كيف كان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتعاملون مع السنة ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كيف كان حرصهم على أن يعرفوا كل نقطة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
كم نالهم من التعب من أجل ألا تتركهم سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم؟
روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قال: كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد- هذا الجار هو عتبان بن مالك- وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوما، وأنزل يوما، فإذا نزلت جئت بخبر ذلك اليوم من الوحي، وإذا نزل فعل مثل ذلك.
فالقضية تهمه وتشغل باله، فحياته لم تقف، بل يعمل، ويتاجر، ويتزوج، لكنه حريص كل الحرص أن يعرف كل نقطة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن من يسمع عن قصة سيدنا عمر، أو يسمع عن تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم يظن أن سيدنا عمر ليله ونهاره مع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يتركه لحظة من لحظات حياته، ولكن الأمر على عكس ذلك، فكانت لهم حياتهم الخاصة، ولكن في نفس الوقت كان حريصًا على معرفة كل شيء في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
لماذا لا نتشبه بهم، ونقتفي أثرهم؟
وإذا كنت تختلق أعذارًا بأنه ليس لديك وقت لتفعل كما كان يفعل سيدنا عمر وسيدنا عتبان بن مالك، فمن الممكن أن تقرأ في السنة، وتنقل ما قرأته لجارك، وينقل لك ما قرأه، وتسطيعون أن تقتسموا فروع العلم المختلفة، وتدارسوها، وبذلك تسطيع معرفة منهج، وسنة النبي صلى الله عليك وسلم.
إن عمر بن الخطاب وهو من هو، كان يتعلم، ويتعاون لمعرفة السنة النبوية من عتبان بن مالك، يتعاون معه على البر والتقوى، مع أن هذا الجار كثير منا لا يعرفه، فمن منا يعرف عتبان بن مالك؟
فليس أبا بكر، أو عثمان، ومع ذلك سيدنا عمر كان يستفيد منه، وأكيد عمر رضي الله عنه كان يفيده.
ولنتذكر قصة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كم كان حريصًا على السنة! وكان ينام على باب بيت الصحابة، يحكي عن نفسه، فيقول فيما رواه الدارمي بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول عن نفسه:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت لرجل من الأنصار:
يا فلان هلم فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير.
قال: واعجبا لك يا ابن عباس أترى الناس يحتاجون إليك، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟
فيقول عبد الله بن عباس: فترك ذلك، وأقبلت أنا- يعني على المسألة- فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه، وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول:
يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ ألا أرسلت إلي فآتيك. فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك.
فأسأله عن الحديث. قال ابن عباس رضي الله عنهما:
فبقي الرجل، حتى رأني، وقد اجتمع الناس علي.
مرت الأيا وعبد الله بن عباس أصبح من علماء المسلمي واجتمع عليه الناس فقال الرجل الانصاري:
كان هذا الفتى أعقل مني.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول عن نفسه:
إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة.
يستعجب الناس من رواية أبي هريرة لكل الأحاديث التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أكثر من سبعة آلاف حديث، حتى من عاصره كان يستعجب من هذا الكم الضخم الذي رواه أبو هريرة فقد أسلم في سنة سبعة من الهجرة، لم يصاحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أربع سنين فقط، لكنه روى أكثر من سبعة آلاف حديث من صحبة أربع سنين فقط مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أكثر من روى الصحابة، روى أكثر من كل الصحابة الذين عاشوا مع الرسول عشرين سنة، وأكثر من عشرين سنة،
فيقول: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160].
تحذير خطير جدا للذي يكتم آيات الله عز وجل، أو يكتم أي علم وصل عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبو هريرة يخاف من هذا التحذير، فكل معلومة عرفها من الرسول صلى الله عليه وسلم أحب أن يقولها، فقال كل الأحاديث التي عرفها، وكيف تسنى لأبي هريرة معرفة هذا الكم الهائل من الأحاديث عن غيره من الصحابة؟
يفسر ذلك أبو هريرة بقوله:
إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق- يعني التجارة- وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل بأموالهم، وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني.
فكان من الفقراء المحتاجين رضي الله عنه وأرضاه من أهل الصفة، فكان أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه يسد ثغرة مهمة جدًا، وهي نقل الأحاديث النبوية بمفرده كما ذكرنا أكثر من سبعة آلاف حديث، فجلوسه مع النبي صلى الله عليه وسلم كان مفيدًا جدا، ولكن لم يتفرغ كل الصحابة تفرغ أبو هريرة, بل عملوا في سد ثغرات أخرى، وليس المطلوب منك أن تكون كأبي هريرة، وتفرغ نفسك تفرغًا تامًا، وتترك أعمالك، وتجارتك، ولكن يتعاون كل المجتمع على سد كل الثغرات، فالصحابة لم يتفرغوا كلهم لنقل الحديث كأبي هريرة، لكنهم تعاونوا ليستفيدوا من بعضهم البعض، والصحابة لم يكن عندهم مانع أن يقطعوا المسافات، والمسافات، والبلاد، والبلاد، من أجل معرفة رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية من القضايا، حرص عجيب على السنة، وهذا المعنى هو الذي نريد ترسيخه فينا في هذا الفصل.
روى البخاري عن عقبة، عن الحاكم رضي الله عنه وأرضاه أحد الصحابة كان يعيش في مكة، والرسول كان يعيش في المدينة، فتزوج عقبة ابنة أبي إيهاب بن عزيز رضي الله عنه، فأتته امرأة، قالت له:
إيه، إني قد أرضعت عقبة، والذي تزوج.
فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتيني ولا أخبرتيني قبل الزواج.
لكنه كان تزوج، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ذهب من مكة للمدينة ليسأله صلى الله عليه وسلم، فسأله ولم يكن يعرف ذلك قبل الزواج، وتزوج، وبعد ما تزوج عرف، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:
كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ.
يعني أنت عرفت، ثم أمره أن يفارقها، ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره، الشاهد هو حرص الصحابة الشديد على رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي الشرع، لم يسأل أحد الصحابة في مكة، وينتهي الأمر، ولكنه يسافر من مكة للمدينة خمسمائة كيلوا في الصحراء؛ لكي يسأل عن مسألة واحدة، فالمسألة مهمة، وتستلزم، لكن ليس كل إنسان يحرص هذا الحرص على معرفة رأي الدين.
قضايا ضخمة جدا في حياة الناس، لكن ببساطة شديدة تؤخذ الأمور، نحن نحتاج أن نبذل مجهودا ومجهودا كبيرا لنعرف رأي الدين في كل قضية من القضايا مهما صغرت هذه القضية في أعيننا، لا بد من معرفة رأي الدين، لا يوجد أمر صغير، وأمر كبير، بل يوجد أمر حلال، وأمر حرام، هذا ما نريد فهمه ودراسته من حياة الصحابة.
روى الإمام أحمد، والطبراني، وأبو يعلى رحمهما الله جميعا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: بلغني حديثا عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرجل سيدنا جابر، ويعيش في المدينة المنورة، سمع أن هناك حديثا قاله أحد الصحابة في الشام، وكان عبد الله بن أنيس رضي الله عنه وأرضاه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش في الشام، ويريد سيدنا جابر بن عبد الله أن يسمع بنفسه الحديث من عبد الله بن أنيس، وهذا ما يسميه علماء الحديث بعلو السند، بدلًا ما يسمع من فلان عن فلان عن عبد الله بن أنيس، بل يسمع منه مباشرة، فيكون أوثق في المعرفة، يقول:
فاشتريت بعيرا، ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهرا، حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس الأنصاري رضي الله عنه، فقلت للبواب:
قل له جابر على الباب.
فقال: ابن عبد الله؟
فقال: نعم.
فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني، واعتنقته، فقلت:
حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه.
فقال عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يُحَشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَوْ قَالَ: الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا".
فقالوا: وما بهمًا؟
فقال: لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهَ حَتّى اللَّطْمَةُ.
فكيف الحال بمن يظلم، ويعذب، ويشرد، بدون وجه حق؟
يقول عبد الله بن أنيس: فقلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلا بهما؟
قال صلى الله عليه وسلم: "بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ".
فأخذه جابر بن عبد الله، ورجع إلى المدينة المنورة، حديث واحد يا ترى عندنا كم كتاب في المكتبة فيهم أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم نقرأها، ونحتج بأنه لا وقت لدينا، فكيف استطاع جابر بن عبد الله أن يذهب إلى الشام في شهر ويعود في شهر من أجل حديث واحد؟
الفارق أنه يعطي له أهمية كبيرة، أحيانًا يفرغ الإنسان منا نفسه أسبوعا كاملا ليذهب فيه للمصيف؛ لأنه يعرف قيمة المصيف, تجد عنده ساعتين يشاهد المباراة؛ لأنه يعرف قيمة المباراة، ومن الممكن يفرغ نفسه نصف يوم ليشاهد المباراة في الإستاد لأن الموضوع له قيمة عنده.
فعلى قدر أهمية الموضوع تجد له وقت، فلو أعطيت لدراسة السنة، وعلم رأي الدين في قضية من القضايا أهمية ستجد وقت تعمل كجابر، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
روى أحمد، والبيهقي عن عطاء بن أبي رباح رحمه الله- عطاء من التابعين- يقول:
إن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه رحل إلى عقبة بن عامر رضي الله؛ ليسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم- أبو أيوب يعيش في المدينة المنورة، وعقبة بن عامر يعيش في مصر- يقول: فلما قدم إلى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، وكان أمير مصر في ذلك الوقت، خرج إليه، فعانقه، ثم قال له مسلمة:
ما جاء بك يا أبا أيوب؟
قال: حديث سمعه عقبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن، دلني على عقبة أسمع منه الحديث.
فقال: نعم.
فذهب معه لسيدنا عقبة رضي الله عنه، قال عقبة لما رأى أبا أيوب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى كُرْبَتِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
هذا السطر الذي من أجله جاء أبو أيوب من المدينة المنورة إلى مصر، فيقول راوي الحديث: ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعًا إلى المدينة.
لم يقعد في مصر، ولا لحظة، الهدف عنده واضح جدا، الهدف عنده أن يعرف السنة، ليس لديه وقت يصرفه في حاجة أخرى، هؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ليس المقصود أن تسافر من بلد لبلد لتتعلم السنة، وإن كان هذا أحيانا كثيرا جدًا يكون مطلوب، لكن المقصود منك أن تكون واسع الاطلاع على الكتب الموجودة في بيتك، وتقرأها، وتشتري إن لم يكن عندك في البيت، احضر درس العلم في مكانك الذي تسكن فيه، واسأل الشيخ الذي تعرفه عن القضايا التي تعرض لك في حياتك من قضايا الإسلام، وما أكثر هذه القضايا؛ لأن هذه القضايا فيها عمرك كله، كل صغيرة وكبيرة في حياتك، هذا هو المقصود من سماع هذه الحكايات عن جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
الصحابة كانوا يقاطعون من لم يلتزم بالسنة، والمقصود بمقاطعة من لم يلتزم بالسنة: هو مقاطعة من يصر على مخالفة نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وليس من يترك النافلة.
السنة هي حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو النواهي التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصحابة حين يعرفون أحدا يصر على مخالفة نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقاطعونه.
روى البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أنه رأى رجلا يقذف- يعني يرمي طيرا بحجر بالنبلة- بالمقلاع، فقال له: لا تقذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن القذف، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّه لَا يُصَادُ بِهِ صَيْدٌ، وَلَا يُنْكَى بِهِ عَدُوٌّ".
يعني تعلمه لن يفيدك في الصيد، ولن ينفع في الجهاد، لكنها قد تكسر السن، وتفقأ العين، فليس هناك أي مصلحة في استعمال هذا القذف، والطير الذي قذف بالحجارة، لو وقع ميت، لن ينفع أكله، الشرع يسميه وقيذا، وأكل الوقيذ محرم؛ لأنه مات بقوة الرمي، لم يمت بحدها، فلا توجد مصالح في الموضوع، فالله سبحانه وتعالى لما ذكر المحرمات في الطعام في سورة المائدة ذكر منها {وَالمَوْقُوذَةُ} [المائدة:3] ، يعني فهو من أكثر من وجه ممنوع، فعبد الله بن مغفل رأى الرجل يقذف، فأمره ألا يقذف، وفسر ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رأه بعد ذلك يقذف، بعد ما نصحه، وأمره، ونهاه، فقال له:
أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القذف، أو كره القذف، وأنت تقذف، لا أكلمك كذا وكذا.
في رواية مسلم، قال: لا أكلمك أبدا.
في الأول نصحه، ثم لما رآه يقوم بعمل في نظره كبير جدًا، رآه يخالف السنة، قرر أن يقاطعه.
ومن هنا أجاز العلماء أن يُقَاطع الذي يخالف السنة عمدا، حتى، وإن كانت المقاطعة أكثر من ثلاثة أيام، طبعا بعد أن يقدم له النصح والإرشاد.
اتباع دون سؤال عن الحكمة
الشيء العظيم في الصحابة أنهم كانوا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دون أن يسألوا عن الحكمة، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر الأسود، ولا يعرف الحكمة من ذلك يقول:
إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
هذه الجملة أسلوب حياة، فالرسول إن قال شيئا، أو فعله، أعمله حتى لو لم أكن أفهم الحكمة.
فالسنة كانت منهج حياة؛ لذا كانت الحياة سهلة عند الصحابة، ومواطن الحيرة كانت قليلة جدا، يصبح كل الهم هو البحث عن فعل الرسول، أو قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا عرفنا رأيه تتبعناه.
روى البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: فما لنا وللرَّمَل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله.
والرَّمَل هو المشي السريع مع تقارب الخطى، يعنى من ضمن مناسك الحج هذا الكلام أول ما فُعِل كان في عمرة القضاء سنة سبعة هجرية، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يري الكفار قوة المسلمين، فأمر الصحابة بالكشف عن الأكتاف، وبالرَّمَل السريع؛ ليُخَوّف المشركين من قوة المسلمين، فظن عمر انتهاء الأمر الآن؛ لأنه لا يوجد مشركون، كل الجزيرة أسلمت وكل الحجاج مسلمون، فليس له شأن، ثم رجع لنفسه بسرعة، وقال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا نحب أن نتركه.
حتى لو قال العقل غير ذلك، لا بد من اتباع عمل الرسول صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب- قبل تحريم الذهب على الرجال- فاتخذ الناس خواتيم من الذهب.
لم يقل لهم البسوا، لكن الصحابة حريصة على أن تقلد الرسول في كل شيء، ثم بعد ذلك قال: إِنِّي اتَّخَذْتُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، فَنَبَذْتُهُ.
ثم قال: إِنِّي لَنْ أَلْبَسَهُ أَبَدًا.
حُرّم على الرجال، فنبذ الناس خواتيمهم، فالموضوع في غاية البساطة عند الصحابة، فهم لم يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة من لبس الخاتم حينما لبسه، ولم يسألوه عن الحكمة لما نبذه.
روى أبو داود، وأحمد، والدارمي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: "مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إِلْقَاءِ نِعَالِكُمْ؟"، قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرٌ. أو قال: أَذًى".
خلعهم صلى الله عليه وسلم لسبب مؤقت، وهذا السبب ليس عند الصحابة. لكن الشاهد هو حرص الصحابة على الاتباع، لم ينتظروا إلى انتهاء الصلاة، ثم يسألوا، فبمجرد رؤية الرسول يفعل شيئا، يعملونه.
هناك كثير يظنون أن هذا الكلام مبالغة من الصحابة، أبدا الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مجرد شخص معجبين به، أو انبهر الصحابة بأفعاله, فالرسول صلى الله عليه وسلم رسول من الله رب العالمين، كل خطوة من خطواته بأمر من الوحي، أو مراجعة بالوحي، ففي تقليده نحن نعمل ما أراده ربنا سبحانه وتعالى منا، وحينما نعمل ما أراده ربنا سبحانه وتعالى نسعد في الدنيا، ونسعد في الآخرة إن شاء الله، وندخل الجنة التي هي منتهى أحلام المؤمنين، لهذا كان الصحابة يحرصون جدا على تقليد الرسول في كل حركة من حركاته صلى الله عليه وسلم الرسول، وكان صلى الله عليه وسلم حريص جدا على ترسيخ هذا المعنى في قلوب، وعقول الصحابة، فتربى الصحابة على هذه الصورة.
وهذا الموقف خير دليل على اتباع أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم أخرج جيشًا لحرب الروم قبل موته بأيام قليلة، ثم مات صلى الله عليه وسلم، وارتدت جزيرة العرب بكاملها إلا ثلاث مدن وقرية. وتخوف الناس على المدينة، بل تخوفوا على الإسلام، ولكن في هذا الجو المشحون، والمدينة وضعها في منتهى الخطورة، والجزيرة كلها مرتدة، وقد تهجم على المدينة في أي لحظة، في هذا الجو المشحون أصر أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه على إنفاذ جيش أسامة بن زيد لمحاربة الروم، ولم يوجهه لمحاربة المرتدين، أو لحماية المدينة، بل عمل على إنفاذه لمحاربة الروم، وإن كان خطر المرتدين على المدينة أوقع، ولكن لا بد من إنفاذه؛ لأن مُخْرِجه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت الناس تخاطب الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليترك الجيش في المدينة لحمايتها، ولكنه أَبَى، وقال:
لو أن الطير تخطفنا، ولو أن السباع حول المدينة، ولو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين ما رددت جيشًا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده.
كيف يأمر الرسول بأمر، أو يعمل شيئًا، وأخالفه، وهذا من فهمه رضي الله عنه وأرضاه، ومن أعظم صفات الصديق رضي الله عنه وأرضاه, دقة الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كلمه الناس، وقالت له:
لو عزلت أسامة بن زيد من على رأس الجيش، ووضعت رجلًا آخر كبيرًا في السن مكانه.
وكان يكلمه عمر بن الخطاب، فقال له كلمة شديدة جدا، قال له:
ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، يؤمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزعه أنا.
فكل خطوات الصديق كانت موفقة، لأنه كان يرى بعين الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن الصحابة كانت تقلد الرسول صلى الله عليه وسلم في أمور لا يجب فيها التقليد، كانت هناك أمور عفوية تلقائية، فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أو اثنتين، وقد يفعله الإنسان من غير قصد ولا تعمد، مثل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عبد الله بن عمر كان يوقف القافلة، وينزل من على ناقته يصلى في بقعة ما أثناء سفرة ركعتين، فاستعجب الناس من هذا الموقف، ولما سئل في ذلك، قال:
في هذا المكان صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا المكان ليس فيه فضل معين، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين، ركعتين حاجة، أو ركعتين استخارة، لكن سيدنا عبد الله بن عمر رأى الرسول يفعل أمرًا، فهو يقلده في كل نقطة،
ولا نقلل من هذا الأمر، ولكن ندرك حرصه رضي الله عنه في تتبع كل نقطة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، دارت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم دورتين في مكان قبل أن ينيخها، فكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا وصل إلى ذلك المكان أدار ناقته دورتين قبل أن ينيخها، فهو مادام قد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، يفعل مثله.
وهذه مبالغة، لكنه مأجور عليها إن شاء الله؛ لأنه حريص على الاتباع، ولا يترك أي أمر، من المفروض أنه إذا كان يتبع في هذه الأمور، فهو من المؤكد يتبع في كل أمر، وهذا هو المهم، وهذا هو السلوك الذي من الممكن أن ينجي صاحبه، وهو ما نريد تعلمه.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب فقال للناس بعد ما صعد على المنبر، قال لهم: "اجْلِسُوا".
بعض الصحابة كانوا واقفين، فقال لهم: اجلسوا.
فسمع ذلك ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وكان على باب المسجد، فجلس على باب المسجد، يوجد مكان بداخل المسجد، لكنه سمع كلمة اجلسوا، فنفذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجلس على باب المسجد، فرآه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له: "تَعَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ".
قد أصبح في تكوين عبد الله بن مسعود، أنه لا يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا استعجبتم من كل هذه الأمثلة، أختم به وهو أعجب من كل ما مضى روى مسلم، وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ذات يوم إلى منزله، فأخرج إليه فلقا من خبز- يعني كسرات من خبر- فقال صلى الله عليه وسلم ينادي على زوجاته، فقال: مَا مِنْ أُدْمٍ.
والأُدم هو غموس، وفي رواية إدام.
فقالوا: لا إلا شيئا من خل.
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:" فَإِنَّ الْخَلَّ نِعْمَ الْأُدْمِ"، وفي رواية: "نِعْمَ الْأُدْمِ الْخَلُّ، نِعْمَ الْأًدْمِ الْخَلُّ".
وانتتهت القصة، وجلس سيدنا جابر يأكل خلًا مع سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم. وسمع سيدنا جابر هذه الكلمة، قال:
فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وسلم.
مع أنه شيء فطري يختلف من إنسان لإنسان، لكنه سمع الرسول يمدح في الخل، ويقول: نعم الأدم الخل.
الصحابة كانوا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعلمون أن اتباعه هو خير الدنيا، والآخرة، وأنه لا مناص من اتباعه حتى يدخلوا الجنة، وأنهم لو اتبعوا أي مخلوق غيره، فلا سبيل إلى دخول الجنة، إلا خلفه صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك الصحابة كانوا يتبعون الرسول؛ لأنهم كانوا يحبونه حبا لا نستطيع أن نصفه، حتى لا يتخيل أحدنا أنه يخالف سنته، امتنزج حبه بدمائهم، ولحومهم، وعظامهم صلى الله عليه وسلم، فأصبح وكأنه فطري مزروع فيهم، فهم يحبونه، ولا بد من أن يتبعوه، وفوق ذلك، وأعظم منه، أنهم كانوا يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يحبون الله عز وجل الذي خلقهم، ورزقهم، وأحياهم، ثم يميتهم، وبعد الموت بعث، وبعد البعث حساب، والذي يحاسب هو الله عز وجل، والذي بيده الجنة والنار هو الله عز وجل، والذي عرفنا سبيل حب الله عز وجل، هو الله عز وجل قال في كتابه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
فسبيل حب الله عز وجل هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لا نجاة والله بغير اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بسنة نبينا، وحبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يضع أقدامنا على الطريق القويم، وأن يجمعنا معه، ومع صحابته في أعلى عليين.
دكتور/ راغب السرجانى
تعليق