غزوة بدر الأولى والثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد
فإن غزوة بدر الكبرى من الغزوات العظيمة في تاريخ الإسلام والمسلمين ، وكيف لاتكون كذلك وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحقق فيها أعظم انتصار للإسلام وأهله ، وكسرت شوكة الأعداء كسراً لم ينجبر بعد . هذه الغزوة وقعت في السابع عشر من شهر رمضان المبارك ، ولم يكن لها سابق موعد إنما كما يقول ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بخبر أبي سفيان مقبلاً من الشام في عير من لقريش عظيمة فيها أموال وتجارة ندب المسلمين إليهم فخرج بعضهم ، وتباطأ البعض الآخر في الخروج ، وكان أبو سفيان لما دنا من الحجاز جعل يتحسس الأخبار حتى وصل إلى الخبر اليقين فبعث رجلاً إلى مكة وأمره أن يستنفر قريشاً لهذا اللقاء . وخرجت جموع قريش للمواجهة ولم يتخلف من كبرائها إلا ابو لهب تخلف وبعث مكانه العاص بن وائل ، في حين وصف الله تعالى خروج المسلمين بقوله : (( وإذا يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرن )) سورة الأنفال .
ولما تحقق ما أراد الله تعالى في هذا الخروج من المواجهة الحتمية بين الفريقين جعل النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في القتال فقام المقداد بن عمرو فقال : يارسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (( إذهب أنت وربك فقاتلا إن هاهنا قاعدون )) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له بخير .(107) . ثم طلب النبي صلى الله عليه وسلم المشورة من الناس وكان يريد أن يسمع قول الأنصار فقام سعد بن معاذ فقال . والله لكأنك تريدنا يارسول الله ؟ فقال : أجل ، قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فصل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وسالم من شئت ، وعاد من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، واعطنا ما شئت ، وما أخذت منا أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت به من أمر فأمرنا تبع لك ، فامض يارسول الله لما أردت فنحن معك ، ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصُبُر في الحرب ، صُدُق اللقاء ، ولعل الله يريك منّا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله . فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم . نزلت قريش بالعدوة القصوى من الوادي ، ونزل المسلمون بالعدوة الدنيا كما أخبر الله تعالى عنهم فقال : ( إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ..... الآية ) الأنفال (11) . كان عدد المشركون آذنذاك يصل إلى ألف مقاتل بينما المسلمون لايتجاوزون ثلث هذا العدد فقط ثلاث مئة وبضعة عشر مقاتلاً . ومع ذلك فقد كان الله معهم فحوّل الخوف إلى أمان وأنزل عليهم النعاس حتى كان أحدهم يسقط سوطه من يده ، وأنزل عليهم ماء من السماء ليسكنهم به كما قال الله تعالى : (( إذا يغشيّكم النعاس أمنه منه وينزّل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به ... الآية )) الأنفال (44) . ويزيدهم الله طمأنينة ثالثة حين أرى المسلمين قلة جموع المشركين ، وصور الله قلة أعداد المسلمين في أعين المشركين حتى يتم اللقاء كما في القرآن الكريم : (( وإذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأمور )) الأنفال (44). ولما قربت المنازلة عدّل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف الصحابة ولجأ إلى مولاه وناصره ، ومن له الأمر أولاً وأخيراً فدخل العريش وناشد ربه النصر ويردد : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد حتى سقط الرداء من رأسه . ونزلت الملائكة مقاتلة مع المسلمين ، وبدأت ثورة المعركة يتقدم المشركين إبليس في صورة سراقة ين مالك ، وبدأ الأعداء يتساقطون واحداً تلو الآخر فسقط من كبرائهم أمية بن خلف ، وسقط رأس الباطل أبو جهل ، وتناثر عقد أهل الشرك ، ونصر الله المسلمين نصراً عظيماً دون نظر إلى قلة ، أو اعتبار بالكثرة ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصناديد قريش فسحبوا إلى بئر بدر وقذفوا فيها ، ثم وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يافلان ، يافلان ، ويافلان ابن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا به ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ً ؟ . فقال عمر يارسول الله : ما تكلّم من أجساد لا أرواح لها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم . وهكذا سجّل التاريخ في شهر رمضان بالذات هذا النصر العظيم ، فكانت الصولة للطاعة ، والفشل والهزيمة للمعصية والعاصين . ألا فما أعظم أثر الطاعة في قلوب أصحابها ! وما أسوء أثر تحدثه المعصية في قلوب الملازمين لها حين المصائب والبلايا ! وفي الدرس القادم بإذن الله تعالى صور مضيئة من تلك الغزوة . وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
غزوة بدر (2)
فإن غزوة بدر من أعظم الغزوات في تاريخ المسلمين ، وقد سجّلت أحداثها مواقف تٌعد من أروع المواقف في حياة ذلك الجيل العظيم .صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإليكم بعضاً من تلك المواقف التي دوّنتها كتب السير أثناء الحديث عن تلك الغزوة :
أولاً : الشجاعة التي كانت معلماً من معالم ذلك الجيل يدوّن لنا هذه الصفة حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن ابي طالب ، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم أجمعين حين برز كل من عتبه وشيبة والوليد من صفوف قريش وطلبوا المبارزة . فقال عتبة لابنه قم ياوليد . فقام الوليد وقام إليه علي بن أبي طالب وكان أصغر النفر فقتله علي في أول لقاء . ثم قام عتبة وقام إليه اسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلب فاختلفا ضربتين فقتله حمزة ، ثم قام شيبة ، وقام إليه عبيدة بن الحارث وكرّ حمزة وعلي على شيبة فقتلاه . وانتهت أولى جولات القتال بانتصار الفئة المؤمنة ، وكتب هؤلاء الثلاثة صورة من البسالة والشجاعة كان لها أكبر الأثر في تحقق الهزيمة النهائية في المعركة فرحم الله هؤلاء النفر ما أعظم شجاعتهم وبسالتهم في الحروب .
ثانياً : خبر عُمير بن الحمام فإنه قبل بدأ المعركة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد ويقول : ( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ) فقال عمير يارسول الله ! جنة عرضها السموات والأرض ؟ قال : نعم . قال : بخ بخ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما يحملك على قولك بخ بخ ) قال : لا والله يارسول الله إلا رجاءة أن أكون من أهلها . قال : ( إنك من أهلها ) فأخرج تمرات من قرنه . فجعل يأكل منهن . ثم قال : لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة . قال : فرمى بما كان معه من التمر . ثم قاتلهم حتى قتل .
ثالثاً : ماقاله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : بينما أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع منهما . فغمزني أحدهما . فقال : ياعم ! هل تعرف أبا جهل ؟ قال : قلت نعم . وما حاجتك إليه يابن أخي ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم . والذي نفسي بيده لئن رأيته لايفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا . قال : فتعجبت لذلك . فغمزني الآخر فقال مثلها . قال : فلم أنشب أن نظرت إلى ابي جهل يزول في الناس . فقلت : ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه . قال : فابتدراه ، فضرباه بسيفيهما ، حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبراه . فقال : أيكما قتله ؟ فقال كل واحد واحد منهما ؛: أنا قتلته . فقال : هل مسحتما سيفيكما؟ قالا : لا فنظر في السيفين فقال : كلاكما قتله . والرجلان هما : معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء .
هذه بعض مواقف تلك الغزوة العظيمة وهي مواقف تستحق التدوين . ونحن في شهر رمضان ، الشهر الذي سُطّرت فيه هذه البطولات العظيمة ، فما أحرى الأجيال اليوم بقراءة التاريخ من جديد ! ولعل شباب المسلمين يدركون هذه المعاني فتنهض همم للإقتداء ! إن القوة كما يقال تنبت من رحم الشدة ، وقد وصلت حال المسلمين في هذه الأيام إلى حال حرجة جداً ، وحالة الشدة هي الحال التي تتفجّر فيها طاقات الأمة من جديد . هكذا يقول التاريخ فيوم أن عاد العرب وأعلنوا الردة بعد وفاة نبي هذه الأمة عاد الرجل الأسيف الذي لا يتمالك نفسه من البكاء لرقته أبو بكر الصديق عاد جبلاً شامخاً وتفجّر الضعف والرحمة عن رجل يصرّ على رأيه ويجهّز اثني عشر جيشاً لمواجهة المرتدين ، ويعود الحق بلجاً من جديد . وبعد أن عاش الصليبيون قريباً من مئتي عام في بلاد المسلمين هيأ الله بعد الضعف قوة على يد أنصار السنة فخرجوا صاغرين وذليلين . وإني على يقين اليوم أن الليل قد آذن بالبلج ، وأن صبح الإسلام قريب جداً . وعلى يد الإسلام وأهله سيعود الإسلام من جديد فمن يشارك ولو بجهد المقل في استعادة هذه العزة ؟ والتاريخ شاهد والأيام دول .
(107) رواه البخاري
تعليق