السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وقفات مع سلمة بن الأكوع ..
أُوتي سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- بسْطة في الجسم؛ فكان أيّدًا شديدًا، ربما أغار على الجيش فهزمه وحده، وكان عدّاء لا يُسبق شدًا؛ فهو متوافر القوة، متناسق الجسم واسع الخطو.
وكان له خبر عاجبٌ يوم الحديبية حينما كانت الرسل تختلف بين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأهل مكة تهيّئ للصلح الذي أزمع النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعقده معهم، فلما كانت قائلة النهار ذهب سلمة إلى شجرة يستظلّ بظلها، فكسح شوكها، والتقط ما تناثر منها، وهيأ لنفسه مقيلاً اضطجع فيه عند أصلها، فجاء أربعة من المشركين من أهل مكة فعلّقوا سلاحهم على الشجرة، وجلسوا يتحدثون، ويقعون في رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان أهون على سلمة أن يسمع سبّ أبيه وأمه من أن يسمعهم يقعون في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فآذاه ذلك غاية الأذى؛ فترك الشجرة لهم، وتحوّل إلى شجرة أخرى ليبعد مسامعه عن وقيعة أولئك المشركين في رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. فبينا هو كذلك؛ إذ سمع صارخًا ينادي يا للمهاجرين.. قُتل ابنُ زنيم، فظن سلمة أن المشركين نقضوا مسعى الصلح فاخترط سيفه، ثم شدّ على أولئك الأربعة، وهم رقود، فأخذ أسلحتهم، فجمعها في يده، ثم قال لهم: والذي أكرم وجه محمدٍ لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربته بالسيف، ثم جاء بهم يسوقهم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء عمه عامر بتسعين من المشركين حاولوا مناوشة المسلمين يسوقهم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فنظر إليهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه" أي: يكون لهم أول الغدر وآخره.. ثم عفا عنهم رسول الله –صلى ا لله عليه وسلم- وصرفهم. صحيح مسلم (1807).
إن في هذه القصة دلالات مهمة منها:
1- لا نعلم أحدًا أشد حبًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أصحابه الذين آمنوا به، واستنارت أعينهم برؤية محيّاه، وتعطّرت أسماعهم بسماع حديثه، وصحبوه في أحوال حياته وتقلّبات أموره، فاستكنّ حبّه شغاف قلوبهم وخالط لحمهم ودمهم وعصبهم، فيالله لسلمة –رضي الله عنه- وهو يسمع مسبّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من رهطٍ من المشركين يشاركونه ظل الشجرة التي يقيل تحتها، فكم قاسى حينئذٍ من الألم النفسيّ، وكم تدفّقت في دمائه زخّات الحنق والغضب ممّا سمع!! ولكنه كظم غيظه، وسيطر على عواطفه، ولم يفرط منه أي تصرّفٍ انفعاليّ، مع أنه كان في عنفوان شبابه، وفي العشرين من عمره، لقد ترك لهم الظلّ الذي هيّأه لنفسه، وتنحّى عنهم بعيدًا؛ ليكون بمنأى عن هذا الإيذاء الذي لا يستطيع احتماله، ولم يمنعه أن يُنفذ غضبه، ويشفي غيظ قلبه ضعف ولا عجز؛ فقد كان الشجاعَ قلبًا، القويّ بدنًا، السريع عَدْوًا، ولكنه تعامل مع مشاعره بانضباطٍ كامل، بعيدًا عن أي تصرفٍ يمكن أن يتداعى إلى تطوّراتٍ غير محسوبة، وتحمّل الألم النفسيّ باصطبارٍ جميل وبصيرة نافذة، وحتى عندما سمع الصارخ ينادي بما يدل على غدرٍ أو مقتلة لم يُبادر إلى قتل هؤلاء، مع أن الفرصة كانت له مواتية، فقد علّقوا أسلحتهم فهم عُزّل، ورقدوا بغير تهيُّؤ أو احتراز، ولكنه اكتفى بسوقهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليكون التصرف من المرجعية العامة للمسلمين.
إن سلمة يُقدّم للأمة من خلال هذا الموقف درسًا بليغًا في الانضباط وقيادة العواطف والسيطرة على مشاعر الانفعال. وعدم الاندفاع لردة فعلٍ غير محسوبة أو تصرف غير رشيد، على الرغم من قوة المؤثر وشدة الاستثارة.
2- كما يلفتنا التعالي الأخلاقي الذي تعامل به النبي –صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء الذين وقعوا فيه بالمسبة والتنقّص، ومع التسعين الذين جيء بهم إليه، وهم يحاولون مناوشة المسلمين، ومع ذلك عفا عن الجميع، وتركهم يبوؤون بأول الغدر وآخره، وكان عفوًا نبويًا كريمًا؛ إذ لم يصدر منه –صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء توبيخٌ أو ملاومة، وإنما هو الخلق العظيم والصفح الجميل.
لقد كان أمام النبي –صلى الله عليه وسلم- هدفٌ كبير واضح، وهو أن يتم الصلح بينه وبين أهل مكة، ولذلك لم يسمح لهذه الاستفزازات المتكررة من رعاع المشركين أن تعرقل مساعيه، أو تحرف وجهته عن هدفه، فكان أقوى من هذه الاستثارة، فحجّمها بحجمها الطبيعي ضمن الحدث الذي يعايشه، والهدف الذي يصمد إليه، ولذا انتهى الأمر إلى ما أراد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فتمّ الصلح، وكُتبت الصحيفة، وحصل بذلك الفتح المبين، وعاد –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وآيات الله تتنـزّل عليه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح:1].
إن عدم وضوح الأهداف، وفقدان الخطة للعمل يجعل الأمة مرتهنة بردّات الفعل المتذبذبة. وإن الاستجابات الفردية غير المدروسة يمكن أن تعرقل مسيرة منطلقة، وتهدر فرصًا ضخمة، وتجهض أهدافًا كبيرة.
فصلوات الله وسلامه على من أنزل الله عليه الكتاب، وآتاه الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).[البقرة: من الآية269].
وقفات مع سلمة بن الأكوع ..
أُوتي سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- بسْطة في الجسم؛ فكان أيّدًا شديدًا، ربما أغار على الجيش فهزمه وحده، وكان عدّاء لا يُسبق شدًا؛ فهو متوافر القوة، متناسق الجسم واسع الخطو.
وكان له خبر عاجبٌ يوم الحديبية حينما كانت الرسل تختلف بين رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وأهل مكة تهيّئ للصلح الذي أزمع النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يعقده معهم، فلما كانت قائلة النهار ذهب سلمة إلى شجرة يستظلّ بظلها، فكسح شوكها، والتقط ما تناثر منها، وهيأ لنفسه مقيلاً اضطجع فيه عند أصلها، فجاء أربعة من المشركين من أهل مكة فعلّقوا سلاحهم على الشجرة، وجلسوا يتحدثون، ويقعون في رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ولقد كان أهون على سلمة أن يسمع سبّ أبيه وأمه من أن يسمعهم يقعون في رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فآذاه ذلك غاية الأذى؛ فترك الشجرة لهم، وتحوّل إلى شجرة أخرى ليبعد مسامعه عن وقيعة أولئك المشركين في رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. فبينا هو كذلك؛ إذ سمع صارخًا ينادي يا للمهاجرين.. قُتل ابنُ زنيم، فظن سلمة أن المشركين نقضوا مسعى الصلح فاخترط سيفه، ثم شدّ على أولئك الأربعة، وهم رقود، فأخذ أسلحتهم، فجمعها في يده، ثم قال لهم: والذي أكرم وجه محمدٍ لا يرفع أحدٌ منكم رأسه إلا ضربته بالسيف، ثم جاء بهم يسوقهم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ثم جاء عمه عامر بتسعين من المشركين حاولوا مناوشة المسلمين يسوقهم إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فنظر إليهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه" أي: يكون لهم أول الغدر وآخره.. ثم عفا عنهم رسول الله –صلى ا لله عليه وسلم- وصرفهم. صحيح مسلم (1807).
إن في هذه القصة دلالات مهمة منها:
1- لا نعلم أحدًا أشد حبًا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- من أصحابه الذين آمنوا به، واستنارت أعينهم برؤية محيّاه، وتعطّرت أسماعهم بسماع حديثه، وصحبوه في أحوال حياته وتقلّبات أموره، فاستكنّ حبّه شغاف قلوبهم وخالط لحمهم ودمهم وعصبهم، فيالله لسلمة –رضي الله عنه- وهو يسمع مسبّة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من رهطٍ من المشركين يشاركونه ظل الشجرة التي يقيل تحتها، فكم قاسى حينئذٍ من الألم النفسيّ، وكم تدفّقت في دمائه زخّات الحنق والغضب ممّا سمع!! ولكنه كظم غيظه، وسيطر على عواطفه، ولم يفرط منه أي تصرّفٍ انفعاليّ، مع أنه كان في عنفوان شبابه، وفي العشرين من عمره، لقد ترك لهم الظلّ الذي هيّأه لنفسه، وتنحّى عنهم بعيدًا؛ ليكون بمنأى عن هذا الإيذاء الذي لا يستطيع احتماله، ولم يمنعه أن يُنفذ غضبه، ويشفي غيظ قلبه ضعف ولا عجز؛ فقد كان الشجاعَ قلبًا، القويّ بدنًا، السريع عَدْوًا، ولكنه تعامل مع مشاعره بانضباطٍ كامل، بعيدًا عن أي تصرفٍ يمكن أن يتداعى إلى تطوّراتٍ غير محسوبة، وتحمّل الألم النفسيّ باصطبارٍ جميل وبصيرة نافذة، وحتى عندما سمع الصارخ ينادي بما يدل على غدرٍ أو مقتلة لم يُبادر إلى قتل هؤلاء، مع أن الفرصة كانت له مواتية، فقد علّقوا أسلحتهم فهم عُزّل، ورقدوا بغير تهيُّؤ أو احتراز، ولكنه اكتفى بسوقهم إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ليكون التصرف من المرجعية العامة للمسلمين.
إن سلمة يُقدّم للأمة من خلال هذا الموقف درسًا بليغًا في الانضباط وقيادة العواطف والسيطرة على مشاعر الانفعال. وعدم الاندفاع لردة فعلٍ غير محسوبة أو تصرف غير رشيد، على الرغم من قوة المؤثر وشدة الاستثارة.
2- كما يلفتنا التعالي الأخلاقي الذي تعامل به النبي –صلى الله عليه وسلم- مع هؤلاء الذين وقعوا فيه بالمسبة والتنقّص، ومع التسعين الذين جيء بهم إليه، وهم يحاولون مناوشة المسلمين، ومع ذلك عفا عن الجميع، وتركهم يبوؤون بأول الغدر وآخره، وكان عفوًا نبويًا كريمًا؛ إذ لم يصدر منه –صلى الله عليه وسلم- لهؤلاء توبيخٌ أو ملاومة، وإنما هو الخلق العظيم والصفح الجميل.
لقد كان أمام النبي –صلى الله عليه وسلم- هدفٌ كبير واضح، وهو أن يتم الصلح بينه وبين أهل مكة، ولذلك لم يسمح لهذه الاستفزازات المتكررة من رعاع المشركين أن تعرقل مساعيه، أو تحرف وجهته عن هدفه، فكان أقوى من هذه الاستثارة، فحجّمها بحجمها الطبيعي ضمن الحدث الذي يعايشه، والهدف الذي يصمد إليه، ولذا انتهى الأمر إلى ما أراد رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فتمّ الصلح، وكُتبت الصحيفة، وحصل بذلك الفتح المبين، وعاد –صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وآيات الله تتنـزّل عليه (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح:1].
إن عدم وضوح الأهداف، وفقدان الخطة للعمل يجعل الأمة مرتهنة بردّات الفعل المتذبذبة. وإن الاستجابات الفردية غير المدروسة يمكن أن تعرقل مسيرة منطلقة، وتهدر فرصًا ضخمة، وتجهض أهدافًا كبيرة.
فصلوات الله وسلامه على من أنزل الله عليه الكتاب، وآتاه الحكمة (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).[البقرة: من الآية269].
تعليق