بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله
وصحبه ومن والاه، أما بعد:
موعدنا اليوم مع مِصباح من مصابيح الهدى ونَجم من نجوم الدُجى الذين
نستأنس بذكرهم ونستنيرُ بنور سيرتهم العطرة وكيف لا وهم صحابة خير خلق الله، موعدنا اليوم مع الصحابي الجليل " أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه
التعريف به
هو الفارس الحكيم أبو الدرداء عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اسلامه رضي الله عنه
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه من آخر الأنصار إسلامًا وكان يعبد صنمًا، فدخل ابن رواحة ومحمد بن مسلمة -رضي الله عنهما- بيته فكسرا صنمه، فرجع فجعل يجمع الصنم، ويقول: "ويحك! هلاَّ امتنعت! ألا دفعت عن نفسك. فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد، دَفَع عن نفسه ونفعها.
فقال أبو الدرداء: أعِدِّي لي ماء في المغتسل. فاغتسل، ولبس حلته، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إليه ابن رواحه رضي الله عنه مقبلاً، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبو الدرداء، وما أراه إلا جاء في طلبنا. فقال: "إن الله وعدني بإسلام أبي الدرداء فأسلم"حسن الهيثمي اسناده في مجمع الزوائد
منزلته وفضله
لأبي الدرداء رضي الله عنه المكانة العالية والمنزلة المرموقة بين صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رضي الله عنه أحد أربعة جمعوا القرآن كله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛
فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «مَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ: أَبُو الدَّرْدَاءِ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو زَيْدٍ».صحيح البخاري
أثر الرسول في تربيته
كان للنبي صلى الله عليه وسلم الأثر الأكبر في تربية أبي الدرداء رضي الله عنه، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم يوصيه كثيرًا بما يجلب عليه الخير في الدنيا والآخرة؛
ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: «أوصاني حبيبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بثلاثٍ . لن أدعهنَّ ما عشتُ : بصيامِ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهرٍ . وصلاةِ الضحى . وبأن لا أنامَ حتى أوترَ .».
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على أبي الدرداء رضي الله عنه فدفع الباب فإذا ليس فيه غلق، فدخل في بيت مظلم فجعل يلمسه حتى وقع عليه، فجسّ وسادة فإذا هي برذعة، وجسّ دثاره فإذا كساء رقيق. قال عمر رضي الله عنه: ألم أوسِّع عليك؟! ألم أفعل بك؟!
فقال له أبو الدرداء رضي الله عنه: أتذكر حديثًا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: أيُّ حديث؟
قال: «لِيكُنْ بُلْغَةُ أحدِكم من الدنيا كزادِ الراكبِ».حسنه الألباني في صحيح الترغيب
قال: نعم.
قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟
قال: فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.
من ملامح شخصية أبي الدرداء
الزهد في الدنيا
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: ما يسرني أن أقوم على الدرج من باب المسجد فأبيع وأشتري فأصيب كل يوم ثلاثمائة دينار أشهد الصلاة كلها في المسجد، ما أقول: إن الله لم يحل البيع ويحرم الربا، ولكن أحب أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.
علمه
عن يزيد بن عميرة قال: " لمَّا حضرَ معاذَ بنَ جبلٍ الموتُ قيلَ لهُ يا أبا عبدِ الرَّحمنِ أوصِنا قالَ أجلسوني فقالَ إنَّ العلمَ والإيمانَ مكانَهما من ابتغاهما وجدَهما يقولُ ذلكَ ثلاثَ مرَّاتٍ والتمِسوا العلمَ عندَ أربعةِ رهطٍ عندَ عويمرٍ أبي الدَّرداءِ
وعندَ سلمانَ الفارسيِّ وعندَ عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ وعندَ عبدِ اللَّهِ بنِ سلامٍ الَّذي كانَ يهوديًّا فأسلمَ فإنِّي سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ إنَّهُ عاشِرُ عشرةٍ في الجنَّةِ".صححه الألباني في صحيح الترمذي
وقد ولي أبو الدرداء رضي الله عنه قضاء دمشق، وكان من العلماء الحلماء الألِبَّاء.
حاله مع ربه
عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يقوم من جوف الليل، فيقول: "نامَتِ العُيُونُ، وَغارَتِ النُّجُومُ، وأنْتَ حَيٌّ قَيُّوم". وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "لأَنْ أقول: الله أكبر مائة مرة أحبُّ إليَّ من أن أتصدق بمائة دينار".
خوفه وخشيته
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: أضحكني مُؤمِّل دنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك بملء فِيهِ ولا يدري أرضي الله أم أسخطه؟! وأبكاني فراق الأحبة محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، والوقوف بين يدي الله، ولا أدري إلى الجنة أم إلى النار؟!".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه لبعيرٍ له عند الموت: "أيها البعير، لا تخاصمني إلى ربك؛ فإني لم أكُ أحمِّلك فوق طاقتك".
حرصه على الأخوة في الله
كان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: أعوذ بالله أن يأتي عليَّ يوم لا أذكر فيه عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، كان إذا لقيني مقبلاً ضرب بين ثديي، وإذا لقيني مدبرًا ضرب بين كتفي، ثم يقول: يا عويمر، اجلس فلنؤمن ساعة. فنجلس فنذكر الله ما شاء، ثم يقول: يا عويمر، هذه مجالس الإيمان.
ولما قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا؟ قال: "إنما أبغض عمله وإلاَّ فهو أخي، وأخوة الدين أوكد من أخوة القرابة". وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: "إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي، أسمِّيهم بأسمائهم".
حرصه على الدعوة إلى الله
عن رجل من النخع قال: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه حين حضرته الوفاة قال: أحدثكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « اعبدِ الله كأنكَ تراهُ ، فإن لم تكنْ تراهُ فإنه يراك ، واعددْ نفسكَ في الموتَى ، وإياكَ ودعوةُ المظلومِ فإنها تستجابُ ، ومن استطاعَ منكم أن يَشهدَ الصلاتينِ العشاءَ والصبحَ ولو حَبوا فليفعلْ».حسنه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة
من مواقفه مع الصحابة
موقفه مع سلمان الفارسي
روى البخاري بسنده عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه قال:
آخَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزار سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأَى أمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فقال لها : ما شأنُك ؟ . قالتْ : أخوك أبو الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدنيا . فجاء أبو الدَّرداءِ، فصنَع له طعامًا، فقال : كُلْ، قال : فإني صائمٌ،
قال : ما أنا بآكِلٍ حتى تأكُلَ، قال : فأكَل، فلما كان الليلُ ذهَب أبو الدَّرداءِ يقومُ، قال : نَمْ، فنام، ثم ذهَب يقومُ، فقال : نَمْ، فلما كان من آخِرِ الليلِ، قال سَلمانُ : قُمِ الآنَ، فصلَّيا، فقال له سَلمانُ : إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفْسِك عليك حقًّا،
ولأهلِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَر ذلك له، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : صدَق سَلمانُ .صحيح البخاري
موقفه مع أبي بن كعب
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: جلس رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا على المنبرِ فخطَب الناسَ وتَلَا آيَةً وإِلى جنبي أُبَيُّ بنُ كعْبٍ فقلْتُ له يا أُبَيُّ متى أُنزِلَتْ هذِهِ الآيَةُ قال فَأَبَى أنْ يُكَلِّمَنِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فأبى أنْ يُكَلِّمَنِي حتى نزل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
فقال أُبَيٌّ ما لَكَ من جمعتِكَ إلَّا ما لَغَيْتَ فلمَّا انصرفَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جئتُهُ فأخبرتُهُ فقلْتُ أيْ رسولَ اللهِ إنكَ تَلَوْتَ آيةً وإلى جنْبِي أُبَيُّ بنُ كعبٍ فقلْتُ له متى أنزِلَتْ هذِهِ الآيَةُ فأَبَى أنْ يكلمَنِي حتى إذا نزلَتْ زعم أُبَيٌّ أنه ليس لي من جمعتي إلَّا مَا لَغَيْتَ فقال صَدَقَ أُبَيٌّ إذا سمعْتَ إِمامَكَ يَتَكَلَّمُ فَأَنْصِتْ حتى يفرَغَ .
الراوى:أبو الدرداء المحدث: الهيثمي - المصدر: مجمع الزوائد - الصفحة أو الرقم: 2/187
خلاصة حكم المحدث: رجال أحمد موثقون
من مواقفه مع التابعين
موقفه مع أهل الشام
عن الضحاك قال: قال أبو الدرداء رضي الله عنه: يا أهل دمشق، أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودتي، وإنما مؤنتي على غيركم، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجُهّالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تُكفّل لكم به، وتركتم ما أمرتم به، ألا إن قومًا بنوا شديدًا، وجمعوا كثيرًا، وأمَّلُوا بعيدًا، فأصبح بنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا، وجمعهم بورًا، ألا فتعلّموا وعلِّموا؛ فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما".
موقفه يوم فتح قبرص
عن جبير بن نفير قال: لما فتحت قبرص فُرِّق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء رضي الله عنه جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟!
قال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا تركوا أمره.
أثره في الآخرين (دعوته وتعليمه)
روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه كتب إلى سلمان: " يا أخي فاغتنِمْ صحتَك قبل سقمِك وفراغَك قبل أن ينزلَ من البلاءِ ما لا يستطيعُ أحدٌ من الناسِ ردَّه ويا أخي اغتنِمْ دعوةَ المؤمنِ المُبتلَى ويا أخي لِيكُنْ المسجدُ بيتَك فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول : المسجدُ بيتُ كلِّ تقِيٍّ»حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة
وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى رضوان الله عز وجل. ويا أخي، ارحم اليتيم وأدنه وأطعمه من طعامك
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقد أتاه رجل يشتكي قساوة قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتحبُّ أن يلينَ قلبُك ، و تُدْرِكَ حاجتَكَ ؟ ارحَمِ اليتيمَ ، و امسَح رأسَه ، وأطْعِمْه من طَعامِك ، يَلِنْ قلبُك ، وتُدْرِكْ حاجتَكَ"صححه الألباني في صحيح الجامع.
ويا أخي، لا تغترن بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنا عشنا بعده دهرًا طويلاً، والله أعلم بالذي أصبنا بعده".
وعن أبي قلابة أن أبا الدرداء رضي الله عنه مر على رجلٍ قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبونه، فقال: "أرأيتم لو وجدتموه في قَلِيبٍ، ألم تكونوا مستخرجيه؟!
قالوا: بلى.
قال: «فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله عز وجل الذي عافاكم».
قالوا: أفلا تبغضه؟!
قال: «إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي».
بعض ما رواه عن رسول الله
روى مسلم بسنده عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « من حفِظ عشرَ آياتٍ من أولِ سورةِ الكهفِ ، عُصِمَ من الدَّجَّالِ».صحيح مسلم
وروى الترمذي بسنده عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ».صححه وحسنه الترمذي في سننه
من كلمات أبي الدرداء
كان أبو الدرداء رضي الله عنه حكيمًا وأيَّ حكيم، ومن بستان حكمته قوله رضي الله عنه: "لو أن رجلاً هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت".
وقوله: "من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر حلفه كثر إثمه، ومن كثرت خصومته لم يسلم دينه".
وقال أيضًا: "من لم يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه، فقد قلَّ علمه وحضر عذابه، ومن لم يكن غنيًّا عن الدنيا فلا دنيا له".
موقف الوفاة
عن أم الدرداء -رضي الله عنها- أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما احتضر جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا؟! من يعمل لمثل ساعتي هذه؟! من يعمل لمثل مضجعي هذا؟! ثم يقول: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
مات أبو الدرداء رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة بدمشق، وقيل: سنة إحدى وثلاثين.
مادة الموضوع منقولة من موقع ( قصة الإسلام ) بتصرف
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ولا تنسوني من صالح دعائكم
تعليق