تأملات تاريخية، تتأمل حال المسلمين وتدبر شئونهم،
وهي عبر من أحداث الماضي والحاضر نبني بها مستقبل الأمة ونسترشد بها في حياتنا
(1)
مغزى الحياة
كتب الله تعالى لأمة الإسلام أن تعيش في جهاد دائم! كتب لها أن تعيش في زمن المحن والأزمات! ولذلك فإن فترات التمكين في حياة الأمة قليلة للغاية، ربما لا تتعدى العشرات من السنين، فقد ظلت الأمة في إعداد العشرات من القادة الربانيين من أجل لحظة النصر .. وهكذا إلى يوم الدين!!
انظر -مثلًا- إلى لحظة النصر في حطين، لقد ظلت الأمة ما يقارب التسعين عامًا في إعدادٍ وتربيةٍ وجهادٍ، منذ بدأ الحملات الصليبية 492هـ / 1099م إلى لحظة النصر الكبرى في حطين سنة 583هـ /1187م، وبعد ذلك النصر الكبير لم تنعم الأمة الإسلامية بحالة من الاستقرار السياسي فلم تمض على حطين (583هـ) إلى أولى الهجمات التترية (617هـ) وسقوط بغداد (656هـ) ما يزيد عن نصف قرن فقط، وهكذا لو تتبعت حال الأمة إلى يومنا هذا!
وهو ما يعبر عنه الدكتور راغب السرجاني باسم (مغزى الحياة)، فالمغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله .. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
(2)
ماذا قدمت؟!
إن النصر الحقيقي للمسلم ليس الانتصار المادي في ميادين الحروب، فطالما الابتلاء سنة الله في الحياة، فنصرك الحقيقي هو انتصارك على حظوظ النفس والهوى، وأعظم صوره: أن تقف مع الحق أيًا كان حامله، وإن لم تر نتائجه واقعًا.
إن من رحمة الله تعالى أن العبد لن يحاسب على ما حققه من نتائج، بل على ما بذله من جهد ومشقة في سبيل ذلك، لن تُسأل: لماذا لم ينتصر الحق على يديك؟ بل ستسأل: ماذا قدمت أو ماذا بذلت لكي تنصر الحق؟!
إنها الطريق الصعب للجهاد التي تنتهي بالجنة دون اعتبار بالنتائج المتحققة، ما دام الجهد كله قد بذل!! وإلا ماذا رأت سمية بنت خياط وزوجها ياسر رضي الله عنهما من انتصار الحق وانتشار الإسلام؟! لم يروا غير الأذى والعذاب غير أنهم واجهوه بوجه صلد على الهوان، وروح عظيمة لا تنكسر أمام الابتلاء والاضطهاد، فيكفي سمية أنها أول شهيدة في الإسلام، ويكفي زوجها شرفًا وسام النبي صلى الله عليه وسلم: "صبرًا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة".
وانظر إلى شهداء أحد رضي الله عنهم، ماذا رأوا من انتصار الحق وانتشار الإسلام؟! لقد ماتوا .. غير أنهم بذلوا وقدموا فكانوا في أعلى علِّيِّين في الجنة. مع أنهم استشهدوا في مصيبة كبيرة حلَّت بالمسلمين!
وما أروع أن يكون حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه هو سيد الشهداء في الجنة، مع أنه أسلم في أواخر السنة السادسة من البعثة واستشهد في العام الثالث من الهجرة، أي كان عمره في الإسلام عشر سنوات فقط!!، لكنه رضي الله عنه أدَّى ما عليه، ولم يتهاون أو يفرِّط، فتأمَّل!!
(3)
من قبل صلاح .. كان هناك ألف صلاح !!
"أين صلاح الدين؟!"، كثيرًا ما نسمع هذه الجملة عندما نذكر انتهاكات الصهاينة في فلسطين والمسجد الأقصى، عندها يتمتم العجزة وضعاف القلوب وخائروا العزيمة: "لو ظهر فينا صلاح الدين!!"، وكأن صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كان معجزة من السماء أو ملكًا أرسله الله مخِّلصًا، فحرر الأقصى وطرد الصليبيين!!
وهذا وهمٌ!، فصلاح الدين رحمه الله كان الثمرة التي نضجت نتيجة حركات تصحيحية كثيرة على مدار تسعين عامًا دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، فمن قبل صلاح .. كان هناك ألف صلاح!!
نعم كان هناك المئات من القادة الربانيين والعلماء العاملين مهَّدوا الطريق وأصلحوا السبل، وبذروا البذرة وتعهَّدوها بالسقي والرعاية والتربية حتى أثمرت صلاح الدين، نعم لم يروا نتائج تربيتهم ولا ثمرة جهادهم، ولكن حسبهم أنهم بذلوا!!
فقبل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله كانت قافلة الجهاد متصلة قائداً من بعد قائدٍ! فَمَن من المسلمين يسمع عن الأمير الشهيد مودود بن التونتكين صاحب الموصل (ت سنة 507هـ/ 1113م)، ونجم الدين إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين (ت سنة 516هـ/1122م)، وابن أخيه الأمير الشهيد بلك بن بهرام بن أرتق (ت سنة 518هـ/1124م)، والأمير الشهيد قسيم الدولة آق سنقر البرسقي صاحب الموصل (ت سنة 520هـ)، وولده الأمير الشهيد عماد الدين زنكي (521هـ- 541هـ/ 1127م - 1146م)، وابنه نور الدين محمود الشهيد (541هـ - 569هـ /1146م - 1173م)!.
وهكذا فإن قائمة المجاهدين عامرة ومتأهبة للقتال في سبيل الله تعالى، إلى أن جاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله فقطف ثمرة جهادهم بتحرير بيت المقدس ودحر الصليبيين في حطين (583هـ- 1187م).
هذا عن القادة أما عن العلماء، فكان هناك الإمام عبد القادر الجيلاني وله جهوده الكبيرة في الدعوة الشعبية والإصلاح العام وتحريك الجماهير. والمؤرخ الكبير ابن عساكر الذي كان يحث نور الدين على مواصلة الجهاد. وبرهان الدين البلخي وكان له دور كبير في مساعدة نور الدين في القضاء على مظاهر التشيع بحلب. والأديب المؤرخ الشاعر العماد الأصفهاني التي كانت أعماله صورة صادقة من تجاوب العلماء مع أحداث الجهاد في ذلك العهد.
وقبل معركة حطين كان هناك العشرات من المعارك الهامة في تاريخ الصراع الإسلامي الصليبي مهدت الطريق إليها، ولولاها -بعد فضل الله تعالى- ما كانت هناك حطين ولا فتح بيت المقدس ولا بزغ نجم صلاح الدين رحمه الله!
فهل سمعتم عن موقعة هرقلة الأولى والثانية، أو حملات الأمير مودود ضد إمارة الرها منذ عام 503هـ / 1109م إلى سقوطها في يد عماد الدين زنكي عام 539هـ/ 1144م، هل سمعتم عن فتح بارين أو عن حصار شيزر، أو معركة ساحة الدم أو معركة حران أو معركة الصنبرة عام 507هـ/1113م والتي كانت البداية الحقيقية لاندحار القوى الصليبية، حتى قيل: "اليوم الصنبرة وغداً حطين!!".
وإذا ذهبنا غربًا حيث دولة الإسلام في بلاد المغرب والأندلس، فسنجد تلك السنة ماضية كذلك، فكل القارئين عندما يسمعون عن المرابطين يستحضر في خَلَدهم البطل الكبير يوسف بن تاشفين (ت سنة500هـ/ 1106م) وانتصاره العظيم على الصليبيين في موقعة الزلاقة (479هـ/ 1086م) وتوحيده بلاد المغرب والأندلس في دولة واحدة وأصبحت دولته من أقوى دول العالم في ذلك الزمان.
والحقيقة أن يوسف بن تاشفين رحمه الله هو ثمرة تضحيات كبيرة خاض غمارها الشيخ المربي عبد الله بن ياسين رحمه الله (ت سنة 451 هـ/ 1059م) الذي أجهد نفسه تعبًا وبذلًا من أجل إعادة الأمة إلى مسارها الصحيح باتباع الكتاب والسنة وتوحيد الصف الإسلامي بعد أن تشرذمت البلاد بين ملوك الطوائف. ويأتي معه في طريق الجهاد والإعداد الشيخ يحيى بن عمر اللمتوني (447هـ/ 1055م)، والشيخ أبو بكر بن عمر اللمتوني (480 هـ/ 1087م)، الذي كانت دولته متربعة على خريطة العالم ممتدة من تونس في الشمال إلى الجابون في وسط أفريقيا، وهي تملك أكثر من ثلث مساحة أفريقيا.
وبعد 38 سنة من التربية والدعوة والجهاد هنا وهناك (سنة 478 هـ/ 1085م) يصبح يوسف بن تاشفين رحمه الله زعيم المرابطين، ويسمي نفسه: أمير المسلمين وناصر الدين!
وفي العصر الحديث: هل رأى عز الدين القسام أو أمين الحسيني أو أحمد ياسين ثمرة جهادهم من التضحية والدعوة والمثابرة والجهاد وتلك الانتصارات الباهرة على الصهاينة في كل جولة؟! لم يروا!
ولكن حسبهم أن الأجيال القادمة جنت ثمار جهادهم وتضحياتهم، بدءًا من الحجارة إلى السكين إلى البندقية إلى الرشاش إلى الصاروخ وها نحن نرى الطائرات بدون طيار! فرحم الله من بذر وجزى الله خيرًا من جنى!
نحن لا نقول ذلك تقليلًا لشأن صلاح الدين ولا عبد الله بن ياسين ولا عز الدين القسام ولا غيرهم ممن بذروا -حاشا لله، غير أننا نبييِّن سُنَّة من سنن الله الماضية إلى يوم القيامة، وهي أنه لابد للنصر من إعداد، وهذا الإعداد أطول بكثير من جني الثمار، فقد يستلزم ذلك الإعداد مئات السنين من جهاد وتربية وإصلاح!!
إن الآفة الكبرى في مجال الدعوة أو الجهاد استعجال الثمرة، وهذه هي طبيعة الإنسان دائمًا، يحب رؤية الثمرة، قال سبحانه: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]. غير أن الله تعالى يعلمنا الصبر والثبات والمثابرة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وروى البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟!، فَقَالَ: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
إنها تذكرة للعاملين في حقل الدعوة إلى الله أو المجاهدين في ميادين الكرامة والحرية: أن ابذلوا وازرعوا ولا تستعجلوا قطف الثمار، فزرعك الطيب سيؤتي أكله ولو بعد حين، فأنت إن لم تَرَ نصر الله وتمكينَه لدينِه اليومَ أو غدًا فسيراه أولادُك وأحفادُك ولو بعدَ حينٍ .. فأَعِدُّوا ولا تستعجِلُوا!!
(4)
سُنَّة ماضية
إنه مهما تعددت صورة الباطل فإنها يومًا ستتوحد ضد الحق، فهم وإن اختلفت مناهجهم وتفرقت مناهجهم وتباعدت بلدانهم، فقد توحدت قلوبهم واجتمعت كلمتهم ضد الحق وأهله، فهذه سنة ماضية إلى يوم القيامة.
وهو واضح بارز في السيرة النبوية والفتوحات الإسلامية وقصة الحروب الصليبية والتتار والأندلس والهند وإفريقيا وإلى يومنا هذا!! قال تعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
فقد مر بنا في التاريخ كيف تعاون اليهود والنصارى والمشركون ومعهم المنافقون ضد النبي صلى الله عليه وسلم؟!، حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا بحيرا الراهب يحذر أبا طالب من اليهود، خوفًا علي ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو مازال طفلاً، ثم تتابعت فصول المؤامرات وأحداثها مع البعثة وإلى الآن!.
ومرَّ بنا كيف تعاون الفرس والروم -مع ما بينهما من ثارات قديمة وحروب طاحنة- ضد المسلمين كما في معركة الفراض 12هـ؟ وكيف تعاون الصليبون فيما بينهم -على اختلاف مذاهبهم- في حملاتهم ضد العالم الإسلامي؟! وكيف تعاون العبيديون الرافضة مع الصليبيين؟! وكيف تعاون الأرمن النصارى -وقد كانوا يعيشون مع المسلمين في وطن واحد- ومهَّدوا الطريق للحملات الصليبية؟! وكيف تعاون الصليبيون مع التتار -مع ما كان بينهم من حروب ودماء فضلًا عن اختلاف الدين والجنس واللون- ضد الخلافة العباسية؟! وكيف تعاون نصارى الأندلس حتى أسقطوا دولة الإسلام هناك؟! وكيف تعاون الهندوس والسيخ مع الإنجليز مع ما بينهم من دماء واختلاف في الدين والجنس ضد مسلمي الهند؟! وكيف تعاون اليهود والإنجليز والروس حتى أسقطوا الخلافة العثمانية؟!
وانظر اليوم كيف يتعاون الأوروبيون والأمريكان مع الروس والرافضة وعبدة الأوثان –مع ما بينهم من عداوة- ضد المسلمين ؟!
وصدق القائل:
وليسَ غريباً مَا تَرىَ مِن صارعٍ *** هُـو البغـيُ، لَكــنَّ الأسَامِــي تَجَـدَّدُ
وَأصبـــحَ أَحزَابًا تَناحَروا بَينَهــا *** وَتبدُوا فِي وَجْه الدِّينِ صَفًّا مُوَحَّــدُ
وما يحدث في كل بلاد المسلمين الآن، هو امتداد لهذا العداء التاريخي الحاقد، وهدفه هو القضاء على الإسلام والمسلمين. يقول تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
فهذا التعاون مخلَّد بخلود الصراع بين الحق والباطل، وإن كنَّا نعيشه الآن بصورة أشد، غير أن مصيره كمصيرهم جميعا الهزيمة والبوار.
المصدر/ موقع قصة الإسلام
تعليق