Tweet
لا يَخفى على أحدٍ ما في قصص التاريخ من عِبرٍ ودروس، وما فيها من حِكمٍ يَستنبِطها العلامة، ويَفهمُها الفهَّامة، ويُدرِك نكتَها الدَّراكة الحاذِق، وقد جاء في الأثَر قصةٌ فيها ألف عبرة وعبرة، ألا وهي قصة إنفاذ الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان لعامر بن الشَّعبي سفيرًا له إلى ملك الروم،
ونترُك الشَّعبي يَسرُد الحادثة كما وردتْ في كُتُب السِّير وأخبار التاريخ، يقول:
"أَنفذَني أمير المؤمنين عبدالملك بن مروان إلى ملِك الروم، فأدخَلَني الروم على مَلِكهم من بابٍ ضيِّق؛ حتى أَنْحني للدخول، ولكنَّني تَقدَّمتُ مرفوع الرأس، فلما وصلتُ إليه جعل لا يَسألني عن شيء إلا أجبتُه، وكانت الرُّسل لا تُطيلُ الإقامة، فحبَسني عنده أيامًا كَثيرة، فلما أردتُ الانصراف، قال: أمِنْ بيت المملكة أنتَ؟ فقلتُ: لا، ولكنِّي من العرب، فدَفَع إليَّ رقعةً، وقال: إذا أدَّيتَ الرَّسائل إلى صاحبِكَ - يَعني عبدالملك بن مروان - أَوصِل إليه هذهِ الرُّقعة.
قال: فأدَّيتُ الرسائل عند وصولي إلى عبدالملك، وأُنسِيتُ هذهِ الرقعة، فلما وصلتُ الباب أُريد الخروج، تَذكَّرتُ الرقعة، فرجعتُ فأوصلتُها إليه، فقال لي: هل قال لك شيئًا قبل أنْ يَدفعها إليكَ؟
قلتُ: نعم.
قلتُ: نعم.
قال لي:أأنتَ من أهل بيت المملكة؟
قلتُ:لا، ولكنِّي رجلٌ من العربِ في الجملة.
قلتُ:لا، ولكنِّي رجلٌ من العربِ في الجملة.
ثمَّ خرجتُ من عند عبدالملك، فلمَّا بلغتُ الباب، طلَبني فرددتُ، فلما مَثَلتُ بين يديه، قال: أتدري ما في الرُّقعة؟
قلت: لا.
قال:اقْرأها، فقرأتُها، فإذا فيها: "عَجِبتُ من قومٍ فيهم مثلُ هذا، كيف ملَّكوا غيره؟"، قلتُ: يا أمير المؤمنين، لو عَلِمتُ ما فيها، ما حملتُها؛ وإنَّما قال هذا لأنَّهُ لم يَرك.
قلت: لا.
قال:اقْرأها، فقرأتُها، فإذا فيها: "عَجِبتُ من قومٍ فيهم مثلُ هذا، كيف ملَّكوا غيره؟"، قلتُ: يا أمير المؤمنين، لو عَلِمتُ ما فيها، ما حملتُها؛ وإنَّما قال هذا لأنَّهُ لم يَرك.
قال:أَتدري لِمَ كتَبَها؟
قلت: لا.
قال:حسَدني عليك؛ فأراد أنْ يغريني بقتْلِك!".
قلت: لا.
قال:حسَدني عليك؛ فأراد أنْ يغريني بقتْلِك!".
إنَّ المتأمِّل في هذه القصة يَجد حِذْقَ الخليفة وذكاءَ الشعبي، يَجد صورةً راقية من صور الإدارة الواعية، والحُكم الرشيد، والرؤية السليمة للأمور، فملك الروم أراد أنْ يُشعِل روح الغرور في نفس الشَّعبي؛ ليُحرِّضه على قتْل خليفة المسلمين والانقلاب عليه! وذلك حين سألَه: أمِن بيت المملكة أنت؟
أي: إنَّ الذَّكاء الَّذي تتمتَّع به إنَّما هو ذكاء ملوك، والحكمة التي لبستَ منها بُردةً إنَّما هي بُردة رجال دولة وحكماء، والأدب الّذي لبست منه ثوبًا قشيبًا، إنَّما هو ثوب الملك والخلافة التي أَفلتتْ منك، وذهبتْ لابن مروان! يُريد أنْ يُوصِّل رسالته للشّعبي بهذا السؤال، والرِّسالة فحواها: لماذا لا تَشقُّ عصا الطاعة وتَخلعُ يَدكَ من بيعتِه؟ فمِثلُك أنتَ لا يَملِكه مِثلُ هذا - عبدالملك - أنتَ لا تَصلُح إلا أن تكون رأسًا في قومكَ لا مرؤوسًا، هذهِ كانت الرسالة المُبطنة التي نَستشفُّها من سؤال ملك الروم.
أمَّا رقعة ملك الروم لعبدالملك بن مروان، فلا تقلُّ دهاءً ومكرًا عن سؤالهِ للشّعبي، فهو يقول له: "عجبتُ من قومٍ فيهم مثلُ هذا، كيف ملَّكوا غيره؟"، وأراه يقصد أنَّ الشَّعبي هو أجدرُ منك بالخلافة، وهو مُنافِسك عليها، وأنَّ دولتَكَ ستَدولُ له إنْ لم تَقتلْه وتَتخلَّص من شرِّه!
لكن عبدالملك الخليفة الواعي، والسَّياسي المُحنَّك - فهِم ما وراء الكلام، وقال قولتَه فيه، كما فهِمه الشَّعبي كذلك.
إنَّ طاعة وليِّ الأمر الذي تَنطبِق عليه شروطٌ معلومةٌ هي ثقافة في المجتمعات المُتحضِّرة يَنبغي تعزيزُها؛ بل هي ثقافةٌ نابعةٌ من صميم ديننا الحنيف.
إنَّ التهافت على المنصب من أجْل المنصب هو فسادٌ أيما فساد،فلو اعتقد كلُّ مُثقَّف من "المثقفين" أو عالِمٍ من "العلماء" أنّهُ أولى بالمُلْك والحُكم من الحاكِم أو المَلِك؛ لأنَّه يَعتقِد بِجهْل الملِك وبعلْمه هو، فهو أَجهلُ الجاهلين؛ فكثيرٌ من العلماء والكُتَّاب هم أصحاب مُصنَّفات ورسائل لا يَملِكها الملوك، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنَّ الحاكم جاهِلٌ، وليس هذا مقياسًا شرعيًّا للخروج عليه وإهراق الدماء؛ لذلك وضَع أهل العلم من الأوَّلين المُتَّبعين لكتاب الله وسُنَّة رسوله شروطًا وحدودًا مُقيِّدة للخروج على الحاكم؛ إذ إنّهُ لو اعتقد كلُّ "مُثقَّف" أنه ابن جلا وطلاَّع الثَّنايا، وهو لا يرى نفسه إلا سيِّدًا في القوم، وعَلمًا في رأسه نار، فليَعلم أنَّ عامر بن شراحبيل الشعبي كان على درجةٍ من العِلم والفقه والحديث لا يَبلغُ مِعشارَ مِعشارِها مُثقَّفو اليوم!
يقول الزُّهريُّ: "العلماء أربعة: ابن المسيّب بالمدينة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول في الشَّام، والشَّعبي بالكوفة".
وقد كَاثَر به أبو بكر بن عَيَّاش مُناظِرَهُ في مجلس أبي العبَّاس قائلاً: "أين أنت عمن لم ترَ عينُكَ مثلَه في زمانه من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحفظ لما سمع، ولا أفقه في الدِّين، ولا أصدق في الحديث، ولا أعرف بمغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأيَّام العرب وحدود الإسلام والفرائض والغريب والشعر، ولا أَوصف لكلِّ أمر من عامر بن شراحبيل الشّعبي؟".
ويقال: إنَّهُ أدرَكَ خمسمائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهُ مقامهُ عند عبدالملك بن مروان.
إنَّ التّشرذم والخيانة، وقلْب ظهر المجن لمن أُعطي عهدًا - يُعدُّ من صفات أهل النِّفاق، فمن صفاتهم أنْ تَحسبهم جميعًا وقلوبهم شتَّى، أمَّا أهل الإيمان، فمن صفاتِهم الاعتصام بالكتاب العزيز والسُّنة المطهَّرة، فتَحسبُهم جميعًا وهم كذلك.
إنَّ الشَّعبي فهِم ما عجز الكثيرونَ عن فهْمِه، فهِم أنَّ البلاد لا تَحتمِل أكثرَ من رأس، ولا تَحتمِل أكثر من حاكمٍ واحد، هذا هو نظام الإسلام، حاكمٌ واحد ورجال دولة كَثيرون، ففضَّل أن يكون رجل دولة وسفير دولة الخلافة، على أنْ يُنازِع خليفة المسلمين في المُلْك.
كما أنَّ من صفات القائد النّاجح أن يَصنع قادة ورجال دولة حوله، لا أنْ يَقتل الطاقات، ويُسخِّف الآراء؛ خوفًا من مُنازعة النَّاس له في المُلْك، فكلما بَرَز منهم أحد، سَعَى في قَتلِه أو شرَّده، فليس ذلك من أخلاق المسلم القائد،كما أنَّهُ ليس من أخلاق الإنسان الوافِر العقل والرَّاجح الرأي، ليس من أصحاب العقول التي تَسعى للبناء لا للهدْم، تَسعى لبناء الإنسان قبل بناء الجدران، العقول القياديَّة التي تَعلمُ أنَّ بناء الإنسان ركيزة أساسية في تَقدُّم شعوبها وبلدانها، كما أنَّهُ ركيزة أساسية من ركائز الحُكم الرشيد.
إنَّ الشَّعبي - رحمه الله - علم أنَّهُ أنْ يكون عضوًا في جماعة الأسود خيرٌ لهُ من أن يكون قائدًا للنَّعام، علِم أنَّه لا قيمةَ لمُؤهِّلاته العلميَّة والنفسيَّة، ما لم يَمتلِك الخَصلة الأهم، وهي الطاعة، إنَّ المُطيع هو القائد الحقيقي، وليس الذي يَشعر أنَّ الطاعة مَنقصَةٌ في حقِّه وبَخْسٌ لمكانته وثقافته، من يُفكِّر بهذهِ الطريقة هو أجهل النَّاس، والجاهل يَبقى لا قائد له إلا جهْله، ولا يَنال منه امرؤ ما يَنال هو مِن نفسه.
إنّك لتجدُ حزبًا من أحزاب اليوم تعدادهُ (30) فردًا، لا يَلبَث أنَّ ينشقَّ نصفهُ عن نصفه، فيصبحُ حزبين ورأسين، ثمَّ لا تَمضي إلا مدة يَسيرة حتى يَنشقَّ ربعُ الحزب ثمَّ خمُسه ثمَّ عُشره؛ حتى لا يبقى "للمُثقَّف" قائدٌ إلا جهْلهُ - عذرًا ثقافته - وما أجمل مقالة الشاعر العراقيِّ علي الشرفي! إذ يقول:
بَلَدِي رُؤُوسٌ كُلُّهُ *** أَرَأَيْتَ مَزْرَعَةَ الْبَصَلْ؟! 
رَحِم الله عبدالملك بن مروان ورحم الله عامرًا الشّعبي؛ فهم قادة ورجال دولة بحقِّ، لا يَخدعهم ملك الرُّوم ولا حكماء الرُّوم.
عبدالرحمن أحمد
منقول
منقول
تعليق