

مريم بنت عمران البتول العذراء
هي أم نبي الله وكلمته عيسي –عليهما السلام , وقصتها تنبع من معجزة عيس الذي ولد منها من غير أب وكانت من أهل الورع والتقوي ولقد أثني عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أثني علي امرأة فرعون فقال:
"أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم امرأة فرعون" صحيح )- انظر حديث رقم : 1135 في صحيح الجامع .
ولأن قصة ميلادها لعيسي عليه السلام معجزة ربانية فمن الجدير بنا ان نتدبر قصتها من البداية وهاهي والله المستعان .
امرأة عمران تنذر ما في بطنها لبيت المقدس:
امرأة عمران هي أم مريم وقد نذرت لله أن رزقها الله بولد أن تجعله في خدمة بيت المقدس ولكن حدث ما أوقعها في حيرة !!
قال تعالى وهو أصدق القائلين : { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)– أل عمران
يبين لنا الحافظ بن كثير في تفسيره قصتها فيقول:
كان أبوها عمران صاحب صلاة بني إسرائيل في زمانه وكانت أمها وهي حنة بنت فاقود بن قبيل من العابدات وكان زكريا نبي ذلك الزمان زوج أخت مريم " أشياع " في قول الجمهور وقيل زوج خالتها " أشياع " فالله أعلم
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أمر مريم كانت لا تحبل فرأت يوما طائرا يزق فرخا له فاشتهت الولد فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها محررا أي حبيسا في بيت المقدس
قالوا : فحاضت من فورها فلما طهرت واقعها بعلها فحملت بمريم عليها السلام { فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } وقرئ بضم التاء { وليس الذكر كالأنثى } أي في خدمة بيت المقدس وكانوا في ذلك الزمان ينذرون لبيت المقدس خداما من أولادهم
وقولها : { وإني سميتها مريم } استدل به على تسمية المولود يوم يولد..ثم قال
وقولها : { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } قد استجيب لها في هذا كما تقبل منها نذرها.
وقوله : { فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا } ذكر كثير من الفسرين أن أمها حين وضعتها لفتها في خرقها ثم خرجت بها إلى المسجد فسلمتها إلى العباد الذين هم مقيمون به وكانت ابنة إمامهم وصاحب صلاتهم فتنازعوا فيها.اهـ
كفالة زكريا لمريم –عليهما السلام:
عندما أصبح كفالة مريم من نصيب زكريا- عليهما السلام- قام براعيتها ولما اشتد عودها جعل لها محراباً لا يدخله أحد غيره ومع ذلك كان يدهشة مايجده عندها من طعام ورزق!!
قال تعالي "...وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "
قال ابن كثير ما مختصره:
قال المفسرون : اتخذ لها زكريا مكانا شريفا من المسجد لا يدخله سواها فكانت تعبد الله فيه وتقوم بما يجب عليها من سدانة البيت إذا جاءت نوبتها وتقوم بالعبادة ليلها ونهارها حتى صارت يضرب بها المثل بعبادتها في بني إسرائيل واشتهرت بما ظهر عليها من الأحوال الكريمة والصفات الشريفة حتى إنه كان نبي الله زكريا كلما دخل عليها موضع عبادتها يجد عندها رزقا غريبا في غير أوانه فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف فيسألها { أنى لك هذا } فتقول : { هو من عند الله } أي رزق رزقنيه الله { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب }
مريم والبشري بعيسي –عليهما السلام :
أن تجلس مريم في محرابها وتجد أمامها رجلاً في خلوتها لا تعرفه ويبشرها بغلام وهي العفيفة الطاهرة فهو موقف عجيب ولقد أثارها هذا حتي أدركت أنه ليس رجلا ولكن ملك من ملائكة الله فكان منها التسليم والترحيب ولنتدبر الآيات وتفسيرها يتبين لنا ذلك جلياً واضحاً.
قال تعالي:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) -مريم
ولقد أحسن صاحب الظلال في تفسيره لهذه الأية في تقريب لطبيعة الموقف فماذا قال؟
قال " سيد قطب في الظلال":
فهذا هو المشهد الأول - فتاة عذراء . قديسة , وهبتها أمها وهي في بطنها لخدمة المعبد . لا يعرف عنها أحد إلا الطهر والعفة حتى لتنسب إلى هارون أبي سدنة المعبد الإسرائيلي المتطهرين - ولا يعرف عن أسرتها إلا الطيبة والصلاح من قديم .
ها هي ذي تخلو إلى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري من أهلها والاحتجاب عن أنظارهم . . ولا يحدد السياق هذا الشأن , ربما لأنه شأن خاص جدا من خصوصيات الفتاة . .
وها هي ذي في خلوتها , مطمئنة إلى انفرادها . ولكن ها هي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة . . إنه رجل مكتمل سوي: *فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا*. . وها هي ذي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة يفجؤها رجل في خلوتها , فتلجأ إلى الله تستعيذ به وتستنجد وتستثير مشاعر التقوى في نفس الرجل , والخوف من الله والتحرج من رقابته في هذا المكان الخالي:*قالت:إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا*فالتقي ينتفض وجدانه عند ذكر الرحمن , ويرجع عن دفعة الشهوة ونزع الشيطان . .
وهنا يتمثل الخيال تلك العذراء الطيبة البريئة ذات التربية الصالحة , التي نشأت في وسط صالح , وكفلها زكريا , بعد أن نذرت لله جنينا . . وهذه هي الهزة الأولى .
*قال:إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا*. . وليتمثل الخيال مقدار الفزع والخجل . وهذا الرجل السوي - الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها - فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها - يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول , وهو أنه يريد أن يهب لها غلاما , وهما في خلوة - وهذه هي الهزة الثانية .
ثم تدركها شجاعة الأنثى المهددة في عرضها ! فتسأل في صراحة:كيف ?
*قالت:أنى يكون لي غلام , ولم يمسسني بشر , ولم أك بغيا ?*. . هكذا في صراحة . وبالألفاظ المكشوفة . فهي والرجل في خلوة . والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفا . فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاما ? وما يخفف من روع الموقف أن يقول لها: *إنما أنا رسول ربك*ولا أنه مرسل ليهب لها غلاما طاهرا غير مدنس المولد , ولا مدنس السيرة , ليطمئن بالها . لا . فالحياء هنا لا يجدي , والصراحة أولى . . كيف ? وهي عذراء لم يمسسها بشر , وما هي بغي فتقبل الفعلة التي تجيء منها بغلام !
ويبدو من سؤالها أنها لم تكن تتصور حتى اللحظة وسيلة أخرى لأن يهبها غلاما إلا الوسيلة المعهودة بين الذكر والأنثى . وهذا هو الطبيعي بحكم التصور البشري .
*قال:كذلك قال ربك:هو علي هين . ولنجعله آية للناس , ورحمة منا*. .
فهذا الأمر الخارق الذي لا تتصور مريم وقوعه , هين على الله . فأمام القدرة التي تقول للشيء كن فيكون , كل شيء هين , سواء جرت به السنة المعهودة أو جرت بغيره . والروح يخبرها بأن ربها يخبرها بأن هذا هين عليه . وأنه أراد أن يجعل هذا الحادث العجيب آية للناس , وعلامة على وجوده وقدرته وحرية إرادته . ورحمة لبني إسرائيل أولا وللبشرية جميعا , بإبراز هذا الحادث الذي يقودهم إلى معرفة الله وعبادته وابتغاء رضاه .
بذلك انتهى الحوار بين الروح الأمين ومريم العذراء . . ولا يذكر السياق ماذا كان بعد الحوار , فهنا فجوة من فجوات العرض الفني للقصة . ولكنه يذكر أن ما أخبرها به من أن يكون لها غلام وهي عذراء لم يمسسها بشر , وأن يكون هذا الغلام آية للناس ورحمة من الله . أن هذا قد انتهى أمره , وتحقق وقوعه: *وكان أمرا مقضيا*كيف ? لا يذكر هنا عن ذلك شيئا . اهـ
بتبع...
تعليق