قَدْ كَانَ دَهْرُكَ إِنْ تَأْمُرهُ مُمْتَثِلاً
فَرَدَّكَ الدَّهْرُ مَنْهِيًّا وَمَأْمُورَا
بِهذا البيتِ يخاطب المعتمدُ بنُ عباد نفسَه، فيلخص سيرتَه الذاتية أيامَ ملكِه وجبروتِه بالأندلس، وأيام ذلِّه وهوانه بـ"أغمات" بضاحية "مراكش"، وذلك في قصيدتِه الرَّائية المشهورة، التي تغنَّيْنا بها صغارًا، ورثينا لحال ناظمها؛ لأنَّه ما ترك سبيلاً لاستدرار الدَّمع من عين قارئ أبياته إلا سلكَه.
ونحن إذْ كنَّا نحزن لأحزانِ الرجل، ونألم لآلامه التي بثَّها في كلِّ لفظ من ألفاظِه، ونستحضر أمامَنا صورَ بناتِه الأميرات اللواتي تبدَّل بهنَّ الحالُ، فصرْنَ يغزِلْنَ للنَّاس بالأجرة - لم يكن يخطر ببالنا إلا هذا الجانب الأوحد من الصُّورةِ التاريخية المركبة، وكان يكفينا أنْ نختزلَ حياةَ المعتمد في قصةِ ملكٍ أديب شاعر، غدر به ملكٌ همجي ظالم، فساقه من حياة الرَّفاهيةِ والمجد إلى عيش الفقر والهوان، ولم نكن نحسب أنَّ من وراء ذلك جوانبَ أخرى تحتاج إلى تأمُّل، قد يفضي إلى صورةٍ أخرى غير التي توحي بها ظواهرُ كتب الأدب.
والحقُّ أنَّ المعتمدَ بن عباد قد اجتمع فيه - في كفتي الخير والشَّر - متناقضاتٌ عجيبة، ترفعُ الرجلَ في بعض إشراقاتِه إلى أعلى مدارج العظمة، وتنحطُّ به في بعضِ مواقفِه إلى أخسِّ دركات البشرية المغرقة في اتصالِها الأرضي، المنبتَّة عن وحي السَّماء.
أمَّا في كفةِ الخير؛ فقد كان المعتمدُ بن عباد ملكًا شجاعًا، وفارسًا مغوارًا، عرفته ميادينُ الكفاح، وألفته ساحاتُ الجهاد، وقد أظهر في معركةِ الزلاقة من البلاءِ الحسن، وصدقِ العزيمة في الحرب، وشدة الصَّبرِ على مكاره الهيجاء ما حفظه له التاريخُ، وأثنى به عليه رواتُه الصَّادقون.
وله في كفةِ الخير أيضًا موقفٌ ناصعٌ، لا يتأتَّى مثلُه إلا لأهل التدين الصَّادقِ، والحمية الإسلامية الرَّاسخة؛ وذلك أنَّ "ملوك الطَّوائف" حين تهدَّدهم طاغيةُ الإفرنج، وأوشك على قصد بلادِهم لاستئصال شأفتِهم - أرسل المعتمدُ إلى أمير "العدوة" المغربية "يوسف بن تاشفين"، يستنصره ويتقوَّى به، وحين عذله بعضُ المفتونين، وخوَّفوه ضياعَ ملكِه، وذهاب سلطانه، قال كلمته السائرة التي بقيت تتحدَّى النسيان، وتطاول الإهمال، يتناقلها أهلُ التواريخ، وينشأ على حلاوتِها شُداة الأدب الخالد: "رعيُ الجمالِ خيرٌ من رعي الخنازير"
وله بعد ذلك كلِّه، وقبل ذلك أيضًا شيءٌ يشفع له عند أهل الأدب خصوصًا، وعند كلِّ ذي ذوقٍ فني، يحب الظرف، ويعشق الخيال، ويحسن تقدير المعنى النَّبيل، واللفظ الجميل، نعم، كان المعتمدُ شاعرًا فحلاً، أندلسيَّ الطَّبع، رقيقَ الدِّيباجة، سريع البديهة، ظريفًا محببًا، وكثيرٌ من النَّاس يهوون الأدبَ - وإن لم يكونوا في أنفسِهم أدباء - ويحترمون أهلَ الأدب وينظرون بعينِ الصَّفح إلى نقائصِهم، ويقبلون من عيوبِ أهل الفصاحةِ واللسن، ما لا يقبلون مِعْشارَه من أهل الفهاهة والعيِّ.
أما في كفةِ الشر، فقد اجتمع على المعتمدِ مواقفُ مظلمة، تنزلُ بالرجل إلى حضيضٍ يجامعُه فيه أهلُ الاستبداد والترف، والمتشبِّعون بالفكرِ السِّياسي المكيافيلي.
فمن تلك المواقف ما وقعَ له مع ابنِ جهور، وملَّخصُ القصةِ كما في كتاب
"الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (2/610)":
أنَّ أميرَ قرطبة عبدالملك بن جهور احتاجَ إلى الاستعانةِ بالمعتمد بن عباد ليدفعَ عنها مَنْ أغارَ عليها، فجاءتْ جيوشُ المعتمد ورابطَتْ بظاهر قرطبة، "وأقاموا بها أيامًا يحمون حماها، وأعينهم تزدحم عليه، ويذبُّون عن جناها، وأفواههم تتحلبُ إليه"، كما يقولُ الشنتريني، لما انصرفَ العدوُّ عن قرطبة، لم يرع ابن جهور إلا عساكر المعتمد تغدرُ به، بعد أن كانت حليفةً له، مظهرةً ودَّه، فاحتلُّوا بلادَه، وقبضوا عليه وعلى إخوتِه وأهلِ بيته، أذلاء منتهكي الحرمة.
وحفظ التاريخُ أنَّ ابن جهور لما وصل إلى وسطِ قنطرة قرطبة خارجًا منها، رفع يديه إلى السَّماءِ وقال: "اللهمَّ كما أجبتَ الدُّعاءَ علينا فأجبْه لنا"، فمضى الزَّمانُ، ودارت على المعتمدِ وأهلِه الدوائرُ، وإذا به يلقى من الذُّلِّ في سجنِ ابن تاشفين، نظير الذي لقيه ابن جهور في سجنِه.
ومن ذلك أيضًا ما حدث له مع وزيرِه أبي بكر محمد بن عمار المهري، الذي كان صفيَّه وخليلَه، ثم وقع منه ما وقع، فسجنَه ولم يرق لاستعطافِه، ثم ذبحه صبرًا فيما ينقل المؤرِّخون، وما أشبَه هذا بأساليبِ عتاةِ المستبدِّين من الملوك والسَّلاطين، وما أبعدَه عن صورةِ الأديب الذي ينضحُ شعرُه بالظرفِ، ويكاد يسيل من الرِّقة!
ومن ذلك - وهو أخطرُ هذه المواقف وأحلكها، لما له من التعلُّقِ بالتَّوحيد - أنَّ المعتمدَ لم يتردَّدْ في الاستغاثةِ بالفنش طاغيةِ الفرنجة، ليردَّ حصار ابن تاشفين عن مدينتِه، يقول ابنُ خلدون:
"واستنجد الطَّاغية فعمدَ إلى استنقاذِه من هذا الحصارِ فلم يغنِ عنه شيئًا، وكان دفاع لمتونة مما فتَّ في عضدِه، واقتحم المرابطون إشبيليةَ عليه عنوةً سنة أربع وثمانين، وتقبض على المعتمد وقاده أسيرًا إلى مراكش".
ولذلك فقد استفتى أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين الفقهاءَ في هذه الواقعة، فأفتى أكثرُهم بأنَّها ردة، لكنَّ قاضيه - وبعضَ الفقهاء - لم يرها ردةً ولم يبحْ دمَه.
وما أعظم البَوْن بين الحادثةِ الأولى التي استنكف فيها المعتمدُ أن يستعينَ بالإفرنج، وفضَّلَ على ذلك الارتماءَ في أحضان المرابطين المسلمين، وبين ما آل إليه أمرُه في هذه الحادثة المحزنة!
وبعدُ فما لنا وللمعتمد بن عباد؟ وفي أيِّ شيء يهمنا المعتمد وما فعله المعتمد، وقد أفضى الرَّجلُ إلى ما قدَّم منذ قرون عديدة؟
وإلى متى نبقى ندوك في سيرتِه وهو الآن بين يدي ربٍّ حكيم عادل، يحاسبُ بالقسط، ولا يُظلمُ عنده أحد؟
تعليق