تتلخص مزايا الجندي المتميز بما يلي: عقيدة راسخة، ومعنويات عالية، وضبط متين، وتدريب جيّد، وتنظيم سليم، وتسليح جيد.
تلك هي مزايا الجندي المتميز في كل زمان ومكان، فهل كان جنود النبي صلى الله عليه وسلم يتحلون بهذه المزايا العالية التي تجعلهم جيشا قويًّا رصينًا، وهل كانوا يختلفون في شيء من ذلك عن العرب الذين ينتمون إليهم؟
والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل جيش المسلمين يتحلى بكل هذه المزايا الرفيعة، فقد بذل غاية الجهد ليغرس كل هذه المزايا في نفوس المسلمين، وبذلك كوَّن منهم قوة لا تغلب، وكانوا قبل حين كغيرهم من القبائل الأخرى، تطغى عليهم الأنانية الفردية، ولا يعرفون معنى الضبط والنظام، وليست لديهم عقيدة بالمعنى الصحيح. ليس من السهل أبدا، أن ينجح إنسان في تبديل نفسية رجاله من حال إلى حال إلا بعون الله، ونجاحه هذا هو معجزة واقعية أكبر وأعظم من معجزات الخيال.
أ- عقيدة راسخة
آمن المسلمون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقاتلون لحماية ما آمنوا به من العدوان، حتى تكون كلمة الله هي العليا؛ وفي سبيل الدفاع عن عقيدتهم التي آمنوا بها كل الإيمان، تركوا أوطانهم وأموالهم وعرَّضوا أنفسهم للخطر، وقاتلوا حتى أولادهم وأهليهم وعشيرتهم. لقد بذلوا كل شيء رخيصا في سبيل الدين الذي اعتنقوه.
التقى الآباء بالأبناء والإخوة بالإخوة والأهل بالأهل: خالفت بينهم المبادئ ففصلت بينهم السيوف. كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع المسلمين، وكان ابنه عبد الرحمن مع المشركين. وكان عتبة بن ربيعة مع قريش، وكان ابنه حذيفة مع المسلمين. وعندما استشار النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مصير أسرى بدر، قال عمر: "أرى أن تمكنِّي من فلان -قريب عمر، فأضرب عنقه، وتمكِّن عليًّا من أخيه عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكِّن الحمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين".
ولما سحبوا جثة عتبة بن ربيعة الذي قتل يوم بدر؛ لتدفن في القليب، نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ابنه حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغيَّر لونه. فقال له: "يا حذيفة! لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟" قال حذيفة رضي الله عنه: "لا والله يا رسول الله فما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام؛ فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك".
وفي غزوة بني المصطلق، حاول عبد الله بن أبي رأس المنافقين أن يثير الفتنة بين المهاجرين والأنصار، فأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بالحركة فورا حتى لا يستفحل أمر الفتنة. وعند وصول المسلمين إلى المدينة، تقدّم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمره بقتل أبيه لأنه حاول إشعال نار الفتنة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عنه قائلا لولده المؤمن: "إنا لا نقتله، بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا".
وفي غزوة بني قريظة طلب يهود حضور أبي لبابة لاستشارته، فسمح الرسول صلى الله عليه وسلم له بالذهاب إليهم. وسأله يهود: هل ينزلون على حكم محمد؟ قال لهم: (نعم) ، وأشار إلى حلقه كأنه ينبههم إلى أن مصيرهم الذبح. لم يعرف أحد من المسلمين بإشارة أبي لبابة هذه إلى حلقه حين استشاره يهود، ولكنه أدرك لفوره بأنه خان الله ورسوله بإشارته تلك، فمضى هائما على وجهه حتى ربط نفسه إلى سارية في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي على حاله هذا حتى تاب الله عليه.
وقبيل غزوة فتح مكة جاء أبو سفيان بن حرب إلى المدينة، فقصد دار أم حبيبة ابنته وزوج الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها طوت الفراش عن والدها، لأنها رغبت بالفراش عن مشرك نجس ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.
لقد أنفق المسلمون أموالهم في سبيل الله، حتى تخلّل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالعباءة، وكان يملك أربعين ألف دينار قبل الإسلام. فما الذي يدفع لمثل هذه الأعمال الرائعة غير العقيدة الراسخة والإيمان العظيم؟ وهل يقاتل أصحاب مثل هذه العقيدة كما يقاتل الذين لا عقيدة لهم إلا أهواء الجاهلية وعصبية الأنانية وحب الفخر والظهور؟ إن عقيدة المسلمين بسمو أهدافهم جعلتهم يستميتون في القتال دفاعا عن تلك الأهداف.
ب- معنويات عالية
لا قيمة لأي جيش مهما يكن ضخما في عدده، دقيقا في تنظيمه، متميزا في تسليحه ما لم تكن معنوياته عالية. كان الجيش الإيطالي في الحرب العالمية الثانية مجهزا بأحدث الأسلحة وأشدها فتكا، وكان تنظيمه دقيقا وعدده كبيرا، ولكن معنوياته كانت منهارة؛ فأصبح عبئا ثقيلا على الألمان، فكان الحلفاء يطلقون على المواضع التي يحتلها الإيطاليون تعبير: (الفراغ العسكري)؛ لأنهم كانوا يستسلمون دون قتال، كلما حاق بهم الخطر الحقيقي أو الوهمي ... فكان وجودهم وعدم وجودهم سواء.
شجّع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل معركة بدر وفي أثنائها وقوّى معنوياتهم، حتى لا يكترثوا بتفوق قريش عليهم في العدد، فكانت معنويات المسلمين عالية في تلك المعركة. حتى معنويات الأحداث الصغار منهم كانت عالية للغاية كما رأيت في تسابق ابني عفراء لقتل أبي جهل. هل كان بإمكان المسلمين الانتصار في غزوة بدر، والقيام بمطاردة المشركين بعد يوم من غزوة أحد، والصمود في غزوة الأحزاب، والإقدام على غزوة تبوك، لو لم تكن معنوياتهم عالية جدا؟
وكما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على رفع معنويات أصحابه بشتى الطرق والمناسبات، عمل على تحطيم معنويات أعدائه بشتى الطرق والمناسبات أيضا؛ وما كانت غزوة الحديبية وعمرة القضاء وغزوة تبوك إلا معارك معنويات لا معارك ميدان. إن عمرة القضاء فتحت قلوب أهل مكة، لأنها حطّمت معنوياتهم، وغزوة الفتح فتحت أبواب مكة. كما أن نتيجة غزوة تبوك اندحار معنوي للروم، وبذلك اطمأن العرب إلى أن بإمكانهم مقاتلة الروم، وكانوا سابقا يظنون أن ذلك من المستحيلات.
لقد استهدف الرسول صلى الله عليه وسلم في كل غزواته تحطيم معنويات أعدائه، بل إنه كان يستهدف تحطيم المعنويات أكثر مما كان يستهدف تحطيم القوى المادية، لأنه كان يطمع دائما في عودة أعدائه إلى الصراط المستقيم والهداية، فيحرص على بقائهم أحياء طمعا في هدايتهم: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". إن أكثر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت معارك معنويات تؤثر في النفوس والقلوب لا معارك خسائر تؤثر على الأرواح والممتلكات.
ويجب ألا ننسى هنا أثر اعتقاد المسلمين بالقضاء والقدر في رفع معنوياتهم لاقتحام الأخطار بشجاعة خارقة، لأن المقدّر سيكون حتما والشهيد في الجنة، وإنما هي إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا} [التوبة: 52].
ج- ضبط متين
كان المسلمون يطيعون النبي صلى الله عليه وسلم إطاعة لا حدود لها، وينفّذون أوامره حرفيا بدون تردّد وبكل حرص وأمانة مهما تكن ظروفهم صعبة وواجباتهم شاقة. وليس هناك ما يبرّر ذكر أمثلة على قوة ضبط المسلمين، لأن الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ولأن الإطاعة في الإسلام دين: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
د- تدريب راق
اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب أصحابه على الرمي وركوب الخيل، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "من ترك الرمي بعد ما علمه، فإنما هي نعمة كفرها". ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على حثّ أصحابه للتدريب المستمر على الرمي وركوب الخيل وهو ما نسميه في الوقت الحاضر: بالتدريب الفردي ... بل درّبهم على تشكيلات مسير الاقتراب وأساليب القتال وواجبات الحراسات والخفراء، وهو ما نسميه في الوقت الحاضر: بالتدريب الإجمالي.
اتخذ التشكيلات التعبوية المناسبة في مسير الاقتراب في كل غزواته، فأمّن بذلك الحماية اللازمة لقواته وحرم العدو من مباغتتها. وقاتل بأسلوب (الصفوف) في معركة بدر ومعركة أحد وفي أكثر غزواته الأخرى، ونظّم المواضع الدفاعية وراء الخندق في غزوة الأحزاب وأمّن حراسة النقاط الخطيرة من الخندق. وقام بقتال المدن والأحراش في قتاله ضد يهود، كما قامت سرية أبي سلمة رضي الله عنه بالهجوم فجرا على بني أسد، والنجاح في هذين القتالين يدلّ على تدريب راق.
كما قام بمسيرات طويلة شاقة في مختلف الظروف والأحوال ليلا ونهارا، مما يمكن اعتباره تدريبا عنيفا. كل هذا التدريب الفردي والإجمالي والتدريب العنيف جعل تدريب المسلمين راقيا، وجعلهم قادرين على القتال بكفاية في مختلف الظروف والأحوال.
هـ- تنظيم سليم
كان جيش المسلمين مؤلفا من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل المعروفة حينذاك، ومعنى ذلك: أن جيش المسلمين كان مؤلفا من كل القبائل العربية لا من قبيلة واحدة، لهذا فإن انتصاره لا يعدّ فخرا لقبيلة دون أخرى، كما أن إخفاق أية قبيلة في التغلّب عليه لا يعدّ عارا عليها، لأن هذا الجيش لم يكن لقبيلة دون أخرى، بل لم يكن للعرب دون غيرهم، إنما كان للإسلام ولمعتنقي هذا الدين من العرب وغيرهم.
إنني أعتقد أن هذا التنظيم الذي لا يخضع إلا للعقيدة الموحّدة فقط دون غيرها من المؤثرات، جعل القبائل كلها لا تحرص على مقاومة جيش المسلمين حرصها على مقاومة قبيلة خاصة، وهذا سهّل مهمة المسلمين في القتال.
و- تسليح جيد
أصبح تسليح المسلمين بالتدريج جيدا، بعد أن كان المشركون متفوّقين على المسلمين بالتسليح حتى انتهاء غزوة الخندق. يكفي أن نسمع وصف الكتيبة الخضراء التي كان على رأسها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقد كان أفرادها لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.
وقد شجّع الرسول صلى الله عليه وسلم على صناعة السلاح فقال: "إنَّ اللهَ لَيُدخِلُ بالسَّهْمِ الواحِدِ ثلاثةً الجنةَ صانِعَهُ يِحتسِبُ في صنعتِه الخيْرَ والرَّامِيَ به والمُمِدَّ به وقالَ ارْمُوا وارْكبُوا ولَأَنْ تَرمُوا أحَبُّ إِليَّ من أنْ تَرْكَبُوا
"
الراوي : عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين | المحدث : الترمذي | المصدر : سنن الترمذي
الصفحة أو الرقم: 1637 | خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح
تعليق