نسب ابن الجوزي
هو الإمام العالم الزاهد الحافظ المؤرخ الواعظ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادى بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي، المعروف بأبي الفرج ابن الجوزي.
والجوزي نسبة إلى شجرة جوز كانت في داره بواسط ولم يكن بواسط جوزة غيره، وقيل غير ذلك.
نشأة ابن الجوزي
ولد ابن الجوزي –رحمه الله- بدرب حبيب في بغداد سنة 511هـ/ 1117م ، واختلف كذلك في تاريخ مولده. وعلى هذا فإن ابن الجوزي ولد بغداد في فترة سيطرة السلاجقة على الخلافة العباسية، وبالتحديد في خلافة المستظهر بالله العباسي (من محرم 487هـ حتى ربيع آخر 512هـ)، وهي فترة عرفت بالاضطرابات السياسية والعسكرية عانت منها الخلافة سنينا.
وقد نشأ ابن الجوزي في أحضان أسرة غنية ميسورة الحال فقد كان أهله يعملون في تجارة النحاس، ولهذا كان ابن الجوزي يكتب اسمه أحيانا: بـ (عبد الرحمن الصفار)، أو ابن جوزي الصفار.
توفي والد عبد الرحمن بن الجوزي وعمره ثلاث سنوات، فكفلته أمه وعمته، فأحسنتا رعايته وتربته والاعتناء به؛ ولما ترعرع ووجدت عمته فيه من النباهة والذكاء، أرسلته إلى مسجد أبي الفضل ابن ناصر (محمد بن ناصر الحافظ) وهو خاله، فلزم الشيخ ابن ناصر الحافظ وقرأ عليه وسمع عليه الحديث، وقد قيل: إن أول سماعه سنة 516هـ، أي كان لابن الجوزي من العمر نحو 5 سنوات تقريبا.
حياة ابن الجوزي الأولى في طلب العلم
كانت للتنشئة الحسنة لابن الجوزي على يد أمه وعمته وشيخه ابن ناصر الحافظ أثر كبير في تكوين حياته العلمية الأولى وزرع حب العلم في قلبه، كما كان الغنى والثراء وكثرة التجارة والأموال التي تركها والده أثر كبير في تفرغ ابن الجوزي للعلم وعدم الانشغال بغيره، لذا شرع عبد الرحمن بن الجوزي في طلب العلم وهو صغير، وهذا ما جعله فريدا في عصره وبين أقرانه.
ومع ما كان يتمتع به ابن الجوزي من الغنى والثراء اللذين يغريان أي شاب أن يتمتع ويتلذذ بهما ما يشاء وخاصة مع انتشار الغناء في بغداد وتعدد وسائل اللهو إلا الصبي ما كان ينظر إلى كل هذا، بل نراه –رحمه الله- يجاهد نفسه لترويضها على القليل من متاع الدنيا، بل نشأ –رحمه الله- يتيما على العفاف والصلاح.
وكان ابن الجوزي في صغره وطفولته لا يحب مخالطة الناس خوفا من ضياع الوقت في الهفوات، فيقول ابن كثير: "وَكَانَ وهو صبي دَيِّنًا مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا ولا يأكل ما فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان".
لقد روّض ابن الجوزي –رحمه الله- نفسه منذ صغره على حب العلم وطلبه وتعلمه، فلم يعد ينشغل بغيره ولا يهدر همته إلا عليه، فنراه يقول عن نفسه: "إنني رجل حبب إلي العلم من زمن الطفولة، فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد منه، بل فنونه كلها، ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه، والزمان لا يسع، والعمر أضيق، والشوق يقوى، والعجز يظهر، فيبقى وقوف بغض المطلوبات حسرات".
والأكثر من ذلك أن ابن الجوزي –رحمه الله- كان يعرض نفسه للشدائد طلبا للعلم، فلم تكن حياته العلمية الأولى سهلة ميسورة بل كانت مليئة بالمتاعب والصعاب، ولكن الفتى حبب إليه العلم فأصبحت الشدائد في طلب العلم ملذات، فنراه يقول عن نفسه: " ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل، لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى (نسبة إلى الأمير عيسى بن علي)، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة، شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم"، وهذا ما لا يتوفر إلا في عظماء الرجال.
شيوخ ابن الجوزي
ذكر ابن الجوزي –رحمه الله- شيوخه في كتاب خاص سماه (مشيخة ابن الجوزي)، وقد عدّ فيه أبو الفرج ابن الجوزي –رحمه الله- 86 شيخا وثلاث نسوة.
وقد تتلمذ ابن الجوزي على يد جملة من المشايخ والعلماء هم خيرة علماء عصره، وما ذلك إلا بحسن اختيار مشايخه ومن يأخذ عنه، فمع صغر سنه في طلب العلم إلا أنه تمتع بحسن بصيرته جعلته يميز بين العلماء فنراه يقول: " حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر وأسمعني العوالي، وأثبت سماعاتي كلّها بخطّه، وأخذ لي إجازات منهم، فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم وأوثر من أرباب النقل أفهمهم، فكانت همتي تجويد العُدد لا تكثير العَدد".
وذكر ابن رجب الحنبلي والصفدي جملة من مشايخه في ترجمتهما له.
من أشهر شيوخ ابن الجوزي
1- أبو الفضل محمد بن ناصر الحافظ (467 /550 هـ): وهو خاله، وقد اعتنى به وأسمعه الحديث، وقد قيل: إن أول سماعاته سنة 516هـ، "وَكَانَ -ابن ناصر- حَافِظًا ضَابِطًا مُكْثِرًا من السُّنَّةِ كَثِيرَ الذِّكْرِ، سَرِيعَ الدَّمْعَةِ"، ويرجع الفضل له بعد الله تعالي إلى ما وصل إليه ابن الجوزي من العلم، يقول ابن الجوزي: "حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر، وأسمعني العوالي، وأثبت سماعاتي كلها بخطه، وأخذ لي إجازات منهم".
2- أبو الحسن عليّ بن عبد الواحد الدينوري: عدّه ابن الجوزي الشيخ (5)، وأخذ عنه الفقه والخلاف والجدل والأصول، وكان يسكن باب البصرة من غربي بغداد. وتوفي في جمادى الآخرة سنة 521ه.
3- أبو منصور الجواليقي (465- 540هـ): عدّه ابن الجوزي الشيخ (41)، وهو اللغوي الأديب، قال عنه ابن الجوزي: " انْتَهَى إِلَيْهِ عِلْمُ اللُّغَةِ.. وَكَانَ غَزِيرَ الْعَقْلِ مُتَوَاضِعًا، طَوِيلَ الصَّمْتِ، لا يَقُولُ شَيْئًا إِلا بَعْدَ التَّفْكِيرِ الطَّوِيلِ وَالْيَقِينِ"، أخذ عنه ابن الجوزي الأدب واللغة.
تلاميذ ابن الجوزي
تتلمذ على يدي ابن الجوزي –رحمه الله- جملة من التلاميذ حملوا شعلة العلم في ربوع الدني.
ومن أشهر تلاميذه
1- سبط ابن الجوزي: شمس الدين أبو المظفر يوسف بن قزغلي التّركي البغدادي الحنفي، سبط الإمام عبد الرحمن بن الجوزي (581- 654هـ)، ولد ببغداد ومات بدمشق، وَكَانَ إِمَامًا فَقِيها واعظا وحيدا فِي الْوَعْظ عَلامَة فِي التَّارِيخ وَالسير. صنف مجموعة من الكتب، منها: مرآة الزمان في التاريخ، وشرح الجامع الكبير.
2- الحافظ عبد الغني المقدسي: أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد الجمّاعيلي المقدسي الدمشقي (541- 600هـ)، ولد بجمّاعيل بنابلس وتوفي بمصر، كَانَ أَوْحَدَ زَمَانِهِ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْحِفْظِ، من مصنفاته: الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى.
ابن الجوزي .. العالم الموسوعي
كان ابن الجوزي –رحمه الله- عالم موسوعي كبير، يقول ابن كثير: "برز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وَجَمَعَ الْمُصَنَّفَاتِ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ نَحَوًا مِنْ 300 مصنف، وكتب بيده نحوا من 200 مُجَلَّدَةٍ ... وَلَهُ فِي الْعُلُومِ كُلِّهَا الْيَدُ الطُّولَى، والمشاركات في سائر أنواعها مِنَ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّارِيخِ وَالْحِسَابِ وَالنَّظَرِ فِي النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو[".
ويقول ابن رجب الحنبلي: "ولم يترك فنا من الفنون إلا وله فيه مصنف"، وقال أيضا: "وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كافٍ".
أعمال ابن الجوزي ووظائفه
تنوعت أعمال ابن الجوزي –رحمه الله- بين الوعظ والتدريس والتأليف والخطابة:
الخطابة
قال ابن كثير –رحمه الله- في ترجمته له: "وَلَهُ مَقَامَاتٌ وَخُطَبٌ".
الوعظ
وهو ما غلب على ابن الجوزي-رحمه الله- حتى كان أستاذا فريدا في الوعظ، وبلغ في صناعة الوعظ شهرة عمّت الآفاق، وقد شهد مجلسه الرحالة الشهير ابن جبير، وأطنب في الكلام عنه في رحلته.
التدريس
قال ابن رجب الحنبلي: "ودرّس بعدة مدارس، وبنى لنفسه مدرسة بدرب دينار، ووقف عليها كتبه".
التأليف
ومن أعجب ما قيل في ذلك ما قاله ابن خلكان في ترجمته لابن الجوزي، يقول: "وبالجملة فكتبه أكثر من أن تعد، وكتب بخطه شيئاً كثيراً، والناس يغالون في ذلك حتى يقولوا: إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس، وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل. ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل منها شيء كثير، وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته، ففعل ذلك، فكفت وفضل منه".
مجالس وعظ ابن الجوزي
ما ذكر ابن الجوزي إلا وذكر معه الوعظ، وما ذكر الوعظ إلا وذكر معه ابن الجوزي، فهما متلازمان دائما، فما ترجم له مؤرخ إلا وذكر معه كلمة (الواعظ)، وما بلغ عالم في فن الوعظ بمثل ما بلغه ابن الجوزي –رحمه الله، حتى قال ابن كثير: "وَتَفْرَّدَ بِفَنِّ الْوَعْظِ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وَحَلَاوَةِ تَرْصِيعِهِ وَنُفُوذِ وَعْظِهِ وَغَوْصِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْبَدِيعَةِ، وَتَقْرِيبِهِ الْأَشْيَاءَ الْغَرِيبَةَ فِيمَا يُشَاهَدُ مِنَ الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة".
وقال ابن خلكان: "كان علاّمة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ".
وقد بدأت ملكات الوعظ عند ابن الجوزي –رحمه الله- من الصغر، فبدأ التصنيف والوعظ وهو صغير جدا، وذلك بعد وفاة شيخه ابن الزاغوني سنة 527هـ، أي كان يبلغ من العمر 16 أو 17 عاما، وقد أخذ عنه الوعظ والفقه بل وخلف أستاذه ودرّس في حلقته مع صغر سنه في جامع المنصور.
وأما عن زمان ومكان مجالس وعظ ابن الجوزي –رحمه الله- فقد ذكرها ابن جبير الأندلسي في رحلته فهو بإزاء دار ابن الجوزي –رحمه الله- بالجانب الشرقي على شاطئ نهر دجلة بجوار قصور الخلافة ببغداد وبمقربة من باب البصيلة آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت.
وعن وصف مجالس وعظ ابن الجوزي يقول سبطه أبو المظفر: "أقل ما كان يحضر مجلسه عشرة آلاف، وربما حضر عنده مائة ألف، وأوقع الله له في القلوب القبول والهيبة. وكان زاهدا في الدنيا، متقللا منها، وسمعته يقول على المنبر في آخر عمره: كتبت بإصبعي هاتين ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون ألف يهودي ونصراني".
وقد قدّم الرحالة المسلم ابن جبير وصفا عجيبا لمجالس ابن الجوزي –رحمه الله- في رحلته الشهيرة فيُرجع إليه.
وكان ابن الجوزي –رحمه الله- إذا وعظ اختلس القلوب وتشققت النفوس دون الجيوب، ولرقة ما يسمع وخشوع ما يقال قال ابن الجوزي في تاريخه: "وقد تاب على يدي أكثر من مائة ألف وقطعت أكثر من عشرين ألف طائلة ولم ير لواعظ قط مثل مجلسي جمع الخليفة والوزير وصاحب المخزن وكبار العلماء".
ولم تقتصر مجالس وعظ ابن الجوزي على مدرسته وداره بل تعدت إلى جوامع بغداد ومدارسها، وكان الناس يزاحمون مجالسه من شدة الحضور، ومن تلك الأماكن مدرسته بدرب دينار، وهي التي بناها أبو الفرج ابن الجوزي ودرس بها سنة 570هـ، وقد درَّس في أول يوم تدريسه بها أربعة عشر درسا من فنون العلم، ومن أماكن وعظه كذلك –رحمه الله- باب بدر وجامع القصر وجامع المنصور وغيرها كثير.
ولم تكن مجالس وعظ ابن الجوزي مقتصرة على الرقائق وفقط بل كانت مليئة بفنون العلوم، ومنها تفسير القرآن الكريم، وقد انتهى ابن الجوزي –رحمه الله من تفسير القرآن الكريم في يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى سنة 570ه.
ولسعة شهرة مجالس ابن الجوزي في التدريس والوعظ تعلقت به دار الخلافة، حتى كان الخليفة ووزراؤه وأعيان الخلافة والفقهاء يحضرون مجالس وعظ ابن الجوزي في دار الخلافة نفسها، وقد روي أن أمير المؤمنين المستضيء بأمر الله (من ربيع الآخر 566هـ حتى ذي القعدة 575هـ) سمع ابن الجوزي ينشد تحت داره:
ستنقلك المنايا عن ديارك ... وَيُبْدِلُكَ الردى دارا بدارك
وتترك ما عنيت به زمانا ... وتنقل من غناك إلى افتقارك
فدود القبر في عينيك يرعى ... وترعى عين غيرك في ديارك
فجعل المستضيء يمشي في قصره ويقول: أي والله: وترعى عين غيرك في ديارك ويكررها ويبكي حتى الليل.
فلله در ابن الجوزي –رحمه الله-، فكم من قلوب خشعت وكم من نفوس رجعت وكم من عيون دمعت من خشية الله، وليس ذلك كله إلا بفضل الله ومنِّه عليه.
أخلاق ابن الجوزي وصفاته
قال الموفق عبد اللطيف: "كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة".
وقد تمتع ابن الجوزي –رحمه الله- بجملة من الأخلاق والصفات التي لا تتوفر إلا في أفراد الرجال، ونذكر منها:
حب العزلة طلبا للعلم
وذلك طلبا للعلم ورغبة في تحصيل المزيد منه على نحو ما ذكرناه في نشأته –رحمه الله، وفي هذا يقول ابن كثير: "وَكَانَ وهو صبي دَيِّنًا مَجْمُوعًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا ولا يأكل ما فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا للجمعة، وكان لا يلعب مع الصبيان".
الثقة في النفس
وهي وإن كانت زائدة ويراها غيري ذما إلا أنني أراه مدحا، فقد رأى ابن كثير –رحمه الله- هذه الثقة الزائدة لدى ابن الجوزي –رحمه الله- عجبا وترفعا في النفس، يقول: "وَقَدْ كَانَ فِيهِ بَهَاءٌ وَتَرَفُّعٌ فِي نَفْسِهِ وإعجاب وسمو بِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِهِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كلامه فِي نَثْرِهِ وَنَظْمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
مَا زِلْتُ أُدْرِكُ مَا غَلَا بَلْ مَا عَلَا ... وَأَكَابِدُ النَّهْجَ الْعَسِيرَ الْأَطْوَلَا
تَجْرِي بِيَ الْآمَالُ في حلباته ... جرى السعيد مدى ما أملا
أفضى بى التوفيق فيه إلى الّذي ... أعيا سِوَايَ تَوَصُّلًا وَتَغَلْغُلَا
لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شخصا ناطقا ... وسألته هل زار مثلي؟ قال: لا".
وما ذكره ابن كثير –رحمه الله- أراه صفة مدح ما لم تختلط بعجب ممقوت أو تكبر على الآخرين، وهو ما نحسبه غير موجود في ابن الجوزي –رحمه الله.
البديهة والذكاء
فمن أحسن ما يحكى عنه –في هذا المقام- أنه وقع النزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي -رضي الله عنهما-، فرضي الكل بما يجيب به أبو الفرج ابن الجوزي، فأقاما شخصاً سأله عن ذلك وهو على الكرسي في مجلس وعظه، فقال ابن الجوزي: أفضلهما من كانت ابنته تحته، ونزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك، فقالت السنة: هو أبو بكر –رضي الله عنه؛ لأن ابنته عائشة -رضي الله عنها- تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الشيعة: هو علي –رضي الله عنه؛ لأن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشجاعة
فكان لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، وكان ابن الجوزي –يقول الحق ولو فيه رقبته، وكان –رحمه الله- لا يبخل على الأمراء والخلفاء بمواعظه ونصائحه، فقد روي أنه قال لأحد الأمراء: يا أمير اذكر عند القدرة عدل الله فيك، وعند العقوبة قدرة الله عليك، ولا تشف غيظك بسقم دينك.
وكان الخلفاء والأمراء يواظبون على حضور مجالس وعظ ابن الجوزي، فالتفت مرة وهو وعظه إلى الخليفة العباسي المستضيء وقال له: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ تَكَلَّمْتُ خِفْتُ مِنْكَ، وَإِنْ سَكْتُّ خِفْتُ عَلَيْكَ، وَإِنَّ قَوْلَ القائل لك اتّق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: إِذَا بَلَغَنِي عَنْ عامل لي أنه ظلم فَلَمْ أُغَيِّرْهُ فَأَنَا الظَّالِمُ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. وَكَانَ يُوسُفُ لَا يَشْبَعُ فِي زَمَنِ الْقَحْطِ حتى لا ينسى الجائع، وَكَانَ عُمْرُ يَضْرِبُ بَطْنَهُ عَامَ الرَّمَادَةِ وَيَقُولُ قرقرا ولا تقرقرا، والله لا ذاق عمر سَمْنًا وَلَا سَمِينًا حَتَّى يُخْصِبَ النَّاسُ. قَالَ فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وَأَطْلَقَ الْمَحَابِيسَ وَكَسَا خَلْقًا مِنَ الْفُقَرَاءِ.
محاربته البدع والرافضة
فقد كان زمانه –رحمه الله- زمان فتن وبدع وبُعد عن الله تعالى، إلا أن الله تعالى قيض للأمة ابن الجوزي –رحمه الله- فكان لأصحاب البدع بالمرصاد، يقول عن نفسه –رحمه الله: "وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب، فأعانني الله سبحانه وتعالى عليهم. وكانت كلمتنا هي العلي.
وأما عن الشيعة الرافضة فقد وقف لهم ولأكاذيبهم بالمرصاد، وكانوا قد كثروا وقويت شوكتهم في زمان الخليفة المستضيء، يقول ابن الجوزي فكتب صاحب المخزن إلى الخليفة: "إن لم تُقَوَِّ يدَ ابن الجوزي لم يطق دفع البدع". فكتب الخليفة بتقوية يدي، فأخبرت الناس ذلك على المنبر، وقلت: "إن أمير المؤمنين، قد بلغه كثرة الرفض، وقد خرج توقيعه بتقوية يدي في إزالة البدع، فمن سمعتموه من العوام ينتقص الصحابة فأخبروني حتى أنقض داره، وأخلده الحبس، فإن كان من الوعاظ حفرته إلى المثال، فانكف الناس.
عبادة ابن الجوزي وزهده
يقول ابن رجب الحنبلي: "وكان رحمه الله مع هذه الفضائل والعلوم الواسعة ذا أوراد وتأله، وله نصيب من الأذواق الصحيحة، وحظ من شرب حلاوة المناجاة. وقد أشار هو إلى ذلك. ولا ريب أن كلامه في الوعظ والمعارف ليس بكلام ناقل أجنبي مجرد عن الذوق، بل كلام مشارك فيه.
وقد ذكر ابن القادسي في تاريخه: "أن الشيخ كان يقوم الليل ويصوم النهار، وله معاملات، ويزور الصالحين إذا جن الليل، ولا يكاد يفتر إذا جن الليل، ولا يكاد يفتر عن ذكر الله، وله في كل يوم وليلة ختمة يختم فيها القرآن .. ورأى رب العزة في منامه ثلاث مرات.
آثار ابن الجوزي العلمية
ترك ابن الجوزي -رحمه الله- جملة من المصنفات والمؤلفات العلمية التي ما نال الزمان بمثلها، حتى قال ابن كثير: " وَلَهُ مِنَ الْمُصَنَّفَاتِ فِي ذَلِكَ مَا يَضِيقُ هذا المكان عَنْ تِعْدَادِهَا، وَحَصْرِ أَفْرَادِهَ.
وقال ابن الجوزي: "أول ما صنفت وألفت ولي من العمر 13 سنة.
ونذكر منها:
1- كتاب المغني في التفسير.
2- زاد المسير في علم التفسير.
3- تيسير البيان في تفسير القرآن.
4- تذكرة الأريب في تفسير الغريب.
5- الوجوه والنظائر.
6- النَّاسِخ والمنسوخ.
7- جَامع المسانيد.
8- فنون الأفنان في عيون علوم القرآن.
9- تذكرة المنتبه في عيون المشتبه.
10- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية.
11- المسلسلات.
12- مناقب أحمد بن حنبل.
13- صفوة الصفوة.
14- تلقيح فهوم أهل الأثر.
15- تلبيس إبليس.
16- ذم الهوى.
17- صيد الخاطر.
18- الموضوعات.
19- الثبات عند الممات.
20- التبصرة.
21- غريب الحديث.
22- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم.
23- بستان الواعظين ورياض السامعين.
مما أخذ على ابن الجوزي
لا يبلغ الكمال أحد إلا الله تعالى، وليس هناك مخلوق معصوم من الخطأ والزلل إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وابن الجوزي –رحمه الله- مع ما وصل إليه من العلم فقد أخذ العلماء عليه جملة من المآخذ، ومنها:
كثرة أغلاطه في تصانيفه
وعذره في هذا واضح، وهو أنه كان مكثرا من التصانيف، فيصنف الكتاب ولا يعتبره، بل يشتغل بغيره. وربما كتب في الوقت الواحد من تصانيف عديدة. ولولا ذلك لم يجتمع له هذه المصنفات الكثيرة، ولهذا نقل عنه أنه قَالَ: أنا مُرتب، ولست بمصنف.
ميله إلى التأويل في بعض كلامه
وقد اشتد نكير العلماء عليه في ذلك، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف، وهو وإن كان مطلعا على الأحاديث والآثار في هذا الباب، فلم يكن خبيرا بحل شبهة المتكلمين، وبيان فِسادها، وابن الجوزي في هذا تابعا لشيخه أبي الوفاء بن عقيل، وكان ابن عقيل بارعا في الكلام، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار. فلهذا يضطرب في هذا الباب، وتتلون فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له في هذا التلون.
وأما ما يثبت ميل ابن الجوزي –رحمه الله- إلى التأويل ما وجد من ثنايا كتبه حيث ألّف كتابًا مستقلاً يناقش هذا الموضوع باسم (دفع شبه التشبيه) وهو مطبوع أورد فيه بعض آيات قرآنية، وستين حديثًا ورد فيها الكلام عن ذات الله وصفاته صلى الله عليه وسلم، كالوجه، واليد، والنفس، والساق، والاستواء، فيؤوّلها بما يحتمل التأويل بخلاف ما ذهب إليه السلف من إمرارها كما وردت بدون تأويل ولا تشبيه، ولا تعطيل.
وعن هذا قال موفق الدين المقدسي: كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ ... وكان حافظا للحديث، وصنف فيه، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة، ولا طريقته فيه.
وأقول: إنا ما أخذه العلماء الثقات على ابن الجوزي –رحمه الله- يتيه في بحار حسناته وما قدمه للأمة الإسلامية.. وكفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه.
محنة ابن الجوزي
كان ابن الجوزي –رحمه الله- كما ذكرنا شجاعا في الحق لا يخاف في الله لومة لائم، ومن كانت هذه صفاه فلا ريب أنه سيتعرض للمحن والشدائد والابتلاءات، وهذا مصير العلماء العاملين المجاهدين.
امتحن ابن الجوزي –رحمه الله- في آخر عمره وذلك سنة 590هـ، وكانت محنته –رحمه الله- مع الشيعة الرافضة، وقصة محنته كما في كتب السير وملخصها: أن الوزير ابن يونس الحنبلي كان في ولايته قد عقد مجلسا للركن عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد القادر الجيلي (الجيلاني)، وأحرقت كتبه، وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأى الأوائل شيء كثير، وذلك بمحضر من ابن الجوزي وغيره من العلماء، وانتزع الوزير ابن يونس منه مدرسة جده عبد القادر الجيلاني، وسلمها إلى ابن الجوزي، فلما ولي الوزارة ابن القصاب - وكان رافضيا خبيثا - سعى في القبض على ابن يونس، وتتبع أصحابه، فقال له الركن عبد السلام بن عبد الوهاب: أين أنت عن ابن الجوزي؟ فإنه ناصبي ومن أولاد أَبي بكر الصديق، فهو من أكبر أصحاب ابن يونس، وأعطاه مدرسة جدي، وأحرقت كتبي بمشورته. فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر (575 ـ 622هـ) وكان الناصر له ميل إلى الشيعة ولم يكن - له ميل إلى الشيخ أبي الفرج، بل قد قيل: إنه كان يقصد أذاه، فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام، فجاء إلى دار الشيخ وشتمه، وأغلظ عليه وختم على كتبه وداره، وشتت عياله.
فلما كان في أول الليل حمل في سفينة وليس معه إلا عدوه الركن، وعلى الشيخ ابن الجوزي غلالة بلا سراويل، وعلى رأسه تخفيفة، فأحدر إلى واسط. وكان ناظرها شيعيا. فقال له الركن: مكني من عدوي لأرميه في المطمورة (السجن)، فزبره (فمنعه)، فقال الناظر الشيعي: يا زنديق، أرميه بقولك!، هات خط الخليفة، والله لو كان من أهل مذهبي لبذلت روحي ومالي في خدمته.
قال ابن القادسي: وأفردت للشيخ دار بدرب الديوان، وأفرد له من يخدمه، وبقي الشيخ محبوسا بواسط في داره، وأقام بها خمس سنين يخدم نفسه بنفسه، ويغسل ثوبه ويطبخ، ويستقي الماء من البئر، ولا يتمكن من خروج إلى حمام ولا غيره وقد قارب الثمانين.
وبقي على ذلك من سنة 590هـ إلى سنة 595هـ، فأفرج عنه، وقدم إلى بغداد وخرج خلق كثير يوم دخوله لتلقيه، وفرح به أهل بغداد فرحا زائدا، ونودي له بالجلوس يوم السبت .. ولم يزل الشيخ على عادته الأولى في الوعظ، ونشر العلم وكتابته إلى أن مات.
وفاة ابن الجوزي
بعد هذه الرحلة الطويلة من حياة أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي وقد بلغ من العمر قرابة التسعين عاما يمرض ابن الجوزي ويبقى في فراشه خمسة أيام ثم ينتقل إلى جوار ربه في وقت طيب وفي ليلة طيبة وفي شهر طيب، بين العشاءين في ليلة الجمعة 12 رمضان 597هـ وله من العمر 86 عاما، فاجتمعت جموع غفيرة جدا من أهل بغداد في تشييعه، وغلقت الأسواق، وحملت جنازته على رؤوس الناس إلى مقبرة باب حرب، وكان يوما مشهودا لم يصل إلى حفرته عند قبر الإمام أحمد إلى وقت صلاة الجمعة، وقيل أنه أفطر خلق كثير من شد الحر والزحام، وما وصل إلى حفرته من الكفن إلا القليل، ونزل في الحفرة والمؤذن يقول: الله أكبر، ودفن إلى جوار قبر الإمام أحمد.
وَقَدْ أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى قَبْرِهِ هَذِهِ الْأَبْيَاتُ:
يَا كَثِيرَ الْعَفْوِ لمن ... كثرت الذنوب لديه
جاءك المذنب يرجو الصفح ... عن جرم يديه
أنا ضيف وجزاء ... الضيف إحسان إليه
وحزن الناس عليه حزنا شديدا، وبكوا عليه بكاء كثيرا، وباتوا عند قبره طول شهر رمضان يختمون الختمات بالقناديل والشموع والجماعات.
ورئيت لَهُ منامات كثيرة حسنة رضي الله عنه، منها أن المحدث أحمد بن سلمان الحربي رأى ابن الجوزي –رحمه الله- في تلك الليلة على منبر من ياقوت مُرصَّع بالجوهر، والملائكة جلوس بين يديه، والحق تعالى حاضر يسمع كلامه
منقووووووول