إنَّ عظمة التشريع الإسلامي تتمثَّل في كونه استطاع أن يُحَقِّقَ المعادلة الصعبة، التي لم يستطع أيُّ تشريع سابق أو لاحق أن يُحَقِّقَها؛ فهذا التشريع رسم لنا الصورة المثاليَّة لأي مجتمع إنساني؛ من خلال الخوض في كافَّة التفاصيل المتعلِّقَة به، بل وتقديم الحلول الناجعة لكافَّة المشكلات الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والإنسانيَّة.. وغيرها من خلاله؛ وما استطاع ذلك إلا لكونه {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5].
هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإنه أدرك أن هناك واقعًا يعشيه الإنسان.. يتغيَّر هذا الواقع تبعًا لتصرفات البشر ورغائبهم؛ ومن ثَمَّ حرصت الشريعة الإسلاميَّة على أن يُعْمِل المجتهدون من بني الإسلام كافَّة أدواتهم الاجتهاديَّة؛ من أجل استنباط الأحكام الشرعيَّة والمصلحيَّة، التي تساعد في حلِّ ما استجدَّ من قضايا، بل وتقديم حلول لمشاكل مستقبليَّة، وهو ما عُرف عند الفقهاء بالمسائل الافتراضيَّة!
ولقد كانت مسائل الأوقاف من أهمِّ القضايا التي تناولتها المصادر التشريعيَّة وكُتب الفروع؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أوَّل واقف في الإسلام، ثم تبعه الصحابة -غنيُّهم وفقيرهم- في هذا الأمر المهمِّ؛ وما فعلوا ذلك إلاَّ تحقيقًا للغاية التي من أجلها وُجِدَ الوقف؛ ألا وهي ابتغاء وجه الله عزَّ وجلّ ورضوانه.
ثم سارت الأُمَّة الإسلاميَّة على درب هؤلاء الأفذاذ، ومع مرور العصور وتوالي الأزمان بدأت تتكشَّف القيمة الحقيقيَّة للأوقاف؛ إذ إنها ساعدتْ بل أسهمت بدور حيوي في حلِّ المشاكل التي واجهتها الأُمَّة عبر تاريخها الحضاري الطويل؛ من أدواء مادِّيَّة وأخلاقيَّة واجتماعيَّة ونفسيَّة وعلميَّة وعسكريَّة.. وغيرها، وهو ما لم نجده في أي حضارة أخرى، ومن ثَمَّ حرص فقهاؤنا على ضبط العمليَّة الوقفيَّة برُمَّتِهَا، وأدركوا أنها عمليَّة تتكوَّن من عناصر مهمَّة؛ هي: الوقف والواقف والموقوف عليهم، فبدأ الفقهاء في وضع الضوابط العامَّة التي تُفَصِّل العلاقة بين هؤلاء، ثم رأينا من روعة فقهائنا وتشريعنا أنهم أدركوا أن الوقف من الأمور المصلحيَّة، وليس من الأمور التوقيفيَّة التي نزلت من عند الله عزَّ وجلَّ فتُطَبَّق على هيئتها التي نزلت عليها، ومن ثم تجلَّت العبقريَّة الإسلاميَّة في مسائل الأوقاف في كافَّة مذاهب أهل السُّنَّة والجماعة، فرغم اختلافاتهم الفقهيَّة التي كانت تبغي المصلحة الشرعيَّة أوَّلاً وآخرًا؛ إلا أن الغاية التي حرَّكتهم كانت واحدة متمثِّلة في رضا الخالق عزَّ وجلَّ.
وتجلَّت روعة الأوقاف في التطبيق العملي لهذه المنظومة الفقهيَّة الرائعة، التي وضعها فقهاؤنا من خلال الحضارة الإسلاميَّة، التي امتدَّت على مدار أربعة عشر قرنًا، وإننا سنجد في هذا الكتاب تغلغل الأوقاف في كافَّة تفاصيل الحياة؛ فمن أوقاف المساجد إلى أوقاف المستشفيات إلى أوقافٍ تُراعي راحة المسلمين ودواخلهم النفسيَّة؛ مثل: وقف يُشترى منه نوع معيَّن من الأسماك لا يأتي إلا مرَّة واحدة في العام في تونس، فيأكل منه الفقراء كما يأكل الأغنياء!
إنَّ فلسفة الأوقاف الإسلاميَّة تكمن في كونها للناس عامَّة؛ لا فرق فيها بين غني وفقير، ورئيس ومرءوس، إنها تُؤَكِّد على حقيقة الإسلام ذاته، الذي جاء بكل ما هو خير للبشرية على سبيل التنظير من خلال نصوص القرآن الكريم وسُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خلال التطبيق العملي لهذه النصوص، وما ذلك إلا دليل لا مشاحة فيه على صدق الرسالة الإسلاميَّة ورحمتها وتيسيرها لكل الخلق؛ إذ لم تكن هذه الأوقاف حكرًا على المسلمين دون غيرهم؛ فقد كان المستحِقُّون -في كثير من الأوقاف- من أهل الكتاب وبقيَّة الملل الأخرى، ووجدنا كثيرًا من الفتاوى عبر تاريخ التشريع الإسلامي تُجِيز أكل أهل الكتاب وفقراء الملل الأخرى من الأوقاف، بل إننا وجدنا عشرات الأوقاف الإسلاميَّة التي أُوقِفَتْ للحيوانات المريضة والعاجزة والجائعة؛ وما ذلك إلا انعكاس حقيقي لمرآة الإسلام العظيم!
ولعلنا نتناول في عدة مقالات قادمة مجموعة من القضايا المهمَّة، نبدأ فيها بتوضيح بعضًا من روائع التشريع الإسلامي في مسائل الأوقاف، ثم الحديث عن روائع استنباطات فقهاء المسلمين في الوقف؛ كدليل على حيوية التشريع الإسلامي، ثم نتحدث عن عظمة المسلمين وعبقريتهم في إدارة هذه الأوقاف عبر تاريخ الحضارة الإسلاميَّة، والآليات المستحدثة التي استخدموها في كل عصر على حدة؛ بدءًا من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتهاءً بعصر الخلافة العثمانيَّة، ثم نعرض بعد ذلك لكيفية إنشاء المسلمين للأوقاف المتنوِّعة في الحضارة الإسلامية عبر عصورها المختلفة، ودورها العظيم في المجتمعات الإسلاميَّة، وكيف أنهم، "أي: المسلمين" ساروا أفقيًّا ورأسيًّا في إنشاء الأوقاف؛ فرأسيًّا من حيث التنوُّع المجتمعي والطبقي الإسلامي، الذي اشترك في إنشاء هذه الأوقاف، بكل ما أوتي من قوَّة ورغبة وعزم؛ من رجال وشيوخ ونساء وعلماء وأثرياء وقادة وسلاطين.. وأفقيًّا حيث تنوَّعت هذه الأوقاف من مساجد ومستشفيات ومدارس ومكتبات عامَّة وفنادق.. وغيرها.
ثم نعرج على عصرنا الحاضر وكيف أنه قد شهد طفرة حقيقيَّة في التعامل مع الأوقاف، حيث نأتي بنماذج رائعة تَبْرُز فيها طرائق الاستثمار الحديث للأوقاف،
وأخيرًا وليس آخرًا؛ نسأل الله أن يكون هذا العمل ابتغاءً لوجهه ورضوانه، ونسأله أن يُحيي دور الأوقاف في مجتمعاتنا، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تعليق