حرفُ (على)، ثم أبدل منه أهلَ الاستطاعة، ثم نكَّر السبيل في سياق الشرط، إيذانًا بأنه يجب الحج على أي سبيل تيسرت من قوتٍ أو مال، فعلَّق الوجوبَ: بحصول ما يسمى سبيلًا، ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر، فقال: ﴿ وَمَنْ كَفَرَ ﴾ أي: بعد التزام هذا الواجب وتركِه، ثم عظم الشأنَ وأكد الوعيد بإخباره باستغنائه عنه، واللّه تعالى هو الغني الحميد، ولا حاجة به إلى حج أحد..ثم أكد ذلك بذكر اسم العالَمين عمومًا، ولم يقل: فإن الله غني عنه، لأنه إذا كان غنيًا عن العالمين كلِهم، فله الغنى الكـاملُ التام من كل وجه..وكان أدلَ على عِظَمِ مقته لتاركِ حقِه الذي أوجبه عليه، ثم أكد هذا المعنى بأداة " إن " الدالةِ على التوكيد ".
وقـد جـاءت الأحـاديث النبوية آمرةً بـالحج حاثة عليه ومرغبة فيه، ومحـذرةً مـن أعـرض عنه وتكاسل في أدائـه، مـتى اسـتَجْمعت فيـه شروطُ الحج، فإنه حينئذٍ واجب على الفور، ففي الأمر بالحـج وبيانِ أنـه أحدُ أركـان الإسلام ما رواه عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عـليه وسلم قال: )بني الإسلام على خمس، شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصومِ رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا( رواه البخاري ومسلم، وروى مسـلم عـن أبي هريرة رضي الله عنه قال: )خطبنا رسـول الله صـلى الله عـليه وسلم فقـال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتُ: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروني ما تركتكم، فإنما هلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافِهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه (.
وممـا ورد في الترغيـب في الحج ما رواه البخاري ومسلم عن أبـي هريـرة رضـي الله عـنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (، ورويا أيضًا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: )من حج للّه فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (، وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ( رواه مسلم، وغيرُ ذلك من الأحاديث في فضل الحج والترغيبِ فيه.
قال ابن القيم -رحمه الله: (ثم تأمل كيف افتتح هذا الإيجاب -أي إيجاب الحج- بذكر محاسنِ البيت، وعظَّم شأنه بما يدعو النفوس إلى قصده وحجه، وإن لم يُطْلَبْ ذلك منها، فقال: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [سورة آل عمران آية 96- 97] فوصفه بخمس صفات، أحدُهما: أنه أسبق بيوتِ العالم وضعَ في الأرض، الثاني: أنه مبارك، والبركةُ كثرةُ الخيرِ ودوامه، وليس في بيوت العالم أبركَ منه، ولا أكثرَ خيرًا ولا أدومَ ولا أنفعَ للخلائق، الثالث: أنه هدى..الرابع: ما تضمنه من الآيات البينات... الخامس: الأمنُ لداخله، وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجابِ قصده، ما يبعث النفوسَ على حجه، وإن شطت بالزائرين الديارُ، وتناءت بهم الأقطار.
وهذا يدلك على الاعتناء منه سبحانه بهذا البيت العظيم، والتنويه بذكره، والتعظيمِ لشأنه، والرفعةِ من قدره، ولو لم يكن له شرفٌ إلا إضافتَه إياه إلى نفسه بقوله: ﴿ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِين ﴾ [سورة البقرة آية 125] لكفى بهذه الإضافةِ فضلًا وشرفًا، وهذه الإضافةُ هي التي أقبلت بقلوب العالَمين إليه، وسَلَبَتْ نفوسَهم حبًّا له وشوقًا إلى رؤيته، فهو المثابةُ للمحبين، يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرًا أبدًا، كلما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له حبًّا وإليه اشتياقًا ). ا. هـ مختصرًا.
لقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بالحج والترغيب في أدائه ومتابعة هذا العمل الصالح، وأبانت الأدلة آثارَه على أهله في الدنيا والآخرة، إبانةً تدفع النفوسَ المؤمنةَ إلى المسارعةِ والمبادرةِ في طلب ذلك الفضل، بل ويهوِّن أنواعَ المتاعب والمشاقّ، وأنواعَ الإعطاء والإنفاق، قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ [سورة الحج آية 27 - 28] الآيات، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: )سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جهادٌ في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حجّ مبرور (، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (شدوا الرحال في الحج فإنه أحد الجهادين) رواه البخاري.
ثم إن في شريعة الإسلام وأحكامِها الغراء المصالح الشريفة والحكمَ العظيمة، وقد يظهر لأهل العلم شيء من ذلك، وذكْرهم لهذه الحكم من هذه العبادات إنما هو حث على أدائها طاعةً لله عز وجل بفعلها، والتزود منها، وهناك من الحكم والأسرار في شرعيتها الشيءُ الكثير الذي لا نعلمه، ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾ [سورة الإسراء آية 85].
ومن العبادات التي تكلم أهلُ العلم في حكمة مشروعيتها وبيانِ أسرار فرضيتها الحج وشعائرهُ، قال ابن القيم رحمه الله: (وأما الحجُّ فشأن آخر، لا يدركه إلا الحنفاءُ الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أجلُّ من أن تحيط به العبارة، وهو خاصةُ هذا الدين الحنيف..وسائرُ شعائر الحج مما شهدت بحسنه العقولُ السليمة والفطرُ المستقيمة، وعلمت بأن الذي شَرَعَ هذه لا حكمة فوق حكمته) ا. هـ مختصرا.
وممن تحدث في بيان حكم الحج وأسراره ابن قُدامة، فمما ذكره: أن يتذكرَ بتحصيلِ الزادِ زادَ الآخرة من الأعمال، وليحذر أن تكون أعمالهُ فاسدة من الرياء والسمعة، فلا تصحبُه ولا تنفعه، كالطعام الرَّطْب الذي يفسد في أولِ منازلِ السفر، فيبقى صاحبُه وقت الحاجة متحيرًا.
وإذا فارق وطنَه ودخل الباديةَ وشهد تلك العقبات والصعاب والشدائد، فليتذكر بذلك خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة، وما بينهما من الأهوال.
ومن ذلك أن يتذكر وقت إحرامه وتجرده من ثيابه أنه يلبس كفنه، وأنه سيلقى ربه بزي مخالفٍ لزي أهل الدنيا، وأنه يأتي ربه متجردًا من الدنيا ورفعتِها وغرورها، ما معه إلا عمله إن خيرا فخير، وإن شرًّا فشرّ، وإذا لبى فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ [سورة الحج آية 27] وليرج القبولَ وليخش عدمَ الإجابة، وليتذكر خيرَ من لبى وأجاب النداء، محمدًا صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، وليعزم على الاقتداء به واقتفاء سنته واتباع طريقه.
وإذا وصل إلى الحرم فينبغي أن يرجو الأمن من العقوبة، وأن يخشى أن لا يكون من أهل القرب عند الله، معظمًا رجاءه في ربه محسنًا ظنه به، فإذا رأى البيت الحرام استحضر عظمةَ الله في قلبه وعَظمت خشيتُه منه وازداد له هيبة وإجلالًا، وشكر الله تعالى على تبليغه رتبةَ الوافدين إليه، وليستشعر عظمةَ الطوافِ به فإنه صلاة.
وأما الوقوفُ بعرفة والمبيتُ بمزدلفة ثم في منى فيتذكر بما يرى من ازدحامِ الخلق وارتفاع أصواتهم واختلافِ لغاتهم موقف القيامة، واجتماع الأولين والآخرين في ذلك الموطن وما فيه من أهوال وشدائد ﴿ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلا لَا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [سورة القيامة آية 10- 11 – 12 - 13].
وإذا جاء رميُ الجمار فاقصدْ بذلك الانقيادَ للأمر، وإظهارَ الرق والعبودية والحاجةِ والفاقة، وامتثالَ السنة واتباعَ الطريقة، وتقديمَها على حظوظ النفس ورغباتِها ا. هـ.
لقد جمع الحجُّ بمناسكه عبادتين عظيمتين، مادية بالبذل والنفقة، وبدنية بالقيام بشعائره وأداءِ مناسكه، كما حج عليه الصلاة والسلام القائل: )لتأخذوا مناسككم (، ولذلك كان الصالحون من عباد الله يتحسرون على فوات الحج وعدم تمكنِهم منه، على أن المتخلِّفَ لعذرٍ شريك السائر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك: )إن أقوامًا بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا فيه، حبسهم العذر (. يحدوهم قول الشاعر:
يـــا ســائرين إلــى البيــت العتيــق لقــد | ســـرتم جســوما وســرنا نحــن أرواحــا |
إنـــا أقمنـــا علـــى عـــذر وقـــد رحـــلوا | ومـــن أقـــام علـــى عـــذر كــمن راحــا |
قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: (أنتم أكثر صلاة وصيامًا من أصحابِ محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرًا منكم، قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهدَ منكم في الدنيا وأرغبَ في الآخرة)، وقال أبو بكر المزني: (ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره)، قال بعضُ أهل العلم: (الذي وقر في صدره حبُّ الله والنصيحةُ لخلقه)، وقال بعض السلف: (ما بلغ مَنْ بَلَغَ عندنا بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بسخاوة النفوسِ وسلامة الصدور والنصح للأمة).
فعلى المسلم المبادرةُ إلى الطاعة والتزودُ من نوافل القربات والمسارعة في ميادين الصالحات وسؤال الله القبولَ بعد هذا كلّه، كما هي دعوة الخليلِ إبراهيمَ وابنهِ إسماعيلَ عليهما السلام بعد أن عَمِلاَ أفضلَ الأعمال وأشرفَها، حيث رفعا الكعبة وبنياها، قالا: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [سورة البقرة آية 127].
المبحث الثاني قدسية البيت الحرام ومكانته
لقد جمع الله لهذا البيت وأهلِهِ وقاصديه مزيتين بهما تحصل السعادةُ بتمامها، والطمأنينةُ بكمالها: سعةَ الرزق والأمانَ من الخوف، قال عز وجل: ﴿ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [سورة قريش آية 3 - 4].
فمن خصائص هذا الحرم أنه حقيقٌ بالتعظيم والإجلال والاحترام، وقد اتفقت قبائل العرب طرًّا على احترام هذا البيت وتعظيم، حتى إن الرجل يرى قاتلَ أبيه أو أخيه فلا يمسه بسوء؛ لأنه في أمان أنه في الحرم، مضى على هذا عملُ الجاهلية، مع ما بين أهلها من اختلافِ المنازع وتباينِ الأهواء والمشارب، وتعددِ الأوثان والمعبودات، وكثرةِ الضغائن والأحقاد. وقد أقر الإسلام هذه الميزة لبيت الله الحرام، وأما ما كان من المسلمين يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهيره من الشرك ولأجل أن يعبد الله وحده، ومع ذلك فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: )إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي ( الحديث.
على أن فتح مكة لم يؤثر على أمر الجرم وقدسيته شيئًا، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي: )من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن (. وقد اتفق الفقهاء على أن من جنى في الحرم فهو مأخوذ بجنايته سواء كانت في النفس أم فيما دونها، واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ به ولجأ إليه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يُقتص منه ما دام فيه، لكن لا يجالس ولا يعامل ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه فيقتصَّ منه، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم، اقتص منه، وقال مالك والشافعي: يقتص منه في الحرم لذلك كلِّه، وقد روي عن ابن عباس وابنِ عمر وعبيد الله بن عمير وسعيدِ بن جبير وطاوس والشعبي فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل، قال ابن عباس: ولكنه لا يُجالس ولا يُؤوى حتى يخرج من الحرم فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحد، وروى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرمُ من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه الحد، وكان يقول في قوله: ﴿ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ﴾ [سورة آل عمران آية 97] كان هذا في الجاهلية، لو أن رجلًا جر كلَّ جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُتعرَض له حتى يخرج من الحرم، أما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره، ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد.
وإن ساكنَ البلدِ الحرام وقاصدَه يعيش هاتين المزيتين، ويشهدهما واقعًا ملموسًا، رغدٌ في العيش، واستتباب في الأمن، وتوفرٌ في المطاعم والمشارب، يُجبى إليه ثمرات كل شيء، كلُّ هذا يسهل عليه العيش في أجواء روحانية وأيامٍ مباركة بجوار بيت الله العتيق، يرجو رحمة الله ويؤملُ مغفرته، يتطلع إلى عمل مبرور وسعي مشكور، قد لاذ بربه، متذللًا منكسرًا بين يديه، يسأله العفو والصفح عما سلف وكان من الذنوب والعصيان.
وقد استجاب الله دعاء خليليه ونبيهِ إبراهيم عليه السلام حين دعا: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون ﴾ [سورة إبراهيم آية 37] فما من مسلم في صقع من أصقاع الأرض نوَّر الله قلبه بالإيمان وحبِّ الله ورسولهِ صلى الله عليه وسلم إلا وقلبُه يأمُلُ زيارةَ البيت الحرام ومسجدَ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تزالُ هذه الأمنية تتلجلج في صدره وتختلجُ في فؤاده، وتكون معه دائمًا في كل حركاته وسكناته وخطراتِه.
إن المسجد الحرام هو أولُ بيت بني على الأرض لعبادة الله وحده، بناه إبراهيم الخليل وشاركه ابنُه إسماعيل عليهما السلام، ونبيُّ الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ثمرة دعوة صدرت من هذين النبيين الكريمين البانيين هذا البيت العتيق، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [سورة البقرة آية 127 - 129] لقد أقيم هذا البيت العتيق على قاعدة التوحيد ليبقى خالدًا عامرًا بإذن الله تعالى، قال عز وجل: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [سورة الحج آية 26] وكان -بفضل الله وإحسانه- القبلةَ الواحدة لهذه الأمة، به قيامُها وإليه مثابتُها، قال عز وجل: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ ﴾ [سورة المائدة آية 97] وقال سبحانه: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا ﴾ [سورة البقرة آية 125].
ولما أقيم هذا البيت على قواعد التوحيد ومبادئِ الحنيفية، والخلوصِ من الشرك وأهله، أمر الله خليله بالأذان للناس لحج هذا البيت وتعظيم حرماتِ الله وشعائرِه، مع ما يكون لهم من منافعَ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [سورة الحج آية 27] الآيات.
ومنذ ذلك النداء ووفودُ الرحمن تتوافدُ من كل فج، على الأقدام وركبانًا على ما سخر الله لهم، وما فتئت النفوس المؤمنة تتطلع إلى رؤية هذا البيتِ والطواف حوله والصلاةِ في جنباته، وفي ذلك من الأنس والراحةِ والنعيمِ ما تعجز العبارةُ عن وصفه. يقول الشاعر:
أخـــــي إن زرت بيـــــت اللــــه تبغــــي | رضــــــا أو تشـــــتكي همًّـــــا وحزنًـــــا |
ففـــــي تلـــــك الريــــاض نعيــــم أنس | لنــــــاءٍ إن دعــــــاه الشــــــوق حنــــــا |
إن أسرار الحج وحكمَه لا يحس بها ولا يعرفها حقَّ المعرفة إلا من أدى حجه على الوجه الأكمل، فالحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قال أهلُ العلم: الحج المبرور هو الذي قام به صاحبُه متحريًا سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم مع الإخلاص للّه عز وجل، وعن جابر رضي الله عنه قال: )سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الحج المبرور؟ قال: إطعام الطعام وطيب الكلام( رواه أحمد والطبراني والحاكم، وسئل سعيد بن جبير: أي الحج أفضل؟ قال: (من أطعم الطعام وكف اللسان) وقال الحافظ ابن حجر نقلًا عن القرطبي: (هو الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل). فمعاني الحج وأهدافُه السامية إنما تتحقق بحج مبرور، قد وُفق صاحبه لاتباع السنة واقتفاءِ الأثر، مع الحذر مما يخدش حجَّه أو ينقص من أجره، من قول أو فعل مخالف، صغر أم كبر.
المبحث الثالث حث السلف على أداء الحج مع العناية بتصحيح النية وطيب النفقة
وكما جاءت الأدلة من الكتاب والسنة في بيان فرضية الحج وفضله فقد كثرت أقوال الصحابة وسلف الأمة في بيان فريضة آكدية الحج ووجوب أداء الفرض منه على الفور والتحذير من تأخيره، والحث على التزود منه، وجاءت أفعالهم واقعًا حيًّا وتطبيقًا جليًّا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فمن ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خرج فرأى ركبًا فقال: (من الركب؟ قالوا: حاجِّين، قال: ما أنهزكم غيره؟ -أي ما أخرجكم غيره- ثلاث مرات، قالوا: لا، قال: لو يعلم الركب بمن أناخوا لقرت أعينهم بالفضل بعد المغفرة، والذي نفس عمر بيده ما رفعت ناقة خفها ولا وضعته إلا رفع الله له درجة وحط عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة، وروى أيضًا عن كعب أنه قال: (وفد الله ثلاثة: الحاج والعمَّار والمجاهدون، دعاهم الله فأجابوه، وسألوا الله فأعطاهم).
وأداء الحج والقيام بالعمرة عمل صالح حري من ختمت حياته به أن يكون علامة على حسن خاتمة صاحبه من الدنيا، فإن العبد يبعث على ما مات عليه، ولهذا كان السلف يحرصون على الإكثار من الحج لعله أن تختم حياتهم به، قال طلحة اليامي: (كنا نتحدث أنه من ختم له بإحدى ثلاث -إما قال: وجبت له الجنة، وإما قال: برئ من النار-: من صام شهر رمضان فإذا انقضى الشهر مات، ومن خرج حاجًّا فإذا قدم من حجته مات، ومن خرج معتمرا فإذا قدم من عمرته مات).
إن فضل الحج عظيم وثوابه جزيل؛ إذ ليس له جزاء إلا الجنة إذا كان مبرورًا خالصًا لله عز وجل، موافقًا للسنة، فكيف يُعدل به غيره من الأعمال الصالحة الأخرى، فالحج عبادة مالية بدنية، قال رجل لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (يا أبا موسى إني كنت أعالج الحج -أي أزاوله وأمارسه- وقد ضعفت وكبرت، فهل من شيء يعدل الحج؟ قال له: هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل؟ فأما الحل- أي النزول- والرحيل، فلا أجد له عدلًا -أو قال مِثْلًا)، وقال أبو الشعثاء: (نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيامُ كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل).
وقد ذكر بعض أهل العلم الخلاف في تفضيل: الحج تطوعًا أو الصدقة النافلة، حيث ذهب أكثر السلف في تفضيل حج التطوع، روى عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن بكار بن عبد الله اليماني قال (سئل طاوس: الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ فقال: أين الحل والرحيل والسهر والنصب والطواف بالبيت والصلاة عنده والوقوف بعرفة وجمع ورمي الجمار؟ ) كأنه يقول: الحج، فلهذه العبادات الفاضلة في تلك المشاعر المقدسة كان الحج أفضل الأعمال مع الأجر الجزيل والثواب العظيم لمن قام به.
وذهب آخرون إلى تفضيل الصدقة على الحج.
ومنهم من فصَّل في المسألة فقال: (إن كان ثمَّ رحمٌ محتاجة أو زمنُ مجاعة فالصدقة أفضل، وإلا فالحج، وهو نص أحمد، وروي عن الحسن معناه، وأن صلة الرحم والتنفيس عن المكروب أفضل من التطوع بالحج).
ومن فقه السلف الصالح رحمهم الله عنايتهم بتصحيح النية في أعمالهم، ومن ذلك الحج، وإخلاصهم في أدائه، فلا يقصدون بحجهم رياء ولا سمعة، ولا مباهاة ولا فخرًا ولا خيلاء، إنما يقصدون به وجه الله ورضوانه، فكان أحدهم يتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه، استشعارًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه أنه قال: )أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه( رواه مسلم، وروى الإمام أحمد والطبراني عن محمود بن لبيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: )إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء (، وروى أنس رضي الله عنه أن )النبي صلى الله عليه وسلم حجَّ على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم ثم قال: اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة (.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لأصحابه وهو بطريق مكة: (تشعثون وتغبرون وتتفلون وتضحون ولا تريدون بذلك شيئًا من عرض الدنيا، ما نعلم سفرا خيرًا من هذا) يعني الحج، وروي عنه أنه قال: (إنما الحاج الشعث التفل)، وروي عن بعض التابعين قال: (رب مُحْرِم يقول: لبيك اللهم لبيك، فيقول الله: لا لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك، قيل له: لم؟ قال: لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم ورحلًا بمائتي درهم ومفرشًا بكذا وكذا، ثم ركب ناقته ورجل رأسه ونظر في عِطْفيه، فذلك الذي يرد عليه).
فعناية السلف من الصحابة والتابعين كانت متوجهة إلى إخلاص العمل وتصحيح النية، فليست العبرةُ بكثرة العمل وتنوعهِ إنما العبرةُ بالقبول القائم على الإخلاصِ للّه فيه، فلا يكونُ لمخلوقٍ حظٌّ ونصيبٌ فيه، ويكونُ أيضًا موافقًا للكتاب والسنة، روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )من عمل عملًا ليس أمرنا فهو رد (، فكانوا ينظرون في قبول الأعمال إلى هذين الأصلين: الإخلاص والمتابعة، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [سورة الكهف آية 110] وسئل الفضيل بن عياض عن قوله سبحانه: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾ [سورة هود آية 7].
قال: (أخلصه وأصوبه).
ولهذا لما قال رجل لابن عمر ما أكثر الحاج، أجابه ابن عمر بقوله: (بل ما أكثر الركب وما أقل الحاج، ثم رأى رجلا على بعير، على رحل رثّ، خطامه حبل، فقال: لعل هذا)، وقال شريح: (الحاج قليل والركبان كثير)، فما أكثر الذين يعلمون الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجه الله.
وهذا حق، فما أكثر من يقصد البيت الحرام لحج أو عمرة لكن قد تكون نفقته من حرام، أو يكون حجه أو عمرته رياء وسمعة، وتكثرا أو مباهاة عند الناس، أو يكون حجه على غير سنة ولا موافقة للشريعة، ومن الناس من أعانهم جل وعلا على إخلاص نياتهم وطيب مكاسبهم وحل أموالهم، ثم وفقهم سبحانه وتعالى لأداء الحج أو العمرة حسب السُّنَّة، موافقة لعمل النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الأسوة، بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [سورة الأحزاب آية 21].
وهكذا كانت أعمال السلف الصالح صغيرها وكبيرها إخلاصا لله تبارك وتعالى وإخفاء لها حتى عن أقرب الناس إليهم، صيانة لها من الرياء والسمعة وحب الظهور، يحكي ذلك عنهم الحسن البصري رحمه الله بقوله: (إنْ كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر جارُه، وإنْ كان الرجل لقد فَقُه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل ليصلي الصلاةَ الطويلةَ في بيته وعنده الزور- أي الضيف الزائر- وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عملٍ يقدرون على أن يعملوه في السر فيكون علانيةً أبدًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، ذلك أن الله يقول: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ﴾ [سورة الأعراف آية 55] وذلك أن الله ذكر عبدا صالحًا فرضي فعله، فقال: ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴾ [سورة مريم آية 3].
وكانت عنايتهم رحمهم الله أيضًا شديدةً بالنفقة في الحج من حيث كسبُها وجمعُها، فلا تكون إلا من حلال لا شبهةَ فيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [سورة المؤمنون آية 51] وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [سورة البقرة آية 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك( رواه مسلم.
وطيبُ النفقة في الحج أصلٌ في قبول العمل، روى الطبراني وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (إذا خرج الرجلُ حاجًّا بنفقة طيبة ووضع رِجْلَه في الغَرْز فنادَى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسَعْدَيْك، زادُك حلالٌ وراحِلَتُك حلال، وحجّك مبرور غيرُ مَأْزور، وإذا خرج الرجل بالنفقة الخبيثة فوضع رِجْلَه في الغَرْز فنادى لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء لا لبيك ولا سعديك، زادُك حرام ونفقتك حرام، وحجك غير مبرور ).
وروى عبد الرزاق عن أبي إدريس الخولاني قال: (أربع في أربع لا تُقْبَلُ في حج ولا عمرة ولا جهاد ولا صدقة، الخيانةُ والسرقة والغُلولُ ومال اليتيم)، ومما قيل في ذلك شعرًا:
إذا حججــــت بمـــــال أصلــــه ســــحت | فمــــا حججـــت ولكـــن حجـــت العـــير |
لا يقبــــــل اللــــــه إلا كــــــل طيبــــــة | مـا كـــل مـــن حـــج بيــت اللــه مــبرور |
ثم ذكر حاله معهم بقوله: (كان ابنُ المبارك إذا كان وقتُ الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتِكم، فيأخذ نفقاتِهم فيجعلُها في صندوق ويقفلُ عليها، ثم يكتري لهم ويخرجُهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم ويطعمُهم أطيبَ الطعام وأطيبَ الحلوى، ثم يخرجُهم من بغداد بأحسن زي وأكملِ مروءة، حتى يصلوا إلى مدينةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولُ لكل واحد: ما أمَرَك عيالُك أن تشتري لهم من المدينة من طُرَفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجُهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا فيشتري لهم، ثم يخرجُهم من مكة فلا يزال ينفقُ عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمةً وكساهم، فإذا أكلوا وسرُّوا دعا بالصندوق ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته، عليها اسمه).
روي أنه قال له الفضيل بن عياض: (أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟ -أي كان تاجرًا- قال: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأكرمَ عرضي، وأستعينَ به على طاعة ربي، فقال الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا).
المبحث الرابع أقوالهم في الحج المبرور وتطبيقهم ذلك
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (، وللسلف رحمهم الله في المراد بالحج المبرور أقوالٌ كثيرة، وكانت أفعالُهم وأحوالُهم في الحج تطبيقًا لهذه المعاني الفاضلة، والصفات الشريفة.
فمن معاني الحج المبرور فعلُ الطاعات كلها، والإتيانُ بأعمال البر، وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [سورة البقرة آية 177] قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: (فتضمنت الآية أن أنواع البر ستةُ أنواع، من استكملها فقد استكمل البر، أولُها: الإيمان بأصول الإيمان الخمسة، وثانيها: إيتاءُ المال المحبوبِ لذوي القربى واليتامى والمساكين وابنِ السبيل والسائلين وفي الرقاب، وثالثها: إقامُ الصلاة، ورابعها: إيتاء الزكاة، وخامسها: الوفاء بالعهد، وسادسها: الصبرُ على البأساء والضراء وحين البأس.
وكلُّها يحتاج الحاجُّ إليها، فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان، ولا يكملُ حجه ويكونُ مبرورًا بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن أركان الإسلام بعضُها مرتبطة ببعض، فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتى بها كلها، ولا يكملُ بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في سفر الحج، وإيتاءِ المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه، ويحتاجُ مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر، فهذه خصال البر، فمن حج من غير إقام الصلاة، لا سيما إن كان حجه تطوعًا كان بمنزلة من سعى في ربح درهمٍ وضيع رأس ماله، وهو ألوف كثيرة ).
وقد كان السلف -رحمهم الله- يواظبون على فعلِ الطاعات ونوافلِ القربات في حجهم، ويستثمرون ساعاتِه ويعمرون أيامَه بالأعمال الصالحة، كانوا حريصين على قيام الليل، وتلاوة القرآن وأنواع الذكر، على العكس من حال بعض الحجاج الآن -هدانا الله وإياهم- الذين شغلوا بالقيل والقال والخوض في أعراض الناس والمجادلةِ بالباطل، مع كثرة اللهو واللعب والمزاح، وقد يتعدى الأمر بهم إلى السب والشتم وفعلِ ما لا يليق بالمسلم، خصوصًا في تلك المشاعر المقدسة وفي أجلّ القربات وأفضلِ الطاعات الحج.
كان مسروقٌ -رحمه الله- يكثر من السجود والإطالة فيه، لعلمه أن أقربَ ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، كما ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان محمد بنُ واسع يكثر من نوافل الصلوات، وإذا ركب راحلته أومأ إيماء، ويأمر حاديَه أن يرفع صوتَه خلفه حتى يشغل عنه الناس بسماع صوته فلا يُتَفطنُ له، وكان المغيرة بنُ الحكم الصنعاني يحج من اليمن ماشيًا وكان له وِرْد من الليل يقرأ فيه كل ليلة ثلثَ القرآن. ومن معاني بر الحج كثرةُ ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى، قال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [سورة البقرة الآيات من 198-203] فانظر -أخي الحاج- كيف أمر الله بذكره واستغفارِه ودعائه فِي هذه المواضع، ونبه على ذلك حثًّا لحجاج بيته الحرام أن يستغلوا تلك الأزمات الشريفة والأماكن الفاضلة بما هي أهله من الطاعات والقربات، وأعظمُها ذكره جل وعلا واستغفاره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورميُ الجمار لإقامة ذكر الله تعالى( رواه أبو داود والترمذي وصححه، ولفظه: )إنما جعل رمي الجمار والسعيُ بين الصفا والمروةِ لإقامة ذكر الله تعالى( ورواه غيرهما، قال بعض أهل العلم: إنما كان ختامُ الأعمال الصالحة، ومنها الحج بالذكر والاستغفار لأن العبد محل تقصيرٍ في أداء تلك الطاعة، يعتوره النقصُ والخللُ وعدمُ أداءِ ما وجب عليه حق القيام. ومن الذكر في الحج التلبيةُ فيه ورفع الصوت بذلك والدعاءُ معه، كما هو فعل الصحابة رضي الله عنهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهم، )أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحلته قائمةً عند مسجد ذي الحليفة أهل -أي رفع صوته- فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك (، وكان عبد الله يزيد مع هذا: )لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل ( متفق عليه. وعن جابر رضي الله عنه قال: أهلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر التلبيةَ. مثلَ حديثِ ابنِ عمر، والناس يزيدون " ذا المعارج ونحوه من الكلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع، فلا يقول لهم شيئًا، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: )خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نصرخُ بالحج صراخًا( الحديث، أي: نرفع أصواتنا بالتلبية، وما ذاك إلا لأن التلبيةَ من شعار الحاج في الظاهر، وفيها اشتغالٌ بذكر الله المتضمن كلمةَ التوحيد وتحقيقَها ونفي الشرك ومخالفةَ المشركين.
ومن معاني الحج المبرور الإحسانُ إلى الناس ومعاملتُهم بالمعروف وحسنُ الخلق معهما، ففي صحيح مسلم )أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال: حسنُ الخلق (، وهذا الأمر يحتاج إليه الحاج كثيرًا، فينبغي له أن يتحلى به ويجاهد نفسَه في تحقيقِه، فيعامل الناسَ بالمعروف ويحسنُ إليهم بالقول والفعل، وما سمي السفر سفرا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال.
ويتبع ذلك إطعامُ الطعام وإفشاءُ السلام، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، قالوا: وما بر الحج يا رسول الله؟ قال: إطعام الطعام وإفشاء السلام (، وفي لفظ آخر: )وطيب الكلام ( حديث حسن رواه أحمد والطبراني في الأوسط، ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج وصية النبي صلى الله عليه وسلم أباجُرَيّ الْهُجَيْمِيّ بقوله: )لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تعطي صلةَ الحبلِ، ولو أن تُعطي شسع النَعْلِ، ولو أن تنحي الشيءَ من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تَلقى أخاك المسلم فتسلمَ عليه، ولو أن تؤنس الوحْشان في الأرض( حديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وأقوالُ الصحابةِ ومن بعدهم في بر الحج ومروءة السفر وحقوقِه كثيرة، منها قولُ ابن عمر رضي الله عنهما: (البر شيء هين، وجهٌ طليق وكلام لين)، وسئل سعيد بن جبير: أيّ الحاج أفضل؟ قال: (من أطعم الطعامَ وكف لسانه)، وقال ربيعة: (المروءة في السفر: بذلُ الزاد، وقلةُ الخلاف على الأصحاب، وكثرةُ المزاح في غير مساخط الله عز وجل)، وقال أبو جعفر الباقر: (ما يُعبَأ بمن يؤم هذا البيتَ إذا لم يأت بثلاثة: ورعٍ يحجزه عن معاصي الله، وحلمٍ يكف به غضبه، وحسنِ صحابة لمن يصحبه من المسلمين)، وجاء رجلان إلى ابن عون يودعانه ويسألانه أن يوصيَهما، فقال لهما: (عليكما بكظمِ الغيظ وبذل الزاد)، وروى عبد الرزاق عن الثوري قال: (سمعنا أن بر الحج طيبُ الطعام وطيبُ الكلام).
وفي حج السلف من الصحابة والتابعين -رحمهم الله- تحقيقٌ لهذه المعاني، قال مجاهد: (صحبت ابنَ عمرَ في السفر لأخدمه، فكان يخدمني)، وكان إبراهيم بنُ أدهمَ يشترط على أصحابه في السفر الخدمةَ والأذان، وخدمتُهم لأصحابهم ليس لعدم شغلهم بشيء، بل كانوا في خدمة أصحابهم مع اشتغالهم بطاعة الله، وروي عن كثيرٍ من السلف أنه كان يشترط على أصحابه في السفر أن يخدمهم، اغتنامًا لأجر ذلك، منهم عامر بنُ عبدِ قيس وعمرُو بنُ عتبةَ بنِ فرقد، مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما، وروي عن بعضهم أن كان يصحب إخوانَه في سفر الجهاد وغيرِه، فيشترط عليهم أن يخدمهم، (فكان إذا رأى رجلًا يريد أن يغسل ثوبَه قال له: هذا من شرطي فيغسله، وإذا رأى من يريد أن يغسل رأسه قال: هذا من شرطي فيغسله).
إن المسلم في أوقات العبادة والحضورِ في الرحاب الطاهرة، يلتزم بأكملِ الآداب، ويتحلى بشريفِ الخصال، فكيف بالحضور في بيت الله المحرّم والمشاعر المقدسة، فمما يكمل برّ الحج اجتنابُ الإثمِ والمعاصي فيه، قال تعالى ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [سورة البقرة آية 197] وفي الحديث الصحيح: ﴿ من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ﴾ متفق عليه، واللفظ للبخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
قال أهل العلم: (الرفث: الجماعُ ودواعيه، والفسوق: المعاصي، والجدال: المخاصمةُ بالباطل)، فنهى سبحانه عن هذا كله، وأمر حُجّاج بيته وهُم في رحابه أن يتزودوا بزاد التقوى، فهو خير الزاد، فيتحرى الحاجُّ كلَّ بِرّ، ويتباعدُ عن كل منكر وإثم، فـما تـزود حـاج ولا غـيرُه بأفضلَ مـن زاد التقوى، ولا وصيةَ أجلَ من الوصـية بالـتقوى وتحقيقِهـا، وهكـذا كـان السـلف يوصي بعضـهم بعضـًا، قـال بعضـهم لمن ودعه: (اتق الله، فمن اتقى الله فلا وحشة عـليه )، وقـال آخر لمن ودعه للحج: أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عـليه وسلم معـاذًا حـين ودعـه )اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحها، وخالق الناس بخلق حسن (.
إن تقـوى الله عـز وجل جُـنة يسـتجنُ بها العبد من المعاصي والذنوب، وزادٌ مباركٌ يبلغه رضوانَ الله وجنتَه، يقول علي رضي الله عـنه: (التقوى الخـوف من الجـليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة من الدنيـا بالقـليل، والاستعداد ليوم الرحيل )، وقال عبد اللّه بن مسعود رضـي الله عنه: (تقوى الله: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر )، وقال الحسن البصري -رحمه الله-: (التقوى ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك ).
ومن بر الحج سقي الماء وبذلُه للآخرين، فالحجاجُ في تلك المشاعر، وبخاصـة في وقـت الـزحام الشديد، بـأمسِّ الحاجة إلى المـاء يُرْوُونَ به عطشهم، ويستعينون به على قضاء نسكهم، تبذل ذلك -أيها الحاج- لإخوانك بنفسٍ طيبة، ويدٍ حانية، عن ابن عباس أنه سئل أي الصدقة أفضل؟ فقال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم: )أفضل الصدقة سقي الماء، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ [سورة الأعراف آية 50] (.
المبحث الخامس فضل يوم عرفة وأحوالهم فيه
إن من الأيِام الفاضلة عند الله عز وجل يومَ عرفةَ، فهو يومُ أهلِ الموقف، حيث يقف الحجاج فيه على صعيد عرفات، يقول عليه الصلاة والسلام: )الحج عرفة (، وفضائل هذا اليوم العظيم كثيرة: منها أنه يومُ إكمال الدين وإتمامِ النعمة على هذه الأمة فلا يحتاجون إلى دينٍ غيرِه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأديان وأفضلَها، لا يُقبل من أحد دينٌ سواه، في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلًا من اليهود قال له: (يا أمير المؤمنين، آيةٌ في كتابكـم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ﴾ [سورة المائدة آية 3] قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يومَ جمعة ). ومـن فضـائل يـوم عرفة أنه يومُ عيدٍ لأهل الإسلام، كما قال ذلـك عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن عباس رضي الله عنهما، حيث قال ابن عباس: (نزلـت في يوم عيد، في يوم جمعة، ويوم عرفة )، وقـال عمـر: (كـلاهمـا بحمـد الله لـنا عيـد )، وهو عيـد لأهـلِ الموقف خاصة، ويشرع صيامُه لغيرهم كما سيأتي.
ومن فضائله أنه يوم مغفرةِ الذنوب والتجاوزِ عنها، والعتقِ من النار، والمـباهاةِ بـأهل الموقـف، ففي صـحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )ما من يوم أكثرُ من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء (، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )إن الله يباهي بأهلِ عرفات أهلَ السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا (، رواه أحمـد وسنده صـحيح. وعن طلحة بن عبيد اللّه بن كريز -رحمـه الله- أن رسـول الله صـلى الله عليه وسلم قال: )ما رئي الشيطان في يوم هو فيه أصغرَ ولا أدحرَ ولا أحقرَ ولا أغيظَ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوزِ الله عن الذْنوب العظام، إلا ما رئي يومَ بدر، فإنه قد رأى جبريل يزعَ الملائكة (، رواه مالك في الموطأ مرسلًا.
ومن فضائل يوم عرفة ما قيل إنه الشفعُ الذي أقسم الله به في كتابه، وأن الوَتْر يومُ النحر، قال تعالى: ﴿ وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ﴾ [سورة الفجر الآيات من 1-3] وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسُلم من حديث جابر فيمـا رواه الإمـام أحمـد وغيره، وقيل إنه الشاهدُ الذي أقسم الله به في كتابه، قال تعالى: ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ [سورة البروج آية 3] ففي المسند وغيره عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وموقوفا عليه: )الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة (.
فمن طمع في العتق من النار، ورجا مغفرة ذنوبه، وإقالة عثراته، والتجاوز عن سيئاته في يوم عرفة، فليحرص على الإتيان بالأسباب التي يرجى بها -بعد فضل الله ورحمته- العتق من النار، وأعظم الأسباب صيام ذاك اليوم لغير الحجاج، ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده (، أما الحجاج فالسنة في حقهم الفطر، كما هو هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ومن الأسـباب أيضـًا الإكـثارُ من شـهادة التوحيد بإخـلاص وصـدق ودعـاءُ اللّهِ بها، فإنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله في ذلـك اليـوم، والدعـاء فيه له مزية على غيره، فقد روى الترمذي عنه صـلى الله عليه وسلم قال: )خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (.
ومـن الأسـباب أيضـًا الصـدقة والإنفـاق في سبيل الله، ففـي الصـحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: )اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة (، وعـن أبـي سـعيد الخدري رضي الله عنه قـال: قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )صدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلةُ الرحم تزيد في العمر، وفعلُ المعروف يقي مصارع السوء (.
مـع الحـذر من الذنوب والإقلاع عنها، والتوبة الصادقة منها، وحفظ جوارحه عن المحرمات، ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضـي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )يوم عرفة، هذا يومُ من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفر له (.
وقـد كـان سـلف الأمـة مـن الصـحابة رضـي الله عنهم ومن تـبعهم بإحسـان -رحـم الله الجميـع- حريصـين أشـدَ الحـرص على استغلال هـذا اليوم العظيـم -يوم عرفة- والإفادةِ منه، والمحرومُ من حـرم فضـلَ الله وجودَه، والشقي من تمر عليه هذه الأزمانُ الفاضلة، والأوقـاتُ الشـريفة دون استغلالٍ لها، أو إفادة منها. فكـانت أقوالهم -رحمهم الله- حاثّةً على شغل هذا اليوم بما هو جدير به من الأعمال الصـالحة، وكـانت أحوالُهـم وأفعـالهم تطبيقًا لذلـك، روى ابن أبي الدنيـا عـن علي رضي الله عنه قال: (ليس في الأرض يوم إلا للّه فيه عـتقاء من الـنار، وليـس يـوم أكـثر فيـه عتقًا للرقاب من يوم عرفة، فـأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحـلال، واصرف عني فسقة الجن والأنس )، وكـان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلدة، ومائة رقبة - أي من العـبيد الأرقـاء - فيعـتق رقيقـه، فيضـج الـناس بالـبكاء والدعـاء، ويقولـون: ربنا هـذا عـبدك قد أعتق عبيدَه، ونحن عبيدك فأعتقنا من النار. وقال ابن المبارك: (جئت إلى سفيان الثوري عشيةَ عرفة وهو جـاث على ركبتيه وعيـناه تهملان، فقلتُ له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حـالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم )، وروي عن الفضيل بن عيـاض أنـه نظـر إلى الـناس وتسـبيحِهم وبكائِهم عشـية عـرفة فقـال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا -يعني سدسَ درهـم- أكـان يـردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرةُ عند الله أهونُ من إجابة رجل لهم بدانق، يقول الشاعر:
وإنــــي لأدعــــو اللــــه أطلـــب عفـــوه | وأعلــــــم أن اللـــــه يعفـــــو ويرحـــــم |
لئــــن أعظـــمَ النـــاسُ الذنـــوبَ فإنهـــا | وإن عظمــت فــي رحمــة اللــه تصغــر |
المبحث السادس فضل يوم العيد وأيام التشريق وأقوالهم في ذلك
جعل الله عز وجل لهذه الأمة عيدين يأتيان في كل عام مرة.
الأول: عيـدُ الفطـر بعـد صـوم رمضـان، حـين يستكمل المسـلمون صـيامَه، فيجتمعون في هـذا العيـد، يشكرون الله ويكـبرونه على ما هداهـم، وهو يـوم الجوائز، يستوفي الصـائمون فيـه أجـر صيامهم، ويرجعون من عيدهم بالمغفرة والعتق من النار، بفضل الله ورحمته.
الثاني: عيدُ الأضحى يومَ النحر، وهو أكـبر العيدين وأفضلُهما لحديث عبد اللّه بن قُرْط رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: )إن أعظمَ الأيام عند الله تعالى يومُ النحر ثم يوم القر( رواه أحمـد وغـيره، وهو مترتب عـلى إكـمـال الحـج، وشُرع فيـه للجميع -الحجاج وغيرِهم- التقربُ إلى الله فيه بالنسك، وهو إراقة دماء القرابين مع الصلاة والذكر والدعاء.
لقـد أبـدل الله هـذه الأمـة بمـا كـان عند الجاهلية يومي الفطر والأضحى، للذكر والشكر والمغفرة، والفرح بإتمام الطاعة وإكمالِها، الصـيام والحـج، ولمـا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كـان لهم يومـان يلعـبون فيهمـا، فقال: )إن الله أبدلكم يومين خيرًا منهما، يومَ الفطرِ والأضحى (.
إن العيدَ موسمُ الفرح والسرور، وأفراحُ المؤمنين الخلَّص وسرورُهم في الدنيا، إنما هو برضا مولاهـم عنهم، إذا فازوا بإكـمالِ طاعته، وحازوا ثوابَ أعمالهم، ونالوا فضلَه ومغفرته، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [سورة يونس آية 58] هكذا فهم السلف الصالح -رحمهم الله- معنى العيد، يقول الحسنُ البصري: (كلُ يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد، كلُ يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكرِه وشكرِه فهو له عيد )، وقال بعضهم: (ما فرح أحد بغير الله إلا بغفلته عن الله، فالغافلُ يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بطاعةِ مولاه ). ثم يأتي بعد يوم العيد أيام التشريق، روى مسلم في صحيحه عن نُبيشة الهذلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )أيامُ منى أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله (، وهذه الأيام هي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها: ﴿ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ﴾ [سورة البقرة آية 203] وهي ثلاثةُ أيام بعد يوم النحر، وأفضلُها: أولُها وهو يوم القر، لأن الحجاج في منى يستقرون فيه ولا ينفِرُون، ففي حديـث عبد اللّه بن قرط السابق (إن أعظمَ الأيام عند الله يومُ النحر ثم يومُ القر ). وذكـرُ الله عز وجل المأمورُ به في أيام التشريق أنواع متعددة، منها: ذكرُه عز وجل عقبِ الصلوات المكتوبات، بالتكبيرِ في أدبارها، وهـو مشروع إلى آخر أيام التشريق، وهو التكبير المقيد، مروي عن عمـرَ وعـلي وابـنِ عـباس رضـي الله عـنهم، ومنها: ذكره جل وعلا بالتسمية والتكبير عند ذبح النسك، فإن وقت ذبح الهدي والأضاحي يمتد إلى آخر أيام التشريق، ومنها: ذكرُه بالتكبير عند رمي الجمار في أيام التشريق، وهذا خاص بالحجاج، إلى غير ذلك.
ومما ينبغي في هذه الأيام، وبخاصة في آخرها، الاستغفارُ والدعاء، وقد استحب كثيرٌ من السلف -رحمهم اللّه- الدعاءَ بقوله سبحانه: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [سورة البقرة آية 201] وقد قال تعالى قبل ذلك: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ﴾ [سورة البقرة آية 200] قال عطاء: (ينبغي لكل من نفر أن يقول حين ينفر متوجهًا إلى أهله: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [سورة البقرة آية 201]، وقال عكرمة: (كـان يستحب أن يقال في أيام التشريق: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [سورة البقرة آية 201]، وهذا الدعاءُ من أجمع الأدعية لخيري الدنيا والآخرة، لذا فقد كان عليه الصلاة والسلام يكثر منه، وكـان إذا دعا بدعاء جعله معه، قال الحسن: (الحسنةُ في الدنيا العلمُ والعبادة، وفي الآخرة الجنة )، وقال سفيان: (الحسنةُ في الدنيا العلمُ والرزقُ الطيب، وفي الآخرة الجنةُ )، وكـان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول في خطبته يوم النحر: (بعد يوم النحر ثلاثةُ أيام، التي ذكَرَ الله الأيامَ المعدودات لا يُرد فيهن الدعاء، فارفعوا رغبتكـم إلى الله عز وجل ).
وقد ذكر بعضُ أهل العلم، أن من الحكمة في ختام الطاعات بالذكر والاستغفار، أن العبدَ لا يؤدي ما فُرض عليه على التمام، وعملُه يعتوره النقصُ والخلل، فشرع له الاستغفارُ مكفرًا لما قد حصل منه من تقصير وخلل، لعل الله أن يقبله منه ويرضى به عنه، ومن الحكمة أن سائر العبادات تنقضي ويُفْرَغ منها، وذكرُ الله باق لا يُفْرَغ منه، وقد أمر الله بذكره عند انقضاء الصلاة، قال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ﴾ [سورة النساء آية 103] وقال في صلاة الجمعة: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [سورة الجمعة آية 10] وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [سورة الشرح آية 7 - 8] قال الحسن: (أمره إذا فرغ من غزوه أن يجتهد في الدعاء والعبادة، فـالأعمالُ كلُها يُفْرَغ منها، والذكر لا فراغ له ولا انقضاء ). وقـال بعض الصالحين: (ما طابت الدنيا إلا بذكره عز وجل، ولا الآخرةُ إلا بعفوه، ولا الجنةُ إلا برؤيته )، قال بعض أهل العلم: (أيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيمُ أبدانهم بالأكل والشرب، ونعيمُ قلوبهم بالذكر والشكر، وبذلك تتم النعم ).
وذكر بعض شراح الحديث أن في قول النبي صلى الله عليه وسلم: )إنها أيامُ أكلٍ وشربٍ وذكرٍ للّه عز وجل (، إشـارةً إلى أن الأكلَ والشرب في أيام العيد والتشريق، إنما يُستعانُ به على ذكر الله وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة أن يُستعانَ بها على الطاعات، وقد أمر الله تعالى بالأكل من الطيبات والشكرِ له، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [سورة البقرة آية 172] فمن استعان بنعم الله على معاصيه، فقد كفر نعمة الله وبدلها كفرا، وقد يُسلبُها، نعوذ باللّه من الخذلان.
كـان عمـرُ بن عـبد العزيز -رحمه الله- كلما قلب بصـره في نعم الله عليه قال: (اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرا، وأن أكفرها بعد أن عرفتُها، وأن أنساها ولا أثني بها )، ويقول ابن القيم رحمـه الله: (الشـكر مـبني عـلى خمـس قواعـد: خضـوع الشـاكر للمشـكور -سبحانه- وحـبُه له، واعترافُـه بنعمته، وثناؤه عليه بها، وأن لا يستعملها فيما يكره ).
المبحث السابع عنايتهم بمعرفة السنة وتأدبهم في تعلمها
لقد أكرم الله هذه الأمة حين أرسل إليها أفضل رسله محمد بن عبد اللّه، عليه أفضل الصلاة والسلام، أخرجهم به من ظلمات الكفر والجهل، إلى نور الإيمان والعلم، واختار لصحبته صحابته الأخيار، رضي الله عنهم وأرضاهـم، الذين تمسكوا بهذا الدين، وعضوا عليه بالنواجذ، واعتصموا بسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل هذا الدين ونشره بين العالمين، دون كلل ولا ملل، ولا خور ولا ضعف، مستنين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مقتفين أثره، سائرين على منهجه في صغير الأمور وكبيرها، وصدق ربنا تعالى القائل: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ﴾ [سورة الأحزاب آية 23].
كيف لا يكون هذا الجيل كذلك، واللّه عز وجل قد اختارهـم لصـحبة نبيه صـلى الله عليه وسلم، أفضـل البشر وخير من وطئت قدمه الأرض، روى أبو داود والطيالسي عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه أنـه قـال: (إن الله عـز وجـل نظر في قلوب العباد، فاختار محمـدًا صلى الله عليه وسلم، فبعثه برسالته وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قـلوب الناس بعده، فاختار له أصحابه، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه. )، وفي فضلهم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: )لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ( رواه الـبخاري ومسـلم، وروى الإمـام أحمـد عـن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من كان متأسيًا، فليتأس بأصـحاب رسول الله صـلى الله عليه وسلم، فـإنهم كانوا أبر هذه الأمـة قـلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حـالًا، قـوم اخـتارهم الله لصـحبة نـبيه، وإقامـة ديـنه، فاعـرفوا لهـم فضلهم، واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقـد حـج الـنبي صلى الله عـليه وسلم في عمره مرة واحدة، وحـج معه أصحابه الذين نقلوا لنا صفة حـجه عليه الصلاة والسلام، وعـلموها الـناس، وثبتوا عـلى سـنته بعد مماته، يحرصون على معرفة السـنة ويحـذرون مـن الخـلاف والجـدل العقيم، يعـلمون الجـاهل ويذكرون الغافل، إذا جهل أحدهـم أمرًا سأل عنه، وإذا سُئلَ أحدهم عن شـيء يعـلمه، أفـتى بمـا يعـلم، فإن لم يكن عنده في هذه المسألة عـلم، أحال السائل إلى غيره، مع أمرهـم الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر بحكمـة وأسلوب حسن، فكـان لهم في ذلك مواقف محمودة، وأحوال مَرْضية، ومن تلك:
المثال الأول: ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد اللّه بن حنين (أن عـبد الله بـن عـباس والمسـور بن مخرمة رضـي الله عنهما اختلفا بالأبواء -وهو مكـان بـين مكـة والمدينة - فقال عبد اللّه بن عباس: يغسل المحـرم رأسـه، وقـال المسور لا يغسل المحرم رأسه، فـأرسلني -القـائل هـو عبد اللّه بـن حـنين - ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري رضـي الله عـنه أسـأله عن ذلـك، فوجدتـه يغتسل بين القرنين، وهو يستتر بثوب، قال فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت: أنا عبد اللّه بن حـنين، أرسـلني إليك عبد اللّه بن عباس أسألك كيف كـان رسول الله صـلى الله عـليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فوضع أبو أيوب رضي الله عـنه يـده على الثوب فـطأطأه حتى بدا لي رأسه، ثـم قال لإنسان يصـب اصـبب، فصب عـلى رأسه ثم حرك رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل ). وفي رواية أخرى قال: (فأمرَّ أبو أيوب بيديه على رأسه جميعًا على جميع رأسه، فأقبل بهما وأدبر، فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبدًا ).
اشتمل هذا الموقف على بعض الدروس والفوائد أهمها:
1 - أنـه يجوز للمحرم أن يغسل رأسه وجسده، فإن كان من جـنابة وجب عليه ذلك، أما غسله تبردًا فجائز بلا كراهة، ويجوز له إمـرار يـده عـلى شعره، لكن لا يتعمد نتف شعر رأسه، (فعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عـنهما أنـه كـان لا يقـدم مكـة إلا بات بذي طوى، حـتى يصبح ويغتسـل، ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
2 - حسن أدب الصحابة وقطعُهم دابر الخلاف، وحسمُ مادته بسؤال أهل العلم، فإن ابن عباس والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما، لم يطل خلافهما في هذه المسألة ولم تظهر له آثار سيئة، بل وكلا العلم إلى عالمه، وأرسلا من يسأل لهما في هذه المسألة، وهكذا ينبغي للمسلم عمومًا أن يسأل عما يشكل عليه في دينه، وهو مطالب بهذا، فإن شرطي قبول العمل الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما روته عائشة رضي الله عنها: )من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد (، أي مردود عليه، وقد أمر الله بسؤال أهل العلم في قوله: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة النحل آية 43] وقال الشاعر:
شـــفاء العمـــى طــول الســؤال وإنمــا | دوام العمـى طول السكوت على الجهل |
3 - ينـبغي لمـن استبان لـه الحق أن يعمل به، فلا اجتهاد ولا قيـاس مع وجود النص، وهكذا كان عمل الصحابة رضي الله عنهم، ومـن ذلك هذا الموقـف، فإن المسور بن مخرمة قبل سنة النبي صلى الله عـليه وسـلم، ووافق ابن عباس، بل عاهد نفسه ألا يناقش ابن عباس أو يستوقفه في مسـألة، إقـرارًا منه له بوفور العلم وجلالة القدر، ولم يسـتكبر عـن الرجوع إلى الحـق وترك ما هو عليه، بل استجابة تامة وطواعية كاملة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
4 - مـع أن الحق كـان مـع ابن عـباس في هذه المسألة، فإن المسور بـن مخـرمة لم يكن في صدره شيء على ابن عباس، ولم ينقل إلينا وجـود شـحناء أو كـراهية أو حقـد بيـنهما لـلخلاف في هـذه المسـألة، بل محـبة وتراحـم وترابط، وهكذا ينبغي للمسلم إذا خولف في رأي وكـان الحـق في غـير قولـه، أن يقـبل الحق ولا يوغر صدره حقـدًا ولا حسـدا عـلى أخيـه، أو تـتعدى الأمـور إلى أعظم من هذا انتصارا لنفسه، ولو على حساب الحق.
5 - من فوائـد هـذه القصـة، جـواز السـلام على المتطهر في وضـوء أو غسل، وجـواز الاسـتعانة بمـن يعـين المتوضئ أو المغتسل، وقـبول خبر الواحد، وأن ذلك كان مشهورًا عند الصحابة رضي الله عنهم.
المثال الثاني: من مجـالس الصـحابة رضـي الله عنهم العامرة بذكـر الله عـز وجـل، والمذاكـرة في العـلم، والمناقشـة في مسـائله، والسـؤال عمـا يشكل، معرفة للسنة وحرصًا على تطبيقها، ما رواه عروة بـن الـزبير قـال: (كـنت أنـا وابـن عمر مستندَين إلى حجرة عائشـة، وإنـا لنسـمع ضـربها بالسـواك تسـتن، قـال فقـلت: يـا أبا عبد الرحمن، أَعْتَمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب؟ قال: نعم، فقـلت لعائشـة: أي أمـتاه، ألا تسـمعين مـا يقـول أبو عـبد الرحمن؟ قـالت: ومـا يقـول؟ قـلت: يقـول اعـتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجـب؟ فقـالت: يغفـر الله لأبـي عـبد الرحمن، لعمـري مـا اعـتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وإنه لمعه، قال: وابن عمر يسمع، فما قال لا، ولا نعم، سكت ).
في هذه القصة وقفات:
الوقفة الأولى: حرص الصحابة والتابعين على طلب العلم وسؤال العلماء عما يشكل، وهذا هو الواجب على المسلم، أن يسأل أهل العلم عن دينه، قال اللّه تبارك وتعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [سورة النحل آية 43] وفي قصة الرجل الذي أصابته جنابة في برد شديد وهو مثخن بالجراح، فأفتاه من معه بالغسل، مع أن له التيمم والحالة هذه، فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: )قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال (، وروى الإمام البخاري في صحيحه عن الإمام المفسر مجاهد بن جبر أنه قال: لا يطلب العلم مستح ولا مستكبر، وتقول عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، كل هذا أخذًا من سؤال عروة بن الزبير بن العوام -رحمه الله- وهو التابعي المشهور، أحد المكثرين من رواية الحديث، وبخاصة عن خالته أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، حيـث سأل عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما، ثم سأل عائشة عن عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة الثانية: في قـول عـروة بـن الـزبير لعبد اللّه بن عمر: يا أبا عـبد الرحمن، وقولـه لعائشـة أي أمـتاه، أدب جـم، وحسن مخاطبة، وطيب كلام مع من يسأله، فـإن من الأدب مناداة الشخص بكنيته لا باسمـه، أو بمـا يحـبه ويليق به، وهذا من آداب طالب العلم، وقد أكد عـلى أدب الطلب كثيرٌ ممن كتب في هذا الموضوع، حيث ذكروا أن تحـلي طـالب العـلم بـالأدب وحسن الخلق، أكـبر معين -بعد الله عز وجل- على استفادته من شيخه، ثم العمل بهذا العلم.
الوقفة الثالثة: في قول عائشة رضي الله عنها: (يغفر الله لأبـي عـبد الرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب )، حسن خطابها مع من خالفهـا، وإن كـان هو المخطئ وهي المصيبة، ومع ذلك لم تعنفه ولم تتهمه بالقصـور، أو الجهـل أو نحـو ذلك، بل دعت له بالمغفرة لما وقـع فيـه من خطأ واضح، ثـم بينت الصواب، وكون ابن عمر ما قال: لا أو نعـم، بل سكت، قال العلماء: هذا يدق على أنه اشتبه عليه، أو نسـي، أو شـك، ولهذا سكت رضي الله عنه لما بينت عائشة الصواب في ذلـك، ولم يـراجعها بـالكلام، لأن في ذلـك جـدلًا عقيمًا، وشقاقًا ومنازعة لا فـائدة مـنها، وهكـذا يجب عـلى المسلم أن يقبل الحق ويترك ما كان عليه من خطأ، فـالحكمة ضالة المؤمن، متى وجدها فهو أحق بها، ولا يجادل بالباطل، أو يماري بغير حق.
الوقفة الرابعة: ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قـال: )اعـتمر رسول الله صـلى الله عـليه وسـلم أربـع عمر كلُهن في ذي القعـدة، إلا التي مع حجته، عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعـدة، وعمرة مـن العـام المقـبل في ذي القعدة، وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته (، فقد اعتمر صلى الله عليه وسلم أربع مرات:
الأولى: في ذي القعـدة عـام الحديبية سـنة ست مـن الهجرة، فصدتهم قريش عنها، فتحللوا وحسبت لهم عمرة.
الثانية: في ذي القعدة سنة سبع، وهي عمرة القضاء.
الثالثة: في ذي القعـدة سنة ثمان، وهي عام الفتح، حين قسم غنائم حنين.
الرابعة: وكـانت مـع حـجـته، وقـد أحـرم بها في ذي القعدة وأداهـا في ذي الحجـة، ولم يعتمر عليه الصلاة والسلام عمرة قـط في رجب.
الوقفة الخامسة: قـال العلماء: إنما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم هذه العُمر في ذي القعدة لمخالفة أهل الجاهلية في ذلك، فإنهم كـانوا يـرون العمـرة في ذي القعدة من أفجر الفجور، بهتانًا وزورًا، ففعلـه صلى الله عليه وسلم أربع مرات ليكون أبلغ في بيان جوازه، وأبلغ في إبطال ما كانت الجاهلية عليه من عادات وموروثات ما أنزل الله بها من سلطان.
وبعدُ، فهذه صورة حيةً من مجالس الصحابة التي كانت عامرة بالعلم والحرص على اتباع السنة، واقتفاء الأثر، والالتزام بالدليل مع حسن الأدب، وكـريم العشرة، ونبل الخصال، وكريم الأخلاق، لا تعـرف الخصومات والمـنازعات إلى مجالسـهم طريقًا، وليس للجدل العقيـم والنفرة عن قبول الحق والتنكب عنه إلى اجتماعاتهم سبيلًا وهكـذا كـان السلف من بعدهم، كان الحسن البصري -رحمه الله- إذا سمـع قومـًا يـتجادلون يقول: (هؤلاء ملّوا العبادة، وخف عليهم القـول، وقـلَّ ورعهـم فتكـلموا )، وهـم بذلك يقتدون بأفـضل الخلق ومعلم البشرية صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد اللّه بن عمرو رضي الله عنهما، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قـبل أن أذبح قال: اذبح ولا حرج، فـجاء آخر فقال: لم أشعر فـنحرت قـبل أن أرمـي، قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذ عن شـيء قـدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج )، كرره البخاري ومواضـع، ففي كتاب العلم بوَّب عليه قـائلًا: (باب الفتيا وهو واقف عـلى الدابـة وغيرهـا )، وقـال: (بـاب السؤال والفتيا عند رمي الجمـار )، وفي كـتاب الحـج قـال: (بـاب الفتيا عـلى الدابة عند الجمـرة )، وغـير ذلـك، وهكـذا ينـبغي لـلحاج أن يعـلم الناس مناسـك الحـج، ويرشـدهم إلى السـنة، ويحـثهم على التمسـك بهـا، وينـبههم إلى مـا يقـع مـنهم من أخطاء ومخالفات لحج النبي صلى الله عـليه وسـلم، يحـث الحجـاج على اسـتغلال تلك الأوقات الشريفة، والأزمـان الفاضـلة، والـبقاع الطاهـرة، والمشـاعر المقدسـة بالذكـر والتلـبية، والصـدقة والإحسـان، وبذل المعروف، وإسداء الخير بجميع أنواعـه، والـتعاون عـلى البر والتقوى، والتواصي بالحق، والصبر على ذلك، واللّه لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
المثال الثالث: من صور تعليم الصحابة غيرهم ميراث النبوة، وحـجة النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان كلام الله عز وجل، إزالةً لما يرد من إشكال، وفهمًا صحيحًا للآية، ما رواه البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: (سألت عائشة رضي الله عنها فقلتُ لها: أرأيت قول الله تعـالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ [سورة البقرة آية 158] فو اللّه ما على أحد جناح أن لا يطوَّف بالصفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه، كـان لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل، فكـان من أهلَّ يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله الآية، قالت عائشة: وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما ).
تعليق