ابن شهاب الزهري شخصية ذات أهمية كبيرة في بداية تدوين علم التاريخ عند المسلمين، حاز على ثقة علماء عصره، وروى عن كبار التابعين وبعض الصحابة، ويعتبر من المؤرخين الأوائل للتاريخ الإسلامي، فلم تقتصر دراساته على السيرة والمغازي، بل تناولت دراسات عهد الخلفاء الراشدين، وشيئا من عهد الدولة الأموية.
نسبه ومولده ونشأته
هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري. وكان أبوه مسلم بن عبيد الله من رواة الحديث الثقات، وممن ساند ابن الزبير في ثورته على الأمويين.
وكان أبو جده عبد الله بن شهاب شهد مع المشركين غزوة بدر، وكان أحد النفر الذين تعاقدوا يوم أحد لئن رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلنَّه أو ليقتلنَّ دونه. وهم: عبد الله بن شهاب، وأبى بن خلف، وابن قمئة، وعتبة بن أبى وقاص.
وأمه أم أهبان بنت لَقِيط بن عروة بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنانة. وأخوه عبد الله بن مسلم كان أسنَّ من الزهرى، ويكنى: أبا محمد. وقد لقي ابن عمر رضى الله عنه، وروى عنه وعن غيره، ومات قبل محمد ابن شهاب الزهرى.
أما سنه وولادته، فلم تُعلم على وجه الصحة لاختلاف المؤرخين فيها، فهي إما سنة 50هـ أو سنة 51هـ أو سنة 52هـ، وقيل بل سنة 58هـ. وقال: نشأت وأنا غلام، ولا مال لي، منقطع الديوان، فكنت أتعلم نسب قومي من عبد الله بن ثعلبة، وكان عالما بنسبهم وهو ابن أختهم وحليفهم.
صفةابن شهاب الزهري
قال سفيان بن عيينة: رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ أُعَيْمَشَ أَحْمَرَ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَفِي حُمْرَتِهَا انْكِفَاءٌ (تغيُّر)، كَانَ يَجْعَلُ فِيهِ كَتَمًا (هو نوع من النبات يخضب به الشعر)، وكان أعَيمِشاً وعليه جُمَيحة، وكان رجلا قصيرا، قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين.
الزهري وطلب العلم
رأى ابن شهاب الزهري عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، وروى عن ابن عمر وسهل بن سعد وأنس بن مالك، ومحمود بن الربيع، وأبى الطفيل عامر وغيرهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين، وعروة بن الزبير، وأبي إدريس الخولاني، وقبيصة بن ذؤيب، وروى عنه مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثورى، وآخرون من أئمة التابعين.
ودخل ابن شهاب الزهري على عبد الملك بن مروان حينما التقي به أول مرة، قال الزهري: فَسَأَلَنِي هَلْ تَحْفَظُ الْقُرْآنَ؟ قلت: نعم، والفرائض والسنن، فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَأَجَبْتُهُ، فَقَضَى دَيْنِي وَأَمَرَ لِي بِجَائِزَةٍ، ورزقٍ يجري وشراء دارٍ قطيعةً بالمدينة. وأعطاه خادما، وَقَالَ لِي: اطْلُبِ الْعِلْمَ فَإِنِّي أَرَى لَكَ عَيْنًا حَافِظَةً وَقَلْبًا ذَكِيًّا، وأت الأنصار من منازلهم؛ قال الزهري: وكنت أخذت العلم عنهم بالمدينة، فلما خرجت إليهم إذا علمٌ جم، فاتبعتهم.
وقال إبراهيم بن سعد: ما سبقنا الزهري بشيء من العلم، إلا أنه كان يشد ثوبه عند صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة. وقال أبو الزناد: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه، علمت أنه أعلم الناس، بعد أن كنا نطوف نحن وإياه معنا الألواح والصحف ونحن نضحك به، وكان يكتب الحديث فيحفظه ثم يمحوه.
وقال صالح بن كيسان: اجْتَمَعْتُ أَنَا والزهري-وَنَحْنُ نَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقُلْنَا: نَكْتُبُ السُّنَنَ، فَكَتَبْتُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ قَالَ: نَكْتُبُ مَا جَاءَ عَنْ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ. قَالَ: قُلْتُ أَنَا: لَيْسَ بِسُنَّةٍ فَلَا نَكْتُبُهُ. قَالَ: فَكَتَبَ وَلَمْ أَكْتُبْ فَأَنْجَحَ، وَضَيَّعْتُ.
الزهري وقوة حافظته
كان الزهري يقول: "ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته". وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأر، ويقول إنه يُنْسِي، وكان يشرب العسل، ويقول: إنه يُذَكِّرُ. وقال: ما استفهمت عالما قط، ولا رددت شيئاً على عالم قط. يعني أنه كان يحفظ ويفهم من أول مرة.
وقال الإمام مالك: حدثني الزهري بحديث طويل فلم أحفظه فسألته عنه مرة ثانية فقال لي: أليس قد حدثناكم به؟ فقلت: بلى، فأردت أن أستخرجه، فقلت له: أما كنت تكتب ما تسمع؟ فقال: لا فقلت: أما كنت تستعيد؟ فقال: لا.
وقال مالك بن أنس حدثنا الزهري بمائة حديث، ثم التفت إليَّ، وقال: كم حفظت يا مالك؟ فقلت: أربعين حديثا، فوضع يده على جبهته، ثم قال: إنا لله، كيف نقص الحفظ؟!
وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشام بن عبد الملك الزهري أن يملي على بعض ولده، فدعا بكاتب فأملى عليه أربعمائة حديث. ثم إن هشاما قال له: إن ذلك الكتاب قد ضاع، فدعا الكاتب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفا.
سعة علم ابن شهاب الزهري
قال علي بن المديني: له نحو ألفى حديث. وقال أبو داود: جميع حديث الزهري ألفا حديث ومائتا حديث نصفها مسند. وقال الليث بن سعد: ما رأيت عالما قط أجمع للعلم من ابن شهاب، لو سمعته يحدث في الترغيب، لقلت ما يحسن إلا هذا؛ وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتب، لقلت ذلك؛ وإن حدث عن الأعراب والأنساب لقلت إلا هذا. قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن شيء، فقال: ما بقي أحد فيما بين المشرق والمغرب أعلم بهذا مني.
وكان الزهري يقول: مكثت خمسا وأربعين سنة أنقل أحاديث أهل الشام إلى الحجاز، وأحاديث أهل الحجاز إلى الشام، فما أجد أحدا يطرفني بحديث لم أسمعه. وقال ابن أ خي الزهري: إن عمه الزهري جمع القرآن في ثمانين ليلة. وروي عن أحمد بن صالح أنه قال: كان يقال: فصحاء زمانهم ثلاثة: الزهري، وعمر بن عبد العزيز، وموسى بن طلحة بن عبيد الله [*].
سخاء ابن شهاب الزهري
قال الليث بن سعد: وكان من أسخى الناس، كان يعطي كل من جاءه وسأله، حتى كان يقترض من عبيده ولا يرى بذلك بأسا، فقيض الله له على قدر صبره واحتماله: إما رجلا يهدي له ما يسع السائلين، وإما رجلا يبيعه بنظرة، وكان يطعم الناس الثريد في الخصب وغيره ويسقيهم العسل، وكان يسمر مع أصحابه على العسل.
قيل للزهري: إن الناس لا يعيبون عليك إلا كثرة الدين؛ قال: وكم ديني؟ إنما ديني عشرون ألف دينار، وأنا ملي المحيا والممات لي خمسة أعينٍ، كل عينٍ منها ثمن أربعين ألف دينار؛ وليس يرثني إلا ابن ابني هذا، وما أبالي أن لا يرث عني شيئا؛ قال: وكان ابن ابنه فاسقا.
وقيل لابن أخى الزهري: هل كان عمك يتطيب؟ قال: كنت أشم ريح المسك من سوط دابة الزهري. وامتدحه رجل مرة فأعطاه قميصه، فقيل له: أتعطي على كلام الشيطان؟ فقال: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر.
وقال له زياد بن أسعد: إن حديثك ليعجبني، ولكن ليست معي نفقة فأتبعك. فقال له: اتبعني أحدثك وأنفق عليك! وقال عمرو بن دينار: ما رأيت الدينار والدرهم عند أحد أهون منه عند الزهري، كأنها عنده بمنزلة البعر، وكان إذا جلس في بيته وضع كتبه حوله فيشتغل بها عن كل شيء من أمور الدنيا، فقالت له امرأته: والله لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر، ولم يزل مع عبد الملك، ثم مع هشام بن عبد الملك، واستقضاه يزيد بن عبد الملك. قال أبو نعيم: كان ذا عز وسناء وفخر وسخاء.
منزلة الزهري عند العلماء
تبوأ الزهري مكانة علمية هامة، وقد أثنى عليه العلماء ثناء عطرا، بل إن بعضه فضله على كثير من علماء عصره المشهورين، قال الشافعي: "لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة". وذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من التابعين من أهل المدينة، وقال: "الزهري ثقة كثير الحديث والعلم والرواية فقيها جامعا". وقال الليث عن جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك من أفقه أهل المدينة، فذكر سعيد بن المسيب، وعروة وعبد الله بن عبد الله، قال عراك: وأعلمهم عندي جميعاً ابن شهاب لأنه جمع علمهم إلى علمه.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما ابن شهاب الا بحر. قال سعيد: وَسَمِعْتُ مكحولًا يقول: ابن شهاب أعلم الناس بسنة ماضية. وقال أيوب: ما رأيت أحدا أعلم من الزهري. فقال له صخر بن جويريه: ولا الحسن؟ قال: ما رأيت أعلم من الزهري. وقال عمرو بن دينار: مثل هذا القرشي ما رأيت قط. وقال علي بن المديني: كان هؤلاء الستة ممن اعتمد عليهم الناس في الحديث: الزهري لأهل المدينة، وعمرو بن دينار لأهل مكة، وأبو إسحاق والأعمش لأهل الكوفة، ويحي بن أبي كثير وقتادة لأهل البصرة.
وقال سفيان بن عيينة: جالست الحسن وغيره، فما رأيت مثل الزهري. وقال الإمام مالك: بقي ابن شهاب، وماله في الناس نظير، وكان إذا دخل المدينة، لم يحدث بها أحد حتى يخرج منها. وقال مالك أيضًا: ما أدركت بالمدينة فقيها محدثا غير واحد، فقلت: من هو؟ قال: ابن شهاب الزهري.
وقد اتفق الأئمة على أن الزهري مات يوم مات وهو أعلم الناس بالسنة، واتفقوا على أنه كان أفقه من الحكم وحماد وقتاده. وقال السمعاني: كان من أحفظ أهل زمانه، وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار، وكان فقيها فاضلا. قال ابن عينية: ما رأيت أنص للحديث من الزهري.
منزلة ابن شهاب الزهري عند الخلفاء
يعد الزهري من العلماء الذين خالطوا خلفاء بني أمية وصاحبوهم وكانت له عندهم منزلة رفيعة، يقول عنه الذهبي: كان رحمه الله محتشما جليلا بزي الأجناد، له صورة كبيرة في دولة بني أمية. ويذكر أنه كان برتبة أمير.
وكان أول من اتصل به الزهري من خلفاء الدولة الأموية عبد الملك بن مروان، فقد ضاق حال الزهري فخرج إلى الشام فجالس قبيصة بن ذؤيب فأرسل عبد الملك إلى الحلقة: من منكم يحفظ قضاء عمر في أمهات الأولاد، قلت: أنا فأدخلت عليه، فقال: من أنت فانتسبت له، فقال إن كان أبوك لنعارا (صياحًا) في الفتن، اجلس، فسأله مسائل، وقضى دينه.
وقد كان الزهري يستغل الأوقات، والفرص المناسبة لتقديم النصح لعبد الملك بن مروان، فحين سأله عبد الملك عمن يسود الأقاليم ذكر أكثر الأقاليم ومن يسودها من الموالي بعلمهم وديانتهم، قال عبد الملك: والله ليسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها، فقال الزهري حينئذ: يا أمير المؤمنين إنما هو أمر الله ودينه، من حفظه ساد ومن ضيعه سقط. وفي هذا لفت انتباه عبد الملك إلى أهمية التمسك بالدين حيث فيه الرفعة والسيادة وفي تضييعه الذل والهوان.
وبالرغم من إنه ورد ما يُشير إلى قدوم الزهري على الوليد بن عبد الملك، ومصاحبته لسليمان بن عبد الملك، إلا أن مكانته عند هشام كانت أعظم، وأثره في عهده أظهر وأكبر، يرجع في ذلك إلى طول المدة التي قضاها الزهري عند هشام، وتقريب هشام له حيث جعله مؤدباً لأولاده.
فعندما حج هشام بن عبد الملك في بداية خلافته سنة 106هـ حج معه الزهري وجعله مؤدبا لأولاده، وبقي الزهري في بلاط هشام حتى توفي أي قرابة عشرين سنة، ومن المؤكد أن يكون للمدة التي قضاها الزهري في بلاط هشام أثر على استقامة هشام وأسرته، فأما هشام فقد اتصف بعدد من الصفات الحميدة كالحلم والأناة وكراهة سفك الدماء ومعاقبة أصحاب الخمور وأهل الغناء.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تلقون أحدا أعلم بالسنة الماضية منه. قال معمر: وإن الحسن وضرباءه لأحياء يومئذ. وقال عمر بن عبد العزيز أيضًا: ما ساق الحديث مثل الزهري، وما أتاك به الزهري بسنده فاشدد يدك عليه.
مرويات الزهري في السيرة والتاريخ
كان الزهري من العلماء الأجلاء، وكان مشهورا بالحفظ، ولذلك كانت له مرويات متعددة، ولقد كان أهم الموضوعات التي تناولها في مروياته: بدء الخلق، وأخبار الأنبياء، وأحداث ما قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وسيرته في العهد المكي، والمدني، وتناولت مروياته كذلك حقبة حكم الخلفاء الراشدين، وطرفاً من حقبة حكم الدولة الأموية.
فيلاحظ أن الزهري قد أخذ أخبار الأنبياء وبدء الخلق عن مجموعة من الرواة أهمهم: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وعروة بن الزبير، والشعبي. كما روى الزهري مرويات قليلة عن فترة ما قبل البعثة، ويلاحظ أن الزهري أخذ رواياته خلال هذه الحقبة من مجموعة من الرواة أهمهم: أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن المسيب، وقبيصة بن ذؤيب، ومجموعها عشر روايات.
ويعتبر الإمام الزهري بحق، من أبرز المؤرخين المسلمين الذين أرخوا لفترتي ما قبل البعثة النبوية وما بعدها، وخاصة ما يتعلق بحياة النبي صلى الله عليه وسلم: سيرته ومغازيه التي توسع فيها، وعنى بها عناية كبيرة، جعلت الكثير من الباحثين يقرون له بالفضل والتقدم في هذا الشأن حيث كان وقد وضع هيكل المغازي، واتبع التسلسل الزمني في دراستها وتثبيت أحداثها على أسس منهجيه لم يسبق إليها
كما تناول الزهري في مروياته حقبة الخلافة الراشدة، ويلاحظ أنه أبرز في مروياته الأحداث الكبرى التي جرت في أواخر فترة الخلافة الراشدة، خاصة حادثة مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وما تبعها من أحداث الفتنة، وصولاً إلى تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه. وأغلب مرويات هذه الحقبة أخذها الزهري عن عروة وسعيد بن المسيب، ويلاحظ أن الزهري يروي بعض الروايات بشكل مباشر دون واسطة خاصة فيما يتعلق بموقعة الجمل وصفين وتنازل الحسن عن الخلافة.
وعلى الرغم أن الزهري كان ملازما للخلفاء الأمويين ومؤدبا ومعلما لأبنائهم، إلا أن رواياته عن هذه الحقبة قليلة ومعدودة، لا تتعدى بعض الأخبار عن مدة حكم بعض الخلفاء وسنهم عند وفاتهم، وقد رواها مباشرة بدون واسطة، ويرجع ذلك إلى اهتمام الزهري بتدوين السيرة النبوية، وتكليف الخلفاء الأمويين إياه بالاهتمام بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الزهري صاحب دراسات وأبحاث في التاريخ والحديث والفقه.
وقد كلَّفه الخليفة عمر بن عبد العزيز أو هشام بن عبد الملك بتدوين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدوَّن ذلك في كتاب حفظ في خزانة الكتب، وكان يكتب ما يسمعه ويجمعه من مشايخه، ولكن للأسف لم يبقَ من مؤلفاته هذه شيء. ومن الروايات التي أوردها عن الحقبة الأموية: سؤال الوليد بن عبد الملك الزهري عن أعمار الخلفاء، وخبر يزيد بن معاوية مع عبد الله بن الزبير، وعُمْر يزيد بن معاوية عند وفاته ومدة ولايته، ومدة حكم الوليد بن عبد الملك، وخبر عن عبد الرحمن بن الضحاك والي المدينة من قبل يزيد بن عبد الملك.
من أقوال ابن شهاب الزهري
- عن معمر قال: سمعت الزهري يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديثا وحديثين.
- قال الزهري: إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة له غلبك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به.
- وقال: للعلم واد، فإذا هبطت واديه فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطعه حتى يقطع بك.
- وسئل الزهري عن الزهد في الدنيا، فقال: هو من لم يمنع الحلال شكره، ولم يغلب الحرام صبره.
- وقال: ما عبد الله بشيء أفضل من العلم.
وقال: إياك وغلول الكتب، قلت: وما غلولها؟ قال: حبسها عن أهلها.
- روى الشافعي عن الزهري قال: حضور المجلس بلا نسخة ذل.
- وقال: لا يوثق للناس عمل عامل لا يعمل، ولا يرضى بقول عالم لا يعمل.
- وقال: آفة العلم النسيان وترك المذاكرة.
- وقال: إذا طال المجلس، كان للشيطان فيه حظ ونصيب.
- وقال: استكثروا من شيء لا تمسه النار، قيل: وما هو؟ قال: المعروف.
- وقال: العبادة هي الورع والزهد، والعلم هو الحسنة، والصبر هو احتمال المكاره والدعوة إلى الله على العمل الصالح.
وفاة ابن شهاب الزهري
توفي الإمام الزهري بعد حياة علمية رفيعة، عن نيف وسبعين سنة ليلة الثلاثاء، لتسع عشرة أو لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، سنة 124هـ على أرجح الأقوال، في قرية أَدَامَى وهي خلف شَغْبٍ وَبَدَا، أول عمل فلسطين وآخر عمل الحجاز وبها ضيعة الزهري، وقد أوصى أن يدفن عن قارعة الطريق، ليمر مار فيدعو له.
وقد مر الأوزاعي بقبره يومًا، فوقف عليه، وقال: "يا قبر كم فيك من علم ومن حكم، يا قبر كم فيك من علم ومن كرم، وكم جمعت رواياتٍ وأحكامًا".
[*] عاب بعض المحدِّثين على الزهري أنه يرسل بعض الأحاديث ولا يسندها، فقد قال يحيى بن سعيد القطان: "مرسل الزهري شرٌ من مرسل غيره، لأنه حافظ، وكل ما قدر أن يُسمي سمى، وإنما يترك من لا يحب أن يسميه". وقال الذهبي: "مراسيل الزهري كالمعضل، لأنه قد سقط منه اثنان ولا يسوغ أن نظن به أنه أسقط الصحابي فقط، ولو كان عنده عن صحابي لأوضحه، ولما عجز عن وصله"، ثم ذكر الذهبي قول الشافعي: "يقول نُحابي، ولو حابينا لحابينا الزهري، وإرسال الزهري ليس بشيء". وقال علي بن المديني: "مرسلات الزهري رديئة".
ومع ذلك لم يعدم الزهري من يدافع عنه من علماء الحديث، ويرد عنه هذه التهمة، ولذلك لما قيل لأحمد بن صالح أن يحيى بن سعيد قال: "مرسل الزهري يشبه لا شيء"، غضب أحمد بن صالح وقال: "ما ليحيى ومعرفة علم الزهري، ليس كما قال يحيى".
وعاب بعض علماء الحديث على الزهري أنه كان مدلسًا، فقد وصفه الشافعي والدارقطني بذلك، ولكن الذهبي أوضح أن تدليسه كان نادرًا، وقد ذكره العلائي في الطبقة الثانية من طبقات المدلسين، وهم من احتمل علماء الحديث تدليسهم، وحكموا على أحاديثهم بالصحة، بسبب إمامتهم وقلة تدليسهم، قال العلائي: وثانيها من احتمل الأئمة تدليسه وخرَّجوا له في الصحيح، وإن لم يصرح بالسماع، وذلك لإمامته أو لقلة تدليسه في جنب ما روى، أو لأنه لا يُدلس إلا عن ثقة، كالزهري والنخعي.
المصادر والمراجع:
- ابن قتيبة الدينوري: المعارف، تحقيق: ثروت عكاشة، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة
الطبعة: الثانية، 1992م.
- الفسوي: المعرفة والتاريخ، تحقيق: أكرم ضياء العمري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة: الثانية، 1401هـ- 1981م.
- ابن حبان: الثقات، الناشر: دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند، الطبعة: الأولى، 1393ه*ـ - 1973م.
- اليافعي: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان، وضع حواشيه: خليل المنصور، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ - 1997م.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ - 1995م.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط
الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثالثة 1405هـ - 1985م.
- ابن كثير: البداية والنهاية، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1407هـ - 1986م.
- علي الصلابي: الدولة الأموية، الناشر: مؤسسة اقرأ – مصر، الطبعة الأولى: 1426هـ - 2005م.
- ابن شهاب الزهري مؤرخا - الجامعة الإسلامية - غزة - عمادة الدراسات العليا - كليةالآداب- قسم التاريخ والآثار.
منقول من موقع قصة الإسلام
تعليق