لطائف الذوق في الإسلام
د/ راغب السرجاني
موقع قصة الإسلام
الذوق[1] هو الحاسَّة المعنوية الشفَّافة التي تدعو صاحبَهَا إلى مراعاة مشاعر الآخرين، وأحوالهم، وظروفهم، وهو أدبيَّات التعامل مع الناس، وهو الفنُّ الجميل في العَلاقة مع الآخرين.
والذوق أيضًا ظاهري ومعنوي، وهنا نعدِّد بعض مظاهر الذوق الذي جاء به الإسلام، وأوصى به النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وكان هو فيه القدوة والمثل:
جمال الذوق في طريقة المشي والصوت:
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْـجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63]. وقال تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 18، 19].
قال ابن كثير: "وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمّه غاية الذم؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ[2]"[3].
جمال الذوق في عدم إزعاج الآخرين:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْـحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]. ونزلت هذه الآيات في أناسٍ من الأعراب، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء، وأنهم أجدر ألاّ يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قَدِموا وافدين على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، (أي: اخرج إلينا)، فذمَّهم الله بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه، كما أنَّ من العقل وعلامته استعمال الأدب"[4].
جمال الذوق في الشارع والطريق:
روى أبو سعيد الخدري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِيَّاكُمْ وَالْـجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ". فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ، نتحدَّث فيها. فقال: "إِذْ أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْـمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ". قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْـمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْـمُنْكَرِ"[5].
جمال الذوق في الضيافة والاستئذان:
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27]. وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ؛ فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلاَّ فَارْجِعْ"[6].
جمال الذوق في التعامل مع الزوجة:
فعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ"[7]. وروت السيدة عائشة قالت: "كنت أشربُ وأنا حائضٌ ثم أناوله النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فيضع فاه على موضع فِيَّ فيشرب، وأتعرق العرق وأنا حائض ثم أناوله النبي -صلى الله عليه وسلم-، فيضع فاه على موضع فِيَّ"[8].
جمال الذوق في العطس:
فعن أبي هريرة قال: كان إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فِيه، وخفض بها صوته[9]. وفي الذوق في التعامل مع العاطس، روى أنس بن مالك قَالَ: عَطَسَ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتْ الآخَرَ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: "هَذَا حَمِدَ اللهَ وَهَذَا لَمْ يَحْمَدِ اللهَ"[10].
جمال الذوق في التثاؤب:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ"[11].
جمال الذوق في الرائحة:
عن جابر بن عبد الله قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ -يُرِيدُ الثُّومَ- فَلاَ يَغْشَانَا فِي مَسَاجِدِنَا"[12]. وفي رواية مسلم عن ابن عمر تصريح بأن هذا لأجل الرائحة؛ عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الْبَقْلَةِ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا حَتَّى يَذْهَبَ رِيحُهَا"[13]. يعني الثوم.
جمال الذوق في المصافحة:
عن أنس بن مالك أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان إذا صافح رجلاً لم يترك يده حتى يكون هو التارك ليدِ رسول الله [14].
جمال الذوق في العودة من السفر:
فلا يدخل الرجل على زوجته إذا عاد من السفر فجأةً حتى لا يرى منها ما يكره؛ فعن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لا تَطْرُقُوا النِّسَاءَ لَيْلاً، وَلا تَغْتَرُّوهُنَّ"[15].
جمال الذوق في الجلوس:
"نهى أن يجلس الرجل بين الرجلين إلا بإذنهما"[16].
وهذه بعض مظاهر الذوق التي جاء بها الإسلام، عميقة ودقيقة، وتحفل بتفاصيل قد لا ينتبه لها واضع فلسفة أو تشريع أو قانون على الإطلاق، ولكن هذا هو فرق ما بين الله -عز وجل- وبين البشر، فكان هو الفرق بين الإسلام وغيره من المناهج والفلسفات، ثم كان الفرق بين حضارتنا وغيرها من الحضارات.
[1] انظر في ذلك عمرو خالد: الصبر والذوق (أخلاق المؤمن)، ص87 وما بعدها.
[2] البخاري: كتاب الهبة وفضلها، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته (2479).
[3] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/339.
[4] السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص799.
[5] البخاري: كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات (2333)، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه (114).
[6] البخاري: كتاب الاستئذان، باب التسليم والاستئذان ثلاثًا (5891)، ومسلم: كتاب الآداب، باب الاستئذان (34).
[7] البخاري: كتاب المغازي، باب حجة الوادع (4147)، ومسلم: كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث (1628).
[8] مسلم: كتاب الحيض، باب جواز غسل رأس زوجها وترجيله... (300)، والنسائي (282)، وأحمد (25635).
[9] أبو داود: كتاب الأدب، باب في العطاس (5029)، والترمذي (2745)، وصححه الألباني رقم (4755) في صحيح الجامع.
[10] البخاري: كتاب الأدب، باب الحمد للعاطس (5867)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب (2991).
[11] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (3115)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب تشميت العاطس وكراهة التثاؤب (2994).
[12] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب ما جاء في الثوم النيء والبصل والكراث (816)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهى من أكل ثوم أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها (564)، وهذا لفظ البخاري.
[13] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب نهى من أكل ثوم أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها (561).
[14] الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2490)، وابن ماجه (3716)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (2485).
[15] الدارمي: باب تعجيل عقوبة من بلغه عن النبي r حديث فلم يعظمه (444)، وأبو يعلى (1843)، والحاكم (7798)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (3085).
[16] أبو داود: كتاب الأدب، باب في الرجل يجلس بين الرجلين بغير إذنهما (4844)، والترمذي (2752)، وأحمد (6999)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (2385).
تعليق