الحمد لله المحمود بآلائه، المعبود في أرضه وسمائه، أفضل الحمد وأعلاه، وغاية الحمد ومنتهاه، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، أفضل ما صلى عليه من صلى من أمته.
أمّا بعد:
فإنّ الإنسان عندما يريد أن يتحدث عن العظماء يقف حيراناً من أين يبدأ؟ وإلى أين ينتهي؟ وماذا يقدم وماذا يؤخر؟ ذلك أنّ العظماء لا يستغني الإنسان عن فوائد موقف من مواقفهم العظيمة، ولكننا في هذه الكلمة الموجزة رأينا أن نقف في جانب واحد من جوانب حياة عظيم من عظماء المسلمين؛ وخليفة من خلفائهم، ذلك هو الخليفة الزاهد الراشد: عمر بن عبد العزيز ـ علية رحمة الله ـ، فقد كان إذا ذكر الزهاد فهو في المقدمة، وإذا تُحدِّث عن العباد فهو في أولهم، وإذا سطرت أسماء التقاة فهو من أتقاهم لله سبحانه.
في هذه الكلمة الموجزة أحببنا أن نعطر أسماعنا، وأن نلين قلوبنا بمقتطفات من زهده، خاصة ونحن في زمان طغت فيه الماديات، وانغمس الكثير من المسلمين في الملذات، بل وقع الكثير في المشتبهات والمحرمات.
لقد كان عمر بن عبد العزيز مثلاً أعلى في الزهد في زمانه؛ فعن مكحول قال: "لو حلفت لصدقت ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز".
وقال مالك بن دينار: "الناس يقولون: إنّي زاهد؛ إنّما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها". [تاريخ الإسلام (1/831) للذهبي].
وقال عمر في بعض خطبه: "إنّ الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلاً وتحزن طويلاً". [البداية والنهاية(9/199) لابن كثير].
نعم لقد كان عمر بن عبد العزيز أزهد أهل زمانه؛ قال ابن عبد الحكم: "لما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه، وترك ألوان الطعام". [سيرة عمر لابن عبد الحكم، ص (43)]، فكان لا يهمه من الأكل إلاّ ما يسد جوعه، ويقيم صلبه، وكانت نفقته وعياله في اليوم درهمين، كما في الأثر عن سالم بن زياد قال: "كان عمر ينفق على أهله في غدائه وعشائه كل يوم درهمين". [سيرة عمر لابن عبد الحكم(38)]، وكان لا يلبس من الثياب إلاّ الخشن، وترك مظاهر البذخ والإسراف التي سادت قبله وأمر ببيعها وأدخل أثمانها في بيت مال المسلمين. [الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/155)]، بل إنّه في مرض موته لم يكن له إلاّ ثوب واحد؛ فعن مسلمة بن عبد الملك قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه فإذا عليه قميص وسخ, فقلت لفاطمة بنت عبد الملك ـ زوجة عمر ـ: يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين. قالت: نفعل إن شاء الله. ثم عدت فإذا القميص على حاله, فقلت: يا فاطمة ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين؟! قالت: والله ما له قميص غيره.
وكان من زهده ـ رحمه الله ـ أنّه كانت إذا جاءته الأموال يقسمها على النّاس ولا يأخذ منها شيئاً؛ فعن الفهري عن أبيه، قال: "كان عمر بن عبد العزيز يقسم الفيء فتناول ابن له صغير تفاحة، فانتزعها من فيه، فأوجعه فسعى إلى أمه مستعبراً ـ يبكي ـ فأرسلت إلى السوق فاشترت له تفاحاً، فلما رجع عمر وجد ريح التفاح، فقال: يا فاطمة هل أتيت شيئاً من هذا الفيء؟ قالت: لا. وقصت عليه القصة، فقال: والله لقد انتزعها من ابني لكأنما نزعتها من قلبي، ولكن كرهتُ أن أضيع نصيبي من الله ـ عز وجل ـ بتفاحة من فيء المسلمين". [صفة الصفوة(2/120)].
وأمّا عن زهده في المال وجمعه فإنّ الإنسان يقف مندهشاً في ذلك؛ قال ولده عبد العزيز: سألني أبو جعفر المنصور: كم كانت غلة أبيك حين أفضت الخلافة إليه؟ قلت: أربعين ألف دينار، قال: فكم كانت حين توفي؟ قلت: أربعمائة دينار ولو بقي لنقصت. [حلية الأولياء (5/257) لأبي نعيم الأصفهاني]، وذلك لأنّه لم يرتزق من بيت المسلمين شيئاً.
لقد كان عمر مثالاً رائعاً في الزهد، قال ذات مرة لمولاه مزاحم: إنّي قد اشتهيت الحج، فهل عندك شيء؟ قال: بضعة عشر ديناراً، قال: وما تقع مني؟! ثم مكث قليلاً، ثم قال له: يا أمير المؤمنين تجهّز، فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف ديناراً من بعض مال بني مروان، قال: اجعلها في بيت المال، فإن تكن حلالاً فقد أخذنا منها ما يكفينا، وإن تكن حراماً فكفانا ما أصابنا منها، قال مزاحم: فلما رأى عمر ثقل ذلك علي، قال: ويحك يا مزاحم لا يكثرن عليك شيء ضعته لله، فإنّ لي نفساً توّاقة لم تَتُق إلى منزلة فنالتها إلاّ تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنّها اليوم قد تاقت إلى الجنة. [سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم، ص (62)].
نرجو من الله أن يبلغه ما تاقت إليه نفسه من الجنّة كما حقق له ما تاقت إليه نفسه في الدنيا.
والأخبار في زهد عمر كثيرة جداً لا يسع المقام لذكرها، ولكن هذه بعضا منها، ذكرناها لنأخذ منها العبرة، ولنتشبه به في ذلك، فإنّ التشبه بالكرام فلاح.
منقول
*.*.* في أمــان الله *.*.*
*.*.*
تعليق