السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج 27 : 30).
أيام قليلة ويهل علينا شهر ذي الحجة، فيه أفضل أيام العام، كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ". صحيح البخاري.
وسوف نستعرض في هذا التقرير بمشيئة الله تعالى، الفرق بين الحج قديماً وحديثاً، ومدى الصعوبات التي كان يواجهها الحجاج قديما، بالمقارنة بما عليه الآن حال الحج من سهولة ويسر.
الحج قديما
كان الحج قديما من الصعوبة بمكان، فكان الحجاج يقطعون البوادي والصحاري والقفار، ضاربين أكباد الإبل أياما وليالي، وربما شهورا كاملة، ليصلوا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
فقديما كان من يذهب إلى الحج يودع أهله وداع من لا أمل له بالعودة، وذلك لعدة أساب، منها بعد المسافة، وخطورة الطريق، والأمراض الفتاكة، وكان الحاج يتجهز للحج قبل ثلاثة أعوام، فيبدأ في جمع المال واختيار الرفقة، وتجهيز المركب أو الراحلة والزاد.
وكان يذهب قبل الحج بشهر أو شهرين حتى يتمكن من الوصول في الوقت المحدد، وكانت وسائل المواصلات قليلة جدا والطرق وعرة غير معبدة، وكان الحاج إذا عاد سالماً إلى أهله، احتفوا به وذبحوا الذبائح ليس لأنه حج فقط، بل لأنه حج وعاد سالما لم يتعرض لأذى.
فقديما كانت القوافل وعبر مئات السنين تنساب على ظهور الإبل، تسري في الليل، فيبدد صوت الحداة، وحشة الليل، ورهبة الصحراء، في مواكب فرح إيمانية تغمر القلوب، بفيض زاخر ومشاعر من الأشواق تتوق إلى بيت الله الحرام، وتغمر الصحراء مشاهد الأنس والبهجة، وهذا هو الوجه المشرق للرحلة والقافلة.
وعلى الجانب الآخر هناك مشاعر الخوف من غوائل الغدر والسطو والعدوان، وربما المتاهة والموت عطشا في الصحراء، لتعبر عن معاناة الأجداد، الذين واجهوا شظف العيش وقسوة الحياة، ووعورة الطريق، في هذه الرحلة الإيمانية إلى الأراضي المقدسة، فكانت الرحلة تمتد من الشام أو العراق أو مصر شهورا عديدة للوصول إلى بيت الله الحرام.
في الماضي كان الحج يتم على ظهر الدواب، وكان الحجيج يخترقون الجبال مشياً على الأقدام، يحملون متاعهم ومأكلهم ومشربهم على الدواب، تحملها الحمير والجمال، وكانت هذه وسيلة النقل الوحيدة في الماضي، وكان الطريق من الباحة إلى مكة يستغرق شهرا كاملا.
وكان الخطر الكبير على الحجيج، هو اللصوص وقطاع الطرق، حيث كانوا يترصدون الحجاج وينهبونهم بعد أن يقتلوهم، علما أن الحجاج كانوا في كثير من الأحيان مسلحين لمواجهة مخاطر الطريق.
يروي أحد الحجاج الذي قاربت سنه على التسعين: "كنا في رحلة الحج نتعب من المشي، وخاصة عند الظهر، إذا كان الوقت صيفا، والكثير كان يصل إلى حد الموت عطشا، فكنا نبحث عن الآبار لنتزود بالماء، ولا نصل مكة إلا بشق الأنفس".
حراسة القوافل
وتشير المصادر التاريخية أن قوافل الحجاج كان عليها حراسات مشددة في مقدمة القافلة ومؤخرتها، ولها طرق محددة تسلكها، وأيضا جدول زمني محدد، فعند مرور القافلة بأراضي قبيلة معينة يكون هنالك تحصيل رسوم، تسمى الإتاوة، نظير الحماية من قطاع الطرق، كما أن هناك اتفاقيات ومعاهدات أبرمتها بعض القبائل وتضمن المعاملة بالمثل.
ويذكر الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي، أستاذ التاريخ الإسلامي، أن الحجاج قديما كانوا يفدون إلى مكة عبر 4 طرق برية، وطريق بحري واحد عبر البحر الأحمر، والطرق البرية في الغالب تحدد من العواصم، فمثلا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، أو من دمشق عاصمة الخلافة الأموية، أو اليمن وهكذا.
ويضيف الزيلعي أن السفر عبر هذه الطرق محفوف بالمخاطر، والسيول والأمطار، وشح المياه، وكانت في حالة أمنية سيئة، فضلا عن دفع إتاوات لأمراء ومشايخ القبائل للمرور عبر ديارهم، وفقا لتقارير صحيفة الشرق الأوسط الدولية.
أمن الحجيج
وكان أبرز ما يشغل الحكام والخلفاء في العصر القديم والحديث أمن الحجيج، حيث كانت رحلة الحج قديما محفوفة بالمخاطر والمهالك، ويروي عبد الله بن سعيد الزهراني، الباحث المتخصص في تاريخ وآداب الحرم، لمحات تاريخية لأمن الحجيج قديما وحديثا، حيث ذكر الزهراني أن قوافل الحجاج كانت تتحرك على شكل مجموعات يحرسها عدد كبير من الجنود، وكان المحمل المصري والمحمل الشامي والعراقي يصحبها عدد من العسكر والجنود لحمايتها من قطاع الطرق خلال الطريق إلى الحج. وفقا لما نقلته الشرق الأوسط.
ويستطرد الزهراني: شبه الجزيرة العربية كانت قبل توحيدها على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (رحمه الله) عبارة عن إمارات ومشيخات متنافرة تسودها الفوضى وعدم الاستقرار، لا يأمن الناس فيها على أموالهم وأنفسهم لكثرة السلب والنهب والسرقة وقطع الطريق، وكان أعظم المتضررين من فقدان الأمن في شبه الجزيرة العربية هم حجاج بيت الله الحرام؛ فقد كانوا عرضة لقطاع الطرق وغارات القبائل التي تمر قوافلهم بها، ويذكر الباحث أن كتب التاريخ سجلت ألوانًا ومظاهر مفزعة تعرض لها الحجاج، حتى إن بعض قوافل الحجيج يتم سلبها بالكامل وقتل جميع حجاجها، بل إن السلب والنهب والسرقة في ذلك الزمان كانت تقع داخل حدود الحرم، وقد سجل صاحب كتاب "مرآة الحرمين" أن على من يريد زيارة جبل النور، وهو جبل قريب من المسجد الحرام يوجد به غار حراء، أن يحمل معه الماء الكافي، وأن يكونوا على شكل جماعات يحملون السلاح حتى يدافعوا عن أنفسهم من اللصوص الذين يتربصون بالحجاج لسلب أمتعتهم، وقد ذكر في ذلك الكتاب على لسان كاتبه: "لقد بلغني أن إعرابيًا قتل حاجًا فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو يضحك: الريال أحسن منه". هذه لمحة من مشقات الحج قديماً.
توحيد المملكة وتأمين طرق الحج
ولفت الزهراني إلى أنه بعد تلك الأجواء المظلمة والصعبة على ضيوف الله وحجاج بيته، وبعد فقدان الأمن وتجرع الظلم والقهر والهوان والمكوس، جاءت تباشير الصباح، حيث تلطف المولى عز وجل بعباده ورحمهم بأن سخر لهذه البلاد رجلا جمع الكلمة، ولم الشعث، وحكم فيها بشرع الله تعالى، فاجتمع الناس عليه ووحد البلاد، وهو مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (رحمه الله)، حيث عقد العزم منذ توليه الملك على بسط الأمن، وتأمين طرق الحجاج، وتوفير الأمن في الحرمين الشريفين وكل أنحاء البلاد، وقد طبق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة، مما جعل أحكام الشريعة الغراء تتمكن من قلوب الناس بادية وحاضرة.
ويستطرد الباحث في حديثه قائلا إن الملك عبد العزيز قام بخطوة كبيرة لترسيخ الأمن في طرق الحجاج، وهي إصلاح شؤون البادية، فتحسنت أخلاق الأعراب من الفساد، وتوقف الغزو بينهم، حيث تفهم الجميع أن الملك عبد العزيز قد جعل تأمين طرقات الحجاج وغيرهم جزءا هاما من تأسيس البلاد.
ويسرد الباحث عبد الله الزهراني أن من إجراءات الأمن التي اتخذها الملك عبد العزيز لتوفير الأمن وبسطه، أنه أمن رؤساء القبائل والعشائر على أنفسهم، وطمأنهم على عوائدهم، مع اشتراط حفظ الأمن في حدود أراضي قبائلهم، وتحميل رؤساء القبائل مسؤولية كل صغيرة وكبيرة تحدث في ديارهم، وفي الحاضر قام بإسناد مهمات الشرطة لحرسه الخاص في مكة المكرمة، ثم أرسل مفارز صغيرة ثابتة من الجنود إلى القرى والمدن لتولي حفظ الأمن، مع تسيير دوريات متنقلة في شتى أنحاء البلاد.
الحج حديثاً
أصبح اليوم الحج ميسرًا لكل من أراد الحج فالإنسان مهما بعدت به المسافات فهو خلال ساعات معدودة يستطيع أن يصل إلى بلاد الحرمين الشريفين.
فمن جهتها لم تدخر المملكة العربية السعودية جهدًا في تيسير كل شيء على الحجيج، وبذلت المملكة ما في وسعها للارتقاء بالخدمات المختلفة الرامية إلى خدمة ضيوف الرحمن، وقد كان من أهم الأمور آنذاك الحفاظ على أمن الحجاج، وتقديم ما يمكن من خدمات صحية في ذلك الوقت، فقد اهتم الملك عبد العزيز على تتبع الأحوال الصحية للحجاج وتفقد أحوالهم منذ أول عام للحج تحت رعايته، حيث خصص لذلك مقراً طبياً لمعاينة المرضى خاصة الفقراء منهم، وأصدر توجيهاته لنائبه في الحجاز عام 1344 هـ في الشأن.
كما حرص الملك عبد العزيز، رحمه الله، على الارتقاء بالخدمات المقدمة للحج والحجيج وأمر في العام 1347 هـ بتأسيس مدرسة لتعليم المطوفين ونوابهم، يتلقون فيها دروساً في علم التوحيد، والعبادات، والمناسك وأدائها حسب ما دونه علماء السلف والأئمة الأربعة.
وتم افتتاح العين العزيزية التي كانت خير رافد يمد الحجاج والمقيمين في مكة المكرمة بالمياه العذبة منذ شوال عام 1371 هجري, كما تم العمل على تسخير الكثير من الخدمات لضيوف الرحمن حسب الإمكانيات المتوفرة آنذاك.
مشاريع التيسير على الحجيج
وتوالت المشاريع في عهد ملوك المملكة على مر السنوات الماضية مرورًا بالملك سعود التي كانت أول توسعة للحرم الشريف في عهده، والملك فيصل، والملك خالد، مروراً بأكبر توسعة للحرمين التي نفذت في عهد الملك فهد "رحمه الله"، وصاحبها أضخم شبكة طرق وأنفاق في المشاعر المقدسة ومكة المكرمة, ثم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث شهدت المشاعر المقدسة أكبر مشاريعها على مر التاريخ أبرزها جسر الجمرات العملاق، وقطار المشاعر، والتوسعة الضخمة في الحرم الشريف, وحتى عصرنا الحاضر حينما أمر خادم الحرمين الشريفين،"الملك عبد الله بن عبد العزيز"، حفظه الله، بدراسة تغطية وتكييف كامل ساحات وأروقة المسجد الحرام، تيسيرًا على الحجيج خاصة في فصل الصيف الحار.
فاليوم رحلة الحج من أي بقعة من بقاع الأرض لا تستغرق سوى ساعات قليلة، فتطورت وسائل المواصلات، وأصبحت رحلة الحج تقطعها الطائرات في ساعات معدودة، مهيأة ومجهزة بأفضل سبل الراحة والأمان، لحجاج بيت الحرام.. فهنيئا لحجاج بيت الله الحرام، حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا
منقول
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ*لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ*ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج 27 : 30).
أيام قليلة ويهل علينا شهر ذي الحجة، فيه أفضل أيام العام، كما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلا الْجِهَادُ، قَالَ: وَلا الْجِهَادُ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ". صحيح البخاري.
وسوف نستعرض في هذا التقرير بمشيئة الله تعالى، الفرق بين الحج قديماً وحديثاً، ومدى الصعوبات التي كان يواجهها الحجاج قديما، بالمقارنة بما عليه الآن حال الحج من سهولة ويسر.
الحج قديما
كان الحج قديما من الصعوبة بمكان، فكان الحجاج يقطعون البوادي والصحاري والقفار، ضاربين أكباد الإبل أياما وليالي، وربما شهورا كاملة، ليصلوا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج.
فقديما كان من يذهب إلى الحج يودع أهله وداع من لا أمل له بالعودة، وذلك لعدة أساب، منها بعد المسافة، وخطورة الطريق، والأمراض الفتاكة، وكان الحاج يتجهز للحج قبل ثلاثة أعوام، فيبدأ في جمع المال واختيار الرفقة، وتجهيز المركب أو الراحلة والزاد.
وكان يذهب قبل الحج بشهر أو شهرين حتى يتمكن من الوصول في الوقت المحدد، وكانت وسائل المواصلات قليلة جدا والطرق وعرة غير معبدة، وكان الحاج إذا عاد سالماً إلى أهله، احتفوا به وذبحوا الذبائح ليس لأنه حج فقط، بل لأنه حج وعاد سالما لم يتعرض لأذى.
فقديما كانت القوافل وعبر مئات السنين تنساب على ظهور الإبل، تسري في الليل، فيبدد صوت الحداة، وحشة الليل، ورهبة الصحراء، في مواكب فرح إيمانية تغمر القلوب، بفيض زاخر ومشاعر من الأشواق تتوق إلى بيت الله الحرام، وتغمر الصحراء مشاهد الأنس والبهجة، وهذا هو الوجه المشرق للرحلة والقافلة.
وعلى الجانب الآخر هناك مشاعر الخوف من غوائل الغدر والسطو والعدوان، وربما المتاهة والموت عطشا في الصحراء، لتعبر عن معاناة الأجداد، الذين واجهوا شظف العيش وقسوة الحياة، ووعورة الطريق، في هذه الرحلة الإيمانية إلى الأراضي المقدسة، فكانت الرحلة تمتد من الشام أو العراق أو مصر شهورا عديدة للوصول إلى بيت الله الحرام.
في الماضي كان الحج يتم على ظهر الدواب، وكان الحجيج يخترقون الجبال مشياً على الأقدام، يحملون متاعهم ومأكلهم ومشربهم على الدواب، تحملها الحمير والجمال، وكانت هذه وسيلة النقل الوحيدة في الماضي، وكان الطريق من الباحة إلى مكة يستغرق شهرا كاملا.
وكان الخطر الكبير على الحجيج، هو اللصوص وقطاع الطرق، حيث كانوا يترصدون الحجاج وينهبونهم بعد أن يقتلوهم، علما أن الحجاج كانوا في كثير من الأحيان مسلحين لمواجهة مخاطر الطريق.
يروي أحد الحجاج الذي قاربت سنه على التسعين: "كنا في رحلة الحج نتعب من المشي، وخاصة عند الظهر، إذا كان الوقت صيفا، والكثير كان يصل إلى حد الموت عطشا، فكنا نبحث عن الآبار لنتزود بالماء، ولا نصل مكة إلا بشق الأنفس".
حراسة القوافل
وتشير المصادر التاريخية أن قوافل الحجاج كان عليها حراسات مشددة في مقدمة القافلة ومؤخرتها، ولها طرق محددة تسلكها، وأيضا جدول زمني محدد، فعند مرور القافلة بأراضي قبيلة معينة يكون هنالك تحصيل رسوم، تسمى الإتاوة، نظير الحماية من قطاع الطرق، كما أن هناك اتفاقيات ومعاهدات أبرمتها بعض القبائل وتضمن المعاملة بالمثل.
ويذكر الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي، أستاذ التاريخ الإسلامي، أن الحجاج قديما كانوا يفدون إلى مكة عبر 4 طرق برية، وطريق بحري واحد عبر البحر الأحمر، والطرق البرية في الغالب تحدد من العواصم، فمثلا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، أو من دمشق عاصمة الخلافة الأموية، أو اليمن وهكذا.
ويضيف الزيلعي أن السفر عبر هذه الطرق محفوف بالمخاطر، والسيول والأمطار، وشح المياه، وكانت في حالة أمنية سيئة، فضلا عن دفع إتاوات لأمراء ومشايخ القبائل للمرور عبر ديارهم، وفقا لتقارير صحيفة الشرق الأوسط الدولية.
أمن الحجيج
وكان أبرز ما يشغل الحكام والخلفاء في العصر القديم والحديث أمن الحجيج، حيث كانت رحلة الحج قديما محفوفة بالمخاطر والمهالك، ويروي عبد الله بن سعيد الزهراني، الباحث المتخصص في تاريخ وآداب الحرم، لمحات تاريخية لأمن الحجيج قديما وحديثا، حيث ذكر الزهراني أن قوافل الحجاج كانت تتحرك على شكل مجموعات يحرسها عدد كبير من الجنود، وكان المحمل المصري والمحمل الشامي والعراقي يصحبها عدد من العسكر والجنود لحمايتها من قطاع الطرق خلال الطريق إلى الحج. وفقا لما نقلته الشرق الأوسط.
ويستطرد الزهراني: شبه الجزيرة العربية كانت قبل توحيدها على يد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (رحمه الله) عبارة عن إمارات ومشيخات متنافرة تسودها الفوضى وعدم الاستقرار، لا يأمن الناس فيها على أموالهم وأنفسهم لكثرة السلب والنهب والسرقة وقطع الطريق، وكان أعظم المتضررين من فقدان الأمن في شبه الجزيرة العربية هم حجاج بيت الله الحرام؛ فقد كانوا عرضة لقطاع الطرق وغارات القبائل التي تمر قوافلهم بها، ويذكر الباحث أن كتب التاريخ سجلت ألوانًا ومظاهر مفزعة تعرض لها الحجاج، حتى إن بعض قوافل الحجيج يتم سلبها بالكامل وقتل جميع حجاجها، بل إن السلب والنهب والسرقة في ذلك الزمان كانت تقع داخل حدود الحرم، وقد سجل صاحب كتاب "مرآة الحرمين" أن على من يريد زيارة جبل النور، وهو جبل قريب من المسجد الحرام يوجد به غار حراء، أن يحمل معه الماء الكافي، وأن يكونوا على شكل جماعات يحملون السلاح حتى يدافعوا عن أنفسهم من اللصوص الذين يتربصون بالحجاج لسلب أمتعتهم، وقد ذكر في ذلك الكتاب على لسان كاتبه: "لقد بلغني أن إعرابيًا قتل حاجًا فلم يجد معه غير ريال واحد فقيل له: تقتله من أجل ريال؟ فقال وهو يضحك: الريال أحسن منه". هذه لمحة من مشقات الحج قديماً.
توحيد المملكة وتأمين طرق الحج
ولفت الزهراني إلى أنه بعد تلك الأجواء المظلمة والصعبة على ضيوف الله وحجاج بيته، وبعد فقدان الأمن وتجرع الظلم والقهر والهوان والمكوس، جاءت تباشير الصباح، حيث تلطف المولى عز وجل بعباده ورحمهم بأن سخر لهذه البلاد رجلا جمع الكلمة، ولم الشعث، وحكم فيها بشرع الله تعالى، فاجتمع الناس عليه ووحد البلاد، وهو مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (رحمه الله)، حيث عقد العزم منذ توليه الملك على بسط الأمن، وتأمين طرق الحجاج، وتوفير الأمن في الحرمين الشريفين وكل أنحاء البلاد، وقد طبق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة، مما جعل أحكام الشريعة الغراء تتمكن من قلوب الناس بادية وحاضرة.
ويستطرد الباحث في حديثه قائلا إن الملك عبد العزيز قام بخطوة كبيرة لترسيخ الأمن في طرق الحجاج، وهي إصلاح شؤون البادية، فتحسنت أخلاق الأعراب من الفساد، وتوقف الغزو بينهم، حيث تفهم الجميع أن الملك عبد العزيز قد جعل تأمين طرقات الحجاج وغيرهم جزءا هاما من تأسيس البلاد.
ويسرد الباحث عبد الله الزهراني أن من إجراءات الأمن التي اتخذها الملك عبد العزيز لتوفير الأمن وبسطه، أنه أمن رؤساء القبائل والعشائر على أنفسهم، وطمأنهم على عوائدهم، مع اشتراط حفظ الأمن في حدود أراضي قبائلهم، وتحميل رؤساء القبائل مسؤولية كل صغيرة وكبيرة تحدث في ديارهم، وفي الحاضر قام بإسناد مهمات الشرطة لحرسه الخاص في مكة المكرمة، ثم أرسل مفارز صغيرة ثابتة من الجنود إلى القرى والمدن لتولي حفظ الأمن، مع تسيير دوريات متنقلة في شتى أنحاء البلاد.
الحج حديثاً
أصبح اليوم الحج ميسرًا لكل من أراد الحج فالإنسان مهما بعدت به المسافات فهو خلال ساعات معدودة يستطيع أن يصل إلى بلاد الحرمين الشريفين.
فمن جهتها لم تدخر المملكة العربية السعودية جهدًا في تيسير كل شيء على الحجيج، وبذلت المملكة ما في وسعها للارتقاء بالخدمات المختلفة الرامية إلى خدمة ضيوف الرحمن، وقد كان من أهم الأمور آنذاك الحفاظ على أمن الحجاج، وتقديم ما يمكن من خدمات صحية في ذلك الوقت، فقد اهتم الملك عبد العزيز على تتبع الأحوال الصحية للحجاج وتفقد أحوالهم منذ أول عام للحج تحت رعايته، حيث خصص لذلك مقراً طبياً لمعاينة المرضى خاصة الفقراء منهم، وأصدر توجيهاته لنائبه في الحجاز عام 1344 هـ في الشأن.
كما حرص الملك عبد العزيز، رحمه الله، على الارتقاء بالخدمات المقدمة للحج والحجيج وأمر في العام 1347 هـ بتأسيس مدرسة لتعليم المطوفين ونوابهم، يتلقون فيها دروساً في علم التوحيد، والعبادات، والمناسك وأدائها حسب ما دونه علماء السلف والأئمة الأربعة.
وتم افتتاح العين العزيزية التي كانت خير رافد يمد الحجاج والمقيمين في مكة المكرمة بالمياه العذبة منذ شوال عام 1371 هجري, كما تم العمل على تسخير الكثير من الخدمات لضيوف الرحمن حسب الإمكانيات المتوفرة آنذاك.
مشاريع التيسير على الحجيج
وتوالت المشاريع في عهد ملوك المملكة على مر السنوات الماضية مرورًا بالملك سعود التي كانت أول توسعة للحرم الشريف في عهده، والملك فيصل، والملك خالد، مروراً بأكبر توسعة للحرمين التي نفذت في عهد الملك فهد "رحمه الله"، وصاحبها أضخم شبكة طرق وأنفاق في المشاعر المقدسة ومكة المكرمة, ثم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، حيث شهدت المشاعر المقدسة أكبر مشاريعها على مر التاريخ أبرزها جسر الجمرات العملاق، وقطار المشاعر، والتوسعة الضخمة في الحرم الشريف, وحتى عصرنا الحاضر حينما أمر خادم الحرمين الشريفين،"الملك عبد الله بن عبد العزيز"، حفظه الله، بدراسة تغطية وتكييف كامل ساحات وأروقة المسجد الحرام، تيسيرًا على الحجيج خاصة في فصل الصيف الحار.
فاليوم رحلة الحج من أي بقعة من بقاع الأرض لا تستغرق سوى ساعات قليلة، فتطورت وسائل المواصلات، وأصبحت رحلة الحج تقطعها الطائرات في ساعات معدودة، مهيأة ومجهزة بأفضل سبل الراحة والأمان، لحجاج بيت الحرام.. فهنيئا لحجاج بيت الله الحرام، حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا
منقول
تعليق