الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا هو اللقاء الرابع من المنتدى العلمي المسمى ببرنامج ((مجمع البحرين)) .
وقد سبقت الإشارة في الحلقات السابقة إلى أن البرنامج يعنى بأعلام ثنائية إذا ذكر أحدهما استدعى الآخر ندرس ذلك العلمين دراسة نرجوا من الله - جل وعلا - أن نوفق في أن نجعلها ذات صبغة عقدية وإيمانية وفقهية وتاريخية وثقافية وما إلى ذلك من الجوانب المتعددة والنواحي المختلفة والعلمان اللذان نحن بصدد دراستهما الليلة هما ((الأوس والخزرج)) وكثيرا ماردد أصحاب الصحوة وشبابها قول الشاعر:
فإن عرفت التاريخ أوساً وخزرجاً *** فالله أوس قادمون وخزرج
فالأوس والخزرج هما: أبناء قيله، هذا اسم أمهما، واسم أبو الأوس: الأوس بن حارثه والخزرج ابن حارثه، فالأوس والخزرج يجتمعان في أب واحد هو: حارثة ابن عقل، ويجتمعان في أم واحده هي قيله، ولذلك أحيانا ينادون بأبناء قيله، وقد ورد هذا النداء في عدة نواحي في تاريخنا وتراثنا، فقد جاء في حادثة الهجرة النبوية: أن اليهودي الذي كان يقف على أطم من آطام المدينة لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه قادمين إلى المدينة نادى بأعلى صوته: " يا أبناء قيله هذا جدكم أي حظكم الذي تنتظرون " فهذا مما ورد في تسميتهما بذلك.
ـ كما ورد كذلك في صحيح السنة: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه عامر بن الطفيل، وعرض عليه النبي - عليه الصلاة والسلام - الإيمان فأبي وأراد الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى عليه النبي ذلك، قال: أي عامر يهدد ويتوعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأملنها عليك أي المدينة خيلا جردا وشبابا مردا أو فتيانا مردا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد عليه قال: (يأبى الله ذلك وأبناء قيله) يأبى الله ذلك وأبناء قيله أي: الأوس والخزرج، هذا هو اسمهما لكن الله - جل وعلا - أبدلهما باسم خيرا منه ألا وهو الأنصار، وقد جاء هذا بنص القرآن قال الله - جل وعلا - وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وهذه من بيانية مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ أي: سابقون أولون من المهاجرين، وسابقون أولون من الأنصار وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ فأبدل الله ذلك الاسم بقوله - جل وعلا - الأَنصَارِ فبهذا الاسم عرفوا في الكتاب، وعرفوا في السنة، وعرفوا في التاريخ الإسلامي كله.
ـ وقد جاء في فضلهم أمور عديدة وأحاديث كثيرة منها قول النبي - عليه الصلاة والسلام -: (لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار) وأخبر عنهم كما في حديث البراء عند البخاري وغيره قال - عليه الصلاة والسلام -: (لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق)، وكان كثيرا ما يدعوا لهم، ومما أثر من دعائه - صلى الله عليه وسلم - لهم قوله: (اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار).
أصلهم: من اليمن، نزحوا إلى المدينة بعد حادثة انهيار سد مأرب المعروفة، بعد أن تفرق أهل اليمن أيادي سبأ، ولعلهم من ذلك ورثوا الرقة التي في قلوبهم، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه أهل اليمن قال: (أتاكم أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية)، الذي يعنينا هنا أن الأوس والخزرج هذا هو السبب التاريخي في نزوحهم وسكناهم في مدينته - صلى الله عليه وسلم - التي كانت تسمى يثرب.
هؤلاء القوم أعظم ما يتميزوا به من حيث الإجمال:
- نصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالله - جل وعلا - اختار المدينة أن تكون مهاجرا، ومأوى، ومثوى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم ءامنوا قبل أن يهاجر النبي - عليه الصلاة والسلام - إليهم آمن جم غفير منهم قبل أن يهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم – إليهم، ثم أذن الله لنبيه - عليه السلام - ولأصحابه معه أن يهاجروا إلى المدينة، فهاجروا إليها في قصة معروفة.
هؤلاء الكرام، والصفوة العظام خصهم الله - جل وعلا - بخصائص بها، نصروا الدين، وهذا هو الغاية من هذا الدرس ليس الغاية السرد التاريخي فقط.
ـ فأول ما امتازوا به أولئك الأخيار: رقة قلوبهم، رقة القلب: لينه وإيمانه وخشوعه وخضوعه عند ذكر الله - جل وعلا - وهذا من أعظم ما كان يميز أولئك الأنصار، يقول العرباض بن سارية " وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون " في غزوة حنين وقع في قلوبهم شيء؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - منح غيرهم، ولم يمنحهم، فلما جمعهم النبي - عليه الصلاة والسلام - قال لهم في آخر خطبته يستدر ما في قلوبهم من الرقة والإيمان والمحبة لله ولرسوله، قال لهم -صلوات الله وسلامه عليه-: (يا معشر الأنصار: أما ترضون أن يعود النساء بالشاه والبعير، وتعودون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم) فبكى القوم حتى بللوا لحاهم - رضي الله عنهم - وأرضاهم.
يتبع...
تعليق