مساهمة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها في الحياة الإسلامية
إنّ من أعظم مناقبها رضي الله عنها مساهمتها الكبيرة في الحياة الإسلامية, وفي نشوء المجتمع الإسلامي, وهي من الأوائل الذين شاركوا في بناء أسس وقواعد الأمة الإسلامية, فقد وُلدت في بيت إيمانيّ متميّز في حمْلِ الدعوة؛ وشاهدت منذ نعومة أظفارها تفاصيل الحركة الإسلامية الناشئة وتفاعلت معها, تقول رضي الله عنها: "لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ, وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً, ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ, فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ, وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ"[3], وهذا يعني أنّ عائشة وُلدتْ معَ المحاولات الأولى, والمجاهدات العظمى في مكّة, فتشربت القيم والمعاني الإسلامية مباشرة دون حجاب.
وكان لها دور في الهجرة؛ فهي من المهاجرين الأولين, وكان دورها في الهجرة محدوداً لأنّها كانت دون ست سنوات من عمرها, ولكنّها مع ذلك شاركت أختها الكبيرة أسماء في تجهيز الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها وهما في الغار عند الهجرة[4].
وبعد أن استقر مقام المسلمين في مدينة رسول اللَّه, أرسل أبو بكر الصديق إلى ابنه عبد اللَّه يطلب منه أن يهاجر بأهل بيته؛ فاستجاب عبد اللَّه بن أبى بكر ومضى بهم مهاجرًا، وفى الطريق هاج بعير عائشة فصاحت أم رومان: وابنتاه واعروساه, ولكن اللَّه لطف، وأسرع الجميع إلى البعير ليسكن, ونزلت السيدة عائشة مع أهلها في دار بني الحارث بن الخزرج[5].
وانظر إلى تلك الطفلة الصغيرة التي ساهمت في تجهيز الطعام, ثمّ هي اليوم تهاجر مع المؤمنين إلى المدينة المنورة؛ فهي مساهمة ومشاركة في خدمة الدين منذ أن فتحت عينيها على الحياة, وهذا من أعظم المناقب والفضائل.
ثمّ ترقّت في مساهماتها ومشاركاتها بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكمال نضوجها العقلي والجسمي, ممّا أهلها بسبب تلك العوامل الذاتية والموضوعية لمساهمة أكبر وأوسع كان لها التأثير الواضح في تاريخ الإسلام وحتى يومنا هذا.
وحجم المساهمة في هذه الحياة يعتمد على قدرات الشخص ومؤهلاته, والحقيقة التي لا ريب فيها أنّ السيدة عائشة رضي الله عنها كانت على مستوى شامخ من العلم والمعرفة يسعفها في ذلك ذاكرة حادة وذكاء لامع، فهي على جانبٍ عظيم من الدراية بأسرار الأحكام الشرعية, بالإضافة إلى معرفتها بالأمور الاجتماعيَّة والسياسية, وأهم من ذلك أنّها تربّت في بيئة ساعدتها على القيام بتلك المساهمات الجليلة, سواء وهي في بيت أبيها, أو وهي في بيت زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاجتمع لها المؤهلات والقدرات والبيئة المناسبة.
لذلك كانت مساهماتها في كلّ مناحي الحياة الإسلامية, ومن ذلك مشاركتها في الغزوات, روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا لَمُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا تَنْقُزَانِ[6] الْقِرَبَ, وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْقُلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ, ثُمَّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلَآَنِهَا, ثُمَّ تَجِيئَانِ فَتُفْرِغَانِهَا فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ[7].
وهي رضي الله عنها مساهم أساسي في البناء الاجتماعي الإسلامي, فهي أكثر من روى في شؤون الأسرة والحياة الزوجية, لكنّها مع كل تلك المساهمات الجليلة اشتهرت في مساهمتين أساسيتين, هما: المساهمة العلمية, والمساهمة السياسية.
مساهمتها العلمية
وكانت بحرًا زاخرًا في الدين، وخزانة حكمة وتشريع، وكانت مدرسة قائمة بذاتها، وكبيرة محدثات عصرها, ونابغته في الذكاء والفصاحة والبلاغة، فكانت عاملا كبيرا ذا تأثير عميق في نشر تعاليم رسول الله صلى الله عليه وسلم[9]؛ فقد ورد عن أبى موسى رضى اللَّه عنه أنّه قال: "مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ قَطُّ فَسَأَلْنَا عَائِشَةَ إِلَّا وَجَدْنَا عِنْدَهَا مِنْهُ عِلْمًا"[10], وقيل: أنّها أفقه النساء مطلقًا[11], بلا نزاع في ذلك بين أهل العلم, يقول الذهبي: "ولا أعلم في أمه محمد صلى الله عليه وسلم، بل ولا في النساء مطلقا، امرأة أعلم منها"[12].
وقد استقلت بالفتوى رضي الله عنه, وحازت على هذا المنصب الجليل المبارك منذ وفاة النبي رضي الله عنها، وأصبحت مرجع السائلين ومأوى المسترشدين، وبقيت على هذا المنصب في زمن الخلفاء كلهم إلى أن وافاها الأجل, وشهد بعلمها كبار الصحابة؛ فهذا علي يقول: "لقد علم أولوا العلم من آل محمد, وعائشة بنت أبي بكر فسألوها أنّ أصحاب ذي الثدية ملعونون على لسان النبي الأمي صلى الله عليه وسلم"[13], وكان الصحابة إذا أشكل الأمر عليهم من الدين، استفتوها فيجدون علمه عندها[14].
وشهد لها أهل التحقيق بالتقدم والإصابة[15], يقول الإمام الزُهري : "لو جُمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين, وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل"[16], وقال عطاء بن أبي رباح: "كانت عائشة من أفقه الناس وأحسن الناس رأيا في العامة"[17], وقيل لمسروق: هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ فقال: "والذي نفسي بيده لقد رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض"[18], وعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَفْصَحَ مِنْ عَائِشَةَ"[19].
ومن الجدير ذكره أنّ كثيراً من الأحكام الشرعية التي عرفناها من رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وخاصة تلك التي تخص النساء إنما عُرِفَت من أحاديث روتها السيدة عائشة رضي الله عنها؛ فلأم المؤمنين دورٌ مميّز في هذا المجال, لأنّ النساء حين يسألن النبي عليه الصلاة والسلام عن موضوعاتٍ تخصُّ حالَهن يسألنه غالباً وهو في بيته وبين نسائه، وأفضل من ينقل تلك الأحكام الشرعية المتعلِّقة بالمرأة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ ولهذا كان لها دورٌ كبير في الدعوة[20].
وقد اشتغلت بالفتوى من خلافة أبي بكر إلى أن توفيت, وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت[21], ولم تكتفِ رضي الله عنها بما عرفت من النبي صلى الله عليه وسلم, وإنما اجتهدت في استنباط الأحكام للوقائع التي لم تجد لها حكماً في الكتاب أو السنة، فكانت إذا سئلت عن حكم مسألة ما بحثت في الكتاب والسنة، فإن لم تجد اجتهدت لاستنباط الحكم، حتى قيل: إنّ ربع الأحكام الشرعية منقولة عنها[22].
ولمْ لمْ يكنْ لعائشة إلاّ هذه المنقبة العظيمة لكفاها فخراً, ولجعلها تتبوأ المقام السامي والمنزلة الرفيعة؛ فكم من مسلمٍ نفعتْ, وكم من مفسدةٍ درأتْ, بنشرها ذلك العلم الجليل, وهذا ما جعل ابن القيم رحمه الله حين عقد مفاضلة بين عائشة وفاطمة رضي الله عنهنّ, أن يقول: "وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم؛ فلا ريب أنّ عائشة أعلم وأنفع للأمة, وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤد غيرُها, واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها"[23].
وفي هذا تأكيدٌ لدور المرأة في المعرفة والعلم والحياة, وهي دعوة للتأسي بأمّ المؤمنين, وهي التي كانت تقول: "رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن"[24]؛ فدعوة المرأة للعلم ليست دعوة للانحلال والسفور, وإنّما هي دعوة لما يُعينها على النهوض بوظيفتها في هذه الحياة, ويجعلها أقدر على القيام بمسؤولياتها, وفي هذا مفخرة للدّين الذي خرج هذا النموذج الباهر[25].
مَنْـهَجُهَا العَـلْمِي
اعتمدت في منهجها الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية, وساعدها في ذلك تلقيها للوحيين مشافهة من فم رسول الله, ثمّ اتكأتْ على القياس وإلحاق النظير بالنظير, وامتاز منهجها العلمي بعدة ميّزات وخصائص, أهمها:
الأولى: الحياء ليس مانعاً من موانع العلم, ودلّ على هذا قولُها: "نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ, لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ"[26], وعن عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: اخْتَلَفَ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ, فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّونَ: لَا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنْ الدَّفْقِ أَوْ مِنْ الْمَاءِ, وَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: بَلْ إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ أَبُو مُوسَى: فَأَنَا أَشْفِيكُمْ مِنْ ذَلِكَ, فَقُمْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي؛ فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّاهْ, إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؛ فَقَالَتْ: لَا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلًا عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ. قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ"[27], والشواهد كثيرة, واقتصر على ما يكفي للدلالة على منهجها.
الثانية: الأسلوب الاستدلالي[28], ويكفي أنْ أسوقَ مثالا واحدا للدلالة على قدرتها الفائقة في جمع الأدلة واستنباط الأحكام منها, بأسلوب دقيق وفهم عميق, فقد روى الترمذي عن مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ؛ فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ:
مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ", "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ".
وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تُعْجِلِينِي, أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى", "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ". قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ أَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَنْ هَذَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: إِنَّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ مَا رَأَيْتُهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي خُلِقَ فِيهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ رَأَيْتُهُ مُنْهَبِطًا مِنْ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, يَقُولُ اللَّهُ: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولَ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ".
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّهِ, وَاللَّهُ يَقُولُ: "قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ"[29].
الثالثة: الأسلوب الاستفهامي, وهو أسلوب يدلّ على ذكاء صاحبه, وكانت رضي الله عنها تتمتع بحسن السؤال والاستفسار والمحاورة, ومن ذلك قولُها: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ "وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ" أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: "لَا, يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ, وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ, وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ, أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ"[30].
وَسَأَلْتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ", فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: "عَلَى الصِّرَاطِ"[31], والناظر في أسئلتها يُدرك أنّ ميّزات هذه الشخصية الواعية المدركة.
وتأمّل حوارها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة الحساب والعرض حين سمعته قولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ". قَالَتْ: "أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا", فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكِ الْعَرْضُ, وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ"[32], وَفي الحديث دلالة على ذكاء عائشة, وفِيهِ جَوَاز الْمُنَاظَرَة وَمُقَابَلَة السُّنَّة بِالْكِتَابِ [33]. الرابعة: القياس والمنطق العقلي
والمنطق عندها ليس متحرراً من القرآن والسنّة, بل مبنيٌّ عليهما, ومثال ذلك أنّهُ ذُكِرَ عِنْدَهَا أنَّ مَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ؛ فَقَالَتْ: "شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلَابِ, وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً, فَتَبْدُو لِي الْحَاجَةُ فَأَكْرَهُ
أَنْ أَجْلِسَ فَأُوذِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْسَلُّ مِنْ عِنْدِ رِجْلَيْهِ"[34]؛ فالمنطق العقلي يأبى أنْ تُشبه المرأة بالحمير والكلاب[35].
وَذُكِرَ عِنْدَها رضي الله عنها قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ؛ فَقَالَتْ: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ, إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ, فَقَالَ: أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ"[36]أيْ "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ, وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ"[37], وهذا منطقٌ سليم, لأنّ البكاء عملُ الآخرين, والله سبحانه يقول: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْر أُخْرَى".
ولمّا سمعت بقول أبي هريرة "من غسل ميتا اغتسل, وَمن حمله توضأ", قالت رَضِيَ اللهُ عَنْهُا: "أََوَنَجَّسَ موتى الْمُسْلِمِيْنَ؟ وما عَلَى رَجُل لَوْ حمل عودا"[38], وهذا الكلام منها يعتمد المنطق والقياس, وكأنّها تقول: إنّ المنطق يأبى نجاسة المسلم, ولا يوجب غسلاً لحملِ عود.
وفي ختام هذا المبحث المُختصر جداً, أُنبّه على أنّني أتحدث عن فقيهة الأمة, فهي راوية كبيرة للحديث, ومفسرة للقرآن, وأديبة خطيبة فصيحة, وما نُقلَ عنها من علم أكثر من أن يُحصى, ولكنّني ذكرتُ لمحة موجزة منه للدلالة على منقبة من مناقبها الجليلة.
[1] رواه الطبراني في الكبير (12/453) حديث رقم (13646), وروى نحوه البيهقي, وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة المختصرة (2/574), حديث رقم (906), وقال: حسن.
[2] سنن الترمذي, كِتَاب صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالرَّقَائِقِ وَالْوَرَعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب مِنْهُ, حديث رقم (2431).
[3] صحيح البخاري, كِتَاب الصَّلَاةِ, بَاب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ, حديث رقم (456).
[4] انظر: الخلاصة في بيان رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بالرافضة (1/68).
[5] انظر: عشرة النساء للنسائي (1/11).
[6] مَعْنَاهُ تُسْرِعَانِ الْمَشْيَ كَالْهَرْوَلَةِ.
[7] صحيح البخاري, كتاب الجهاد والسير, بَاب غَزْوِ النِّسَاءِ وَقِتَالِهِنَّ مَعَ الرِّجَالِ, حديث رقم: 2667.
[8] عمدة القاري (1/100), وانظر: الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/40), و سير أعلام النبلاء (2/139).
[9] انظر: نواسخ القرآن (1/104).
[10] سنن الترمذي, كِتَاب الْمَنَاقِبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب مِنْ فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, حديث رقم (3818).
[11] انظر: سلسلة الأحاديث الواهية وصحح حديثك (1/26).
[12] انظر: سير أعلام النبلاء (2/140).
[13] قال الهيثمي: رواه الطبراني في الصغير والأوسط بإسنادين, ورجال أحدهما ثقات, وانظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (6/359).
[14] انظر: تفسير القرآن العظيم (6/405).
[15] انظر: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية (2/376).
[16] موطأ الإمام مالك, أبواب الصلاة, باب وقوت الصلاة, (1/45).
[17] انظر: أسد الغابة (1/1384).
[18] المعجم الكبير (23/181), حديث رقم (291), وقال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن, وانظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/388).
[19] سنن الترمذي, كِتَاب الْمَنَاقِبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب مِنْ فَضْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, حديث رقم (3819), وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
[20] انظر: المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام (9/149).
[21] انظر: الطبقات الكبرى (2/375), وتهذيب الكمال (23/431), وأنساب الأشراف (1/185).
[22] انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري(11/70), وتحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (10/255), ونساء حول الرسول (1/15).
[23] بدائع الفوائد (3/683).
[24] انظر: جامع بيان العلم وفضله (1/175), والاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار (1/293), وشرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك (1/156).
[25] ومن أراد الاطلاع على محاوراتها ومناقشاته مع الصحابة, فليرجع إلى كتاب "الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ" للإمَامِ بَدْرِ الدّيْنِ الزَّرْكَشَيِّ.
[26] سنن ابن ماجة, كِتَاب الطَّهَارَةِ وَسُنَنِهَا, بَاب فِي الْحَائِضِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ, حديث رقم (634).
[27] صحيح مسلم, كِتَاب الْحَيْضِ, بَاب نَسْخِ الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ, حديث رقم (526).
[28] انظر: عائشة معلمة الرجال والأجيال (85).
[29] سنن الترمذي, كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ, حديث رقم (2994), وقال أبو عيسى: حديث حسن صحيح.
[30] سنن الترمذي, كِتَاب تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بَاب وَمِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ, حديث رقم (3099).
[31] صحيح مسلم, كِتَاب صِفَةِ الْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ, بَاب فِي الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَصِفَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ, حديث رقم (4999).
[32] صحيح البخاري, كِتَاب الْعِلْمِ, بَاب مَنْ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَفْهَمْهُ فَرَاجَعَ فِيهِ حَتَّى يَعْرِفَهُ, حديث رقم (100).
[33] انظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري (1/168).
[34] صحيح البخاري, كِتَاب الصَّلَاةِ, بَاب مَنْ قَالَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ, حديث رقم (484).
[35] والحديث عن تشبيه المرأة بالحمير والكلاب خطير على الدعوة في هذه الأيام, لما فيه من انتقاص من قدر المرأة وتحقيرها, ومثلُ ذلك يُقال بمن يُفتي بالوضوء من لمس المرأة, وفي حديث عائشة الذي رواه البخاري "فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ غَمَزَ رِجْلَيَّ فَقَبَضْتُهُمَا" ردٌ عليهم.
[36] صحيح مسلم, كتاب الجنائز, بَاب الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ, حديث رقم (1546).
[37] صحيح البخاري, كِتَاب الْمَغَازِي, بَاب قَتْلِ أَبِي جَهْلٍ, حديث رقم (3681).
[38] انظر: الْإِجَابَةُ لِإِيْرَادِ مَا اسْتَدْرَكَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى الصَّحَابَةِ (1/122).
تعليق