سقوط طليطلة...الثغر الأوسط لبلاد الأندلس
د/ راغب السرجاني، موقع قصة الإسلام
طليطلة .. الثغر الأوسط لبلاد الأندلس
كان نتيجة زلزال عصر ملوك الطوائف هو سقوط طليطلة، ففي سنة (478هـ= 1085م) سقطت طليطلة، هذا الثغر الإسلامي الأوسط في بلاد الأندلس، تلك المدينة العظيمة التي كانت عاصمة للقوط قبل دخول المسلمين في عهد موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله.
طليطلة التي فتحها طارق بن زياد بستة آلاف؛ فتحها بالرعب قبل مسيرة شهر منها.
طليطلة الثغر الذي كان يستقبل فيه عبد الرحمن الناصر الجزية من بلاد النصارى، ومنه كان ينطلق هو ومَنْ تبعه من الحكَّام الأتقياء لفتح بلادهم في الشمال.
طليطلة المدينة العظيمة الحصينة، التي تحوطها الجبال من كل النواحي عدا الناحية الجنوبية.
هجمات النصارى على طليطلة
أما عن قصة سقوط طليطلة: فقد تعرَّضت مدينة طليطلة لهجمات كثيرة من النصارى في عهد فرناندو الأول وابنه ألفونسو السادس، هذا إضافة إلى غارات ملوك الطوائف المجاورة لها إثر النزاعات المتبادلة بينهم، وكان النصارى على علم بأن طليطلة واسطة العِقد في بلاد الأندلس، فلو سقطت فمِنَ المؤكَّد أن تسقط قرطبة وبطليوس وغرناطة وإشبيلية وهكذا تباعًا.
سذاجة المأمون بن ذي النون
تُرى لو يعلم المأمون بن ذي النون أن ألفونسو هو مَنْ سيُسقط طليطلة، هل كان سيُحسن ضيافته؟!
إنها لسذاجة حقًّا من المأمون، فألفونسو الذي هرب من حرب أهلية مع أخيه سانشو، وأحسن المأمون ضيافته تسعة أشهر كاملة.. وأخذ عليه عهده أن يحفظ طليطلة له ولأبنائه.. وقَبِلَ ألفونسو، وكأنه استخفَّ بعقل ذلك الرجل!
المأمون بن ذي النون يستضيف ابن فرناندو الذي أثقل كاهله وكاهل المسلمين بالجزية والغارات والإتاوات، الآن يستقبل ابنه الذي عمَّا قليل سيُسقط طليطلة!
يبدو أن ألفونسو كان أكبر ذكاءً من المأمون؛ إذ كان ألفونسو يتريَّض في جنبات طليطلة ويأكل من خيراتها، ويُخَالِط أهلها، ويعرف كمائنها ونقاط قوَّتها وضعفها، ويتأمل أسوارها، لقد جعل ألفونسو حياته في طليطلة من منفى إلى مهمة استخباراتية سيحتاج إليها بعد حين.
وما هي إلاَّ أشهر قليلة وأصبح ألفونسو ملكًا على قشتالة سنة 1072م، وأخذ يُعِدُّ عُدَّته لإسقاط طليطلة.
فساد القادر بن ذي النون
مات المأمون بقرطبة وخلفه من بعده حفيده يحيى بن إسماعيل بن يحيى بن ذي النون وذلك سنة (467هـ=1075م)، وتلقَّب بالقادر بالله، وكان القادر بالله سيئ الرأي، فاسد الخُلُق، أحاط نفسه ببطانة سوء، فتحكَّمَت فيه نساء القصر، وسار وراء هوى الغانيات والمغنيات، وما لبثت هذه البطانة السيئة حتى أوغروا صدره على وزيره الرجل القوي ابن الحديدي، الذي قتله في أوائل ذي الحجة (468هـ=1076م)[1].
وما لبث القادر أن جنى عاقبة فساده واعتماده على بطانة السوء، وانهالت عليه الثورات والهموم من كل جانب؛ فالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة يُرهقه بغاراته من ناحية، وأبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية أعلن الثورة والاستقلال، والنصارى من ناحية ثالثة يُغيرون على أعمال مملكته، وكادت قونقة أن ينتزعها منه سانشو راميرو ملك أراجون، لولا أنه افتداها بمبلغ كبير من المال، وحاول القادر أن يجد عونًا ونصيرًا له أمام تلك المتاعب والهموم، فالتجأ إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، يطلب مساعدته، وبالطبع وافق ألفونسو، ولكن في مقابل ماذا؟!
وافق ألفونسو في مقابل أن يتنازل له القادر بن ذي النون عن بعض الحصون القريبة من الحدود، وقد تَسَلَّم منها بالفعل حصون سرية وفتورية وقنالش، كل ذلك إضافة إلى الأموال الباهظة التي اشترطها عليه، والتي يعجز عنه القادر، إلا أنه وافق لحاجته إليه!
ثورة أهل طليطلة
في خضمِّ كل هذه الأحداث كان المتآمرون داخل طليطلة يُمَهِّدُون لثورة انقلابية على القادر وأعوانه، وأمام هذه التنازلات المخزية من القادر، واستشراء الفساد في طليطلة اندلعت ضده الثورة الداخلية ونادت بالإطاحة به، وفعلاً هرب القادر من طليطلة إلى حصن وبذة، وأصبح أهل طليطلة بلا أمير ولا حكومة ولا نظام، فاستقدموا المتوكل بن الأفطس ليحكم البلاد سنة (472هـ=1079م).
ألفونسو يعين القادر على حراب الصليبيين
انتقل القادر بن ذي النون من ملجئه في وبذة إلى مدينة قونقة، وأرسل إلى ألفونسو يطلب مساعدته، ويُذَكِّره بسالف الودِّ بينه وبين جدِّه المأمون وما كان للمأمون من فضل في عونه وإغاثته، فاستجاب له ألفونسو، وسار معه في سرية من جنوده، فهي فرصة سانحة لألفونسو أن يبسط سلطانه على القادر، إلى أن تحين الفرصة ويبسط سلطانه على المدينة كلها، فعاد القادر مرَّة أخرى بمعونة ألفونسو ملك قشتالة، وحاصرت قوَّات النصارى طليطلة، مما اضطر المتوكل بن الأفطس إلى أن يخرج منها بعد أن أخذ من أسلاب القادر ما شاء؛ من أثاث وفراش وآنية، وسلاح وكتب وغيرها، وبعث بها إلى بطليوس، ونجحت قوَّات ألفونسو في الدخول إلى طليطلة وإعادة القادر إليها بعد عشرة أشهر من خروجه منها، ودخل القادر طليطلة في حمى النصارى وجنودهم، ويقال: إن ألفونسو حاصر طليطلة والمتوكل بداخلها، واضطر المتوكل أن يغادرها بالفرار، وكان ذلك في ذي الحجة سنة (473هـ=1080م) [2].
ألفونسو يحاصر طليطلة
الواقع أن ألفونسو كان قد أعدَّ عُدَّتَه للقضاء على طليطلة، ووضع خطته العسكرية التي تُمَهِّد لمشروعه الواسع بالسيطرة على ممالك الطوائف كلها، وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية لَمَّا رأى من استفحال أمر ألفونسو وقوَّته فكر كيف يصنع؛ وبدلاً من أن يسلك مسلك الشرفاء الأعزاء فيُساند طليطلة، أو يسارع فيُكَوِّن حلفًا من ملوك المسلمين، إذا به يخشى على نفسه من أن ينساب تيار الغزو القشتالي إلى مملكته، فرأى أن يعقد مهادنة وصلحًا مع ألفونسو يأمن بها على أراضيه، فبعث وزيره ابن عمار ليتفاوض مع ألفونسو، وتمت المعاهدة والاتفاق على ما يلي:
- يُؤَدِّي المعتمد للملك القشتالي الجزية سنويًّا.
- يُسمح للمعتمد بغزو أراضي طليطلة الجنوبية على أن يُسَلِّمَ منها إلى الملك القشتالي الأراضي الواقعة شمالي سيرامورينا (جبال الشارات).
- لا يعترض المعتمد على مشروع ألفونسو القاضي بالاستيلاء على طليطلة.
وهكذا ضحَّى المعتمد بمعقل إسلامي مهمٍّ؛ لكي يفوز بإمارات لم تخضع له بعد، وهذا خطأ سياسي جسيم يُضاف إلى أخطائه، ودلالة على استهتاره نحو أُمَّته ودينه[3].
وفي شوال (474هـ=1082م) ضرب ألفونسو الحصار على طليطلة، وشدَّد غاراته عليها، وظلَّ على ذلك أربع سنوات كاملة؛ يُخَرِّب في الزروع والأراضي والقرى، وعاش الناس في ضيق وكرب، وليس بين المسلمين مجير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم!
وفي الوقت الذي تُحَاصَر فيه طليطلة كان ملوك الطوائف يُقَدِّمُون ميثاق الولاء والمحبَّة له؛ أي: الجزية والإتاوة، ولم يجرؤ أحد منهم على الاعتراض عليه في ذلك إلاَّ المتوكل بن الأفطس الذي أُخْرِج من طليطلة قبل قليل، وفي الوقت نفسه الذي تُحَاصَر فيه طليطلة نجد أن ممالك الطوائف الأخرى تتنازع فيما بينها، أو تَرُدُّ غارات النصارى المتواصلة عليها.
ألفونسو على أعتاب طليطلة
هكذا أضحت طليطلة وحيدة بلا مأوى!
وهكذا أضحت طليطلة تنتظر ساعة الحسرة والسقوط.
وهكذا تُركت طليطلة المدينة المنكوبة لمصيرها، وفي خريف سنة (477هـ=1084م) اقترب ألفونسو من المدينة، وأحكم الحصار بشدَّة، وضاق الناس ذرعًا، وكان موقف القادر مريبًا، وكأنَّ هناك اتفاقًا بينه وبين النصارى! وحاول أهل المدينة أن يُطيلوا انتظارهم عسى نجدة من المسلمين تنجدهم، ولكن ليس بين مسلمي الأندلس في ذلك الوقت مجير!
ولما طال الحصار واستحكم على المسلمين وضاق بهم، أرسلوا جماعة من زعمائهم إلى ألفونسو تتحدث عن الصلح والمهادنة، فما كان من ألفونسو إلا أن أهانهم، وسخر منهم واستدعى سفراء ملوك الطوائف، وقد كانوا جميعًا يومئذ لديه يخطبون ودَّه، ويُقَدِّمُون إليه الأموال، وهكذا خرج زعماء طليطلة وقد فقدوا أملهم، عادوا خائبين، وأيقنوا سوء المصير[4].
شروط ألفونسو على أهل طليطلة
مضى على الحصار إلى الآن تسعة أشهر، وتحطَّمت كل الآمال المرجوَّة في الصلح والهدنة، وهكذا عرضت المدينة التسليم، بعد أن عجزت عن المقاومة، وبعد أن سَلَّمها ملوك الطوائف ثمنًا لدينهم، وشرفهم وعزَّتهم!
وكان من ضمن شروط التسليم:
- أن يُؤَمَّن أهل المدينة على أنفسهم وأموالهم.
- أن يُغادرها مَنْ يشاء حاملاً أمواله، وأن يُسمح لمن عاد منهم باسترداد أموله.
- أن يُؤَدُّوا الجزية إلى ملك قشتالة على ما كانوا يُؤَدُّونَه لملوكهم من المكوس والضرائب.
- أن يحتفظ المسلمون للأبد بمسجدهم الجامع، وأن يتمتَّعُوا بالحرية التامَّة في إقامة شعائرهم وشريعتهم.
- تسليم سائر القلاع والحصون.
وأما بالنسبة للقادر بن ذي النون:
يمكِّنه ملك قشتالة من الاستيلاء على بلنسية، وبالتالي تخضع له القواعد الشرقية كلها[5].
خروج القادر بن ذي النون من طليطلة
وكانت هذه العلاقة المشئومة بين القادر بن ذي النون وألفونسو السادس ملك قشتالة سببًا في سقوط طليطلة، وخروج القادر المنكود منها ذليلاً هو وأهله، وما أبلغ تعبير ابن بسام في وصف حال القادر عند خروجه! إذ يقول: «وخرج ابن ذي النون خائبًا مما تمنَّاه، شرقًا بعقبى ما جناهُ، والأرض تَضِجُّ من مُقامه، وتستأذنُ في انتقامه، والسماء تودُّ لو لم تُطْلِعْ نَجْمًا إلاَّ كدَرَتْهُ عليه حَتْفًا مبيدًا، ولم تُنْشِئ عارضًا إلا مَطَرَتْهُ عذابًا فيه شديدًا، واستقرَّ بمحَلَّة أذفنوش (ألفونسو) مخفورَ الذِّمَّة، مُذَالَ الحرمة، ليس دونه باب، ولا دونَ حُرمِه سِترٌ ولا حجاب، حدَّثَنِي مَنْ رآه يومئذ بتلك الحال وبيده أصطرلابٌ؛ يرصدُ فيه أيّ وقت يَرْحَل، وعلى أي شيء يعوِّل، وأيّ سبيلٍ يتمثَّل، وقد أطافَ به النصارى والمسلمون، أولئكَ يضحكونَ من فِعله، وهؤلاء يتعجَّبونَ من جهله»[6].
وما أبلغ شماتة ابن الخطيب في القادر وأهله عندما قال: «والطاغيةُ بين يديه يَتَبَحْبَح[7] بيده عنده، واستقرَّ بها شرَّ استقرار، واقتضاه الطاغيةُ الوَعْد، وسلبه الله النصر والسعد، وهلكت الذمم، واستُؤصلت الرِّمَم، ونُفِّذ عقابُ الله في أهلها جاحدي الحقوق، ومُتَعَوِّدي العقوق، ومُقيمي أسواق الشقاق والنفاق، والمَثَل السائر في الآفاق»[8].
سقوط طليطلة
وفي صفر (478هـ=1085م) دخل ألفونسو السادس ملك قشتالة طليطلة، وهكذا سقطت طليطلة وخرجت من قبضة الإسلام، وغدت عاصمة للنصرانية، وحاضرة لمملكة قشتالة، التي يتربَّع على عرشها ألفونسو السادس.
وبسقوط طليطلة اهتزَّ العالم الإسلامي في الشرق والغرب، يُصَوِّره الشاعر ابن عسال بقوله: [البسيط]
يَا أَهْلَ أَنْدَلُسٍ حُثُّوا مَطِيَّكُمُ *** فَمَـا الْمَقَـامُ بِهَـا إِلاَّ مِـنَ الْغَلَطِ
الثَّـوْبُ يُنْسَـلُ مـِنْ أَطْرَافِهِ وَأَرَى *** ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولاً مِنَ الْوَسَطِ
مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ *** كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ[9]
وهي صورة عجيبة ينقلها ذلك الشاعر (إعلام ذلك الوقت) المحبَّط، حتى كأنَّه يدعو أهل الأندلس جميعًا بكل طوائفه ودويلاته إلى الهجرة والرحيل إلى بلاد أخرى غير الأندلس؛ لأن الأصل الآن هو الرحيل، أما الدفاع أو مجرَّد البقاء فهو ضرب من الباطل أو هو (الغلط) بعينه، ولقد سانده وعضَّد موقفه هذا أن من الطبيعي إذا ما انسلَّت حبة من العِقد -مثلاً- فإن الباقي لا محالة مفروط، فما الحال إذا كان الذي انسلَّ من العِقد هو أوسطه (طليطلة) أوسط بلاد الأندلس، فذاك أمر ليس بالهزل، بل وكيف يعيشون بجوار هؤلاء (الحيَّات) إن هم رضوا لهم بالبقاء؟! فما من طريق إلا الفرار وشدِّ الرِّحَال.
استدعاء المرابطين
وعلى إثر سقوط طليطلة، بدأ ألفونسو يُعِدُّ عُدَّته، ويتجهَّز للهجوم على الممالك الأخرى، لا سيما إشبيلية وبطليوس وسرقسطة وما حولهما، وبدأ ألفونسو يستخدم سياسة الاستهزاء والاستهتار بزعماء الأندلس، وتسمَّى بذي الملتين، وتطوَّر الأمر أن حاصر إشبيلية على نحو ما ذكرنا، حتى كان ما كان من فكرة الاستنجاد بالمرابطين.
المعتمد بن عباد واستدعاء المرابطين
إلاَّ أن ما يدلُّك على فساد الحكام في ذلك الوقت هو أن بعضهم رفض فكرة المعتمد، وراسله في أن يعود عن قرار الاستنجاد بالمرابطين، وخوَّفُوه من أن نزول المرابطين إلى الجزيرة قد يُغريهم بحكمها بأنفسهم، وحقًّا إن شهوة الملك هذه تُذهب الدين والعقل والمروءة وسائر الصفات الكريمة، فما أكثر الحسرات التي يعانيها القارئ في تاريخ الأندلس وهو يقرأ أخبار هذه الفئة التي سكنتها شهوة الحكم الصوري الضعيف الهش، الذي لا يتماسك أمام العدوِّ، ولا يتوسَّع إلاَّ على حساب دماء المسلمين، ويرضى بالذلِّ ودفع الجزية، ويسكت عن إخوانه المحاصرين والمقتولين، ولا يُبصر أن الدور سيأتي عليه، فلا يرضى حتى بالنجدة تعبر إليه لاحتمال أن تحوز الملك دونه! أيُّ فسادٍ في الدين هذا، بل في العقل، بل في الفطرة السوية؟!
إلاَّ أن الله ألهم المعتمد بهذه العزيمة والإصرار، وقال كلمته الخالدة التي صارت مثلاً: «رعي الجمال خير من رعي الخنازير». ومعناه أن كونه مأكولاً ليوسف بن تاشفين أسيرًا يرعى جماله في الصحراء، خير من كونه ممزَّقًا للأذفونش أسيرًا له يرعى خنازيره في قشتالة. وقال لعُذَّاله ولوَّامه: يا قوم؛ إني من أمري على حالتين: حالة يقين، وحالة شكٍّ، ولا بُدَّ لي من إحداهما، أما حالة الشكِّ فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن أن لا يفعل، فهذه حالة شكٍّ، وأما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أُرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطتُ الله تعالى، فإذا كانت حالة الشكِّ فيها عارضة، فلأي شيء أدع ما يُرضي الله وآتي ما يُسخطه؟ فحينئذ قصر أصحابه عن لومه»[10].
والحق أن المعتمد -أيضًا- لم يترك من حسنات في سيرته إلاَّ هذه الخطوة، ثم جهاده وصبره في معركة الزلاقة الذي سيأتي بيانه، أما قبل هذا القرار وبعده فهو ليس إلا واحدًا من ملوك الطوائف، سكنته شهوة السلطان؛ حتى أذهبت عنه كل أثر من عقل أو فضيلة، وسنراه كيف سيقاتل المسلمين المرابطين بما لم يفعل مثله مع النصارى.
ولكن لا نسبق الأحداث؛ فأمام الحالة الإيمانية والجهادية العالية التي كان عليها المعتمد بن عباد تحرَّكت النخوة في قلوب الأمراء الآخرين، فقام المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، فوافقوا المعتمد بن عباد في رأيه، وبذلك اجتمعت الحواضر الكبرى في الأندلس على استدعاء المرابطين، وتقدَّمت الوفود تلو الوفود إلى المغرب العربي؛ يقول الحميري: «وكان يوسف بن تاشفين لا يزال يَفِدُ عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء، ناشدين الله والإسلام، مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته، فيستمع إليهم ويُصغي إلى قولهم، وترقُّ نفسه لهم»[11].
[1] ابن بسام: الذخيرة 7/150-155، وابن الخطيب: أعمال الأعلام ص179، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/107.
[2] ابن بسام: الذخيرة 7/163، 164، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/108.
[3] طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص443، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/109.
[4] ابن بسام: الذخيرة 7/165-167، وعنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/112، 113.
[5] عنان: دولة الإسلام في الأندلس 3/113، 114.
[6] ابن بسام: الذخيرة 7/156-169.
[7] التَّبَحْبُح: التمكن في الحلول والمُقامِ والنفقة. ابن منظور: لسان العرب، مادة بحح 2/406، والمعجم الوسيط 1/39.
[8] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص181.
[9] الصفدي: وفيات الأعيان 5/28، والمقري: نفح الطيب 4/352. والسَّفَط: وعاء يوضع فيه الطيب. المعجم الوسيط 1/433.
[10] المقري: نفح الطيب 4/359.
[11] الحميري: الروض المعطار في خبر الأقطار 1/288، 289.
تعليق