الأسود العنسي .. مدعي النبوءة
لم يكد نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ينتشر في بلاد العرب حتى اشتعلت الفتنة في كل أنحاء الجزيرة العربية بأشكال مختلفة، فتنبأ الأسود العنسي في اليمن، ومسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة، وطليحة في بني أسد، وسجاح التميمية، ولقيط في عمان، وكانت ثورة اليمن أعنف مظاهر الانتفاض على الدين الجديد في الجزيرة العربية في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
من هو الأسود العنسي [*]
وتذكر المصادر أن المتنبئ، الأول ظهر ودعا إلى نفسه، كان في قببيلة مذحج في اليمن في عام (10هـ/ 631م)، واسمه عبهلة بن كعب العنسي، من قبيلة عنس، ويكنى بذي الخمار؛ لأنه كان دائما معتمًا متخمرًا بخمار رقيق ويلقيه على وجهه، ويهمهم فيه, ويعرف بالأسود العنسي لاسوداد في وجهه.وتكمن قوة الأسود العنسي في ضخامة جسمه وقوته وشجاعته، واستخدم الكهانة والسحر والخطابة البليغة، فقد كان كاهنًا مشعوذًا يُرِي قومه الأعاجيب، ويسبي قلوب من سمع منطقه، واستخدم الأموال للتأثير على الناس.
وكان الأسود العنسي يقيم في جنوب اليمن في كهف خُبَّانَ من بلاد مذحج، يري الناس الأعاجيب بفنون من الحيل، ويستهوي الناس بعباراته، فتنبأ ولقب نفسه "رحمن اليمن"، و وأنه كان يدعي النبوة ولا ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يزعم أن ملكين يأتيانه بالوحي وهما: سحيق وشقيق أو شريق.
تنبؤ الأسود العنسي
وحظيت حركة الأسود العنسي بتأييد واسع، وبخاصة أنها نحت اتجاهًا قوميًا بتصديها للنفوذ الفارسي، لأنه من عنس وهي بطن من بطون قبيلة مذحج، وقد راسله بنو الحارث بن كعب من أهل نجران وهم يومئذ مسلمون، فطلبوا منه أن يأتيهم في بلادهم، فجاءهم فاتبعوه لكونهم لم يسلموا رغبة، وتبعه أناس من زبيد وأود ومَسْليَة وحكم بني سعد العشيرة، ثم أقام بنجران بعض الوقت.
وقوي أمر الأسود العنسي بعد أن انضم إليه عمرو بن معديكرب الزبيدي وقيس بن مكشوح المرادي، وتمكن من طرد فروة بن مسيك من مراد وعمرو بن حزم من نجران وهو عامل المسلمين عليها، واستهوته فكرة السيطرة على صنعاء فخرج إليها بست مائة أو سبع مائة فارس معظمهم من بني الحارث بن كعب وعنس.
فتقابل مع أهل صنعاء وعليهم شهر بن باذان الفارسي -وكان قد أسلم مع أبيه- في منطقة خارج صنعاء تسمى منطقة شعوب، فتقاتلوا قتالاً شديدًا فقتل شهر بن باذان وانهزم أهل صنعاء أمام الأسود العنسي، فغلب عليها وفر المسلمون منها، ومن بينهم معاذ بن جبل رضي الله عنه، ونزل قصر غمدان بعد خمسة وعشرين يومًا من ظهوره.وكان له مواقف بشعة في تعذيب المتمسكين بالإسلام، فقد أخذ أحد المسلمين ويسمى النعمان فقطعه عضوًا عضوًا، ولهذا تعامل معه المسلمين الذين كانوا في المناطق التي يديرها بالتقية [1].
وأخذ الأسود العنسي يدعو إلى نفسه بعد هذه الانتصارات، وسرعان ما قوي أمره، واشتد ساعده بمن التف حوله من الأتباع، وسيطر على منطقة واسعة تمتد من حضرموت جنوبًا حتى حدود الطائف بما فيها قبيلة عك في تهامة غربي الحجاز، ومن الشواطي اليمنية على البحر الأحمر غربًا، وحتى الخليج شرقًا.
موقف مسلمي اليمن من الأسود العنسي
ومع كل ذلك فقد واجه الأسود العنسي معارضة تمثلت في الجماعات المسلمة من مذحج التي انسحبت مع فروة بن مسيك المرادي إلى الأحسية (موضع باليمن)، وانضم إليه من انضم من المسلمين، وكتب إلى رسول الله بخبر الأسود العنسي، وانحاز كل من أبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل إلى حضرموت، أما في منطقة حمير، فقد كان لجهود ذي الكلاع، وآل ذي لعوة الهمدانيين، دور في الاحتفاظ بالنفوذ الإسلامي، وقد وقفوا ضد عك بتهامة.وقد ظل الأسود العنسي مدعيًا النبوية مدة ثلاثة أشهر، وفي رواية أربعة أشهر، ارتكب خلالها الحماقات، وفضح النساء وأنزل الرعب، والخوف في قلوب اليمنيين، وبخاصة الأبناء [2].
موقف رسول الله من الأسود العنسي
لم يركن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الهدوء، وهو يرى جهوده الرامية إلى نشر الإسلام في اليمن وتوحيد قبائله، تتعرض للنكسة، فواجه حركة الأسود العنسي بالحزم، ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله تعالى, والدفاع عن دينه.فأرسل الرسل إلى اليمن يأمر اليمنيين بالقضاء على الأسود العنسي، ويستنهضهم للمواجهة الذاتية معه، ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يرسل جيوشًا
من المدينة للقضاء عليه، وإنما اعتمد على القوى المحلية،كما أرسل إلى عماله في تلك الجهات يحثهم على الاستعانة بالثابتين على الإسلام، والصمود أمام المنشقين، والقضاء على رءوس الفتنة.
وكتب إلى زعماء اليمن أمثال: ذي الكلاع الحميري، وذي عمرو، وذي ظليم، مع جرير بن عبد الله البجلي، وأرسل الأقرع بن عبد الله الحميري إلى ذي زود وذي مران، فاستجاب هؤلاء لدعوته، وأعلنوا ثباتهم على الإسلام، كما كتب إلى أهل نجران، وإلى عربهم وساكني الأرض من غير العرب، وهم الأبناء (أبناء الفرس)، فانضم جماعة منهم إلى دعوته، وأرسل الحارث بن عبد الله الجهني إلى اليمن بمهمة تتعلق بأحداثه.
لكن جهود هؤلاء لم تثمر في وضع حد لفتنة الأسود العنسي، ولا تعطي المصادر صورة واضحة عن جهودهم، ومحاولاتهم للقضاء عليه، وكان آخر من أرسله النبي هو وبر بن يُحَنَّس الأزدي، ومعه كتاب إلى المسلمين في اليمن وخاصة الأبناء، فيروز الديلمي وجُشَيش الديلمي وداذويه الإصطخري، يأمرهم فيه بالقيام على دينهم، والنهوض في الحرب، والقضاء على الأسود العنسي، إما غيلة أو مصادمة، وأن يستعينوا على ذلك بمن يرون عنده نجدة ودينًا.
وكان لهذا العمل من جانب الرسول أثر كبير، فقد تماسك من بعث إليهم في حياته وبعد موته، فلم يعهد عنهم أنهم ارتدوا أو تزلزلوا، فقد كتب زعماء حمير وزعماء همدان إلى الأبناء باذلين لهم العون والمساعدة، وفي الوقت نفسه تجمع أهل نجران في مكان واحد للتصدي لأي حركة من جانب الأسود العنسي، وحينئذ أيقن هذا أنه إلى هلاك.تعاون الأبناء للقضاء على الأسود العنسيوهكذا تجمعت كل قوى الإسلام في اليمن للقضاء على الأسود العنسي، ويظهر أنهم كانوا مجمعين على أن يقوموا بمقتله، لعلمهم أنه بمجرد أن يقتل لن يبقى لأتباعه أي كيان فيسهل التخلص منهم حينئذ، ولهذا وافقوا على خطة الأبناء بأن لا يقوموا بأي شيء حتى يبرموا الأمر من داخلهم.
واستطاع الأبناء، فيروز وداذويه أن يتفقا مع قيس بن مكشوح المرادي وكان قائد جند العنسي للتخلص من الأسود العنسي؛ لأنه كان على خلاف معه، ويخشى أن يتغير عليه، وقد ضموا إلى صفهم زوجة الأسود العنسي آزاد الفارسية والتي كانت زوج شهر بن باذان وابنة عم فيروز الفارسي، فقد اغتصبها كذاب اليمن بعد أن قتل زوجها، فهبت لإنقاذ دينها من براثن وحوش الجاهلية بكل عزم وتصميم، فدبرت مع المسلمين المناوئين للأسود خطة اغتيال هذا الطاغية المتألِّه، ومهدت لهم السبيل لقتله على فراش نومه.
الأسود يكشف الخطة
دعا الأسود العنسي قائد جيشه قيس بن مكشوح، وأخبره بأن شيطانه أوحى إليه، يقول: "عمدت إلى قيس فأكرمته، حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك, وحاول ملكك، وأضمر على الغدر".
وأجاب قيس: "كذب وذي الخمار، لأنت أعظم في نفسي، وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي"، وأجال الأسود العنسي نظرة في قيس، وقال له: "ما أجفاك! أتكذب الملك، قد صدق الملك، وعرفت الآن أنك تائب مما اطلع عليه منك".
وخرج قيس من عنده مرتابًا في ما يضمر له، واجتمع بفيروز وداذويه، وذكر لهما ما جرى بينه وبين الأسود العنسي، وسألهما رأيهما، فقالا: "نحن في حذر"، ويبدو أن الأسود العنسي علم بهذا الاجتماع، فأرسل إليهما يحذرهما مما يأتمران به، فخرجا من عنده، ولقيا قيسًا وهم جميعًا في ارتياب وخطر.
وعلم المسلمون في اليمن بما يجري في بلاد الأسود العنسي، كما وقفوا على فحوى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فأرسلوا إلى قيس وأصحابه يشجعونهم على التخلص من الأسود العنسي.خطة مقتل الأسود العنسيكانت امرأة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود العنسي قهرًا امرأة صالحة وذات دين، فراسلها ابن عمها فيروز الديلمي سرًّا لتعاونهم على قتل الأسود العنسي، فوافقت على ذلك، وحددت لهم ليلة، وحددت لهم بابًا لا يقف عليه أحد من الحراس، وتسلل القواد الأربعة (فيروز الديلمي وداذويه وجُشَيش وقيس بن مكشوح) إلى قصر الأسود العنسي في الليلة المتفق عليها.وحانت فرصة التحرك لتنفيذ الخطة، فدخل المجاهدون الأربعة وفتحت امرأة الأسود الباب بعد أن سقته من الخمر، فدخل عليه فيروز الديلمي في حجرة نومه، فوجده قد سكر سكرًا شديدًا، فخنقه بيده حتى ظن أنه قد مات، ولما دخل عليه القواد الأربعة ليعلنوا موته وجدوه حيًّا، فهجموا عليه، وقتله فيروز، فتقول امرأته: ما رأيت خوار رجل كخوار الأسود العنسي.وصرخ صرخة جاء على أثرها الحراس، فخرجت إليهم زوجته، وقالت: "إن النبي يوحى إليه"، فسكنوا وأمسكوا واحتز قيس بن مكشوح رأسه، ثُمَّ علا سور المدينة حين أصبح، فقال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر أشهد أن لا إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رَسُول اللَّهِ وأن الأسود كذاب عدو اللَّه، فاجتمع أصحاب الأسود، فألقى إليهم رأسه في باحة القصر، فانتابهم الرهبة وعمهم الخوف ففروا هاربين، وانقض عليهم المسلمون يقتلونهم، فلم ينجح إلا من أسلم منهم.
وتنادى الناس في المدينة فخرجوا صباحًا، واضطرب الوضع ثم استقر على أن يتولى الأمر معاذ بن جبل رضي الله عنه [4].
متى قتل الأسود العنسي ؟
ولا بد لنا من الإشارة أخيرًا إلى التاريخ الذي قتل فيه الأسود العنسي، فهل جرت حادثة القتل قبل وفاة النبي أما بعد وفاته؟يذكر اليعقوبي أن الأسود العنسي تنبأ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بويع أبو بكر ظهر أمره، واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي، وفيروز الديلمي، دخلًا منزله وهو سكران فقتلاه.أما الطبري فيروي، نقلًا عن سيف بن عمر، أنه قتل قبل وفاة النبي، وأنه صلى الله عليه وسلم أوحي ذلك إليه ليلة حدوثه فقال: "قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين" قيل: من قتله؟ قال: "فيروز، فاز فيروز"، وفي رواية أخرى نقلًا عن عمر بن شبة أن خبر موت العنسي وصل إلى المدينة بعد أن قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمضى أبو بكر جيش أسامة بن زيد في آخر ربيع الأول، وأتى مقتل العنسي في آخر ربيع الأول بعد مخرج أسامة؛ وكان أول فتح أتى أبا بكر، وهو في المدينة.
والراجح أن مقتل الأسود العنسي تم قبل وفاة النبي بيوم أو بليلة، وورد الخبر من السماء بذلك، وأعلم أصحابه به، ولكن الرسل وصلت في خلافة أبي بكر في "آخر شهر ربيع الأول عام 11هـ/ عام 632م" [5].ومهما يكن من أمر، فقد استقر الوضع الداخلي في اليمن بعد مقتل الأسود العنسي، وتراضى المسلمون على معاذ بن جبل رضي الله عنه، فصلى بهم في صنعاء.
==============
[1] البلاذري: فتوح البلدان ص109 - 110. البلخي: البدء والتاريخ، 2/ 192. الكلاعي: تاريخ الردة، ص151 – 152.
[2] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/230، 239 -240. البلاذري: فتوح البلدان، ص109 - 110. لم ترد إشارة إلى أن فيروز، وداذويه قد اعتنقا الإسلام في هذه المرحلة، كما ظل كثير من الأبناء على ديانتهم المجوسية، وأن استعانة عيهلة بهما حتمها واقع الظروف السياسية والإدارية.
[3] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 187، 231. ابن سعد: الطبقات، 5/ 388.
[4] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 231- 235. البلاذري: فتوح البلدان، ص109 – 111.
[5] اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، 2/ 15. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 187، 236- 240.
تعليق