إن أول وقف في الإسلام هو مسجد ( قباء ) الذي أسسه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مهاجرا إلى المدينة قبل أن يدخلها .ثم بعد ذلك المسجد النبوي بالمدينة ، حيث بناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة الأولى للهجرة عند مبرك ناقته حين قدم المدينة .
أما أول وقف خيري في الإسلام فقد اختلف المسلمون فيه :فقيل إن أول صدقة في الإسلام هي صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وقف الحوائط السبعة بالمدينة التي كانت لرجل يهودي اسمه مخيريق ، وكان محبا ودودا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتل مع المسلمين يومأحد وأوصى إن أصبت أي قتلت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله تعالى ، وقد قتل يوم أحد وهو على يهوديته ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مخيريق خير يهود وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الحوائط السبعة فتصدق بها أي وقفها .وقيل إن أول صدقة في الإسلام هي صدقة عمر بن الخطاب - رضي اللهعنه- سنة سبع من الهجرة حين رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر .وسواء قلنا أن أول صدقة في الإسلام هي صدقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو صدقة عمر بن الخطاب ، فالوقف في الإسلام نوع من أنواع الصدقات التي رغب الشارع فيها وندب إليها وهو قربة من القرب التي يتقرب بها العبد إلى ربه ولا فرق في ذلك بين الوقف على جهة عامة كالفقراء وطلبة العلم ونحو ذلك أو الوقف على القرابة والذرية ، إلا أن السلف الأول من هذه الأمة يفضلون أن يكون آخره للمساكين .
وقد توالت أوقاف الصحابة الكرام لا يبتغون من ذلك إلا مرضاة الله تعالى ، والتقرب إليه واستمر الناس من بعدهم يقفون أموالهم تقربا إلى الله تعالى .إلا أنه ظهر في آخر عصر الصحابة اتخاذ الوقف طريقا لحرمان بعض البنات من نصيبهن ، حتى لقد صاحت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- باستنكار ذلك ، فكانت تقول : (ما وجدت للناس مثلا اليوم في صدقاتهم إلا كما قال الله عز وجل :
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ
الأنعام (139) ، والله انه ليتصدق الرجل الصدقة العظيمة على ابنته فترى غضارة صدقته عليها وترى ابنته الأخرى وإنه لتعرف عليها الخصاصة لما حرمها من صدقته .ولقد هم عمر بن عبد العزيز أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء ولكن المنية عاجلته قبل أن ينفذ ذلك .ولقد كثرت الأوقاف في العصر الأموي كثرة عظيمة بمصر والشام وغيرهما من البلاد المفتوحة بسبب ما أغدقه الله على المسلمين بعد الفتوحاتالإسلامية ، فتوافرت لديهم الأموال والدور والحوانيت ، كما امتلك كثير منهم المزارع والحدائق وتيسرت لهم سبل الوقف .(الجزء رقم : 36، الصفحة رقم: 199)ولما كان زمن هشام بن عبد الملك ، صارت للأوقاف إدارة خاصة بمصر تشرف عليها وترعاها ، وأول من فعل ذلك توبة بن نمر قاضي مصر ، فقد كانت الأحباس في أيدي أهلها وفي أيدي الأوصياء فلما تولى توبة قال : (ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين ، فأرى أن أضع يدي عليها حفظا لها من الضياع والتوارث) .ولم يمت توبة حتى صار للأوقاف ديوان مستقل عن بقية الدواوين يشرف عليه القاضي .وقد كانت أكثر الأوقاف في البلاد الإسلامية تسير على مقتضى تأبيد الوقف فيبقى الوقف جيلا بعد جيل وقد تجهل مصارفه والولاية عليه بمرور الزمن وترادف الحوادث المختلفة .وقد اتخذ بعض الولاة من هذا ومن جواز استبدال الوقف طريقا للاستيلاء عليها باسم الاستبدال .وقد عاونهم على ذلك بعض فسقة القضاة والشهود وكان هذا في القرن السابع والثامن وما يليه وبذلك صارت الأوقاف نهبا مقسما .(الجزء رقم : 36، الصفحة رقم: 201)ولقد كان لذلك أثره في الفقهاء الذين عاصروا تلك الفترة فمنهم من شدد في فتاويه في الاستبدال وصعب طريقه ومنهم من أكثر من النكير على فعل هؤلاء .وعلى كل حال فإن الأوقاف في ذلك الوقت تحت تصرف القضاة فهم الذين يولون النظار عليها ويحاسبونهم ويشرفون على أوجه صرف ريعها .
وفي عهد العباسيين كان لإدارة الوقف رئيس يسمى (صدر الوقف) أنيط به الإشراف على إدارتها وتعيين الأعوان لمساعدته على النظر عليها .ولما تولى العثمانيون مقاليد السلطة في معظم البلاد الإسلامية اتسع نطاق الوقف لإقبال السلاطين وولاة الأمور في الدولة العثمانية على الوقف ، وصارت له تشكيلات إدارية تعنى بالإشراف عليه وصدرت تعليمات متعددة لتنظيم شئونه وبيان أنواعه وكيفية إدارته ، ولا زال الكثير من هذه الأنظمة معمولا بها إلى يومنا هذا .فمن الأنظمة التي صدرت في العهد العثماني : نظام إدارة الأوقاف الذي نظم كيفية مسك القيود من قبل مديري الأوقاف ، وكيفية محاسبة مدير الأوقاف الجديد لمن سبقه ، وتعمير وإنشاء المباني على العقارات الخيرية ، وكيف يتم تحصيل حاصلات الوقف وغير ذلك من الأحكام المنظمة لأعماله ، وقد اهتم العثمانيون بالأوقاف اهتماما بالغا فتعددت في عصرهم أغراضه وكثرت أهدافه حتى شمل الكثير من الأعمال التي تساعد على بنيان المجتمع وتكافله وما يحتاج إليه من خدمات عامة كبناء الحصون والقلاع وتسليح الجيوش ومن ذلك أيضا وقف الأربطة والبيوت على عابري السبيل وعلى طلبة العلم ، وغير ذلك من المقاصد الحسنة التي كان لها الأثر الأكبر في توفير كثير من متطلبات الحياة للناس وتمكين المسلمين من اتصال بعضهم ببعض ودفع الحركة العلمية والثقافية حتى أعجب بأفعالهم كثير من غير المسلمين وتأثروا بأخلاقهم وفيهذا يقول السائح ( دولوير ) في كتابه الذي نشره سنة 1654 (ص 189- 190) : ( ولم تنحصر خيرات المسلمين في الأحياء فقط بل امتدت إلى الأموات ، وشجعت الدولة العثمانية إقامة بيوت الضيافة التي يستفيد منها كل إنسان مهما كان دينه وتقدم فيها الخدمة لكل من يأتيها حسب حاجته لمدة ثلاثة أيام ، ، وينشئ بعض الأتراك على جوانب الطرق العيون الجارية لسقاية المسافرين ) .
ويسهب بعد ذلك في بيان كثير من الأمور التي كان يفعلها الأتراك على سبيل الصدقة والقربة ممتدحا تلك الأعمال .وقد توالت بعد ذلك القوانين والأنظمة الخاصة بالوقف منذ العهد العثماني إلى يومنا هذا .وتعرض الوقف خلال تلك الفترة إلى حملات واسعة تهدف إلى إلغائه وخاصة الأهلي منه .ففي القرن الثامن فكر ( برقوق أتابك ) بإبطال الأوقاف الأهلية ، وقد عقد مجلسا من العلماء لاستفتائهم في ذلك .ويرى البعض أن فكرة برقوق كانت تقتصر على إبطال أوقاف الأمراء السابقين فقط أما في العصر الحاضر فقد كان موضوع إلغاء الوقف الذري مدار جدل محتدم بين مؤيد ومعترض .وحجة مؤيدي الإلغاء أنه يساعد على البطالة والتسكع بين المستفيدين .وعند النظرة الأولى لهذه الحجة نجد أنها مقبولة في ظاهر الأمر ، ولكن عند إمعان النظر والتركيز على الأسباب الحقيقية لهذه الدعوى نجد أنهامرفوضة من أساسها . وما كانوا ليقولوا هذه المقالة لو أنه نظام مستورد من شرق أو من غرب ، ولكنه الإسلام الذي أصبح غرضا يرمى وهدفا يقصد ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولو أن أصحاب هذه المقالة وضعوا الحلول المناسبة لمواطن البطالة الأخرى بين الناس ، تلك التي خلفت لنا صفوفا متراصة في الأندية والمقاهي ودور اللهو التي امتلأت بالعاطلين مع الاهتمام البالغ بما يعين على ذلك ويشجع على ارتياد تلك الأماكن بشتى الأساليب وعلى أعلى المستويات ، لو فعلوا ذلك لما وجدوا لتلك الحجة من أثر .غير أنهم قصدوا إزالة نظام الوقف الذري الذي ندب إليه الشرع ليقضوا بذلك على الترابط الأسري بين المسلمين مما يعينهم على هدم الأسرة المسلمة الذي يسعون إليه .ومع التسليم جدلا بما قالوا فليس ذلك بسبب الوقف نفسه وإنما هو راجع إلى الأسلوب المتبع في ذلك الوقف مما أخرجه عن مقصده الأساسي .فلوا أننا أعدنا النظر وجددنا الأساليب بما يحقق المصلحة الشرعية من الوقف لزالت تلك العيوب .ومع ذلك فقد أثبتت الأيام أن لأصحاب تلك الفكرة قوة استطاعت تنفيذها في كثير من بلاد المسلمين ، وهكذا تكون الحال إذا تولى الأمر غير أهله من الفسقة والمنافقين وعملاء أعداء المسلمين .
منقول من مجلة البحوث اﻻسلامية
تعليق