أهمية الدعوة إلى الله تعالى:
مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله عز وجل عملٌ من أشرف الأعمال التي يمكن أن يقوم بها كلُّ مؤمن ومؤمنة.
يقول الله عز وجل في كتابة الكريم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33]. فمن كل الأقوال التي يمكن أن يقولها الإنسان، ومن كل الكلمات التي يمكن أن ينطق بها بشر، تظل كلمة الدعوة هي أحسن الأقوال، وأحسن الكلمات {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].
هذه الكلمة العظيمة (الدعوة) هي وظيفة الأنبياء، والمرسلين، فأنبياء الله سبحانه وتعالى وظيفتهم الأولى هي الدعوة إلى الله عز وجل يقول الله تعالى في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [إبراهيم:4].
فالهداية بيد الله عز وجل، لكن لا بد أن تقام الحجة على العبد، لا بد أن تصل الدعوة إلى العباد، فمن الذي يصل بالدعوة إلى العباد؟
الأنبياء، وبعد آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، من الذي يصل بالدعوة إلى الناس؟
إنهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤمنون بهذا الدين، المسلمون إسلاما حقيقيا صادقا، هم الذين يتحركون بالدعوة، لقد ختم الأنبياء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يحمل المؤمنون الصادقون هذه المهمة العظيمة التي كان يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سبقه من أنبياء الله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [إبراهيم:4].
ويقول عز وجل: {بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
إن من يبين للناس الحلال والحرام، ومن يعرف الناس بالمعروف، ويأمرهم به، ويبين للناس المنكر، وينهاهم عنه، إن من يفعل ذلك إنما يعمل بعمل الأنبياء والمرسلين.
لذلك جعل الله عز وجل هذه الصفة، صفة الدعوة، أو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفة لازمة لمن حمل لقب (مؤمن) فما دمت مؤمنا فلا بد أن تكون داعية إلى الله عز وجل، إذا أردت أن تستكمل صفة الإيمان فلا بد من الدعوة إلى الله.
يقول الله عز وجل: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
وذكر الله عز وجل أن أول ما يتصفون به أنهم: {يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
وتستطيع أن تلاحظ أن الله تعالى قدم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مع كونهما ركني الدين العظيمين، فالصلاة كما نعلم هي أعظم أركان الإسلام، وهي عمود الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة يقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمرها.
كذلك الزكاة ركن من الأركان الإسلام الأساسية، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي على أمرها أيضا.
الله عز وجل يريد أن يربي المؤمنين على ألا يعيشوا لأنفسهم فقط، لا يقبل من المؤمن بحال أن يصلي، ويزكي، ويقوم بأعمال فردية، دون أن يدعو غيره إلى الله عز وجل.
إن الإنسان إذا شعر بعظمة هذه الرسالة أصبح مقتنعا بأهمية نقلها إلى غيره من الناس، فهذه هي الغاية من هذه الرسالة، ومن هذه الأمة.
ولا يقبل من المؤمن أيضا أن يأخذ هذه الرسالة، ويستوعبها فحسب، بل لا بد بعد هذا الاستيعاب أن ينقل هذه الخير إلى من حوله من الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
ثم لاحظ التعليق الرباني اللطيف الجميل في هذه الآيات: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} [التوبة:71].
أي أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} [التوبة:71].
ولم خصهم الله تعالى بالرحمة؟
لأنهم رحموا عباد الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء لما رأوا الناس يتجهون إلى هاوية سحيقة، ويتجهون إلى النيران، ويتجهون إلى البعد عن الله عز و جل، ويتجهون إلى المعيشة الضنك، لما رأوا هؤلاء يتجهون إلى هذا الطريق ما استراحوا إلا بعد أن وضحوا لهم طريق الدعوة، وطريق الإسلام، طريق الله عز وجل، فقد رحموا عباد الله عز وجل، وأوضحوا لهم الطريق، فلا بد أن يرحمهم الله عز وجل، ويهديهم طريقهم، ويدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل.
ما من شك أن المسلمين جميعا يفقهون قيمة الدعوة إلى الله تعالى، وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا في هذه السطور نريد أن نتعرف على نظرة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لقضية الدعوة إلى الله عز وجل، قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كيف تكون صحابيًا في دعوتك؟
كيف تكون صحابيًا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟
وهي بلا شك قضية في غاية الأهمية، لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تبنى أمة من دون دعوة، ربما وجد أفراد قلائل وعظماء أيضا، لكن أن تبنى أمة بكاملها من غير دعوة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم من غير المسلمين، هذا في الواقع أمر مستحيل تماما، لأن الأمة أفراد كثيرة، ومجتمع كبير وهائل من البشر، فلا بد إذن من أن تصل الدعوة إلى الناس جميعا.
تعالوا بنا نرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفكرون في قضية الدعوة؟
وكيف كانت الدعوة هي القضية الأساسية في حياتهم؟
إنك إذا طالعت سيرة أي صحابي سوف تجد حتما أن الدعوة أحد الأركان الأساسية في حياته، ولن تجد في حياة أي من الصحابة رضي الله عنهم جميعا يوما، أو يومين، أو شهرا، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين من دون دعوة، فكل حياتهم موجهة إلى تعليم الآخرين، ودعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل وطاعته، وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
من المستفيد الأول من الدعوة؟
ومن الأشياء المهمة في نظرة الصحابة إلى الدعوة أنهم كانوا يعرفون من هو المستفيد الأول من الدعوة إلى الله تعالى.
ترى من هو؟
هل هو الداعية أم أنه المدعو؟
في الحقيقة المستفيد الأول من الدعوة هو الداعية نفسه، هذا الرجل الذي يدعو الناس إلى الله هو المستفيد الأول، سواء استجاب الناس له، أو لم يستجيبوا، وسواء سمعوا له حال دعوته لهم، أو لم يسمعوا، فهو مستفيد على كل الأحوال.
فأنت كما تصلي، وتصوم، وتزكي، وتجاهد في سيل الله، وكما تقوم بأي عمل من أعمال الخير، وتطلب الأجر، والثواب من الله عز وجل، فكذلك الحال بالنسبة للدعوة إلى الله، فأنت عندما تدعو تأخذ الأجر من الله تعالى.
وإذا كان بإمكانك أن تتخيل حجم الثواب على الصلاة، والزكاة، والحج، والإنفاق في سبيل الله، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية بأجر هذه الأعمال، فإنه لا يمكن لعقل أن يتخيل ثواب الدعوة إلى الله عز وجل.
تعالوا بنا نطالع هذا الحديث، لنرى هذا الحجم الهائل من الحسنات، في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مَنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا".
فإذا أردت أن تحصي ما يحصل عليه الداعية من الأجر، سوف تجد كَمّا هائلا من الحسنات.
فعلى سبيل المثال إذا دعوت إنسانا إلى الصلاة، ولم يكن يصلي مطلقا، وأذن الله بهدايته على يديك، فإن كل الصلوات التي يصليها هذا الرجل، والتي ربما تخفى عليك تماما، هي في ميزان حسناتك، وقد يسافر هذا الرجل الذي علمته الصلاة من بلدك، ولا تراه بعد ذلك، ويعيش ما شاء الله له أن يعيش عشرين سنة، أو خمسين، أو مائة، وتكتب كل صلواته الفرض منها، والنافلة، ما صلاه بالليل، أو النهار يكتب كله في ميزان حسناتك.
أيضا هذا الرجل إذا علم أولاده الصلاة، فكل صلوات أولاده تكتب في ميزان حسناتك أيضا، وكذا إذا علم جيرانه، وإذا عمل بالدعوة إلى الله في أي مكان، أو أي زمان فكل من يدعوهم في ميزان حسناتك، ولا ينقص من أجورهم شيء.
ربما تظل هذه الدائرة تتسع حتى بعد موتك بسنين طويلة، بل ربما تظل تكتب لك الحسنات إلى يوم القيامة، وعن طريق أناس لم تعرفهم، ولم ترهم، ولم تعش في زمانهم، كما هو الحال بالنسبة لنا، فالأمة كلها تضيف الحسنات لمن دعوها، وأوصلوا إليها ما هي عليه من الخير، تضيف الحسنات في ميزان الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية الصحابة، وبقية التابعين، وبقية من حملوا هذه الرسالة، وأوصلوها إلينا.
كم هو كثير هذا الخير الذي يعود على الإنسان من الدعوة إلى الله عز وجل!
لأجل هذا كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يضحون بكل شيء في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، يبذلون العرق، والجهد، والمال، والنفس، وكل شيء في سبيل، هذه القضية العظيمة؛ قضية الدعوة إلى الله تعالى لما لها من الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل.
ومن هنا نستطيع أن نفهم جيدا كلام ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].
لا أحد على الإطلاق، فإن الذاكر لله تعالى، والقائم يصلي، وقارئ القرآن، أعمالهم لا شك فاضلة، ولكن تبقى الدعوة إلى الله أفضل، وأعظم، وأعلى قيمة من هذا كله؛ لأن الداعية إلى الله لا يكتفي بهذه الأعمال من ذكر، وصلاة، وقراءة للقرآن، بل يدعو غيره إليها، وهذا فضل عظيم، وكبير.
عقوبة ترك الدعوة
وعلى الجانب الآخر فإن ترك أمر الدعوة إلى الله تعالى هو أمر في غاية الخطورة، ليس على العبد فحسب، بل على الأمة كلها.
روى أحمد في مسنده، والترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن.
عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ".
يقسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقسم إلا على أمر عظيم، لأننا نصدقه صلى الله عليه وسلم دون أن يقسم، ولكن عليه الصلاة والسلام يريد أن يعمق معنى الأمر بالمعروف في نفوس الصحابة، وفي نفوس الأمة كلها ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم:" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ".
فإذا وجدت نفسك في أزمات كثيرة، وتدعو الله عز وجل كثيرا، وهو سبحانه لا يستجيب لك، فلتراجع نفسك في أمر الدعوة إلى الله جيدا، فربما يكون تأخير استجابة الدعاء بسبب هذا الأمر.
في الواقع هذه مشكلة كبيرة، وهي أن كثيرا منا يعبدون الله عز وجل، لكن دون أن يدعو الناس إليه سبحانه وتعالى، ربما يكون جاره بعيدا عن الله، أو زميله في العمل، وربما زوجته، أو أولاده، أو أمه، أو أبوه، أو إخوته، ومع هذا كله لا يشغله كثيرا هذا الأمر.
فلماذا يعيش الناس إذن؟
هل يعيشون لأنفسهم فحسب؟
ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط.
صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعيشيون لأنفسهم، ولم يكونوا يعيشيون لأولادهم، وأهليهم، وإخوانهم، وعشيرتهم فحسب، بل إنهم كانوا يعيشون لأهل الأرض جميعا، وسنرى تطبيق ذلك عمليا في السطور القادمة.
روى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وحسنه الألباني عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء- أي أنه صلى الله عليه وسلم قد همه شيء- فتوضأ، ثم خرج، فلم يكلم أحدا، فدنوت من الحجرات،فسمعته يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرَوفِ وْانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُم وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ".
أليس من الجائز أن يكون السبب في الانهيار الذي نرى عليه الأمة الإسلامية هو التقصير الكبير في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
أليس من الجائز أن يكون تأخير النصر عن الأمة، وما تتعرض له من أزمات طاحنة، ومشكلات كبيرة، إنما هو بسبب إهمالها في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ربما كنا نعمل وفي مرحلة إعداد، ولكن عندنا قصور في هذا الجانب، وهذا من الممكن أن يؤخر الأمة كلها، بل إنه من الممكن أن يكون سببا في استئصال أمة كاملة.
ترى ما هي أول مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل؟
ألم يكن بينهم مؤمنون؟
في الواقع كان في بني إسرائيل مؤمنون، ولكنهم لم يقوموا بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت الهلكة لهم، لنرى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني إسرائيل وكيف كان سقوطهم وهلاكهم:
روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولَ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فِإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ".
أي يجده على نفس المعصية التي نهاه عنها ولا يؤثر ذلك على العلاقة بينهما، وتنسى قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
"فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ".
ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78: 81].
ثم قال: "كَلَا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِي الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنِّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ".
إننا أمة الإسلام لا نملك كرامات معينة من عرق، أو نسب، وخيريتنا إنما هي لأسباب معروفة، ولصفات معروفة، ولنهج معروف، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسير عليه، ولو خالفناه، أو قصرنا فيه، فما من شك أن يحدث لنا ما حدث لبني إسرائيل، وغيرهم من الهلاك.
إننا لسنا قريبين من الله لأجل أننا من جنس العرب، أو لأننا من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اسما فقط، لا، بل لا بد من العمل، ولا بد أن أن نتصف بالصفات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم موضحا لنا السبب الذي لأجله كانت هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، فلو لم تتبع الأمة أمر ربها كان اللعن، والطرد كما حدث مع بني إسرائيل.
أمة الإسلام أمة باقية إلى يوم القيامة، ولن تهلك بكاملها على الإطلاق لأجل الرسالة الباقية التي تحملها إلى الخلق أجمعين، لكن من الممكن أن تستبدل، نعم يستبدل الله عز وجل الجيل الفاسد الذي لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر بجيل صالح يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقوم بأمر الله عز وجل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
فالأمة التي لا تستوفي شروط الخيرية تستبدل بأمة أخرى غيرها، فكم من الأمم الإسلامية السابقة قد استبدلها الله بغيرها، دول إسلامية سقطت، وأخرى قامت قياما تحافظ فيه على شروط الخيرية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].
ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الإيمان بالله، إلا أن الله عز وجل قدمهما لبيان أهميتهما، وعظم أمرهما، وأن المؤمن، وإن كان من أصحاب الأعمال الكثيرة الصالحة، لكنه لا يلزم هذين الأمرين، فلن يكون في الأمة خيرية، ولن تتصف الأمة بهذه الصفة العظيمة.
إن من أهم مهام هذه الأمة إصلاح الأوضاع على وجه الأرض كلها، ليس في بلاد المسلمين فحسب، بل تعليم الناس جميعا في كل مكان في الأرض، ولتعلم يقينا أن عليك واجبا لمن يعيشون في الصين، وفي روسيا، وفي أوربا، وفي أمريكا، وفي استراليا، وفي بريطانيا، ولمن يعيشون في الجزر النائية في المحيطات البعيدة، عليك أن تبلغهم هذه الرسالة العظيمة، وأن تعلمهم، وأن تصبر على آذاهم، ويحاربونك، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، ويرفضون، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، وأنت بهذا لا تتفضل عليهم، وإنما هو واجبك تجاههم.
هذه هي خيرية هذه الأمة، وإذا كنت لا تريد أن تكون من خير الأمم فلا عليك، شرط أن تتخلى عن القول بأنك من خير أمة أخرجت للناس مع تركك لأمر الدعوة إلى الله.
الأمر في غاية الخطورة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري:
خير الناس للناس- يصف رضي الله عنه أمة الإسلام- تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه بكلامه هذا الفتوحات الإسلامية، التي كانت مهمتها الأولى هي تعليم الناس الخير، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ودخل كثير من الناس الإسلام، وهم كارهون في البداية لأمر هذه الجيوش الإسلامية التى دخلت بلادهم، وربما دخل بعضهم الإسلام؛ لأنه الدين العظيم والمهيمن على الأرض في ذلك الوقت، وله دولة قوية قاهرة، ولكنهم عرفوا بعد ذلك عظمة هذا الدين، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أهل الجنة، وكان من الممكن أن يكونوا من أهل النار لو ظلوا يعبدون النار طوال حياتهم، أو يعبدون المسيح، أو الشجر، أو الحشرات كما كان يحدث في الهند، فقد عبد الناس كل شيء إلا الله عز وجل، فكان من واجب المسلمين أن يعلموهم وأن يبلغوهم رسالة الله، وبعد أن كانوا كارهين أصبحوا من أهل الجنة، وهذا خير عظيم.
فهذه هي مهمة الأمة المسلمة أن تعلم الناس جميعا الخير، وهذا هو سبب خيريتها، فهي أمة لا تقيم العدل في إطار دولتها فقط، أو في إطار حدودها فحسب، وتترك العالم من حولها يظلم كما يريد، ويسرق كما يحب، ويعصي الله عز وجل حسب ما يرى هواه.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ".
وهؤلاء هم من جاءوا بلاد المسلمين، وهم أسرى مع المسلمين العائدين من المعارك والفتوحات الإسلامية، فلما عرفوا حقيقة الإسلام وأحبوه دخلوا فيه، وحسن إسلامهم فصاروا من أهل الجنة مع أنهم كانوا لا يريدون، لكن أمة الإسلام الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر كانت هي السبب في دخولهم الجنة، وهذا فضل كبير وعظيم.
ولأجل هذا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].
الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يفهمون هذه الحقائق جيدا ويعرفون ما الذي يمكن أن يحدث لو لم يكن هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
حديث رائع ومثل عظيم يضربه النبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذا الأمر جيدا:
روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا".
فالسفينة كلها ستنجو بلا شك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لصحابته رضي الله عنهم جميعا ولأمته كلها.
مما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله عز وجل عملٌ من أشرف الأعمال التي يمكن أن يقوم بها كلُّ مؤمن ومؤمنة.
يقول الله عز وجل في كتابة الكريم: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33]. فمن كل الأقوال التي يمكن أن يقولها الإنسان، ومن كل الكلمات التي يمكن أن ينطق بها بشر، تظل كلمة الدعوة هي أحسن الأقوال، وأحسن الكلمات {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].
هذه الكلمة العظيمة (الدعوة) هي وظيفة الأنبياء، والمرسلين، فأنبياء الله سبحانه وتعالى وظيفتهم الأولى هي الدعوة إلى الله عز وجل يقول الله تعالى في كتابه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [إبراهيم:4].
فالهداية بيد الله عز وجل، لكن لا بد أن تقام الحجة على العبد، لا بد أن تصل الدعوة إلى العباد، فمن الذي يصل بالدعوة إلى العباد؟
الأنبياء، وبعد آخر الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، من الذي يصل بالدعوة إلى الناس؟
إنهم أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤمنون بهذا الدين، المسلمون إسلاما حقيقيا صادقا، هم الذين يتحركون بالدعوة، لقد ختم الأنبياء بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يحمل المؤمنون الصادقون هذه المهمة العظيمة التي كان يحملها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن سبقه من أنبياء الله عز وجل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [إبراهيم:4].
ويقول عز وجل: {بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44].
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
إن من يبين للناس الحلال والحرام، ومن يعرف الناس بالمعروف، ويأمرهم به، ويبين للناس المنكر، وينهاهم عنه، إن من يفعل ذلك إنما يعمل بعمل الأنبياء والمرسلين.
لذلك جعل الله عز وجل هذه الصفة، صفة الدعوة، أو صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صفة لازمة لمن حمل لقب (مؤمن) فما دمت مؤمنا فلا بد أن تكون داعية إلى الله عز وجل، إذا أردت أن تستكمل صفة الإيمان فلا بد من الدعوة إلى الله.
يقول الله عز وجل: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
وذكر الله عز وجل أن أول ما يتصفون به أنهم: {يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
وتستطيع أن تلاحظ أن الله تعالى قدم صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، مع كونهما ركني الدين العظيمين، فالصلاة كما نعلم هي أعظم أركان الإسلام، وهي عمود الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، ومع هذه المكانة العظيمة للصلاة يقدم الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أمرها.
كذلك الزكاة ركن من الأركان الإسلام الأساسية، ولكن قدم الأمر بالمعروف والنهي على أمرها أيضا.
الله عز وجل يريد أن يربي المؤمنين على ألا يعيشوا لأنفسهم فقط، لا يقبل من المؤمن بحال أن يصلي، ويزكي، ويقوم بأعمال فردية، دون أن يدعو غيره إلى الله عز وجل.
إن الإنسان إذا شعر بعظمة هذه الرسالة أصبح مقتنعا بأهمية نقلها إلى غيره من الناس، فهذه هي الغاية من هذه الرسالة، ومن هذه الأمة.
ولا يقبل من المؤمن أيضا أن يأخذ هذه الرسالة، ويستوعبها فحسب، بل لا بد بعد هذا الاستيعاب أن ينقل هذه الخير إلى من حوله من الناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
ثم لاحظ التعليق الرباني اللطيف الجميل في هذه الآيات: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} [التوبة:71].
أي أولئك الذين يتصفون بهذه الصفات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ} [التوبة:71].
ولم خصهم الله تعالى بالرحمة؟
لأنهم رحموا عباد الله عز وجل، فالجزاء من جنس العمل، فهؤلاء لما رأوا الناس يتجهون إلى هاوية سحيقة، ويتجهون إلى النيران، ويتجهون إلى البعد عن الله عز و جل، ويتجهون إلى المعيشة الضنك، لما رأوا هؤلاء يتجهون إلى هذا الطريق ما استراحوا إلا بعد أن وضحوا لهم طريق الدعوة، وطريق الإسلام، طريق الله عز وجل، فقد رحموا عباد الله عز وجل، وأوضحوا لهم الطريق، فلا بد أن يرحمهم الله عز وجل، ويهديهم طريقهم، ويدخلهم الجنة سبحانه وتعالى، والجزاء من جنس العمل.
ما من شك أن المسلمين جميعا يفقهون قيمة الدعوة إلى الله تعالى، وقيمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكننا في هذه السطور نريد أن نتعرف على نظرة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم لقضية الدعوة إلى الله عز وجل، قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
كيف تكون صحابيًا في دعوتك؟
كيف تكون صحابيًا في أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر؟
وهي بلا شك قضية في غاية الأهمية، لأنه لا يمكن على الإطلاق أن تبنى أمة من دون دعوة، ربما وجد أفراد قلائل وعظماء أيضا، لكن أن تبنى أمة بكاملها من غير دعوة، وأمر بمعروف ونهي عن منكر بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين غيرهم من غير المسلمين، هذا في الواقع أمر مستحيل تماما، لأن الأمة أفراد كثيرة، ومجتمع كبير وهائل من البشر، فلا بد إذن من أن تصل الدعوة إلى الناس جميعا.
تعالوا بنا نرى كيف كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يفكرون في قضية الدعوة؟
وكيف كانت الدعوة هي القضية الأساسية في حياتهم؟
إنك إذا طالعت سيرة أي صحابي سوف تجد حتما أن الدعوة أحد الأركان الأساسية في حياته، ولن تجد في حياة أي من الصحابة رضي الله عنهم جميعا يوما، أو يومين، أو شهرا، أو شهرين، أو سنة، أو سنتين من دون دعوة، فكل حياتهم موجهة إلى تعليم الآخرين، ودعوتهم إلى الإيمان بالله عز وجل وطاعته، وطاعة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
من المستفيد الأول من الدعوة؟
ومن الأشياء المهمة في نظرة الصحابة إلى الدعوة أنهم كانوا يعرفون من هو المستفيد الأول من الدعوة إلى الله تعالى.
ترى من هو؟
هل هو الداعية أم أنه المدعو؟
في الحقيقة المستفيد الأول من الدعوة هو الداعية نفسه، هذا الرجل الذي يدعو الناس إلى الله هو المستفيد الأول، سواء استجاب الناس له، أو لم يستجيبوا، وسواء سمعوا له حال دعوته لهم، أو لم يسمعوا، فهو مستفيد على كل الأحوال.
فأنت كما تصلي، وتصوم، وتزكي، وتجاهد في سيل الله، وكما تقوم بأي عمل من أعمال الخير، وتطلب الأجر، والثواب من الله عز وجل، فكذلك الحال بالنسبة للدعوة إلى الله، فأنت عندما تدعو تأخذ الأجر من الله تعالى.
وإذا كان بإمكانك أن تتخيل حجم الثواب على الصلاة، والزكاة، والحج، والإنفاق في سبيل الله، وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه الكريم وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية بأجر هذه الأعمال، فإنه لا يمكن لعقل أن يتخيل ثواب الدعوة إلى الله عز وجل.
تعالوا بنا نطالع هذا الحديث، لنرى هذا الحجم الهائل من الحسنات، في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دَعَا إِلَى هَدْيٍ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مَنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا".
فإذا أردت أن تحصي ما يحصل عليه الداعية من الأجر، سوف تجد كَمّا هائلا من الحسنات.
فعلى سبيل المثال إذا دعوت إنسانا إلى الصلاة، ولم يكن يصلي مطلقا، وأذن الله بهدايته على يديك، فإن كل الصلوات التي يصليها هذا الرجل، والتي ربما تخفى عليك تماما، هي في ميزان حسناتك، وقد يسافر هذا الرجل الذي علمته الصلاة من بلدك، ولا تراه بعد ذلك، ويعيش ما شاء الله له أن يعيش عشرين سنة، أو خمسين، أو مائة، وتكتب كل صلواته الفرض منها، والنافلة، ما صلاه بالليل، أو النهار يكتب كله في ميزان حسناتك.
أيضا هذا الرجل إذا علم أولاده الصلاة، فكل صلوات أولاده تكتب في ميزان حسناتك أيضا، وكذا إذا علم جيرانه، وإذا عمل بالدعوة إلى الله في أي مكان، أو أي زمان فكل من يدعوهم في ميزان حسناتك، ولا ينقص من أجورهم شيء.
ربما تظل هذه الدائرة تتسع حتى بعد موتك بسنين طويلة، بل ربما تظل تكتب لك الحسنات إلى يوم القيامة، وعن طريق أناس لم تعرفهم، ولم ترهم، ولم تعش في زمانهم، كما هو الحال بالنسبة لنا، فالأمة كلها تضيف الحسنات لمن دعوها، وأوصلوا إليها ما هي عليه من الخير، تضيف الحسنات في ميزان الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وبقية الصحابة، وبقية التابعين، وبقية من حملوا هذه الرسالة، وأوصلوها إلينا.
كم هو كثير هذا الخير الذي يعود على الإنسان من الدعوة إلى الله عز وجل!
لأجل هذا كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يضحون بكل شيء في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، يبذلون العرق، والجهد، والمال، والنفس، وكل شيء في سبيل، هذه القضية العظيمة؛ قضية الدعوة إلى الله تعالى لما لها من الأجر العظيم والثواب الجزيل عند الله عز وجل.
ومن هنا نستطيع أن نفهم جيدا كلام ربنا سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} [فصِّلت:33].
لا أحد على الإطلاق، فإن الذاكر لله تعالى، والقائم يصلي، وقارئ القرآن، أعمالهم لا شك فاضلة، ولكن تبقى الدعوة إلى الله أفضل، وأعظم، وأعلى قيمة من هذا كله؛ لأن الداعية إلى الله لا يكتفي بهذه الأعمال من ذكر، وصلاة، وقراءة للقرآن، بل يدعو غيره إليها، وهذا فضل عظيم، وكبير.
عقوبة ترك الدعوة
وعلى الجانب الآخر فإن ترك أمر الدعوة إلى الله تعالى هو أمر في غاية الخطورة، ليس على العبد فحسب، بل على الأمة كلها.
روى أحمد في مسنده، والترمذي رحمه الله، وقال: حديث حسن.
عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ".
يقسم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يقسم إلا على أمر عظيم، لأننا نصدقه صلى الله عليه وسلم دون أن يقسم، ولكن عليه الصلاة والسلام يريد أن يعمق معنى الأمر بالمعروف في نفوس الصحابة، وفي نفوس الأمة كلها ومن ثم يقول صلى الله عليه وسلم:" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ".
فإذا وجدت نفسك في أزمات كثيرة، وتدعو الله عز وجل كثيرا، وهو سبحانه لا يستجيب لك، فلتراجع نفسك في أمر الدعوة إلى الله جيدا، فربما يكون تأخير استجابة الدعاء بسبب هذا الأمر.
في الواقع هذه مشكلة كبيرة، وهي أن كثيرا منا يعبدون الله عز وجل، لكن دون أن يدعو الناس إليه سبحانه وتعالى، ربما يكون جاره بعيدا عن الله، أو زميله في العمل، وربما زوجته، أو أولاده، أو أمه، أو أبوه، أو إخوته، ومع هذا كله لا يشغله كثيرا هذا الأمر.
فلماذا يعيش الناس إذن؟
هل يعيشون لأنفسهم فحسب؟
ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط.
صحابة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يعيشيون لأنفسهم، ولم يكونوا يعيشيون لأولادهم، وأهليهم، وإخوانهم، وعشيرتهم فحسب، بل إنهم كانوا يعيشون لأهل الأرض جميعا، وسنرى تطبيق ذلك عمليا في السطور القادمة.
روى الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن حبان، وحسنه الألباني عن عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفت في وجهه أن قد حفزه شيء- أي أنه صلى الله عليه وسلم قد همه شيء- فتوضأ، ثم خرج، فلم يكلم أحدا، فدنوت من الحجرات،فسمعته يقول: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: مُرُوا بِالْمَعْرَوفِ وْانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ مِنْ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبُكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيكُم وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ".
أليس من الجائز أن يكون السبب في الانهيار الذي نرى عليه الأمة الإسلامية هو التقصير الكبير في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟
أليس من الجائز أن يكون تأخير النصر عن الأمة، وما تتعرض له من أزمات طاحنة، ومشكلات كبيرة، إنما هو بسبب إهمالها في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
ربما كنا نعمل وفي مرحلة إعداد، ولكن عندنا قصور في هذا الجانب، وهذا من الممكن أن يؤخر الأمة كلها، بل إنه من الممكن أن يكون سببا في استئصال أمة كاملة.
ترى ما هي أول مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل؟
ألم يكن بينهم مؤمنون؟
في الواقع كان في بني إسرائيل مؤمنون، ولكنهم لم يقوموا بواجبهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكانت الهلكة لهم، لنرى وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني إسرائيل وكيف كان سقوطهم وهلاكهم:
روى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولَ: يَا هَذَا اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ، فِإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ. ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ".
أي يجده على نفس المعصية التي نهاه عنها ولا يؤثر ذلك على العلاقة بينهما، وتنسى قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
"فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ".
ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:78: 81].
ثم قال: "كَلَا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِي الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ لَيَلْعَنَنِّكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ".
إننا أمة الإسلام لا نملك كرامات معينة من عرق، أو نسب، وخيريتنا إنما هي لأسباب معروفة، ولصفات معروفة، ولنهج معروف، أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسير عليه، ولو خالفناه، أو قصرنا فيه، فما من شك أن يحدث لنا ما حدث لبني إسرائيل، وغيرهم من الهلاك.
إننا لسنا قريبين من الله لأجل أننا من جنس العرب، أو لأننا من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم اسما فقط، لا، بل لا بد من العمل، ولا بد أن أن نتصف بالصفات التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم موضحا لنا السبب الذي لأجله كانت هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس، فلو لم تتبع الأمة أمر ربها كان اللعن، والطرد كما حدث مع بني إسرائيل.
أمة الإسلام أمة باقية إلى يوم القيامة، ولن تهلك بكاملها على الإطلاق لأجل الرسالة الباقية التي تحملها إلى الخلق أجمعين، لكن من الممكن أن تستبدل، نعم يستبدل الله عز وجل الجيل الفاسد الذي لا يأمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر بجيل صالح يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقوم بأمر الله عز وجل {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
فالأمة التي لا تستوفي شروط الخيرية تستبدل بأمة أخرى غيرها، فكم من الأمم الإسلامية السابقة قد استبدلها الله بغيرها، دول إسلامية سقطت، وأخرى قامت قياما تحافظ فيه على شروط الخيرية التي ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].
ومع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من الإيمان بالله، إلا أن الله عز وجل قدمهما لبيان أهميتهما، وعظم أمرهما، وأن المؤمن، وإن كان من أصحاب الأعمال الكثيرة الصالحة، لكنه لا يلزم هذين الأمرين، فلن يكون في الأمة خيرية، ولن تتصف الأمة بهذه الصفة العظيمة.
إن من أهم مهام هذه الأمة إصلاح الأوضاع على وجه الأرض كلها، ليس في بلاد المسلمين فحسب، بل تعليم الناس جميعا في كل مكان في الأرض، ولتعلم يقينا أن عليك واجبا لمن يعيشون في الصين، وفي روسيا، وفي أوربا، وفي أمريكا، وفي استراليا، وفي بريطانيا، ولمن يعيشون في الجزر النائية في المحيطات البعيدة، عليك أن تبلغهم هذه الرسالة العظيمة، وأن تعلمهم، وأن تصبر على آذاهم، ويحاربونك، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، ويرفضون، وتظل تعلمهم، وتدعوهم، وأنت بهذا لا تتفضل عليهم، وإنما هو واجبك تجاههم.
هذه هي خيرية هذه الأمة، وإذا كنت لا تريد أن تكون من خير الأمم فلا عليك، شرط أن تتخلى عن القول بأنك من خير أمة أخرجت للناس مع تركك لأمر الدعوة إلى الله.
الأمر في غاية الخطورة، يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه كما في البخاري:
خير الناس للناس- يصف رضي الله عنه أمة الإسلام- تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه بكلامه هذا الفتوحات الإسلامية، التي كانت مهمتها الأولى هي تعليم الناس الخير، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ودخل كثير من الناس الإسلام، وهم كارهون في البداية لأمر هذه الجيوش الإسلامية التى دخلت بلادهم، وربما دخل بعضهم الإسلام؛ لأنه الدين العظيم والمهيمن على الأرض في ذلك الوقت، وله دولة قوية قاهرة، ولكنهم عرفوا بعد ذلك عظمة هذا الدين، وحسن إسلامهم، وأصبحوا من أهل الجنة، وكان من الممكن أن يكونوا من أهل النار لو ظلوا يعبدون النار طوال حياتهم، أو يعبدون المسيح، أو الشجر، أو الحشرات كما كان يحدث في الهند، فقد عبد الناس كل شيء إلا الله عز وجل، فكان من واجب المسلمين أن يعلموهم وأن يبلغوهم رسالة الله، وبعد أن كانوا كارهين أصبحوا من أهل الجنة، وهذا خير عظيم.
فهذه هي مهمة الأمة المسلمة أن تعلم الناس جميعا الخير، وهذا هو سبب خيريتها، فهي أمة لا تقيم العدل في إطار دولتها فقط، أو في إطار حدودها فحسب، وتترك العالم من حولها يظلم كما يريد، ويسرق كما يحب، ويعصي الله عز وجل حسب ما يرى هواه.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ".
وهؤلاء هم من جاءوا بلاد المسلمين، وهم أسرى مع المسلمين العائدين من المعارك والفتوحات الإسلامية، فلما عرفوا حقيقة الإسلام وأحبوه دخلوا فيه، وحسن إسلامهم فصاروا من أهل الجنة مع أنهم كانوا لا يريدون، لكن أمة الإسلام الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر كانت هي السبب في دخولهم الجنة، وهذا فضل كبير وعظيم.
ولأجل هذا {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].
الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يفهمون هذه الحقائق جيدا ويعرفون ما الذي يمكن أن يحدث لو لم يكن هناك أمر بالمعروف ونهي عن المنكر.
حديث رائع ومثل عظيم يضربه النبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذا الأمر جيدا:
روى البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ، وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا".
فالسفينة كلها ستنجو بلا شك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه لصحابته رضي الله عنهم جميعا ولأمته كلها.
تعليق