إن تاريخنا الإسلامي مليءٌ بقصص نساء يَعجِز عن أفعالهن - للأسف - كثيرٌ من رجالات اليوم! وليس هذا مجال حديثنا، ولكن غايتنا الآن الإبحار في سيرة هؤلاء النسوة،
(د. خاطر الشافعي)
***
يتبع
منقول
التعديل الأخير تم بواسطة عطر الفجر; الساعة 12-05-2017, 05:34 AM.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد:
فالمتأمِّل لما كتبناه سابقًا من مقالات ( أين نحن من أطفالالسلف ؟!)، تحاصره تساؤلاتٌ شتى عن تلك النماذج المضيئة، التي أثْرَت تراثنا الأخلاقي، ويأخذه شغفٌ كبير لمعرفة أي بطونٍ حملت بتلك النماذج الفريدة، التي أهدت للإنسانية قِيَمًا نبيلة، وتُلح عليه رغبة عارمة لمعرفة أي بيوتٍ أخرجت هؤلاء العظام رغم حداثتهم، وأي أمهاتٍ أرضعنهم الصلاحَ والتقوى قبل اللبن، ويجد المتأمل لذلك الفرقَ الشاسع بين ما كُنَّ عليه، وما هو كائنٌ من كثيراتٍ من أمهات اليوم.
إن تاريخنا الإسلامي مليءٌ بقصص نساء يَعجِز عن أفعالهن - للأسف - كثيرٌ من رجالات اليوم! وليس هذا مجال حديثنا، ولكن غايتنا الآن الإبحار في سيرة هؤلاء النسوة، وساعتها لن نجد غرابةً ولا دهشةً من معرفة (لماذا تميز أطفال السلف؟)، (ولماذا تعثَّر أطفال الخلف؟).
ولنبدأ رحلتنا مع (امرأة من أهل الجنة) شاهدَها الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم!
إنها امرأة من أهل الجنة تمشي على الأرض.
يا ألله! فما أروع أن يُبشر رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى إنسانًا بالجنة، فيعيش مطمئنًّا أنه حين يلاقى ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون، سيكون مأواه جنة عرضُها كعرض السموات والأرض أعدت للمتقين!
إنها إحدى نساء الأنصار، بايعت رسول الله فأوفت البيعة، إنها من أوائل من أدرك وأقر أنه "لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله" على وجه البسيطة، إنها صحابية جليلة، قد لا يعرفها ولا يعرف قدْرَها الكثيرون على الرغم مما في سيرتها من عبرةٍ وقدوة.
إنها امرأة تركت زوجها من أجل الإسلام!
أسلمَتْ كغيرها من السابقين عندما سمعت عن دين الحق في يثرب قبل هجرة الرسول، وكان من أوائل من وقف في وجهها زوجها مالكٌ، الذي غضب وثار عندما رجع من سفره وعلم بإسلامها، ولما سمع مالك بن النضر زوجته تُردد بعزيمة أقوى من الصخر: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله"، خرج من البيت غاضبًا؛ بل خرج من المدينة كلها؛ لأنها أصبحت أرض إسلام لا مكان لكافر مثله بها، ومات بالشام، ضحت هذه المؤمنة بحياتها الزوجية، وبزوجها، وولدها الوحيد "أنس"؛ من أجل دينها وثباتها على مبدئها، ولم تتردد أو تتراجع!
حينما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، كانت الأنصار ومن كان فيها من المهاجرين مشغولين باستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - فرحين مستبشرين بمقدَمِه - صلى الله عليه وسلم - فأقبلت الأفواج لزيارته - صلى الله عليه وسلم - فخرجت من بين هذه الجموع، ومعها ابنها أنس - رضي الله عنهما - فقالت:
"يا رسول الله، إنه لم يبقَ رجل ولا امرأة من الأنصار، إلا وقد أتحفتك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أُتحفك به إلا ابني هذا، فخذه فليخدُمْك ما بدا لك".
فكان ولدها هذا "أنس بن مالك" الذي اشتهر بخادم رسول الله، الذي لازم الرسول، وتعلم على يده، وروى عنه من الحديث الكثيرَ.
تقدم لخطبتها بعد وفاة زوجها الأول "أبو طلحة زيد بن سهل"، وكان لا يزال مشركًا، وعرض عليها مهرًا كبيرًا، فترده؛ لأنها لا تتزوج مشركًا تقول: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركًا، أمَا تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينحتها آل فلان،وأنكم لو أشعلتم فيها نارًا لاحترقت؟ فعندما عاود لخطبتها قالت: "يا أبا طلحة، ما مثلك يُرَدُّ، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم، فذاك مهري، لا أسأل غيره"، فانطلق أبو طلحة يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسلم ويتشهد بين يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتزوجت منه - وهكذا دخل أبو طلحة الإسلام، وحسُن إسلامه على يد زوجته تلك الصحابية الرائعة.
خرج زوجها أبو طلحة، وترك ولده وولدها مريضًا، فمات الولد في غياب والده، وعندما عاد أبو طلحة سأل عن ابنه المريض، لم تخبره بوفاته! بل تزيَّنت، وقدَّمت له العَشاء، ونال منها ما ينال الرجل من امرأته، وبعدها أخبرتْه بوفاة فِلْذَة كبدها وكبده، قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتَهم أهل بيت، فطلبوا عاريتَهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسِب ابنك!
فغضب، وعجب كيف تُمَكِّنه من نفسها، وولدُها ميت؟! وخرج يشكوها لأهلها ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستقبله النبي باسمًا، وقال: ((لقد بارك الله لكما في ليلتكما))، فحملت بولدها (عبدالله بن أبي طلحة) من كبار التابعين، وكان له عشرة بنين كلُّهم قد ختم القرآن، وكلهم حمل منه العلم!
جاهَدَت مع الرسول في غزواته، ففي صحيح مسلم، وابن سعد في "الطبقات" بسند صحيح أن أم سليم اتخذت خَنجرًا يوم حُنين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله، هذه أم سليم معها خنجر، فقالت: يا رسول الله، إن دنا مني مشرك بَقَرْتُ به بطنه! ويقول أنس - رضي الله عنه -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى".
قال رسول الله عنها: ((دخلْتُ الجنة، فسمعت خشفة "حركة"، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الرُّمَيْصَاءُ بنت ملحان أمُّ أنس بن مالك)).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أُرِيت أني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة)).
لنرى كيف كانت تضحيتها بزوجها وولدها في سبيل إسلامها، ولنرى حجم تقصيرنا، ولنجبر عيوبنا، قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، فهل نحن فاعلون؟!
التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 03-04-2015, 02:22 PM.
فقد كانت أسماءُ بنت عُمَيس من المهاجراتِ الأُوَل، فهاجرت مع زوجها جعفر إلى الحبشة، وذاقت مرارةَ الغربة القاسية ولوعتها، وكان زوجُها خطيب المسلمين أمام ملك الحبشة - النَّجاشي آنذاك (أصحمة).
وفي أرض الغربة ولَدَت لزوجها جعفر أبناءَه الثلاثة: عبدالله، ومحمد، وعونًا، وكان ولدها عبدالله شبيهًا بأبيه جعفر، وأبوه شبيهًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان ذلك يُسعِدها ويُحرِّك مشاعر الشوق عندها لرؤية النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول لجعفر: ((أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي)).
ولمَّا أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المهاجرين بالتوجُّه إلى المدينة كادت أسماءُ تطيرُ من الفرح، فها هو الحُلْم قد تحقَّق، وصار للمسلمين دولتُهم، فسيكونون جنودًا في جيش الإسلام لنشر دعوته وإعلاء كلمة الله.
وهكذا خرجت أسماءُ - رضي الله عنها - مع الرَّكْب في هجرته الثانية من أرض الحبشة إلى المدينة، وما إن وصل الوفد المهاجر إلى المدينة حتى سمِع المسلمون بسقوط خيبر، وانتصار المسلمين، وارتفع التكبير من كل مكان فرحًا بانتصار الجيوش، وبعودة المهاجرين من الحبشة.
ويتقدَّم جعفر من الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فيتلقَّاه بالبِشْر ويُقبِّل جبهته، ثم يقول: ((والله ما أدري بأيِّهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!)).
ودخلت أسماء على أم المؤمنين حفصةَ بنتِ عمرَ - رضي الله عنهما - تزورُها، فدخل عمر - رضي الله عنه - على حفصةَ وأسماءُ عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: مَن هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، قال عمر: هذه الحبشية البحرية، قالت أسماء: نعم، قال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكم، وغضِبَت أسماء ولم تتمالك نفسها، فقالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يُطعِم جائعَكم، ويعظ جاهلَكم، وكنا في دارٍ أو في أرض البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسكتت هُنَيْهة ثم تابعت: وايمُ الله، لا أطعم طعامًا ولا أشرب شرابًا حتى أذكُرَ ما قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن كنا نؤذَى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأسأله والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت له أسماء: يا نبي الله، إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فما قلتِ له؟!))، قالت: قلت له: كذا وكذا، فقال - عليه أفضل الصلاة والسلام -: ((ليس بأحقَّ بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان))، وغمرت السعادة قلبَ أسماءَ بشهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- شاع خبر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين الناس، وبدأ الناس يَفِدُون على أسماء يستوضحون الخبر، فتقول أسماء: فلقد رأيت أبا موسي وأصحاب السفينة يأتوني أرسالاً يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هُمْ به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم. ولما توجَّه جيش المسلمين إلى الشام، كان من بين أمرائه الثلاثة زوج أسماء (جعفر)، وهناك في أرض المعركة اختاره الله من بين العديد من الجيش ليفوز بالشهادة في سبيله، ويأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيتِ أسماء، ويسأل عن الصبيان الثلاثة فيضمُّهم إليه ويشمُّهم ويمسح رؤوسهم، وتذرف عيناه الشريفتان الدموع، فقالت له أسماء، والجزع قد ملأ كيانها: بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: ((نعم، أصيبوا هذا اليوم))!
ولم تتمالك أسماءُ نفسَها من البكاء، فواساها -صلى الله عليه وسلم- وقال لها: ((تسَلَّي ثلاثًا ثم اصنعي ما شئت))، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - لأهله: ((اصنعوا لأهل جعفر طعامًا، فإنه قد جاءهم ما يشغَلُهم)).
ولم يكن للمرأة المؤمنة إلا أن تُجفِّف الدموع وتصبر، وتحتسب عند الله الأجر العظيم، بل باتت تتمنَّى أن تكون مع زوجها لتفوزَ بالشهادة مثله، وخاصةً عندما سمعت أحد رجال بني مرة بن عوف يقول - وكان في تلك الغزوة -: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فَرَسٍ له شقراء، ثم عقرها، ثم قاتل حتى قُتِل وهو يقول:
يا حبَّذا الجنة واقترابُها
طيبةً وباردًا شرابُها
والرُّوم رومٌ قد دنا عذابُها
كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها
ثم أخذ اللواءَ بيمينه فقُطِعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضُدَيْه حتى قتل - رضي الله عنه.
وتُدرِك أسماء - رضي الله عنها - معنى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لولدِها: ((السلام عليك يا بن ذي الجَناحين))، فقد أبدله الله عن يدَيْه المقطوعتين جَناحين يطير بهما حيث شاء!
تُرى كيف ستتصرَّف أسماء؟ هذا ما سنعرفه في الجزء القادم - إن شاء الله تعالى.
التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 03-04-2015, 02:22 PM.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وبعد: فسوف تعطينا الآن أسماء درسًا في الصبر، فهي لم تجزَعْ ولم تيئس؛ بل انكبَّت الأم الصالحة الصابرة على تربية أطفالِها الثلاثة، وتنشئتهم على الصلاح، ولم تمضِ فترة طويلة حتى تقدم أبو بكر - رضي الله عنه - خاطبًا لأسماءَ، وذلك بعد وفاة زوجته أمِّ رُومان - رضي الله عنها - ولم يكن لأسماء أن ترفُضَ مثل الصِّدِّيق، وهكذا انتقلت إلى بيت الصديق لتستلهم منه المزيد من نور الخُلُق والإيمان، ولتُضفِي على بيته الحب والوفاء.
وبعد فترةٍ من الزواج المبارك منَّ اللهُ عليهما، فرُزِقت منه بولد وهي بذي الحُلَيفة، وهم يريدون حجة الوداع، فأمرها أبو بكر - رضي الله عنه - أن تغتسل ثم أهلَّ بالحج بعد أن سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك.
ثم شهِدت أسماءُ من الأحداث الجِسام الكثيرَ والكثيرَ، وكان أشدَّها وفاةُ سيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم - وانقطاع الوحي من السماء.
ثم شهدت زوجَها أبا بكر خليفةَ المسلمين وهو يواجِهُ أعضل المشكلات يومئذٍ؛ كقتال المرتدين ومانعي الزكاة، وبعث جيش أسامة، وكيف وقف كالطَّوْدِ لا يتزحزح ولا يتزعزع، وكيف نصر الله المسلمين بتلك المواقف الإيمانية الجريئة؟
وكانت أسماء تسهر على راحة زوجِها، وتعيش معه بكل مشاعرها حاملةً معها عبء الأمة الكبير، ولكن ذلك لم يدم طويلاً؛ فقد مرِض الخليفةُ الصِّدِّيق، واشتدَّ عليه المرض، وأخذ العرق يتصبَّب من جبهته فأحسَّ بشعور المؤمن الصادق بدنوِّ أجله، فسارع بوصيته، وكان من جملة ما أوصى به أن تُغسِّله زوجتُه أسماء بنت عميس - رضي الله عنها - وكما عزم عليها أن تُفطِر قائلاً لها: هو أقوى لك.
وشعُرت أسماء بقُرْب الفاجعة، فاسترجعت واستغفرت، وهي لا تميل بنظرها عن وجه زوجها الذي علاه الذبول إلى أن أسلمَ الرُّوح إلى بارئها، فدمعت العين وخشع القلب، ولكنها لم تقل إلا ما يرضي الرب - تبارك وتعالى - فاحتسبت وصبرت، ثم قامت بالمهمَّة التي طلبها منها زوجُها الفقيد؛ حيث كانت محلَّ ثقته، فبدأت بتغسيله وقد أضناها الهم والحزن، فنسيت وصيته الثانية، فسألت مَن حضر من المهاجرين قائلةً: إني صائمةٌ وهذا يومٌ شديد البرد، فهل عليَّ من غسل؟ فقالوا: لا، وفي آخر النهار وبعد أن وُورِي جثمان الصديق تذكَّرت أسماء وصية زوجها الثانية، فقد عزم عليها أن تفطر، فماذا عساها أن تفعل الآن؟ فالوقت آخر النهار وما هي إلا فترة وجيزة وتغيب الشمس ويفطر الصائم، فهل تستجيب أسماء لعزيمة زوجها؟ أم تنتظر لحظات؟!
إن الوفاء للزوج أبَى عليها أن ترُدَّ عزيمة زوجها الراحل فدَعَت بماء وشربت، وقالت: والله لا أتبعه اليوم حنثًا.
ولزمت أسماء بيتها ترعى أولادها من جعفر ومن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - وتحدب عليهم سائلةً الله أن يُصلِحَهم، ويصلح بهم، ويجعلهم للمتقين إمامًا، وهذا غاية ما كانت ترجوه من دنياها غير عالمة بما يُفاجِئُها من القدر المكنون في علم الله، فها هو علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أخو جعفر الطيَّار ذي الجناحين يتقدَّم لأسماء طالبًا الزواج منها وفاءً لأخيه الحبيب جعفر ولصاحبه الصديق - رضي الله عنهما - وبعد تردُّد وتقليبٍ للأمور من كل جوانبِها قرَّرت الموافقة على الزواج من علي - رضي الله عنه - لتتيحَ له بذلك الفرصة لمساعدتها في رعاية أولاد أخيه جعفر.
وانتقلت معه إلى بيته بعد وفاة فاطمه الزهراء - رضي الله عنها - فكانت له خيرَ زوجة صالحة، وكان لها خير زوج في حسن المعاشرة، وما زالت أسماء ترتفع وتسمو في عين علي - رضي الله عنه - حتى أصبح يُردِّد في كل مكان: "كذَّبتكم من النساء الحارقة، فما ثبتت منهن امرأة إلا أسماء بنت عميس".
ويشاهد علي - رضي الله عنه - منظرًا غريبًا، فرأى ولدًا لأخيه جعفر يتشاجر مع محمد بن أبي بكر، وكل منهما يتفاخر على الآخر، ويقول: أنا أكرم منك، وأبي خير من أبيك، ولم يدرِ علي ماذا يقول لهما؟! وكيف يصلح بينهما بحيث يرضي عواطفَهما معًا؟
فما كان منه إلا أن استدعى أمَّهما أسماء، وقال لها: اقضي بينهما، وبفكر حاضر وحكمة بالغة قالت: ما رأيتُ شابًّا من العرب خيرًا من جعفر، ولا رأيت كهلاً خيرًا من أبي بكر، وهكذا انتهت المشاجرة وعاد الصغيران إلى التعانق واللعب، ولكن عليًّا المُعجَب بحسن القضاء بين الأولاد نظر في وجه زوجته العاقلة قائلاً: ما تركتِلنا شيئًا يا أسماء!
وبذكاء حادٍّ وشجاعة نادرة وأدب جم قالت: إن ثلاثةً أنت أخسُّهم خيارًا! ولم يستغرب علي - رضي الله عنه - مقالةَ زوجته العاقلة، فقال لها بكل شهامة ومروءة نادرة: لو قلتِ غير الذي قلتِ لمقتُّكِ!
واختار المسلمون عليًّا - رضي الله عنه - خليفةً بعد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وأصبحت أسماء للمرة الثانية زوجًا لأمير المؤمنين رابعِ الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت أسماءُ - رضي الله عنه - على مستوى المسؤولية كزوجةٍ لخليفة المسلمين.
أما الأحداث العظام، فدفعت بولدَيْها عبدالله بن جعفر ومحمد بن أبي بكر إلى جانب أبيهما لنصرة الحق، ثم ما لبثت طويلاً حتى فُجِعت بولدِها محمد بن أبي بكر، وكان أثر هذا المصاب عليها عظيمًا، ولكن أسماء المؤمنة لا يمكن لها أن تخالف تعاليم الإسلام، فما كان منها إلا أن تجلَّدت واستعانت بالصبر والصلاة على ما ألَمَّ بها، وما زالت تكتمُ غيظَها حتى نزف ثدياها دمًا!
وما كاد العام ينتهي حتى ثقُلَت وأحسَّت بالوهن يسري في جسمها سريعًا، ثم فارقت الحياة وبقيت رمزًا على مدار التاريخ بعد أن ضربت لنا أعظم النماذج في الحكمة والصبر على الشدائد، فهل نحن على الدرب سائرون؟!....
يتبع بحول الله...
"دعواتكم لي بالشفاء"
التعديل الأخير تم بواسطة رسولى أندى العالمين; الساعة 24-03-2015, 09:37 PM.
سبب آخر: تكبير الخط
تعليق