السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بوادر الانهيار تلوح من بعيد، يدركها العاقلون وينكرها الطغاة المستبدون، لهذا يستطيع بعض الملوك والحكام تأجيل انهيار الدول سنين عددا بما أدركوا وبما أصلحوا، حتى يأتي الطاغية الغبي فيستبد ويظن أنه قادر على قهر بوادر الانهيار، فإذا به يكون أحد أسباب التعجيل بالسقوط.. فيلقى جزاءه في الدنيا قتلاً أو ذلاً أو عارًا، ثم يلقى جزاءه مرات ومرات ومرات في كتب التاريخ.
كان هشام بن عبد الملك آخر الخلفاء الأمويين الأقوياء، وكان عاقلاً إلى الحد الذي جعله يقظًا لبوادر الانهيار فيسارع في علاجها جميعًا، من الشرق في خراسان، وحتى الغرب في الأندلس، ثم ما بينهما.. بينما كان الوليد بن يزيد -الخليفة الذي تلاه- أحد أهم أسباب الانهيار بما اقترفه على نفسه وعلى البيت الأموي، حتى اندلعت ضده ثورة ناجحة كانت بداية المشهد الأخير في صفحة الدولة الأموية.
لما مات يزيد بن الوليد بويع لأخيه إبراهيم بن الوليد، إلا أنه لا يُعتبر خليفة لأن الأمر لم يتم له، إذ ما إن مات يزيد حتى تحركت الشخصية العسكرية القوية مروان بن محمد والي أرمينية يطلب الخلافة لنفسه، ويرى نفسه أولى وأحق بها، والقادر على انتشال ما وصلت إليه الخلافة من الضعف وانتشار الفتن، وكانت رغبة مروان قد بدأت تظهر منذ قُتل الوليد بن يزيد، ثم أسفرت عن نفسها وصارت رغبة أكيدة بعد موت يزيد بن الوليد، فخرج بجيشه من أرمينية وسار إلى الشام فأرسل له إبراهيم بن الوليد جيشًا بقيادة أخويه بشر ومسرور فهزمهما مروان وأسرهما، وكان مروان في خروجه يدعو إلى أن يتولى الخلافة ابني الوليد بن يزيد الصغيرين الحكم وعثمان، وقطعًا لهذه الغاية اقتحم يزيد بن خالد القسري (زعيم اليمانية) السجن الذي وُضِع فيه ولدي الوليد فقتلهما وقتل معهما يوسف بن عمر (والي الكوفة السابق الذي عذب وقتل والده خالد القسري)، وسارت الأمور كما يشتهي مروان الذي هزم جيوش الخلافة، ولم يجد إبراهيم بن الوليد إلا أن يخلع نفسه ويبايع مروان بن محمد خليفة.
ومن أهم ما في خروج مروان بن محمد أنه زاد من تعميق العصبية القبلية إذ اعتمد في خروجه على القبائل القيسية، فيما كان جانب الخلافة معتمدا على القبائل اليمانية، كما أنه عمق الأزمة والانقسام بين أمراء البيت الأموي الذين طرأ عليهم خليفة من غير فرع الخلافة في البيت المرواني، ومن ثَمَّ ساهم في مزيد من انهيار هيبة الخلافة.
أدرك مروان كل هذا فسعى بكل وسيلة إلى العفو عمن حاربه وبذل الأمان لإبراهيم بن الوليد، إلا أنه لم يكد يستولي على الخلافة حتى كأنه كان على موعد مع الثورات التي اشتعلت في كل مكان من أنحاء الدولة.
فقد ثار عليه أهل حمص (127 هـ) الذين لم يرضوا به، وفشل مروان في إصلاح الأمور سلميا فلم يعد أمامه إلا الحرب، فحارب أهل حمص حتى هزمهم بل وهدم أسوار المدينة لكيلا يفكروا مرة أخرى في الثورة.
وبينما هو مشغول في ثورة حمص إذ ثار عليه يزيد بن خالد القسري الذي كان في جبهة يزيد بن الوليد حيث تحالف معه، ووراءه قومه من اليمانية، على الخروج على الوليد بن يزيد بعد أن تسبب في قتل أباه خالد القسري، وقد خرج يزيد بن خالد القسري ومعه قومه حتى حاصروا دمشق، فأرسل إليهم مروان –وهو في حمص- قائدين من جيشه هما: أبو الورد بن الكوثر وعمر بن الوضاح مع عشرة آلاف جندي ساهما مع القوة الأموية في دمشق في دحرهم وردهم، وقُتِل يزيد بن خالد وأحرقت ديار قومه اليمانية.
ولم يكد ينتهي الأمر في دمشق حتى ثار والي فلسطين ثابت بن نعيم الجذامي، فأرسل إليه مروان أبو الورد بن الكوثر الذي انتهى لتوه من إنهاء ثورة يزيد بن خالد القسري، واستطاع أبو الورد بمساعدة أهل طبرية أن يقاتل ثابت بن نعيم فيهزمه في معركتين حتى انتهى خطره، ثم أُلقي القبض على نعيم وقُتِل.
في نفس العام (127 هـ) وعلى الجبهة الشرقية ثار عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في الحيرة ثم انسحب إلى الكوفة منهزمًا ثم هُزم مرة أخرى في الكوفة على يد واليها الأموي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وانسحب إلى فارس، وهناك في فارس استطاع استعادة قوته بما انسحب معه من رجال وبمن انهزم من الخوارج أمام مروان بن محمد في شمال العراق، وبكل من رآها فرصة سانحة للانقلاب على الأمويين، فاستولى على فارس وحكمها لمدة عام تقريبًا، ولم يكن أحد متفرغًا له فمروان بن محمد شغلته ثورات العراق التي سنذكرها بعد قليل، وخراسان كان واليها نصر بن سيار منشغلاً في حروبه مع اليمانية، وظل أمر عبد الله بن معاوية يتقوى في فارس، وبويع له بالخلافة في أصبهان، غير أنه لم يصمد أمام الجيش الأموي الذي هاجمه (129 هـ)، فانسحب إلى خراسان التي كانت قد دخلت بالفعل في سلطة العباسيين، فما كان له أن يقوم هناك بثورة ولا كانوا بالذين يطمئنون له ويحتملون وجود ثائر بينهم.
وبالعودة إلى العراق سنجد واليها عبد الله بن عمر بن العزيز ينقض بيعة مروان بن محمد ويخرج عليه، وتتلاقى رغبته مع رغبات القبائل اليمانية الموتورة التي هُزِمت وأُحرقت ديارهم في ثورات حمص ويزيد بن خالد القسري، ولهم ثارات أبعد من هذا مع الخلافة الأموية منذ هزيمة عبد الرحمن بن الأشعث وهزيمة يزيد بن المهلب ثم أخيرًا حبس زعيمهم خالدًا القسري وقتله، كذلك ساءهم اعتماد الخلافة على قبائل القيسية.. وسيطر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز على الكوفة والحيرة وبعض المناطق الأخرى.
وبالعودة إلى الشام سنرى أن سليمان بن هشام بن عبد الملك قد قام بثورة أخرى كبيرة، هي أخطر ما وقع بالشام من ثورات، فقائدها هو ابن الخليفة هشام بن عبد الملك والذي كاد يكون خليفة لولا أن ولاية العهد كانت للوليد بن يزيد، وهو من بيت الخلافة على عكس مروان بن محمد، وكان بعد هزيمته مع جيوش إبراهيم بن الوليد أمام مروان بن محمد قد طلب الأمان وبايع مروان وسكن، ولكنه ما لبث أن انحاز إلى حمص وتحصن بها وبنى ما كان مروان قد هدمه من سورها، وتبعه هناك سبعون ألفا، فتوجه إليه مروان بجيشه فانهزم وهرب وظل كذلك حتى فشلت ثورته وانضم إلى ثورة الخوارج بقيادة الضحاك بن قيس، وكانت هذه إحدى مفارقات التاريخ أن يبايع أمويٌّ خارجيًا بالخلافة!!
كذلك ثار الضحاك بن قيس الخارجي في الموصل (128 هـ) واستولى عليها وقتل والي بني أمية، وكان الوضع خطرًا حتى خرج له مروان بن محمد بنفسه، ودار قتال شديد بينهما انتهى بنصر مروان بن محمد، إلا أن الخوارج لم ينهزموا هزيمة كاملة بل استلم قيادتهم رجل يقال له الخيبري والذي استطاع تحقيق نصر كبير حتى دخل فيه خيمة مروان بن محمد وأجبره على الهرب، إلا أن هذا النصر لم يكتمل إذ أن الجيش الأموي لم يعلم بانسحاب مروان واستطاع بعضهم قتل الخيبري في خيمة مروان فعاد مروان إلى الجيش مرة أخرى منتصرا، لكن الخوارج أَمَّروا عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري الحروري الذي ظل القتال بينه وبين مروان بن محمد عشرة أشهر لا يستطيع فيها أحد أن يحسم الأمر إلا أن راية مروان بن محمد كانت دائما مهزومة، وأعادت هذه الثورة للأذهان ذكرى ثورة عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج بن يوسف الثقفي قبل نصف قرن تقريبا.
لكن بدأ مروان بن محمد يحقق انتصارات نهائية على الخوارج (129 هـ)؛ فبعد النصر الصعب الذي حققه في العام الماضي (128هـ)، سار مطاردا لهم حتى تحصنوا بالموصل (في العراق) وحفروا حولهم خندقا، ثم دارت بينهم معارك أسفرت عن نصر مروان بن محمد، وكان والي العراق الجديد يزيد بن عمر بن هبيرة على مستوى المسؤولية إذ بدأ من جهته في قتال الخوارج بالعراق حتى حقق عليهم نصرا نهائيا وأخرجهم من الكوفة ولم يبق لهم في العراق بقية، ثم أرسل إلى مروان بن محمد قائده القوي عامر بن ضبارة فصار الخوارج في الموصل محاصرين من الأمام بمروان بن محمد ومن الخلف بعامر بن ضبارة، فاضطروا لترك الموصل والاتجاه مبتعدين إلى الأهواز، وما يزال عامر بن ضبارة يتتبعهم حتى فرقهم وشتتهم وقُتل قائدهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري في الأهواز، وهرب من كان معهم من الأمويين إلى السند، ورجع مروان بن محمد إلى منزله في حران.
وثار في اليمن عبد الله بن يحيى الكندي الإباضي (من الخوارج) ولقب نفسه "طالب الحق"، وقاتل واليها القاسم بن عمر وهزمه وقتل أخاه الصلت، وحكم اليمن (129 هـ)، وكان عبد الله بن يحيى قد التقى برجل يسمى أبي حمزة المختار بن عوف في الحج (128 هـ)، كان أبو حمزة هذا يأتي الحج في كل عام ويخطب في الناس وينصح لهم ويدعوهم للخروج على مروان بن محمد، فأعجب به عبد الله بن يحيى وضمه إليه فوجد فيه زعيما قويا كما وجد أبو حمزة فيه العدد والنصرة، وبعد أن سيطر طالب الحق على اليمن أرسل قوة قوامها عشرة آلاف بزعامة أبي حمزة إلى الحجاز فظهر في موسم الحج (129 هـ)، وكره والي مكة عبد الواحد بن سليمان قتالهم فانسحب عنها، وهكذا اتسعت الثورة إلا أن أبا حمزة الخارجي بدخوله المدينة (صفر 130 هـ) وما فعله فيها صار أشهر في التاريخ من مفجر الثورة طالب الحق. أرسل مروان بن محمد جيشا بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي فهزم أبو حمزة وقتله في (130 هـ) بمساعدة من أهل المدينة، ثم انطلق إلى أن قاتل طالب الحق نفسه فهزمه وقتله أيضا بعد معارك شديدة.
إلا أن مروان ما كاد ينتهي من الخوارج في العراق، ويبدأ في التفرغ لباقي الثورات في الجنوب والغرب حتى ظهر في خراسان أبو مسلم الخراساني، عنوان انهيار الدولة الأموية وزوالها من الوجود!
منقوووووووول
بوادر الانهيار تلوح من بعيد، يدركها العاقلون وينكرها الطغاة المستبدون، لهذا يستطيع بعض الملوك والحكام تأجيل انهيار الدول سنين عددا بما أدركوا وبما أصلحوا، حتى يأتي الطاغية الغبي فيستبد ويظن أنه قادر على قهر بوادر الانهيار، فإذا به يكون أحد أسباب التعجيل بالسقوط.. فيلقى جزاءه في الدنيا قتلاً أو ذلاً أو عارًا، ثم يلقى جزاءه مرات ومرات ومرات في كتب التاريخ.
كان هشام بن عبد الملك آخر الخلفاء الأمويين الأقوياء، وكان عاقلاً إلى الحد الذي جعله يقظًا لبوادر الانهيار فيسارع في علاجها جميعًا، من الشرق في خراسان، وحتى الغرب في الأندلس، ثم ما بينهما.. بينما كان الوليد بن يزيد -الخليفة الذي تلاه- أحد أهم أسباب الانهيار بما اقترفه على نفسه وعلى البيت الأموي، حتى اندلعت ضده ثورة ناجحة كانت بداية المشهد الأخير في صفحة الدولة الأموية.
لما مات يزيد بن الوليد بويع لأخيه إبراهيم بن الوليد، إلا أنه لا يُعتبر خليفة لأن الأمر لم يتم له، إذ ما إن مات يزيد حتى تحركت الشخصية العسكرية القوية مروان بن محمد والي أرمينية يطلب الخلافة لنفسه، ويرى نفسه أولى وأحق بها، والقادر على انتشال ما وصلت إليه الخلافة من الضعف وانتشار الفتن، وكانت رغبة مروان قد بدأت تظهر منذ قُتل الوليد بن يزيد، ثم أسفرت عن نفسها وصارت رغبة أكيدة بعد موت يزيد بن الوليد، فخرج بجيشه من أرمينية وسار إلى الشام فأرسل له إبراهيم بن الوليد جيشًا بقيادة أخويه بشر ومسرور فهزمهما مروان وأسرهما، وكان مروان في خروجه يدعو إلى أن يتولى الخلافة ابني الوليد بن يزيد الصغيرين الحكم وعثمان، وقطعًا لهذه الغاية اقتحم يزيد بن خالد القسري (زعيم اليمانية) السجن الذي وُضِع فيه ولدي الوليد فقتلهما وقتل معهما يوسف بن عمر (والي الكوفة السابق الذي عذب وقتل والده خالد القسري)، وسارت الأمور كما يشتهي مروان الذي هزم جيوش الخلافة، ولم يجد إبراهيم بن الوليد إلا أن يخلع نفسه ويبايع مروان بن محمد خليفة.
ومن أهم ما في خروج مروان بن محمد أنه زاد من تعميق العصبية القبلية إذ اعتمد في خروجه على القبائل القيسية، فيما كان جانب الخلافة معتمدا على القبائل اليمانية، كما أنه عمق الأزمة والانقسام بين أمراء البيت الأموي الذين طرأ عليهم خليفة من غير فرع الخلافة في البيت المرواني، ومن ثَمَّ ساهم في مزيد من انهيار هيبة الخلافة.
أدرك مروان كل هذا فسعى بكل وسيلة إلى العفو عمن حاربه وبذل الأمان لإبراهيم بن الوليد، إلا أنه لم يكد يستولي على الخلافة حتى كأنه كان على موعد مع الثورات التي اشتعلت في كل مكان من أنحاء الدولة.
فقد ثار عليه أهل حمص (127 هـ) الذين لم يرضوا به، وفشل مروان في إصلاح الأمور سلميا فلم يعد أمامه إلا الحرب، فحارب أهل حمص حتى هزمهم بل وهدم أسوار المدينة لكيلا يفكروا مرة أخرى في الثورة.
وبينما هو مشغول في ثورة حمص إذ ثار عليه يزيد بن خالد القسري الذي كان في جبهة يزيد بن الوليد حيث تحالف معه، ووراءه قومه من اليمانية، على الخروج على الوليد بن يزيد بعد أن تسبب في قتل أباه خالد القسري، وقد خرج يزيد بن خالد القسري ومعه قومه حتى حاصروا دمشق، فأرسل إليهم مروان –وهو في حمص- قائدين من جيشه هما: أبو الورد بن الكوثر وعمر بن الوضاح مع عشرة آلاف جندي ساهما مع القوة الأموية في دمشق في دحرهم وردهم، وقُتِل يزيد بن خالد وأحرقت ديار قومه اليمانية.
ولم يكد ينتهي الأمر في دمشق حتى ثار والي فلسطين ثابت بن نعيم الجذامي، فأرسل إليه مروان أبو الورد بن الكوثر الذي انتهى لتوه من إنهاء ثورة يزيد بن خالد القسري، واستطاع أبو الورد بمساعدة أهل طبرية أن يقاتل ثابت بن نعيم فيهزمه في معركتين حتى انتهى خطره، ثم أُلقي القبض على نعيم وقُتِل.
في نفس العام (127 هـ) وعلى الجبهة الشرقية ثار عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب في الحيرة ثم انسحب إلى الكوفة منهزمًا ثم هُزم مرة أخرى في الكوفة على يد واليها الأموي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، وانسحب إلى فارس، وهناك في فارس استطاع استعادة قوته بما انسحب معه من رجال وبمن انهزم من الخوارج أمام مروان بن محمد في شمال العراق، وبكل من رآها فرصة سانحة للانقلاب على الأمويين، فاستولى على فارس وحكمها لمدة عام تقريبًا، ولم يكن أحد متفرغًا له فمروان بن محمد شغلته ثورات العراق التي سنذكرها بعد قليل، وخراسان كان واليها نصر بن سيار منشغلاً في حروبه مع اليمانية، وظل أمر عبد الله بن معاوية يتقوى في فارس، وبويع له بالخلافة في أصبهان، غير أنه لم يصمد أمام الجيش الأموي الذي هاجمه (129 هـ)، فانسحب إلى خراسان التي كانت قد دخلت بالفعل في سلطة العباسيين، فما كان له أن يقوم هناك بثورة ولا كانوا بالذين يطمئنون له ويحتملون وجود ثائر بينهم.
وبالعودة إلى العراق سنجد واليها عبد الله بن عمر بن العزيز ينقض بيعة مروان بن محمد ويخرج عليه، وتتلاقى رغبته مع رغبات القبائل اليمانية الموتورة التي هُزِمت وأُحرقت ديارهم في ثورات حمص ويزيد بن خالد القسري، ولهم ثارات أبعد من هذا مع الخلافة الأموية منذ هزيمة عبد الرحمن بن الأشعث وهزيمة يزيد بن المهلب ثم أخيرًا حبس زعيمهم خالدًا القسري وقتله، كذلك ساءهم اعتماد الخلافة على قبائل القيسية.. وسيطر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز على الكوفة والحيرة وبعض المناطق الأخرى.
وبالعودة إلى الشام سنرى أن سليمان بن هشام بن عبد الملك قد قام بثورة أخرى كبيرة، هي أخطر ما وقع بالشام من ثورات، فقائدها هو ابن الخليفة هشام بن عبد الملك والذي كاد يكون خليفة لولا أن ولاية العهد كانت للوليد بن يزيد، وهو من بيت الخلافة على عكس مروان بن محمد، وكان بعد هزيمته مع جيوش إبراهيم بن الوليد أمام مروان بن محمد قد طلب الأمان وبايع مروان وسكن، ولكنه ما لبث أن انحاز إلى حمص وتحصن بها وبنى ما كان مروان قد هدمه من سورها، وتبعه هناك سبعون ألفا، فتوجه إليه مروان بجيشه فانهزم وهرب وظل كذلك حتى فشلت ثورته وانضم إلى ثورة الخوارج بقيادة الضحاك بن قيس، وكانت هذه إحدى مفارقات التاريخ أن يبايع أمويٌّ خارجيًا بالخلافة!!
كذلك ثار الضحاك بن قيس الخارجي في الموصل (128 هـ) واستولى عليها وقتل والي بني أمية، وكان الوضع خطرًا حتى خرج له مروان بن محمد بنفسه، ودار قتال شديد بينهما انتهى بنصر مروان بن محمد، إلا أن الخوارج لم ينهزموا هزيمة كاملة بل استلم قيادتهم رجل يقال له الخيبري والذي استطاع تحقيق نصر كبير حتى دخل فيه خيمة مروان بن محمد وأجبره على الهرب، إلا أن هذا النصر لم يكتمل إذ أن الجيش الأموي لم يعلم بانسحاب مروان واستطاع بعضهم قتل الخيبري في خيمة مروان فعاد مروان إلى الجيش مرة أخرى منتصرا، لكن الخوارج أَمَّروا عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري الحروري الذي ظل القتال بينه وبين مروان بن محمد عشرة أشهر لا يستطيع فيها أحد أن يحسم الأمر إلا أن راية مروان بن محمد كانت دائما مهزومة، وأعادت هذه الثورة للأذهان ذكرى ثورة عبد الرحمن بن الأشعث على الحجاج بن يوسف الثقفي قبل نصف قرن تقريبا.
لكن بدأ مروان بن محمد يحقق انتصارات نهائية على الخوارج (129 هـ)؛ فبعد النصر الصعب الذي حققه في العام الماضي (128هـ)، سار مطاردا لهم حتى تحصنوا بالموصل (في العراق) وحفروا حولهم خندقا، ثم دارت بينهم معارك أسفرت عن نصر مروان بن محمد، وكان والي العراق الجديد يزيد بن عمر بن هبيرة على مستوى المسؤولية إذ بدأ من جهته في قتال الخوارج بالعراق حتى حقق عليهم نصرا نهائيا وأخرجهم من الكوفة ولم يبق لهم في العراق بقية، ثم أرسل إلى مروان بن محمد قائده القوي عامر بن ضبارة فصار الخوارج في الموصل محاصرين من الأمام بمروان بن محمد ومن الخلف بعامر بن ضبارة، فاضطروا لترك الموصل والاتجاه مبتعدين إلى الأهواز، وما يزال عامر بن ضبارة يتتبعهم حتى فرقهم وشتتهم وقُتل قائدهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري في الأهواز، وهرب من كان معهم من الأمويين إلى السند، ورجع مروان بن محمد إلى منزله في حران.
وثار في اليمن عبد الله بن يحيى الكندي الإباضي (من الخوارج) ولقب نفسه "طالب الحق"، وقاتل واليها القاسم بن عمر وهزمه وقتل أخاه الصلت، وحكم اليمن (129 هـ)، وكان عبد الله بن يحيى قد التقى برجل يسمى أبي حمزة المختار بن عوف في الحج (128 هـ)، كان أبو حمزة هذا يأتي الحج في كل عام ويخطب في الناس وينصح لهم ويدعوهم للخروج على مروان بن محمد، فأعجب به عبد الله بن يحيى وضمه إليه فوجد فيه زعيما قويا كما وجد أبو حمزة فيه العدد والنصرة، وبعد أن سيطر طالب الحق على اليمن أرسل قوة قوامها عشرة آلاف بزعامة أبي حمزة إلى الحجاز فظهر في موسم الحج (129 هـ)، وكره والي مكة عبد الواحد بن سليمان قتالهم فانسحب عنها، وهكذا اتسعت الثورة إلا أن أبا حمزة الخارجي بدخوله المدينة (صفر 130 هـ) وما فعله فيها صار أشهر في التاريخ من مفجر الثورة طالب الحق. أرسل مروان بن محمد جيشا بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي فهزم أبو حمزة وقتله في (130 هـ) بمساعدة من أهل المدينة، ثم انطلق إلى أن قاتل طالب الحق نفسه فهزمه وقتله أيضا بعد معارك شديدة.
إلا أن مروان ما كاد ينتهي من الخوارج في العراق، ويبدأ في التفرغ لباقي الثورات في الجنوب والغرب حتى ظهر في خراسان أبو مسلم الخراساني، عنوان انهيار الدولة الأموية وزوالها من الوجود!
منقوووووووول
تعليق