إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم





    وقعة الحديبية ( في ذيالقعدة سنة 6 هـ ) - سبب عمرةالحديبية)


    ولما تطورت الظروف في الجزيرة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين ، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً ، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام ، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام ‏.‏
    أُري رسول الله(صلى اله عليه وسلم) في المنام ، وهو بالمدينة ، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام ، وأخذ مفتاح الكعبة ، وطافوا واعتمروا ، وحلق بعضهم وقصر بعضهم ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا ، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك ، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر‏ .‏

    استنفارالمسلمين


    واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه ، فأبطأ كثير من الأعراب ، أما هو فغسل ثيابه ، وركب ناقته القَصْواء ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي ‏.‏ وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ ، ومعه زوجته أم سلمة ، في ألف وأربعمائة ، ويقال ‏:‏ ألف وخمسمائة ، ولم يخرج معه بسلاح ، إلا سلاح المسافر ‏:‏ السيوف في القُرُب‏ .

    المسلمون يتحركون إلىمكة


    وتحرك في اتجاه مكة ، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه ، وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش ، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه ، فقال ‏:‏ إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، واستشار النبي(صلى اله عليه وسلم) أصحابه ، وقال ‏:‏ ‏" أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم ‏؟‏ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين ، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله ، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه ‏؟ "‏ فقال أبو بكر ‏:‏ الله ورسوله أعلم ، إنما جئنا معتمرين ، ولم نجئ لقتال أحد ، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه ، فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏فروحوا‏ )‏ ، فراحوا ‏.‏

    )محاولة قريش صد المسلمين عنالبيت)


    وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي(صلى اله عليه وسلم) عقدت مجلساً استشارياً قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن ، فبعد أن أعرض رسول الله(صلى اله عليه وسلم) عن الأحابيش ، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوَي ، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة ‏.‏ وقد حاول خالد صد المسلمين ، فقام بفرسانه إزاءهم يتراآى الجيشان ‏.‏ ورأى خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون ، فقال ‏:‏ لقد كانوا على غرة ، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم ، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة ، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف ، ففاتت الفرصة خالداً‏ .‏
    تبديل الطريق ومحاولة الاجتناب ع اللقاءالدامي


    وأخذ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) طريقاً وَعْرًا بين شعاب ، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة ، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم ، تركه إلى اليسار ، فلما رأى خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش ‏.‏
    وسار رسول الله(صلى اله عليه وسلم) حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته ، فقال الناس‏ :‏ حَلْ حَلْ ، فألَحَّتْ ، فقالوا‏ :‏ خلأت القصواء ، فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل‏ "‏، ثم قال‏:‏ "‏والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها "‏، ثم زجرها فوثبت به ، فعدل حتى نزل بأقصى الحديبية ، على ثَمَد قليل الماء ، إنما يتبرضه الناس تبرضاً ، فلم يلبث أن نزحوه ‏.‏ فشكوا إلى رسول الله(صلى اله عليه وسلم) العطش ، فانتزع سهماً من كنانته ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا‏ .‏
    بديل يتوسط رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وقريش


    ولما اطمأن رسول الله(صلى اله عليه وسلم) جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة ، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله(صلى اله عليه وسلم) من أهل تُهَامَة ، فقال ‏:‏ إني تركت كعب ابن لؤي ، نزلوا أعداد مياه الحديبية ، معهم العُوذ المطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت ‏.‏ قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏إنا لم نجئ لقتال أحد ، ولكنا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم ، ويخلوا بيني وبين الناس ، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ، وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذن الله أمره‏ "‏‏.‏
    قال بديل ‏:‏ سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً ، فقال ‏:‏ إني قد جئتكم من عند هذا الرجل ، وسمعته يقول قولاً ، فإن شئتم عرضته عليكم ‏.‏
    فقال سفهاؤهم ‏:‏ لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء ‏.‏ وقال ذوو الرأي منهم ‏:‏ هات ما سمعته‏ .‏ قال ‏:‏ سمعته يقول كذا وكذا ، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص ، فلما رآه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) قال ‏:‏ هذا رجل غادر ، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه ، فرجع إلى قريش وأخبرهم ‏.‏
    رسل قريش


    ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة ‏:‏ دعوني آته ‏.‏ فقالوا‏ :‏ آته ، فلما أشرف على النبي(صلى اله عليه وسلم) وأصحابه قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ‏:‏ ‏(‏ هذا فلان ، وهو من قوم يعظمون البدن ، فابعثوها‏ )‏ ، فبعثوها له ، واستقبله القوم يلبون ، فلما رأى ذلك ‏.‏ قال ‏:‏ سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت ، فرجع إلى أصحابه ، فقال ‏:‏ رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، وما أرى أن يصدوا ، وجرى بينه وبين قريش كلام أحفظه ‏.‏
    فقال عروة بن مسعود الثقفي ‏:‏ إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها ، ودعوني آته ، فأتاه ، فجعل يكلمه ، فقال له النبي (صلى اله عليه وسلم) نحواً من قوله لبديل ‏.‏ فقال له عروة عند ذلك‏ :‏ أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك ، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ، وإن تكن الأخرى فوالله إني لا أرى وجوها ، وإني أرى أوباشاً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك ، قال له أبو بكر ‏:‏ امصص بَظْر اللات ، أنحن نفر عنه ‏؟‏ قال ‏:‏ من ذا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ أبو بكر ، قال ‏:‏ أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك ‏.‏ وجعل يكلم النبي(صلى اله عليه وسلم) ، وكلما كلمه أخذ بلحيته ، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي(صلى اله عليه وسلم) ، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ ، فكلما أهوى عروة إلى لحية النبي(صلى اله عليه وسلم) ضرب يده بنعل السيف ، وقال‏ :‏ أخر يدك عن لحية رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ، فرفع عروة رأسه ، وقال ‏:‏ من ذا ‏؟‏ قالوا ‏:‏ المغيرة بن شعبة ، فقال ‏:‏ أي عُذَر ، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك ‏؟‏ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم ، فقال النبـي(صلى اله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏أما الإسلام فأقبلُ ، وأما المال فلست منـه فـي شيء‏ )‏ ‏( ‏وكان المغيرة ابن أخي عروة‏ ) ‏‏.‏
    ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وتعظيمهم له ، فرجع إلى أصحابه ، فقال ‏:‏ أي قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له ، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها‏.‏

    هو الذي كف أيديهمعنكم


    ولما رأى شباب قريش الطائشون ، الطامحون إلى الحرب ، رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح ، فقرروا أن يخرجوا ليلاً ، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين ، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب ، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار ، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم ، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين ، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً‏ .‏
    ورغبة في الصلح أطلـق سراحهم النبي(صلى اله عليه وسلم) وعفا عنـهم ، وفي ذلك أنزل الله ‏:‏ "وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏ "‏ ‏[ ‏الفتح ‏:‏ 24‏ ]‏
    عثمان بن عفان سفيراً إلىقريش

    وحينئذ أراد رسول الله(صلى اله عليه وسلم) أن يبعث سفيراً يؤكد لدى قريش موقفه وهدفه من هذا السفر ، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم ، فاعتذر قائلاً‏ :‏ يا رسول الله ، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت ، فأرسل عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلغ ما أردت ، فدعاه ، وأرسله إلى قريش ، وقال ‏:‏ أخبرهم أنا لم نأت لقتال ، وإنما جئنا عماراً ، وادعهم إلى الإسلام ، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيبشرهم بالفتح ، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان ‏.‏
    فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح ، فقالوا‏ :‏ أين تريد ‏؟‏ فقال‏ :‏ بعثني رسول الله(صلى اله عليه وسلم) بكذا وكذا ، قالوا‏ :‏ قد سمعنا ما تقول ، فانفذ لحاجتك ، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص ، فرحب به ثم أسرج فرسه ، فحمل عثمان على الفرس ، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة ، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش ، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت ، فرفض هذا العرض ، وأبى أن يطوف حتى يطوف رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ‏.

    إشاعة مقتل عثمان وبيعةالرضوان


    واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن ، ويبرموا أمرهم ، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الاحتباس ، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل ، فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) لما بلغته الإشاعة ‏:‏ ‏( ‏لا نبرح حتى نناجز القوم‏ )‏ ، ثم دعا أصحابه إلى البيعة ، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا ، وبايعته جماعة على الموت ، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي ، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات ، في أول الناس ووسطهم وآخرهم ، وأخذ رسول الله (صلى اله عليه وسلم) بيد نفسه وقال ‏:‏ ‏(‏ هذه عن عثمان ‏) ‏‏.‏ ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه ، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له ‏:‏ جَدُّ بن قَيْس ‏.‏
    أخذ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) هذه البيعة تحت شجرة ، وكان عمر آخذا بيده ، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله (صلى اله عليه وسلم)، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها‏ :‏ ‏" ‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ‏ "‏الآية ‏[ ‏الفتح‏ :‏ 18‏ ]‏

    إبرام الصلحوبنوده


    وعرفت قريش ضيق الموقف ، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح ، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً ، فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه عليه السلام قال ‏:‏ ‏( ‏قد سهل لكم أمركم ‏) ‏، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، فجاء سهيل فتكلم طويلاً ، ثم اتفقا على قواعد الصلح ، وهي هذه ‏:‏
    1‏.‏ الرسول(صلى اله عليه وسلم) يرجع من عامه ، فلا يدخل مكة ، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً ، معهم سلاح الراكب ، السيوف في القُرُب ، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض ‏.‏
    2‏.‏ وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين ، يأمن فيها الناس،ويكف بعضهم عن بعض ‏.‏
    3‏.‏ من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق ، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق ‏.‏
    4‏.‏ من أتى محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه ‏.‏
    ثم دعا علياً ليكتب الكتاب ، فأملى عليه‏ :‏ ‏( ‏بسم الله الرحمن الرحيم ‏)‏ فقال سهيل ‏:‏ أما الرحمن فو الله لا ندري ما هو ‏؟‏ ولكن اكتب ‏:‏ باسمك اللّهم‏ .‏ فأمر النبي(صلى اله عليه وسلم) بذلك ‏.‏ ثم أملى ‏:‏ ‏( ‏هذا ما صالح عليه محمد رسول الله‏ )‏ فقال سهيل ‏:‏ لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب ‏:‏ محمد بن عبد الله فقال ‏:‏ ‏( ‏إني رسول الله وإن كذبتموني ‏)‏ ، وأمر علياً أن يكتب ‏:‏ محمد بن عبد الله ، ويمحو لفظ رسول الله ، فأبي علي أن يمحو هذا اللفظ‏ .‏ فمحاه(صلى اله عليه وسلم) بيده ، ثم تمت كتابة الصحيفة ، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب ، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش ‏.‏

    رد أبيجندل


    وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين ظهور المسلمين ، فقال سهيل ‏:‏ هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) ‏ :‏ ‏( ‏إنا لم نقض الكتاب بعد ‏) ‏‏.‏
    فقال ‏:‏ فو الله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً‏ .‏ فقال النبي(صلى اله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏فأجزه لي ‏) ‏‏.‏ قال ‏:‏ ما أنا بمجيزه لك‏ .‏ قال ‏:‏ ‏( ‏بلى فافعل ‏) ‏، قال ‏:‏ ما أنا بفاعل ‏.‏ وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه ، وأخذ بتلابيبه وجره ، ليرده إلى المشركين ، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته ‏:‏ يا معشر المسلمين ، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني‏ ؟‏ فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم ‏) ‏‏.‏
    فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول‏ :‏ اصبر يا أبا جندل ، فإنما هم المشركون ، وإنما دم أحدهم دم كلب ، ويدني قائم السيف منه ، يقول عمر ‏:‏ رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه ، فضن الرجل بأبيه ، ونفذت القضية‏.‏

    النحر والحلق للحل عنالعمرة


    ولما فرغ رسول الله(صلى اله عليه وسلم) من قضية الكتاب قال ‏:‏ ‏( ‏قوموا فانحروا ‏) ‏، فو الله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت‏ :‏ يا رسول الله ، أتحب ذلك‏ ؟‏ اخرج ، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بُدْنَه ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضاً ، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، ونحر رسول الله(صلى اله عليه وسلم) جملاً كان لأبي جهل ، كان في أنفه بُرَةٌ من فضة ، ليغيظ به المشركين ، ودعا رسول الله(صلى اله عليه وسلم) للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة‏ .‏ وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذى لمن حلق رأسه ، بالصيام ، أو الصدقة ، أو النسك ، في شأن كعب بن عُجْرَة ‏.‏

    الاباء عن ردالمهاجرات


    ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية ، فرفض طلبهم هذا ، بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي ‏:‏ ‏( ‏وعلى أنه لا يأتيك منا رجل ، وإن كان على دينك إلا رددته علينا ‏)‏ ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً ‏.‏ وأنزل الله في ذلك‏ :‏ ‏" ‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ‏ "‏، حتى بلغ ‏" ‏بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ "‏ ‏[ ‏الممتحنة ‏:‏ 10‏ ]‏ فكان رسول الله"‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏ "‏ إلخ ‏[‏ سورة الفتح ‏:‏ 1 ‏]‏ ، يمتحنهن بقوله تعالى ‏:‏ ‏" ‏إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا "‏ إلخ ‏[ ‏الممتحنة ‏:‏ 12 ‏] ‏، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها ‏:‏ ‏( ‏قد بايعتك ‏) ‏، ثم لم يكن يردهن ‏.‏
    وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم ‏.‏ فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك ، تزوج بإحداهما معاوية ، وبالأخرى صفوان بن أمية‏ .

    ماذا يتمخض عن بنودالمعاهدة


    هذا هو صلح الحديبية ، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيم للمسلمين ، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف ، بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم ، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم ، وكانت تحاول بأقصى قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس ، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب ، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين ، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم ، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية ، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها ، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها ، فلا يهم ذلك قريشاً ، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل ‏.‏ أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش‏ ؟‏ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين ‏؟‏ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح ، وإفناء الناس ، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام ، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحرية الكاملة للناس فـي العقيدة والدين ‏" ‏فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر "‏ ‏[ ‏الكهف ‏:‏ 29‏ ] ‏‏.‏ لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات ، وقد حصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه ، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين ، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة ، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف ‏.‏
    أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين ، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب ، وإنما بدأتها قريش ، يقول الله تعالى ‏:‏ ‏" ‏وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏ "‏ ‏[‏ التوبة‏ :‏ 13‏ ]‏ ، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله ، وتعمل معهم بالمساواة ، كل من الفريقين يعمل على شاكلته ، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد ، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره‏ .‏
    أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام ، فهو أيضاً فشل لقريش ، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط ‏.‏
    أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين ، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط ، وهي ما في البند الرابــع ، ولـكن تلك الخلة تافهة جداً ، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين ، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله ، وعن مدينة الإسلام ، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً ، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين ، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه ، وهذا الذي أشار إليه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) بقوله ‏:‏ ‏( ‏إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ‏) ‏‏.‏ وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة ، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً ‏؟‏ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله‏ :‏ ‏( ‏ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً‏ ) ‏‏.‏
    والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش ، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم ، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني ، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ‏ .‏ وما سمح به النبي(صلى اله عليه وسلم) من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين ، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد ، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط ‏.

    حزن المسلمين ومناقشة عمر مع النبي(صلى اله عليه وسلم)


    هذه هي حقيقة بنود هذا الصلح ، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد ‏.‏
    الأولى ‏:‏ أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به ‏؟‏
    الثانية ‏:‏ أنه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) وعلى الحق ، والله وعد إظهار دينه ، فما له قبل ضغط قريش ، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح ‏؟‏
    كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون ، وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة ، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح‏ . ‏ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب ، فقد جاء إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) وقال‏ :‏ يا رسول الله ، ألسنا على حق وهم على باطل ‏؟‏ قـال ‏:‏ ‏( ‏بلى ‏) ‏‏.‏ قـال ‏:‏ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏بلى ‏)‏‏.‏ قال ‏:‏ ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ يا ابن الخطاب ، إني رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً ‏) ‏‏.‏ قال ‏:‏ أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏بلى ، فأخبرتك أنا نأتيه العام‏ ؟‏‏ )‏ قال ‏:‏ لا ‏.‏ قال ‏:‏ ‏(‏ فإنك آتيه ومطوف به ‏) ‏‏.‏
    ثم انطلق عمر متغيظاً فأتى أبا بكر ، فقال له كما قال لرسول الله(صلى اله عليه وسلم) ، ورد عليه أبو بكر ، كما رد عليه رسول الله(صلى اله عليه وسلم) سواء ، وزاد ‏:‏ فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت ، فو الله إنه لعلى الحق‏ .‏
    ثم نزلت‏ :‏ "‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا‏ "‏ ‏[‏ سورة الفتح ‏:‏ 1 ‏]‏ ، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه‏ .‏ فقال‏ :‏ يا رسول الله ، أو فتح هو ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏نعم ‏) ‏‏.‏ فطابت نفسه ورجع‏ .‏
    ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً ، قال عمر ‏:‏ فعملت لذلك أعمالاً ، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ ، مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيراً‏ .‏

    انحلت أزمةالمستضعفين


    ولما رجع رسول الله(صلى اله عليه وسلم) إلى المدينة ، واطمأن بها ، انفلت رجل من المسلمين ، ممن كان يعذب في مكة ، وهو أبو بَصِير ، رجل من ثقيف حليف لقريش ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، وقالوا للنبي(صلى اله عليه وسلم) :‏ العهد الذي جعلت لنا‏ .‏ فدفعه النبي(صلى اله عليه وسلم) إلى الرجلين ، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة ، فنزلوا يأكلون من تمر لهم ، فقال أبو بصير لأحد الرجلين ‏:‏ والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً ، فاستله الآخر فقال ‏:‏ أجل ، والله إنه لجيد ، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ‏ .‏ فقال أبو بصير ‏:‏ أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد ‏.‏
    وفر الآخر حتى أتى المدينة ، فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) حين رآه ‏:‏ ‏(‏ لقد رأى هذا ذعراً‏ ) ‏، فلما انتهى إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) قال‏ :‏ قُتِل صاحبي ، وإني لمقتول ، فجاء أبو بصير وقال ‏:‏ يا نبي الله ، قد والله أوْفَى الله ذمتك ، قد رددتني إليهم ، ثم أنجاني الله منهم ، قال رسول الله(صلى اله عليه وسلم) ‏ :‏ ‏( ‏ويل أمه ، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد ‏) ‏، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سِيفَ البحر ، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ‏.‏ فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها ، فقتلوهم وأخذوا أموالهم ‏.‏
    فأرسلت قريش إلى النبي(صلى اله عليه وسلم) تناشده الله والرحم لما أرسل ، فمن أتاه فهو آمن ، فأرسل النبي(صلى اله عليه وسلم) إليهم، فقدموا عليه المدينة. ‏

    إسلام أبطال منقريش

    وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بنالوليد وعثمان بن طلحة ، ولما حضروا عند النبـي(صلى اله عليه وسلم) قـال ‏:‏ " ‏إنمكـة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها‏ "‏‏.










    المرحلة الثانية

    إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين ، فقد كانت قريش أقوى قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام ، وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب الأمن والسلام انكسر أقوى جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة ـ قريش وغَطَفَان واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية ، وزعيمتهم في ربوع جزيرة العرب انخفضت حدة مشاعر الوثنيين ، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير ، ولذلك لا نرى لغطفان استفزازاً كبيراً بعد هذه الهدنة ، وجل ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء اليهود ‏.‏
    أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر ، وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ ، وتؤجج نار الفتنة ، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة ، وتبيت للقضاء على النبي(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم ، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي(صلى الله عليه وسلم) بعد هذا الصلح هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر ‏.‏
    ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت المسلمين فرصة كبيرة لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها ، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال ، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري . ولذلك نرى أن نقسم هذه المرحلة إلى قسمين ‏:‏
    1 ـ النشاط في مجال الدعوة ، أو مكاتبة الملوك والأمراء ‏.‏
    2 ـ النشاط العسكري‏ .‏
    وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة ، نتناول موضوع مكاتبة الملوك والأمراء ، إذ الدعوة الإسلامية هي المقدمة طبعاً ، بل ذلك هو الهدف الذي عانى له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام ، والحروب والفتن ، والقلاقل والاضطرابات ‏.‏




    أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام‏.‏

    ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له‏:‏ إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، نقشه‏:‏ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر‏:‏ محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، هــكذا‏.‏
    واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام‏.‏ وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه‏.‏


    1 ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة‏:‏

    وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة‏.‏ وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ‏:‏ ‏(‏وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر‏)‏‏.‏
    وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي، الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم، ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك‏)‏‏.‏
    وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهداً بليغاً، واستعان في ذلك كثيراً باكتشافات العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏
    فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسي من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى‏)‏‏.‏
    وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم الأصحمة صريحاً، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم‏.‏
    وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب‏.‏ والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحاً، والعلم عند الله‏.‏
    ولما بلغ عمرو بن أمية الضمري كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي أخذه النجاشي، ووضعه على عينه، ونزل عن سريره على الأرض، وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهاك نصه‏:‏
    ‏[‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته، الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد‏:‏
    فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسي، فورب السماء والأرض إن عيسي لا يزيد على ما ذكرت تُفْرُوقا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابك، فأشهد أنك رسول الله صادقاً مصدقاً، وقد بايعتك، وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين‏)‏‏.‏
    وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب من النجاشي أن يرسل جعفراً ومن معه من مهاجري الحبشة، فأرسلهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الضمري، فقدم بهم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر‏.‏
    وتوفي النجاشي هذا في رجب سنة تسع من الهجرة بعد تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم وفاته، وصلي عليه صلاة الغائب، ولما مات وتخلف على عرشه ملك آخر كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً آخر، ولا يدري هل أسلم أم لا‏؟‏‏.‏


    2 ـ الكتاب إلى المقوقس ملك مصر‏:‏

    وكتــب النبــي صلى الله عليه وسلم إلى جُرَيْج بـن مَتَّي الملقب بالمُقَوْقِس ملك مصر والإسكندرية‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم أهل القبــط، ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏)‏
    واختار لحمل هذا الكتاب حاطب بن أبي بَلْتَعَة‏.‏ فلما دخل حاطب على المقوقس قال له‏:‏ إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعتبر بغيرك، ولا يعتبر غيرك بك‏.‏
    فقال المقوقس‏:‏ إن لنا دينا لن ندعه إلا لما هو خير منه‏.‏
    فقال حاطب‏:‏ ندعوك إلى دين الإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه، إن هذا النبي دعا الناس فكان أشدهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصاري، ولعمري ما بشارة موسي بعيسي إلا كبشارة عيسي بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، فكل نبي أدرك قوماً فهم أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه، وأنت ممن أدركه هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به‏.‏
    فقال المقوقس‏:‏ إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه‏.‏ ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوي، وسأنظر‏.‏
    وأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجعله في حُقِّ من عاج، وختم عليه، ودفعه إلى جارية له، ثم دعا كاتباً له يكتب بالعربية، فكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد‏:‏
    فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين، لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت بغلة لتركبها، والسلام عليك‏)‏‏.‏
    ولم يزد على هذا ولم يسلم، والجاريتان مارية، وسيرين، والبغلة دُلْدُل، بقيت إلى زمن معاوية ، واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مارية سرية له، وهي التي ولدت له إبراهيم‏.‏ وأما سيرين فأعطاها لحسان بن ثابت الأنصاري‏.‏


    3 ـ الكتاب إلى كسرى ملك فارس‏:‏

    وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى ملك فارس‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فـارس، سـلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، فإن أبيت فإن إثم المجوس عليك‏)‏‏.‏
    واختار لحمل هذا الكتاب عبد الله بن حذافة السهمي، فدفعه السهمي إلى عظيم البحرين، ولا ندري هل بعث به عظيم البحرين رجلاً من رجالاته، أم بعث عبد الله السهمي، وأيّا ما كان فلما قرئ الكتاب على كسرى مزقه، وقال في غطرسة‏:‏ عبد حقير من رعيتي يكتب اسمه قبلي، ولما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مزق الله ملكه‏)‏، وقد كان كما قال، فقد كتب كسرى إلى بَاذَان عامله على اليمن‏:‏ ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به‏.‏ فاختار باذان رجلين ممن عنده، أحدهما‏:‏ قهرمانه بانويه، وكان حاسباً كاتباً بكتاب فارس‏.‏ وثانيهما‏:‏ خرخسرو من الفرس ، وبعثهما بكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن ينصرف معهما إلى كسري، فلما قدما المدينة، وقابلا النبي صلى الله عليه وسلم، قال أحدهما‏:‏ إن شاهنشاه ‏[‏ملك الملوك‏]‏ كسرى قد كتب إلى الملك باذان يأمره بأن يبعث إليك من يأتيه بك، وبعثني إليك لتنطلق معي، وقال قولاً توعده فيه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يلاقياه غداً‏.‏
    وفي ذلك الوقت كانت قد قامت ثورة كبيرة ضد كسرى من داخل بيته بعد أن لاقت جنوده هزيمة منكرة أمام جنود قيصر، فقد قام شيرويه بن كسرى على أبيه فقتله، وأخذ الملك لنفسه، وكان ذلك في ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادي الأولي سنة سبع ، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الوحي، فلما غدوا عليه أخبرهما بذلك‏.‏ فقالا‏:‏ هل تدري ما تقول‏؟‏ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر، أفنكتب هذا عنك، ونخبره الملك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له‏:‏ إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى ‏!‏ وينتهي إلى منتهي الخف والحافر، وقولا له‏:‏ إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك، وملكتك على قومك من الأبناء‏)‏، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر، وبعد قليل جاء كتاب بقتل شيرويه لأبيه، وقال له شيرويه في كتابه‏:‏ انظر الرجل الذي كان كتب فيه أبي إليك، فلا تهجه حتى يأتيك أمري‏.‏
    وكان ذلك سبباً في إسلام باذان ومن معه من أهل فارس باليمن‏.‏
    4 ـ الكتاب إلى قيصر ملك الروم‏:‏

    روى البخاري ـ ضمن حديث طويل ـ نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملك الروم هرقل، وهو هذا‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدي، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ‏{‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏)‏ ‏[‏آل عمران‏:‏64‏]‏‏.‏
    واختار لحمل هذا الكتاب دَحْيَة بن خليفة الكلبي، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصري، ليدفعه إلى قيصر، وقد روي البخاري عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، كانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء ، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا ترجمانه فقال‏:‏ أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي‏؟‏ قال أبو سفيان‏:‏ فقلت‏:‏ أنا أقربهم نسباً، فقال‏:‏ أدنوه مني، وقربوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه‏:‏ إني سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذباً لكذبت عليه‏.‏
    ثم قال‏:‏ أول ما سألني عنه أن قال‏:‏ كيف نسبه فيكم‏؟‏ فقلت‏:‏ هو فينا ذو نسب، قال‏:‏ فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل كان من آبائه من ملك‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم‏؟‏ قلت‏:‏ بل ضعفاؤهم‏.‏ قال‏:‏ أيزيدون أم ينقصون‏؟‏ قلت‏:‏ بل يزيدون‏.‏ قال‏:‏ فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه‏:‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فهل يغدر‏؟‏ قلت‏:‏ لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها ـ قال‏:‏ ولم تمكنني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة ـ قال‏:‏ فهل قاتلتموه‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فكيف كان قتالكم إياه‏؟‏ قلت‏:‏ الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه‏.‏ قال‏:‏ ماذا يأمركم‏؟‏ قلت‏:‏ يقول‏:‏ ‏(‏اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم‏)‏، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة‏.‏
    فقال للترجمان‏:‏ قل له‏:‏ سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها‏.‏ وسألتك‏:‏ هل قال أحد منكم هذا القول قبله‏؟‏ فذكرت أن لا‏.‏ قلت‏:‏ لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت‏:‏ رجل يأتسي بقول قيل قبله‏.‏ وسألتك‏:‏ هل كان من آبائه من ملك‏؟‏ فذكرت أن لا‏.‏ فقلت‏:‏ فلو كان من آبائه من ملك قلت‏:‏ رجل يطلب ملك أبيه‏.‏ وسألتك‏:‏ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال‏؟‏ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس، ويكذب على الله‏.‏ وسألتك‏:‏ أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم‏؟‏ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل‏.‏ وسألتك‏:‏ أيزيدون أم ينقصون‏؟‏ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم‏.‏ وسألتك‏:‏ أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه‏؟‏ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب‏.‏ وسألتك‏:‏ هل يغدر‏؟‏ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر‏.‏وسألتك‏:‏ بماذا يأمر‏؟‏ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه‏.‏
    ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا، قال‏:‏ فقلت لأصحابي حين أخرجنا‏:‏ لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كَبْشَة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ، فما زلت موقنا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام‏.‏
    هذا ما رآه أبو سفيان من أثر هذا الكتاب على قيصر، وقد كان من أثره عليه أنه أجاز دحية بن خليفة الكلبي، حامل كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم بمال وكسوة، ولما كان دحية بحِسْمَي في الطريق لقيه ناس من جُذَام، فقطعوها عليه، فلم يتركوا معه شيئاً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يدخل بيته، فأخبره، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى حسمي، وهي وراء وادي القري، في خمسمائة رجل، فشن زيد الغارة على جذام، فقتل فيهم قتلاً ذريعاً، واستاق نَعَمهم ونساءهم، فأخذ من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف، والسبي مائة من النساء والصبيان‏.‏
    وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قبيلة جذام موادعة، فأسرع زيد بن رِفَاعة الجذامي أحد زعماء هذه القبيلة بتقديم الاحتجاج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أسلم هو ورجال من قومه، ونصروا دحية حين قطع عليه الطريق فقبل النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه، وأمر برد الغنائم والسبي‏.‏
    وعامة أهل المغازي يذكرون هذه السرية قبل الحديبية، وهو خطأ واضح، فإن بعث الكتـاب إلى قيـصر كـان بعد الحديبية ؛ ولذا قال ابن القيم‏:‏ هذا بعد الحديبية بلا شك‏.‏
    5 ـ الكتاب إلى المنذر بن سَاوِي‏:‏

    وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي حاكم البحرين كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، وبعث إليه العلاء بن الحضرمي بذلك الكتاب، فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
    ‏[‏أما بعد، يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه، ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلى في ذلك أمرك‏]‏‏.‏
    فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فإني أذكرك الله عز وجل، فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطيع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيراً، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب، فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلم نعزلك عن عملك‏.‏ ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية‏)‏‏.‏
    6 ـ الكتاب إلى هَوْذَة بن على صاحب اليمامة‏:‏

    وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن على صاحب اليمامة‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهي الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك‏)‏‏.‏
    واختار لحمل هذا الكتاب سَلِيط بن عمرو العامري، فلما قدم سليط على هوذة بهذا الكتاب مختوماً أنزله وحياه، وقرأ عليه الكتاب، فرد عليه رداً دون رد، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك‏)‏، وأجاز سليطاً بجائزة، وكساه أثواباً من نسج هجر‏.‏
    فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه فقال‏:‏ ‏(‏لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت، باد، وباد ما في يديه‏)‏‏.‏ فلما انصرف رسول الله من الفتح جاءه جبريل عليه السلام بأن هوذة مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبي، يقتل بعدي‏)‏، فقال قائل‏:‏ يا رسول الله، من يقتله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أنت وأصحابك‏)‏، فكان كذلك‏؟‏‏.‏
    7 ـ الكتاب إلى الحارث بن أبي شَمِر الغساني صاحب دمشق‏:‏

    كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى الحارث بن أبي شمر، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبقي لك ملكك‏)‏‏.‏
    واختار لحمل هذا الكتاب شجاع بن وهب من بني أسد بن خزيمة، ولما أبلغه الكتاب رمي به وقال‏:‏ ‏[‏من ينزع ملكي مني‏؟‏ أنا سائر إليه‏]‏، ولم يسلم‏.‏ واستأذن قيصر في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فثناه عن عزمه، فأجاز الحارث شجاع بن وهب بالكسوة والنفقة، ورده بالحسني‏.‏
    8 ـ الكتاب إلى ملك عُمَان‏:‏

    وكتب النبي صلى الله عليه وسلم كـتاباً إلى ملـك عمان جَيْفَر وأخيه عبد ابني الجُلَنْدَي، ونصه‏:‏
    ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد رسول الله إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدي، أما بعد‏:‏
    فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، فإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما ‏[‏أن تقرا بالإسلام‏]‏ فإن ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما‏)‏‏.‏
    واختار لحمل هذا الكتاب عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عمرو‏:‏ فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فلما قدمتها عمدت إلى عبد ـ وكان أحلم الرجلين، وأسهلهما خلقاً ـ فقلت‏:‏ إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال‏:‏ أخي المقدم على بالسن والملك، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك، ثم قال‏:‏ وما تدعو إليه‏؟‏ قلت‏:‏ أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وتخلع ما عبد من دونه، وتشهد أن محمداً عبده ورسوله‏.‏ قال‏:‏ يا عمرو، إنك ابن سيد قومك فكيف صنع أبوك‏؟‏ فإن لنا فيه قدوة‏.‏ قلت‏:‏ مات ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ووددت أنه كان أسلم وصدق به، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام‏.‏ قال‏:‏ فمتى تبعته‏؟‏ قلت‏:‏ قريباً‏.‏ فسألني أين كان إسلامك‏؟‏ قلت‏:‏ عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي قد أسلم‏.‏ قال‏:‏ وكيف صنع قومه بملكه‏؟‏ فقلت‏:‏ أقروه واتبعوه‏.‏ قال‏:‏ والأساقفة والرهبان تبعوه‏؟‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في رجل أفضح له من الكذب‏.‏ قلت‏:‏ ما كذبت، وما نستحله في ديننا، ثم قال‏:‏ ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشي‏.‏قلت‏:‏ بلي، قال‏:‏ فبأي شيء علمت ذلك‏؟‏ قلت‏:‏ كان النجاشي يخرج له خرجاً، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ لا والله لو سألني درهما واحداً ما أعطيته، فبلغ هرقل قوله، فقال له اليَنَّاق أخوه‏:‏ أتدع عبدك لا يخرج لك خرجاً، ويدين بدين غيرك ديناً محدثاً‏؟‏ قال هرقل‏:‏ رجل رغب في دين، فاختاره لنفسه، ما أصنع به‏؟‏ والله لولا الضن بملكي لصنعت كما صنع‏.‏ قال‏:‏ انظر ما تقول يا عمرو‏؟‏ قلت‏:‏ والله صدقتك‏.‏
    قال عبد‏:‏ فأخبرني ما الذي يأمر به وينهي عنه‏؟‏ قلت‏:‏ يأمر بطاعة الله عز وجل وينهي عن معصيته، ويأمر بالبر وصلة الرحم، وينهي عن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وعن الخمر، وعن عبادة الحجر والوثن والصليب‏.‏ قال‏:‏ ما أحسن هذا الذي يدعو إليه، لو كان أخي يتابعني عليه لركبنا حتى نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصدق به، ولكن أخي أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنباً‏.‏ قلت‏:‏ إنه إن أسلم مَلَّكَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، فأخذ الصدقة من غنيهم فيردها على فقيرهم‏.‏ قال‏:‏ إن هذا لخلق حسن‏.‏ وما الصدقة‏؟‏ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات في الأموال، حتى انتهيت إلى الإبل‏.‏ قال‏:‏ يا عمرو، وتؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعي الشجر وترد المياه‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم، فقال‏:‏ والله ما أري قومي في بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون لهذا‏.‏
    قال‏:‏ فمكثت ببابه أياماً، وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبري، ثم إنه دعاني يوماً فدخلت عليه، فأخذ أعوانه بضبعي فقال‏:‏ دعوه، فأرسلت فذهبت لأجلس، فأبوا أن يدعوني أجلس، فنظرت إليه فقال‏:‏ تكلم بحاجتك، فدفعت إليه الكتاب مختوماً، ففض خاتمه، وقرأ حتى انتهي إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته، إلا أني رأيت أخاه أرق منه، قال‏:‏ ألا تخبرني عن قريش كيف صنعت‏؟‏ فقلت‏:‏ تبعوه، إما راغب في الدين، وإما مقهور بالسيف‏.‏ قال‏:‏ ومن معه‏؟‏ قلت‏:‏ الناس قد رغبوا في الإسلام واختاروه على غيره، وعرفوا بعقولهم مع هدي الله إياهم أنهم كانوا في ضلال، فما أعلم أحداً بقي غيرك في هذه الحَرجَة، وأنت إن لم تسلم اليوم وتبعته توطئك الخيل وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، ويستعملك على قومك، ولا تدخل عليك الخيل والرجال، قال‏:‏ دعني يومي هذا، وارجع إلى غداً‏.‏
    فرجعت إلى أخيه فقال‏:‏ يا عمرو، إني لأرجو أن يسلم إن لم يَضِنَّ بملكه، حتى إذا كان الغد أتيت إليه، فأبي أن يأذن لي‏.‏ فانصرفت إلى أخيه، فأخبرته أني لم أصل إليه، فأوصلني إليه، فقال‏:‏ إني فكرت فيما دعوتني إليه، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلاً ما في يدي، وهو لاتبلغ خيله هاهنا، وإن بلغت خيله لقيت قتالاً ليس كقتال من لاقي‏.‏ قلت‏:‏ أنا خارج غداً، فلما أيقن بمخرجي خلا به أخوه فقال‏:‏ ما نحن فيما ظهر عليه، وكل من أرسل إليه قد أجابه، فأصبح فأرسل إلى، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعاً، وصدقا النبي صلى الله عليه وسلم، وخليا بيني وبين الصدقة، وبين الحكم فيما بينهم، وكانا لي عوناً على من خالفني‏.‏
    وسياق هذه القصة تدل على أن إرسال الكتاب إليهما تأخر كثيراً عن كتب بقية الملوك، والأغلب أنه كان بعد الفتح‏.‏
    وبهذه الكتب كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ دعوته إلى أكثر ملوك الأرض، فمنهم من آمن به ومنهم من كـفر، ولكن شغل فكره هؤلاء الكافرين، وعرف لديهم باسمه ودينه‏.‏




  • #2
    رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم



    النشاط العسكري بعد صلح الحديبية -
    غزوة الغابة أو غزوة ذيقرد

    هذه الغزوة حركة مطـاردة ضد فصيلة من بني فَزَارة قامت بعمل القرصنة في لِقَاحِ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
    وهي أول غزوة غزاها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بعد الحديبية ، وقبل خيبر ‏.‏ ذكر البخاري في ترجمة باب أنها كانت قبل خيبر بثلاث ، وروى ذلك مسلم مسنداً من حديث سلمة ابن الأكوع ‏.‏ وذكر الجمهور من أهل المغازي أنها كانت قبل الحديبية ، وما في الصحيح أصح مما ذكره أهل المغازي ‏.‏
    وخلاصة الروايات عن سلمة بن الأكوع بطل هذه الغزوة أنه قال ‏:‏ بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بظهره مع غلامه رَبَاح ، وأنا معه بفرس أبي طلحة ، فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري قد أغار على الظهر ، فاستاقه أجمع ، وقتل راعيه ، فقلت ‏:‏ يا رباح ، خذ هذا الفرس فأبلغه أبا طلحة ، وأخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قمت على أكَمَة ، واستتقبلت المدينة ، فناديت ثلاثاً‏ :‏ يا صباحاه ، ثم خرجت في آثار القوم أرميهم بالنبل وأرتجز ، أقول ‏:‏
    أنا ابنُ الأكْـوَع

    واليـومُ يـومُ الرُّضّع

    فو الله ما زلت أرميهم وأعقر به م، فإذا رجع إلى فارس جلست في أصل الشجر ، ثم رميته فتعفرت به ، حتى إذا دخلوا في تضايق الجبل علوته ، فجعلت أرديهم بالحجارة ، فما زلت كذلك أتبعهم حتى ما خلق الله تعالى من بعير من ظهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلا خلفته وراء ظهري ، وخلوا بيني وبينه ، ثم اتبعتهم أرميهم ، حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بردة ، وثلاثين رمحاً يستخفون ، ولا يطرحون شيئاً إلا جعلت عليه آراماً من الحجارة ، يعرفها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ‏.‏ حتى أتوا متضايقاً من ثَنِيَّةٍ ، فجلسوا يتغدون ، وجلست على رأس قَرْن ، فصعد إلى منهم أربعة في الجبل ، قلت ‏:‏ هل تعرفونني ‏؟‏ أنا سلمة بن الأكوع ، لا أطلب رجلاً منكم إلا أدركته ، ولا يطلبني فيدركني ، فرجعوا‏ .‏ فما برحت مكاني حتى رأيت فوارس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يتخللون الشجر ، فإذا أولهم أخرم ، وعلى أثره أبو قتادة ، وعلى أثره المقداد بن الأسود ، فالتقى عبد الرحمن وأخرم ، فعقر بعبد الرحمن فرسه ، وطعنه عبد الرحمن فقتله ، وتحول على فرسه ، ولحق أبو قتادة بعبد الرحمن فطعنه فقتله ، وولى القوم مدبرين ، فتبعتهم أعدو على رجلي ، حتى يعدلوا قبل غروب الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ‏:‏ ذو قَرَد ، ليشربوا منه ، وهم عطاش ، فأجليتهم عنه ، فما ذاقوا قطرة منه ، ولحقني رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والخيل عشاء ، فقلت ‏:‏ يا رسول الله ، إن القوم عطاش ، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ما عندهم من السَّرْح ، وأخذت بأعناق القوم ، فقال‏ :‏ ‏(‏ يا بن الأكوع ‏.‏ ملكت فأسجح ‏)‏، ثم قال ‏:‏ ‏( ‏إنهم ليقرون الآن في غطفان ‏)‏‏ .‏
    وقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏خير فرساننا اليوم أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة‏ "‏‏.‏ وأعطاني سهمين ، سهم الراجل وسهم الفارس ، وأردفني وراءه على العَضْبَاء راجعين إلى المدينة ‏.‏
    استعمل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على المدينة في هذه الغزوة ابن أم مكتوم ، وعقد اللواء للمقداد بن عمرو ‏.






    غزوة خيبر ووادي القرى فيالمحرم سنة 7 هـ
    سببالغزوة

    كانت خيبر مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على بعد ثمانين ميلا من المدينة في جهة الشمال ، وهي الآن قرية في مناخها بعض الوخامة ‏.‏

    سببالغزوة
    ولما اطمأن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة ، وهو قريش ، وأمن منه تماماً بعد صلح الحديبية أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين ـ اليهود وقبائل نجد ـ حتى يتم الأمن والسلام ، ويسود الهدوء في المنطقة ، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه‏ .‏
    ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر ومركز الاستفزازات العسكرية ، ومعدن التحرشات وإثارة الحروب ، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولا‏ً .‏
    أما كون خيبر بهذه الصفة ، فلا ننسى أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين ، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الاتصالات بالمنافقين ـ الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ الجناح الثالث من الأحزاب ـ وكانوا هم أنفسهم يتهيأون للقتال ، فألقوا المسلمين بإجراءاتهم هذه في محن متوصلة ، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متواصلة ، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين ، مثل سلام بن أبي الحُقَيْق ، وأسِير بن زارم ، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك ، وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب ، لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت مجابهة للمسلمين ، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين ، واقترب لهم يوم الحساب‏ .‏

    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ- الخروج إلى خيبر
    قال ابن إسحاق‏:‏ أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر ‏.‏
    قال المفسرون ‏:‏ إن خيبر كانت وعدا وعدها الله تعالى بقوله‏ :‏ "‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ‏ "‏ ‏[ ‏الفتح‏ :‏ 20 ‏]‏ يعني صلح الحديبية ، وبالمغانم الكثيرة خيبر‏ .‏
    عدد الجيشالإسلامي
    ولما كان المنافقون وضعفاء الإيمان تخلفوا عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية أمر الله تعالى نبيه(صلى الله عليه وسلم فيهم قائلاً‏ :‏ ‏" سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً‏ "‏ ‏[ ‏الفتح‏ :‏ 15‏] ‏‏.‏
    فلما أراد رسول الله(صلى الله عليه وسلم الخروج إلى خيبر أعلن ألا يخرج معه إلا راغب في الجهاد ، فلم يخرج إلا أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة ‏.‏
    واستعمل على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَةَ الغفاري ، وقال ابن إسحاق‏:‏ نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي ، والأول أصح عند المحققين ‏.‏
    وبعد خروجه(صلى الله عليه وسلم قدم أبو هريرة المدينة مسلماً ، فوافي سباع بن عرفطة في صلاة الصبح ، فلما فرغ من صلاته أتى سباعاً فزوده ، حتى قدم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، وكلم المسلمين فأشركوه وأصحابه في سهمانهم ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - اتصال المنافقينباليهود
    وقد قام المنافقون يعملون لليهود ، فقد أرسل رأس المنافقين عبد الله بن أبي إلى يهود خيبر ‏:‏ إن محمداً قصد قصدكم ، وتوجه إليكم ، فخذوا حذركم ، ولا تخافوا منه فإن عددكم وعدتكم كثيرة ، وقوم محمد شرذمة قليلون ، عزّل ، لا سلاح معهم إلا قليل ، فلما علم ذلك أهل خيبر ، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق وهَوْذَة بن قيس إلى غطفان يستمدونهم ، لأنهم كانوا حلفاء يهود خيبر ، ومظاهرين لهم على المسلمين ، وشرطوا لهم نصف ثمار خيبر إن هم غلبوا المسلمين‏ .‏


    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - الطريق إلى خيبر

    وسلك رسول الله(صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جـبل عــصر ـ بالكسر ، وقيل ‏:‏ بالتحريك ـ ثم على الصهباء ، ثم نزل على واد يقال له ‏:‏ الرجيع ، وكان بينه وبين غطفان مسيرة يوم وليلة ، فتهيأت غطفان وتوجهوا إلى خيبر ، لإمداد اليهود ، فلما كانوا ببعض الطريق سمعوا من خلفهم حساً ولغطاً ، فظنوا أن المسلمين أغاروا على أهاليهم وأموالهم فرجعوا ، وخلوا بين رسول الله (صلى الله عليه وسلم وبين خيبر ‏.‏
    ثم دعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم الدليلين اللذين كانا يسلكان بالجيش ـ وكان اسم أحدهما‏ :‏ حُسَيْل ـ ليدلاه على الطريق الأحسن ، حتى يدخل خيبر من جهة الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بين اليهود وبين طريق فرارهم إلى الشام ، كما يحول بينهم وبين غطفان‏ .‏
    قال أحدهما‏ :‏ أنا أدلك يا رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، فأقبل حتى انتهى إلى مفرق الطرق المتعددة وقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذه طرق يمكن الوصول من كل منها إلى المقصد ، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً‏ .‏ قال‏ :‏ اسم واحد منها حزن ، فأبى النبي(صلى الله عليه وسلم من سلوكه ، قال‏ :‏ اسم الآخر شاش ، فامتنع منه أيضاً ، وقال ‏:‏ اسم الآخر حاطب ، فامتنع منه أيضاً ، قال حسيل ‏:‏ فما بقي إلا واحد ‏.‏ قال عمر ‏:‏ ما اسمه ‏؟‏ قال ‏:‏ مَرْحَب ، فاختار النبي(صلى الله عليه وسلم سلوكه ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - بعض ما وقع في الطريق
    1ـ عن سلمة بن الأكوع قال ‏:‏ خرجنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلاً ، فقال رجل من القوم لعامر ‏:‏ يا عامر ، ألا تسمعنا من هنيهاتك‏ ؟‏ ـ وكان عامر رجلاً شاعراً ـ فنزل يحدو بالقوم ، يقول ‏:
    اللهم لولا أنت ما اهتديـنا
    فاغـفر فِدَاءً لك مااقْتَفَيْنا
    وألْـقِينْ سكـينة عــلينا

    ولا تَصدَّقْنا ولا صَلَّينـا
    وَثبِّت الأقدام إنلاقينـا
    إنا إذا صِـيحَ بنا أبينـا
    وبالصياح عَوَّلُواعــلينا
    فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏( ‏من هذا السائق‏ )‏ قالوا ‏:‏ عامر بن الأكوع ، قال ‏:‏ ‏( ‏يرحمه الله ‏) ‏‏:‏ قال رجل من القوم ‏:‏ وجبت يا نبي الله ، لولا أمتعتنا به ‏.‏
    وكانوا يعرفون أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم لا يستغفر لإنسان يخصه إلا استشهد ، وقد وقع ذلك في حرب خيبر‏ .‏
    2- وفي الطريق أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ) فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم : "أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنكم تدعون سميعاً قريباً ".
    3 ـ وبالصهباء من أدنى خيبر صلى النبي(صلى الله عليه وسلم العصر ، ثم دعا بالأزواد ، فلم يؤت إلا بالسَّوِيق ، فأمر به فثري ، فأكل وأكل الناس ، ثم قام إلى المغرب ، فمضمض ، ومضمض الناس ، ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم صلى العشاء‏ .‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - الجيش الإسلامي إلى أسوارخيبر
    وبات المسلمون الليلة الأخيرة التي بدأ في صباحها القتال قريبًا من خيبر ، ولا تشعر بهم اليهود ، وكان النبي(صلى الله عليه وسلم إذا أتى قومًا بليل لم يقربهم حتى يصبح ، فلما أصبح صلى الفجر بغَلَس ، وركب المسلمون ، فخرج أهل خيبر بمساحيهم ومكاتلهم ، ولا يشعرون ، بل خرجوا لأرضهم ، فلما رأوا الجيش قالوا ‏:‏ محمد، والله محمد والخَمِيس ، ثم رجعوا هاربين إلى مدينتهم ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏الله أكبر، خربت خيبر ، الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين‏ "‏ ‏.‏
    وكان النبي(صلى الله عليه وسلم اختار لمعسكره منزلاً ، فأتاه حباب بن المنذر فقال : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله ، أم هو الرأي في الحرب ؟ قال : " بل هو الرأي " فقال : يا رسول الله إن هذا المنزل قريب جداً من حسن نطاة ، جميع مقاتلي خيبر فيها ، وهم يدرون أحوالنا ، ونحن لا ندري أحوالهم ، وسهامهم تصل إلينا . وسهامنا لا تصل إليهم ، ولا نأمن من بياتهم ، وأيضاً هذا بين النخلات ، ومكان غائر ، وأرض وخيمة ، لو أمرت بمكان خال عن هذه المفاسد نتخذه معسكراً . قال(صلى الله عليه وسلم : " الرأي ما أشرت ، ثم تحول إلى مكان آخر " .
    ولما دنا من خيبر وأشرف عليها قال ‏:‏ ‏( ‏قفوا‏ )‏ ، فوقف الجيش ، فقال ‏:‏ ‏" ‏اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، ورب الأرضين السبع وما أقللن ، ورب الشياطين وما أضللن ، ورب الرياح وما أذرين ، فإنا نسألك خير هذه القرية ، وخير أهلها ، وخير ما فيها ، ونعوذ بك من شر هذه القرية ، وشرّ أهلها ، وشر ما فيها أقدموا بسم الله ‏" ‏‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم التهيؤ للقتال وحصونخيبر
    ولما كانت ليلة الدخول ـ وقيل ‏:‏ بل بعد عدة محاولات ومحاربات ـ قال النبي(صلى الله عليه وسلم :‏ ‏(‏ لأعطين الراية غدًا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ‏‏)‏ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، كلهم يرجو أن يعطاها ، فقال ‏:‏ ‏( ‏أين علي بن أبي طالب‏ ؟ ‏‏)‏ فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، هو يشتكي عينيه ، قال‏ :‏ ‏( ‏فأرسلوا إليه ‏)‏ ، فأتى به فبصق رسول الله(صلى الله عليه وسلم في عينيه ، ودعا له، فبرئ ، كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ، قال ‏:‏ ‏" ‏انفذ على رسلك ، حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النعم‏ "‏‏.‏
    وكانت خيبر منقسمة إلى شطرين ، شطر فيها خمسة حصون‏ :‏
    1 ـ حصن ناعم ‏.‏
    2 ـ حصن الصَّعْب بن معاذ‏ .‏
    3 ـ حصن قلعة الزبير ‏.‏
    4 ـ حصن أبي‏ .‏
    5 ـ حصن النِّزَار‏ .‏

    والحصون الثلاثة الأولى منها كانت تقع في منطقة يقال لها ‏:‏ ‏( ‏النطاة‏ )‏ وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمي بالشَّقِّ‏.‏
    أما الشطر الثاني ، ويعرف بالكتيبة ، ففيه ثلاثة حصون فقط‏ :‏
    1 ـ حصن القَمُوص ‏( ‏وكان حصن بني أبي الحقيق من بني النضير‏ ) ‏.‏
    2 ـ حصن الوَطِيح‏ .‏
    3 ـ حصن السُّلالم‏ .‏

    وفي خيبر حصون وقلاع غير هذه الثمانية ، إلا أنها كانت صغيرة ، لا تبلغ إلى درجة هذه القلاع في مناعتها وقوتها ‏.‏
    والقتال المرير إنما دار في الشطر الأول منها ، أما الشطر الثاني فحصونها الثلاثة مع كثرة المحاربين فيها سلمت دونما قتال ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - بدء المعركة وفتح حصنناعم
    وأول حصن هاجمه المسلمون من حصونهم الثمانية هو حصن ناعم‏ .‏
    وكان خط الدفاع الأول لليهود لمكانه الاستراتيجي ، وكان هذا الحصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد بالألف‏ .‏
    خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمسلمين إلى هذا الحصن ، ودعا اليهود إلى الإسلام ، فرفضوا هذه الدعوة ، وبرزوا إلى المسلمين ومعهم ملكهم مرحب ، فلما خرج إلى ميدان القتال دعا إلى المبارزة ، قال سلمة بن الأكوع‏ :‏ فلما أتينا خيبر خرج ملكهم مرحب يخطر بسيفه يقول‏ :‏
    قد عَلِمتْ خيبر أني مَرْحَب

    شَاكِي السلاح بطل مُجَرَّب
    إذا الحروب أقبلتْتَلَهَّب
    فبرز له عمي عامر فقال ‏:‏
    قد علمت خيبر أني عامر

    شاكي السلاح بطل مُغَامِر
    فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب في ترس عمي عامر ، وذهب عامر يسفل له ، وكان سيفه قصيرًا ، فتناول به ساق اليهودي ليضربه ، فيرجع ذُبَاب سيفه فأصاب عين ركبته فمات منه ، وقال فيه النبي(صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏إن له لأجرين ـ وجمع بين إصبعيه ـ إنه لجَاهِدٌ مُجَاهِد ، قَلَّ عربي مَشَى بها مِثْلَه ‏" .‏
    ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إلى البراز مرة أخرى وجعل يرتجز بقوله ‏:‏
    قد علمت خيبر أني مرحب‏ .‏‏.‏‏.‏ إلخ ، فبرز له على بن أبي طالب ‏.‏ قال سلمة ابن الأكوع‏ :‏ فقال علي ‏:‏
    أنا الذي سمتني أمي حَيْدَرَهْ

    كلَيْثِ غابات كَرِيه المَنْظَرَهْ
    أُوفِيهم بالصَّاع كَيْل السَّنْدَرَهْ
    فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه ‏.‏
    ولما دنا علي رضي الله عنه من حصونهم اطلع يهودي من رأس الحصن ، وقال ‏:‏ من أنت‏ ؟‏ فقال ‏:‏ أنا علي بن أبي طالب ، فقال اليهودي ‏:‏ علوتم وما أنزل على موسى ‏.‏
    ثم خرج ياسر أخو مرحب ، وهو يقول ‏:‏ من يبارز‏ ؟‏ فبرز إليه الزبير ، فقالت صفية أمه ‏:‏ يا رسول الله ، يقتل ابني ، قال ‏:‏ ‏( ‏بل ابنك يقتله ‏) ‏، فقتله الزبير ‏.‏
    ودار القتال المرير حول حصن ناعم ، قتل فيه عدة سراة من اليهود ، انهارت لأجله مقاومة اليهود ، وعجزوا عن صد هجوم المسلمين ، ويؤخذ من المصادر أن هذا القتال دام أيامًا لاقي المسلمون فيها مقاومة شديدة ، إلا أن اليهود يئسوا من مقاومة المسلمين ، فتسللوا من هذا الحصن إلى حصن الصَّعْب ، واقتحم المسلمون حصن ناعم ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح حصن الصعب بن معاذ
    وكان حصن الصعب الحصن الثاني من حيث القوة والمناعة بعد حصن ناعم ، قام المسلمون بالهجوم عليه تحت قيادة الحباب بن المنذر الأنصاري ، ففرضوا عليه الحصار ثلاثة أيام ، وفي اليوم الثالث ، دعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم لفتح هذا الحصن دعوة خاصة‏ .‏
    روى ابن إسحاق أن بني سهم من أسلم أتوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم ، فقالوا‏ :‏ لقد جهدنا ، وما بأيدينا من شيء ، فقال ‏:‏ " ‏اللهم إنك قد عرفت حالهم ، وأن ليست بهم قوة ، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه ، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غَنَاء ، وأكثرها طعامًا ووَدَكًا‏ "‏‏.‏ فغدا الناس ففتح الله عز وجل حصن الصعب بن معاذ ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعامًا وودكًا منه‏ .‏
    ولما ندب النبي(صلى الله عليه وسلم المسلمين بعد دعائه لمهاجمة هذا الحصن كان بنو أسلم هم المقاديم في المهاجمة ، ودار البراز والقتال أمام الحصن ، ثم فتح الحصن في ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس ، ووجد فيه المسلمون بعض المنجنيقات والدبابات ‏.‏
    ولأجل هذه المجاعة الشديدة التي ورد ذكرها في رواية ابن إسحاق ، كان رجال من الجيش قد ذبحوا الحمير ، ونصبوا القدور على النيران ، فلما علم رسول الله(صلى الله عليه وسلم بذلك نهى عن لحوم الحمر الإنسية ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتحقلعةالزبير
    وبعد فتح حصن ناعم والصعب تحول اليهود من كل حصون النَّطَاة إلى قلعة الزبير ، وهو حصن منيع في رأس قُلَّةٍ ، لا تقدر عليه الخيل والرجال لصعوبته وامتناعه ، ففرض عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم الحصار ، وأقام محاصرًا ثلاثة أيام ، فجاء رجل من اليهود ، وقال ‏:‏ يا أبا القاسم ، إنك لو أقمت شهرًا ما بالوا ، إن لهم شرابًا وعيونًا تحت الأرض ، يخرجون بالليل ويشربون منها ، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك ، فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك‏.‏
    فقطع ماءهم عليهم ، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال ، قتل فيه نفر من المسلمين ، وأصيب نحو العشرة من اليهود ، وافتتحه رسول الله(صلى الله عليه وسلم .‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح قلعةأبي
    وبعد فتح قلعة الزبير انتقل اليهود إلى قلعة أبي وتحصنوا فيه ، وفرض المسلمون عليهم الحصار ، وقام بطلان من اليهود واحد بعد الآخر بطلب المبارزة ، وقد قتلهما أبطال المسلمين ، وكان الذي قتل المبارز الثاني هو البطل المشهور أبو دُجَانة سِمَاك بن خَرَشَة الأنصاري صاحب العصابة الحمراء‏ .‏
    وقد أسرع أبو دجانة بعد قتله إلى اقتحام القلعة ، واقتحم معه الجيش الإسلامي ، وجرى قتال مرير ساعة داخل الحصن ، ثم تسلل اليهود من القلعة ، وتحولوا إلى حصن النزار آخر حصن في الشطر الأول ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح حصنالنزار
    كان هذا الحصن أمنع حصون هذاالشطر، وكان اليهود على شبه اليقين بأن المسلمين لايستطيعون اقتحام هذه القلعة ، وإن بذلوا قصارى جهدهم في هذا السبيل، ولذلك أقاموا في هذه القلعة مع الذراري والنساء ، بينما كانواقد أخلوا منها القلاع الأربعة السابقة ‏.‏
    وفرض المسلمون على هذا الحصن أشد الحصار ، وصاروا يضغطونعليهم بعنف ، ولكون الحصن يقع على جبل مرتفع منيع لم يكونوا يجدون سبيلاً للاقتحامفيه‏ ،‏ أما اليهود فلم يجترئوا للخروج من الحصن ، وللاشتباك مع قوات المسلمين ،ولكنهم قاوموا المسلمين مقاومة عنيدة برشق النبال ، وبإلقاء الحجارة ‏.‏
    وعندما استعصى حصن النزار على قوات المسلمين ، أمرالنبي(صلى الله عليه وسلمبنصب آلات المنجنيق ، ويبدو أن المسلمين قذفوا به القذائف ، فأوقعواالخلل في جدران الحصن ، واقتحموه ، ودار قتال مرير في داخل الحصن انهزم أمامهاليهود هزيمة منكرة ، وذلك لأنهم لم يتمكنوا من التسلل من هذا الحصن كما تسللوا منالحصون الأخرى ، بل فروا من هذا الحصن تاركين للمسلمين نساءهم وذراريهم‏ .‏
    وبعد فتح هذا الحصن المنيع تم فتح الشطر الأول من خيبر ،وهي ناحية النَّطَاة والشَّقِّ ، وكانت في هذه الناحية حصون صغيرة أخرى إلا أناليهود بمجرد فتح هذا الحصن المنيع أخلوا هذه الحصون ، وهربوا إلى الشطر الثاني منبلدة خيبر‏ .‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فتح الشطر الثاني منخيبر
    ولما أتم رسول الله(صلى الله عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق ، تحول إلى أهل الكتيبة التي بها حصن القَمُوص ‏:‏ حصن بني أبي الحُقَيْق من بني النضير ، وحصن الوَطِيح والسُّلالم ، وجاءهم كل فَلِّ كان انهزم من النطاة والشق ، وتحصن هؤلاء أشد التحصن ‏.‏
    واختلف أهل المغازي هل جرى هناك قتال في أي حصن من حصونها الثلاثة أم لا‏ ؟‏ فسياق ابن إسحاق صريح في جريان القتال لفتح حصن القموص ، بل يؤخذ من سياقه أن هذا الحصن تم فتحه بالقتال فقط من غير أن يجري هناك مفاوضة للاستسلام ‏.‏
    أما الواقدي ، فيصرح تمام التصريح أن قلاع هذا الشطر الثلاث إنما أخذت بعد المفاوضة ، ويمكن أن تكون المفاوضة قد جرت لاستلام حصن القموص بعد إدارة القتال ، وأما الحصنان الآخران فقد سلما إلى المسلمين دونما قتال ‏.‏
    ومهما كان ، فلما أتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد الحصار ، ودام الحصار أربعة عشر يومًا ، واليهود لا يخرجون من حصونهم ، حتى همّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليهم المنجنيق ، فلما أيقنوا بالهلكة سألوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم الصلح ‏.
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - المفاوضة
    وأرسل ابن أبي الحُقَيْق إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم ‏ :‏ أنزل فأكلمك ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏نعم ‏)‏ ، فنزل ، وصالح على حقن دماء مَنْ في حصونهم من المقاتلة ، وترك الذرية لهم ، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ، ويخلون بين رسول الله(صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض ، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي الذهب والفضة ـ والكُرَاع والْحَلْقَة إلا ثوبًا على ظهر إنسان ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏" ‏وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا‏ً "‏، فصالحوه على ذلك ، وبعد هذه المصالحة تم تسليم الحصون إلى المسلمين ، وبذلك تم فتح خيبر‏ .‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قتل ابني أبي الحقيق لنقض العهد
    على رغم هذه المعاهدة غيب ابنا أبي الحقيق مالاً كثيراً ، غيبا مَسْكًا فيه مال وحُلُي لحيي بن أخطب ، كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير ‏.‏
    قال ابن إسحاق ‏:‏ وأتي رسول الله(صلى الله عليه وسلم بكِنَانة الربيع ، وكان عنده كنز بني النضير ، فسأله عنه ، فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رجل من اليهود فقال ‏:‏ إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم لكنانة ‏:‏ ‏" ‏أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك‏ ؟‏ "قال ‏:‏ نعم ، فأمر بالخربة ، فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقي ، فأبى أن يؤديه‏ .‏ فدفعه إلى الزبير ، وقال ‏:‏ عذبه حتى نستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزند في صدره حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله(صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بمحمود بن مسلمة ـ وكان محمود قتل تحت جدار حصن ناعم ، ألقي عليه الرحى ، وهو يستظل بالجدار فمات .‏
    وذكر ابن القيم أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم أمر بقتل ابني أبي الحقيق ، وكان الذي اعترف عليهما بإخفاء المال هو ابن عم كنانة ‏.‏
    وسبى رسول الله(صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب ، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق ، وكانت عروسًا حديثة عهد بالدخول ‏.
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قسمة الغنائم
    وأراد رسول الله(صلى الله عليه وسلم أن يجلي اليهود من خيبر ، فقالوا ‏:‏ يا محمد ، دعنا نكون في هذه الأرض ، نصلحها ، ونقوم عليها ، فنحن أعلم بها منكم ، ولم يكن لرسول الله(صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه غلمان يقومون عليها ، وكانوا لا يفرغون حتى يقوموا عليها ، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ، ومن كل ثمر ، ما بدا لرسول الله(صلى الله عليه وسلم أن يقرهم ، وكان عبد الله بن رواحة يخرصه عليهم ‏.‏
    وقسم أرض خيبر على ستة وثلاثين سهمًا ، جمع كل سهم مائة سهم ، فكانت ثلاثة آلاف وستمائة سهم ، فكان لرسول الله(صلى الله عليه وسلم والمسلمين النصف من ذلك وهو ألف وثمانمائة سهم ، لرسول الله(صلى الله عليه وسلم سهم كسهم أحد المسلمين ، وعزل النصف الآخر ، وهو ألف وثمانمائة سهم ، لنوائبه وما يتنزل به من أمور المسلمين ، وإنما قسمت على ألف وثمانمائة سهم لأنها كانت طعمة من الله لأهل الحديبية من شهد منهم ومن غاب ، وكانوا ألفا وأربعمائة ، وكان معهم مائتا فرس ، لكل فرس سهمان ، فقسمت على ألف وثمانمائة سهم ، فصار للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد .‏
    ويدل على كثرة مغانم خيبر ما رواه البخاري عن ابن عمر قال ‏:‏ ما شبعنا حتى فتحنا خيبر ، وما رواه عن عائشة قالت‏ :‏ لما فتحت خيبر قلنا ‏:‏ الآن نشبع من التمر ، ولما رجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم إياها من النخيل حين صار لهم بخيبر مال ونخيل ‏.
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قدوم جعفر بن أبي طالب والأشعريين
    وفي هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، ومعهم الأشعريون أبو موسى وأصحابه‏ .‏
    قال أبو موسى ‏:‏ بلغنا مخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان لي ـ في بضع وخمسين رجلاً من قومي ، ركبنا سفينة ، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفرًا وأصحابه عنده ، فقال ‏:‏ إن رسول الله(صلى الله عليه وسلم بعثنا وأمرنا بالإقامة ، فأقيموا معنا ، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا رسول الله(صلى الله عليه وسلم حين فتح خيبر ، فأسهم لنا ، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر شيئا إلا لمن شهد معه ، إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه ، قسم لهم معهم‏ .‏
    ولما قدم جعفر على النبي(صلى الله عليه وسلم تلقاه وقَبَّلَ ما بين عينيه وقال‏ :‏ ‏" ‏والله ما أدري بأيهما أفرح ؟‏ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ‏" ‏‏.‏
    وكان قدوم هؤلاء على أثر بعث الرسول(صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم إليه ، فأرسلهم النجاشي على مركبين ، وكانوا ستة عشر رجلاً ، معهم من بقي من نسائهم وأولادهم ، وبقيتهم جاءوا إلى المدينة قبل ذلك ‏.
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - الزواجبصفية
    ذكرنا أن صفية جعلت في السبايا حين قتل زوجها كِنَانة بنأبي الحقيق لغدره ، ولما جمع السبي جاء دحية بن خليفة الكلبي ، فقال :‏ يا نبي الله، أعطني جارية من السبي ، فقال ‏:‏ اذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي ، فجاء رجلإلى النبي(صلى الله عليه وسلم فقال‏ :‏ يا نبي الله ، أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظةوبني النضير ، لا تصلح إلا لك ، قال ‏:‏ ‏(‏ ادعوه بها‏ ) ‏‏.‏ فجاء بها ، فلما نظرإليها النبي(صلى الله عليه وسلمقال ‏:‏ ‏( ‏خذ جارية من السبي غيرها‏ ) ‏، وعرض عليها النبي(صلى الله عليه وسلم الإسلام فأسلمت ، فأعتقها وتزوجها ، وجعل عتقها صداقها ، حتى إذا كانبسد الصهباء راجعًا إلى المدينة حلت ، فجهزتها له أم سليم ، فأهدتها له من الليل ،فأصبح عروسًا بها ، وأولم عليها بحيس من التمر والسمن والسَّوِيق ، وأقام عليهاثلاثة أيام في الطريق يبني بها‏ .‏
    ورأى بوجهها خضرة ، فقال ‏:‏ ‏(‏ ما هذا ‏؟ ‏‏)‏ قالت ‏:‏يا رسول الله ، رأيت قبل قدومك علينا كأن القمر زال من مكانه ، وسقط في حجري ، ولاوالله ما أذكر من شأنك شيئاً ، فقصصتها على زوجي ، فلطم وجهي‏ .‏ فقال ‏:‏ تمنينهذا الملك الذي بالمدينة ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - أمر الشاة المسمومة
    ولما اطمأن رسول الله(صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سَلاَّم بن مِشْكَم ، شاة مَصْلِيَّةً ، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم ‏؟‏ فقيل لها ‏:‏ الذراع ، فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم تناول الذراع ، فَلاَكَ منها مضغة فلم يسغها ، ولفظها ، ثم قال ‏:‏ ‏( ‏إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ‏) ‏، ثم دعا بها فاعترفت ، فقال ‏:‏ ‏( ‏ما حملك على ذلك ‏؟ ‏‏)‏ قالت ‏:‏ قلت ‏:‏ إن كان ملكًا استرحت منه ، وإن كان نبيًا فسيخبر ، فتجاوز عنها‏ .‏
    وكان معه بِشْر بن البراء بن مَعْرُور ، أخذ منها أكلة فأساغها ، فمات منها‏ .‏
    واختلفت الروايات في التجاوز عن المرأة وقتلها ، وجمعوا بأنه تجاوز عنها أولاً ، فلما مات بشر قتلها قصاصاً ‏.
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - قتلى الفريقين في معارك خيبر
    وجملة من استشهد من المسلمين في معارك خيبر ستة عشر رجلاً ، أربعة من قريش وواحد من أشْجَع ، وواحد من أسْلَم ، وواحد من أهل خيبر والباقون من الأنصار ‏.‏
    ويقال‏ :‏ إن شهداء المسلمين في هذه المعارك 81 رجلاً‏ .‏
    وذكر العلامة المنصور فوري 91 رجلاً، ثم قال‏:‏ إني وجدت بعد التفحص 32 اسماً ، واحد منها في الطبري فقط ، وواحد عند الواقدي فقط ، وواحد مات لأجل أكل الشاة المسمومة ، وواحد اختلفوا هل قتل في بدر أو خيبر ، والصحيح أنه قتل في بدر ‏.‏
    أما قتلى اليهود فعددهم ثلاثة وتسعون قتيلاً‏ .‏

    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - فدك
    ولما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم)إلى خيبر،بعث مُحَيِّصَة بن مسعود إلى يهود فَدَك ، ليدعوهم إلى الإسلام ، فأبطأوا عليه ،فلما فتح الله خيبر قذف الرعب في قلوبهم ، فبعثوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلميصالحونهعلى النصف من فدك بمثل ما عامل عليه أهل خيبر ، فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسولالله(صلى الله عليه وسلمخالصة ، لأنه لم يُوجِف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ‏.

    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - وادي القرى
    ولما فرغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من خيبر، انصرف إلى وادي القرى ، وكان بها جماعة من اليهود ، وانضاف إليهم جماعة من العرب ‏.‏
    فلما نزلوا استقبلتهم يهود بالرمي ، وهم على تعبئة ، فقتل مِدْعَم ـ عَبْدٌ لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ فقال الناس ‏:‏ هنيئا له الجنة ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏كلا ، والذي نفسي بيده ، إن الشَّمْلَة التي أخذها يوم خيبر من المغانم ، لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه نارًا‏ "‏ ، فلما سمع بذلك الناس جاء رجل إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) بشِرَاك أو شراكين ، فقال النبي(صلى الله عليه وسلم) :‏ "‏شراك من نار أو شراكان من نار "‏‏.‏
    ثم عَبَّأ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه للقتال ، وصَفَّهم ، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة ، وراية إلى الحُبَاب بن المنذر ، وراية إلى سهل بن حُنَيْف ، وراية إلى عباد بن بشر ، ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا ، وبرز رجل منهم ، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله ، ثم برز آخر فقتله ، ثم برز آخر فبرز إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتله ، حتى قتل منهم أحد عشر رجلاً ، كلما قتل منهم رجل دعا من بقي إلى الإسلام ‏.‏
    وكانت الصلاة تحضر هذا اليوم ، فيصلي بأصحابه ، ثم يعود ، فيدعوهم إلى الإسلام وإلى الله ورسوله ، فقاتلهم حتى أمسوا ، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا ما بأيديهم ، وفتحها عنوة ، وغَنَّمَهُ اللهُ أموالهم ، وأصابوا أثاثا ومتاعًا كثيرًا‏ .‏
    وأقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بوادي القري أربعة أيام ‏.، وقسم على أصحابه ما أصاب بها ، وترك الأرض والنخل بأيدي اليهود ، وعاملهم عليها ـ كما عامل أهل خيبر ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - تيماء
    ولما بلغ يهود تيماء خبر استسلام أهل خيبر ثم فَدَك ووادي القُرَى ، لم يبدوا أي مقاومة ضد المسلمين ، بل بعثوا من تلقاء أنفسهم يعرضون الصلح ، فقبل ذلك منهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وأقاموا بأموالهم‏ .‏،وكتب لهم بذلك كتاباً وهاك نصه‏ :‏
    هذا كتاب محمد رسول الله لبني عاديا ، أن لهم الذمة ، وعليهم الجزية ، ولا عداء ولا جلاء ، الليل مد ، والنهار شد ، وكتب خالد بن سعيد ‏.‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - العودة إلى المدينة
    ثم أخذ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في العودة إلى المدينة ، وفي مرجعه ذلك سار النبي (صلى الله عليه وسلم)ليلة ، ثم نام في آخر الليل ببعض الطريق، وقال لبلال ‏:‏ ‏( ‏اكلأ لنا الليل ‏) ‏، فغلبت بلالاً عيناه ، وهو مستند إلى راحلته ، فلم يستيقظ أحد ، حتى ضربتهم الشمس ، وأول من استيقظ بعد ذلك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم خرج من ذلك الوادي ، وتقدم ، ثم صلى الفجر بالناس ، وقيل ‏:‏ إن هذه القصة في غير هذا السفر‏.‏
    وبعد النظر في تفصيل معارك خيبر ، يبدو أن رجوع النبي(صلى الله عليه وسلم) كان في أواخر صفر أو في ربيع الأول سنة 7 هـ‏ .‏
    غزوة خيبر ووادي القرى في المحرم سنة 7 هـ - سرية أبان بن سعيد
    كان النبي(صلى الله عليه وسلم) يعرف أكثر من كل قائد عسكري أن إخلاء المدينة تماماً بعد انقضاء الأشهر الحرم ليس من الحزم قطعًا ، بينما الأعراب ضاربة حولها ، تطلب غرة المسلمين للقيام بالنهب والسلب وأعمال القرصنة ، ولذلك أرسل سرية إلى نجد لإرهاب الأعراب تحت قيادة أبان بن سعيد ، بينما كان هو إلى خيبر ، وقد رجع أبان بن سعيد بعد قضاء ما كان واجبًا عليه ، فوافى النبي (صلى الله عليه وسلم)بخيبر ، وقد افتتحها‏ .‏
    والأغلب أن هذه السرية كانت في صفر سنة 7هـ ، وقد ورد ذكرها في البخاري ‏.‏
    قال ابن حجر‏:‏ لم أعرف حال هذه السرية‏.‏






    غزوة ذاتالرقاع


    ولما فرغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من كسر جناحين قويين من أجنحة الأحزاب الثلاثة تفرغ تمامًا للالتفات إلى الجناح الثالث ، أي إلى الأعراب القساة الضاربين في فيافي نجد ، والذين ما زالوا يقومون بأعمال النهب والسلب بين آونة وأخرى ‏.‏
    ولما كان هؤلاء البدو لا تجمعهم بلدة أو مدينة ، ولم يكونوا يقطنون الحصون والقلاع ، كانت الصعوبة في فرض السيطرة عليهم وإخماد نار شرهم تمامًا تزداد بكثير عما كانت بالنسبة إلى أهل مكة وخيبر ، ولذلك لم تكن تجدي فيهم إلا حملات التأديب والإرهاب ، وقام المسلمون بمثل هذه الحملات مرة بعد أخرى ‏.‏
    ولفرض الشوكة ـ أو لاجتماع البدو الذين كانوا يتحشدون للإغارة على أطراف المدينة ـ قام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بحملة تأديبية عرفت بغزوة ذات الرقاع ‏.‏
    وعامة أهل المغازي يذكرون هذه الغزوة في السنة الرابعة ، ولكن حضور أبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهما في هذه الغزوة يدل على وقوعها بعد خيبر ، والأغلب أنها وقعت في شهر ربيع الأول سنة 7 هـ‏ .‏
    وملخص ما ذكره أهل السير حول هذه الغزوة‏ :‏ أن النبي(صلى الله عليه وسلم) سمع باجتماع بني أنمار أو بني ثعلبة وبني مُحَارِب من غطفان ، فأسرع بالخروج إليهم في أربعمائة أو سبعمائة من أصحابه ، واستعمل على المدينة أبا ذر أو عثمان بن عفان رضي الله عنهما ، وسار فتوغل في بلادهم حتى وصل إلى موضع يقال له ‏:‏ نخل ، على بعد يومين من المدينة ، ولقي جمعاً من غطفان ، فتقاربوا وأخاف بعضهم بعضاً ولم يكن بينهم قتال ، إلا أنه صلي بهم يومئذ صلاة الخوف ‏. ‏وفي رواية البخاري ‏:‏ وأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين ، ثم تأخروا ، وصلى بالطائفة الأخري ركعتين ، وكان للنبي(صلى الله عليه وسلم) أربع ، وللقوم ركعتان ‏.‏
    وفي البخاري عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم قال ‏:‏ خرجنا مع رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه ، فنقبت أقدامنا ، ونقبت قدماي ، وسقطت أظفاري ، فكنا نلف على أرجلنا الخرق ، فسميت ذات الرقاع ، لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا ‏.‏
    وفيه عن جابر‏:‏ كنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم) بذات الرقاع ، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي(صلى الله عليه وسلم) ، فنزل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فتفرق الناس في العضاة ، يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) تحت شجرة فعلق بها سيفه ‏.‏ قال جابر ‏:‏ فنمنا نومة ، فجاء رجل من المشركين ‏:‏ فاخترط سيف رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال‏ :‏ أتخافني‏ ؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏لا ‏) ‏، قال ‏:‏ فمن يمنعك مني ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏الله ‏)‏ ‏.‏ قال جابر ‏:‏ فإذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يدعونا ، فجئنا ، فإذا عنده أعرابي جالس ‏.‏ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم ، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا‏ .‏ فقال لي‏ :‏ من يمنعك مني ‏؟‏ قلت ‏:‏ الله ، فها هو ذا جالس‏ ) ‏، ثم لم يعاتبه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏ وفي رواية أبي عوانة ‏:‏ فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال‏ :‏ ‏( ‏من يمنعك مني ‏؟ ‏‏)‏ قال ‏:‏ كـن خـير آخـذ ، قال‏ :‏ ‏( ‏تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ‏؟ ‏‏)‏ قال الأعرابي‏ :‏ أعاهدك على ألا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك ، قال‏ :‏ فخلى سبيله ، فجاء إلى قومه ، فقال ‏:‏ جئتكم من عند خير الناس ‏.‏
    وفي رواية البخاري‏: ‏ قال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر ‏:‏ اسم الرجل غَوْرَث ابن الحارث ‏. ‏قال ابن حجر ‏:‏ ووقع عند الواقدي في سبب هذه القصة ‏:‏ أن اسم الأعرابي دُعْثُور ، وأنه أسلم ، لكن ظاهر كلامه أنهما قصتان في غزوتين ‏.‏ والله أعلم ‏.‏
    وفي مرجعهم من هذه الغزوة سبوا امرأة من المشركين ، فنذر زوجها ألا يرجع حتى يهريق دماً في أصحاب محمد(صلى الله عليه وسلم) ، فجاء ليلاً ، وقد أرصد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رجلين رَبِيئة للمسلمين من العدو ، وهما عباد بن بشر وعمار بن ياسر ، فضرب عباداً ، وهو قائم يصلي ، بسهم فنزعه ، ولم يبطل صلاته ، حتى رشقه بثلاثة أسهم ، فلم ينصرف منها حتى سلم ، فأيقظ صاحبه ، فقال‏ :‏ سبحان الله ‏!‏ هلا نبهتني ، فقال‏ :‏ إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها‏ .‏
    كان لهذه الغزوة أثر في قذف الرعب في قلوب الأعراب القساة ، وإذا نظرنا إلى تفاصيل السرايا بعد الغزوة نرى أن هذه القبائل من غطفان لم تجترئ أن ترفع رأسها بعد هذه الغزوة ، بل استكانت شيئاً فشيئاً حتى استسلمت ، بل وأسلمت ، حتى نرى عدة قبائل من هذه الأعراب تقوم مع المسلمين في فتح مكة ، وتغزو حُنَيْناً ، وتأخذ من غنائمها ، ويبعث إليها المصدقون فتعطي صدقاتها بعد الرجوع من غزوة الفتح ، فبهذا تم كسر الأجنحة الثلاثة التي كانت ممثلة في الأحزاب ، وساد المنطقة الأمن والسلام ، واستطاع المسلمون بعد ذلك أن يسدوا بسهولة كل خلل وثلمة حدثت في بعض المناطق من بعض القبائل ، بل بعد هذه الغزوة بدأت التمهيدات لفتوح البلدان والممالك الكبيرة ، لأن الظروف في داخل البلاد كانت قد تطورت لصالح الإسلام والمسلمين ‏.‏
    وبعد الرجوع من هذه الغزوة أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إلى شوال سنة 7 هـ‏ .‏
    وبعث في خلال ذلك عدة سرايا‏ ،‏ وهاك بعض تفصيلها‏ :‏
    1 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي إلى بني المُلَوَّح بُقدَيْد ، في صفر أو ربيع الأول سنة 7 هـ ‏.‏ كان بنو الملوح قد قتلوا أصحاب بشير بن سُوَيْد ، فبعثت هذه السرية لأخذ الثأر ، فشنوا الغارة في الليل فقتلوا من قتلوا ، وساقوا النعم ، وطاردهم جيش كبير من العدو ، حتى إذا قرب من المسلمين نزل مطر ، فجاء سيل عظيم حال بين الفريقين ‏.‏ ونجح المسلمون في بقية الانسحاب ‏.‏
    2 ـ سرية حِسْمَى ، في جمادى الثانية سنة 7 هـ ، وقد مضى ذكرها في مكاتبة الملوك‏ .‏
    3 ـ سرية عمر بن الخطاب إلى تُرَبَة ، في شعبان سنة 7 هـ ، ومعه ثلاثون رجلاً‏ .‏ كانوا يسيرون الليل ويستخفون في النهار ، وأتى الخبر إلى هوازن فهربوا ، وجاء عمر إلى محالهم فلم يلق أحداً ، فانصرف راجعاً إلى المدينة ‏.‏
    4 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى بني مرة بناحية فَدَك ، في شعبان سنة 7هـ في ثلاثين رجلاً ‏.‏ خرج إليهم واستاق الشاء والنعم ، ثم رجع فأدركه الطلب عند الليل ، فرموهم بالنبل حتى فني نبل بشير وأصحابه ، فقتلوا جميعاً إلا بشير ، فإنه ارْتُثَّ إلى فدك ، فأقام عند يهود حتى برأت جراحه ، فرجع إلى المدينة‏ .‏
    5 ـ سرية غالب بن عبد الله الليثي ، في رمضان سنة 7 هـ إلى بني عُوَال وبني عبد ابن ثعلبة بالمَيْفَعَة ، وقيل إلى الحُرَقَات من جُهَيْنَة ، في مائة وثلاثين رجلاً ، فهجموا عليهم جميعاً ، وقتلوا من أشرف لهم ، واستاقوا نعما وشاء ، وفي هذه السرية قتل أسامةُ بن زيد نَهِيكَ بن مِرْدَاس بعد أن قال ‏:‏ لا إله إلا الله ، فلما قدموا وأخبر النبي(صلى الله عليه وسلم) ، كبر عليه وقال ‏:‏ ‏( ‏أقتلته بعد ما قال ‏:‏ لا إله إلا الله‏ ؟‏ ‏)‏ فقال ‏:‏ إنما قالها متعوذاً قال ‏:‏ ‏( ‏فهلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب‏ ؟‏‏ ) ‏‏.‏
    6 ـ سرية عبد الله بن رواحة إلى خيبر ، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثين راكبًا‏ .‏ وذلك أن أسِير أو بشير بن زارم كان يجمع غطفان لغزو المسلمين ، فأخرجوا أسيرًا في ثلاثين من أصحابه ، وأطمعوه أن الرسول(صلى الله عليه وسلم) يستعمله على خيبر ، فلما كانوا بقَرْقَرَة نِيَار وقع بين الفريقين سوء ظن أفضى إلى قتل أسير وأصحابه الثلاثين‏ .‏ ذكر الواقدي هذه السرية في شوال سنة ست قبل خيبر بأشهر ‏.‏
    7 ـ سرية بشير بن سعد الأنصاري إلى يمن وجَبار ‏[ ‏بالفتح ، أرض لغطفان ، وقيل ‏:‏ لفَزَارَة وعُذْرَة ‏] ‏، في شوال سنة 7 هـ في ثلاثمائة من المسلمين ، للقاء جمع كبير تجمعوا للإغارة على أطراف المدينة ، فساروا الليل وكمنوا النهار ، فلما بلغهم مسير بشير هربوا ، وأصاب بشير نعما كثيرة ، وأسر رجلين ، فقدم بهما المدينة إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأسلما ‏.‏
    8 ـ سرية أبي حَدْرَد الأسلمي إلى الغابة ، ذكرها ابن القيم في سرايا السنة السابعة قبل عمرة القضاء ، وملخصها ‏:‏ أن رجلاً من جُشَم بن معاوية أقبل في عدد كبير إلى الغابة ، يريد أن يجمع قيسًا على محاربة المسلمين ‏.‏ فبعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أبا حدرد مع رجلين ليأتوا منه بخبر وعلم ، فوصلوا إلى القوم مع غروب الشمس ، فكمن أبو حدرد في ناحية ، وصاحباه في ناحية أخرى ، وأبطأ على القوم راعيهم حتى ذهبت فحمة العشاء ، فقام رئيس القوم وحده ، فلما مر بأبي حدرد رماه بسهم في فؤاده فسقط ولم يتكلم ، فاحتز أبو حدرد رأسه ، وشد في ناحية العسكر ، وكبر ، وكبر صاحباه وشدا ، فما كان من القوم إلا الفرار ، واستاق المسلمون الثلاثة الكثير من الإبل والغنم ‏.‏














    تعليق


    • #3
      رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم








      قال الحاكم ‏:‏ تواترت الأخبار أنه (صلى الله عليه وسلم) لما هَلَّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم ، وألا يتخلف منهم أحد شهد الحديبية ، فخرجوا إلا من استشهد ، وخرج معه آخرون معتمرين ، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان‏ .
      واستخلف على المدينة عُوَيف بن الأضْبَط الدِّيلي ، أو أبا رُهْم الغفاري ، وساق ستين بدنة ، وجعل عليها ناجية بن جُنْدُب الأسلمي ، وأحرم للعمرة من ذي الحُلَيْفَة ، ولبى ، ولبى المسلمون معه ، وخرج مستعداً بالسلاح والمقاتلة ، خشية أن يقع من قريش غدر ، فلما بلغ يَأجُج وضع الأداة كلها ‏:‏ الحَجَف والمِجَانّ والنَّبْل والرِّماح ، وخلف عليها أوس بن خَوْلِي الأنصاري في مائتي رجل ، ودخل بسلاح الراكب ‏:‏ السيوف في القُرُب ‏.‏
      وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عند الدخول راكباً على ناقته القَصْواء ، والمسلمون متوشحون السيوف ، محدقون برسول الله(صلى الله عليه وسلم) يلبون ‏.‏
      وخـرج المشركـون إلى جبل قُعَيْقِعَان ـ الجبل الذي في شمال الكعبة ـ ليروا المسلمين ، وقد قالوا فيما بينهم ‏:‏ إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب ، فأمر النبي(صلى الله عليه وسلم) أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا ما بين الركنين ‏.‏ ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم ، وإنما أمرهم بذلك ليري المشركين قوته كما أمرهم بالاضطباع ، أي أن يكشفوا المناكب اليمنى ، ويضعوا طرفي الرداء على اليسرى .‏
      ودخل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مكة من الثنية التي تطلعه على الحَجُون ـ وقد صف المشركون ينظرون إليه ـ فلم يزل يلبي حتى استلم الركن بمِحْجَنِه ، ثم طاف ، وطاف المسلمون ، وعبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يرتجز متوشحاً بالسيف‏ :‏


      خلوا بني الكفار عن سبيلهقد أنزل الرحمن فيتنزيلهيـارب إني مؤمن بقيـلهبأن خير القتل في سبيـلهضرباً يزيلالهام عن مقيله







      خلـوا فكل الخير في رسولهفي صحف تتلى على رسولهإنيرأيت الحق في قبــولهاليـوم نضربكم على تـنزيلهويـذهـل الخـليل عنخليله







      وفي حديث أنس فقال عمر‏:‏ يا ابن رواحة ، بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وفي حرم الله تقول الشعر ‏؟‏ فقال له النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏خَلِّ عنه يا عمر ، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل ‏" ‏‏.‏
      ورَمَلَ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمون ثلاثة أشواط ، فلما رآهم المشركون قالوا‏ :‏ هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا ‏.‏
      ولما فرغ من الطواف سعى بين الصفا والمروة ، فلما فرغ من السعي ، وقد وقف الهدي عند المروة ، قال ‏:‏ ‏( ‏هذا المنحر ، وكل فجاج مكة منحر‏ )‏ ، فنحر عند المروة ، وحلق هناك ، وكذلك فعل المسلمون ، ثم بعث ناساً إلى يَأْجُج ، ليقيموا على السلاح ، ويأتي الآخرون فيقضون نسكهم ففعلوا ‏.‏
      وأقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بمكة ثلاثاً ، فلما أصبح من اليوم الرابع أتوا علياً فقالوا ‏:‏ قل لصاحبك ‏:‏ اخرج عنا فقد مضى الأجل ، فخرج النبي(صلى الله عليه وسلم) ، ونزل بسَرِف فأقام بها‏ .‏
      ولما أراد الخروج من مكة تبعتهم ابنة حمزة ، تنادي ، يا عم يا عم ، فتناولها علي ، واختصم فيها علي وجعفر وزيد ، فقضى النبي (صلى الله عليه وسلم لجعفر ، لأن خالتها كانت تحته ‏.‏
      وفي هذه العمرة تزوج النبي(صلى الله عليه وسلم بميمونة بنت الحارث العامرية ، وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في مكة بعث جعفر بن أبي طالب بين يديه إلى ميمونة ، فجعلت أمرها إلى العباس ، وكانت أختها أم الفضل تحته ، فزوجها إياه ، فلما خرج من مكة خلف أبا رافع ليحمل ميمونة إليه حين يمشي ، فبنى بها بسرف ‏.‏
      وسميت هذه العمرة بعمرة القضاء ، إما لأنها كانت قضاء عن عمرة الحُدَيْبِيَة ، أو لأنها وقعت حسب المقاضاة ـ أي المصالحة ـ التي وقعت في الحديبية ، والوجه الثاني رجحه المحققون ، وهذه العمرة تسمي بأربعة أسماء‏ :‏ القضاء، والقَضِيَّة ، والقصاص ، والصُّلح ‏.‏
      وقــد أرسل رسول الله(صلى الله عليه وسلم بعد الرجـوع مـن هذه العمرة عدة سرايا، وهي كما يلي‏ :‏
      1 ـ سرية ابن أبي العوجاء ، في ذي الحجة سنة 7 هـ في خمسين رجلاً‏ .‏ بعثه رسول الله(صلى الله عليه وسلم إلى بني سُلَيْم ، ليدعوهم إلى الإسلام ، فقالوا‏ :‏ لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا ، ثم قاتلوا قتالاً شديداً‏ .‏ جرح فيه أبو العوجاء ، وأسر رجلان من العدو ‏.‏
      2 ـ سرية غالب بن عبد الله إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد بفَدَك ، في صفر سنة 8 هـ‏ .‏ بعث في مائتي رجل ، فأصابوا من العدو نعماً ، وقتلوا منهم قتلى .‏
      3 ـ سرية ذات أطلح في ربيع الأول سنة 8 هـ‏ .‏ كانت بنو قُضَاعَة قد حشدت جموعاً كبيرة للإغارة على المسلمين ، فبعث إليهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الأنصاري في خمسة عشر رجلاً ، فلقوا العدو ، فدعوهم إلى الإسلام ، فلم يستجيبوا لهـم ، وأرشقوهم بالنبل حتى استشهد كلهم إلا رجل واحد ، فقد ارْتُثَّ من بين القتلى ‏.‏
      4 ـ سرية ذات عِرْق إلى بني هوازن ، في ربيع الأول سنة 8 هـ‏ .‏ كانت بنو هوازن قد أمدت الأعداء مرة بعد أخرى فأرسل إليها شُجَاع بن وهب الأسدي في خمسة وعشرين رجلاً ، فاستاقوا نَعَما من العدو ، ولم يلقوا كيداً ‏.‏















      معركة مؤتة








      وهذه المعركة أكبر لقاء مُثْخِن ، وأعظم حرب دامية خاضها المسلمون في حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهي مقدمة وتمهيد لفتوح بلدان النصارى ، وقعت في جمادى الأولى سنة 8 هـ ، وفق أغسطس أو سبتمبر سنة 926 م ‏.‏

      ومؤتة ‏( ‏بالضم فالسكون ‏)‏ هي قرية بأدنى بلقاء الشام ، بينها وبين بيت المقدس مرحلتان











      ‏.







      سببالمعركة







      وسبب هذه المعركة أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بعث الحارث بن عمير الأزدي بكتابه إلى عظيم بُصْرَي‏ ،‏ فعرض له شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ـ وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطاً ، ثم قدمه ، فضرب عنقه ‏.‏
      وكان قتل السفراء والرسل من أشنع الجرائم ، يساوي بل يزيد على إعلان حالة الحرب ، فاشتد ذلك على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حين نقلت إليه الأخبار ، فجهز إليهم جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ، وهو أكبر جيش إسلامي لم يجتمع قبل ذلك إلا في غزوة الأحزاب ‏.‏







      أمراء الجيش ووصية رسول الله(صلى الله عليهوسلم) إليهم








      أمر رسول الله على هذا البعث زيد بن حارثة ، وقال ‏:‏ ‏" ‏إن قتل زيد فجعفر ، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة "‏ ، وعقد لهم لواء أبيض، ودفعه إلى زيد بن حارثة ‏.‏ (صلى الله عليه وسلم)

      وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير ، وأن يدعوا مَنْ هناك إلى الإسلام ، فإن أجابوا وإلا استعانوا بالله عليهم ، وقاتلوهم ، وقال لهم ‏:‏ ‏" ‏اغزوا بسم الله ، في سبيل الله ، مَنْ كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ، ولا كبيراً فانياً ، ولا منعزلاً بصومعة ، ولا تقطعوا نخلاً ولا شجرة ، ولا تهدموا بناء ‏" ‏‏.‏















      توديع الجيش الإسلامي وبكاء عبد الله بن رواحة









      ولما تهيأ الجيش الإسلامي للخروج حضر الناس ، وودعوا أمراء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وسلموا عليهم ، وحينئذ بكي أحد أمراء الجيش ـ عبد الله بن رواحة ـ فقالوا ‏:‏ ما يبكيك ‏؟‏ فقال ‏:‏ أما والله ما بي حب الدنيا ، ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار‏ : ‏" ‏وَإِن مِّنكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا "‏ ‏[ ‏مريم ‏: ‏71 ‏] ‏، فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود‏ ؟‏ فقال المسلمون ‏:‏ صحبكم الله بالسلامة ، ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين غانمين ، فقال عبد الله بن رواحة ‏:‏


      لكنني أسأل الرحمن مغفــرة

      أو طعنة بيدي حران مجـهزة

      حتى يقال إذا مروا على جدثي



      وضربة ذات فرع تقذف الزبدا

      بحربة تنفذ الأحشـاء والكبدا

      أرشده الله من غاز وقد رشدا





      ثم خرج القوم ، وخرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع ، فوقف وودّعهم‏








      .‏




      تحرك الجيش الإسلامي ومباغتته حالهرهيبة







      وتحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل مَعَان ، من أرض الشام ، مما يلي الحجاز الشمالي ، وحينئذ نقلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لَخْم وجُذَام وبَلْقَيْن وبَهْرَاء وبَلِي مائة ألف ‏.











      المجلس الإستشاريبمعان






      لم يكن المسلمون أدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم ـ الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة ـ وهل يهجم جيش صغير ، قوامه ثلاثة آلاف مقاتل فحسب ، على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخضم ، قوامه مائتا ألف مقاتل ‏؟‏ حار المسلمون ، وأقاموا في مَعَان ليلتين يفكرون في أمرهم ، وينظرون ويتشاورون ، ثم قالوا‏ :‏ نكتب إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له‏ .‏
      ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي ، وشجع الناس ، قائلاً‏ :‏ يا قوم ، والله إن التي تكرهون لَلَّتِي خرجتم تطلبون ‏:‏ الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا ، فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور وإما شهادة‏ .‏
      وأخيراً استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة‏ .











      الجيش الإسلامي يتحرك نحوالعدو








      وحينئذ بعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان ، تحركوا إلى أرض العدو ، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها‏ :‏ ‏[ ‏َشَارِف ‏]‏ ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى مؤتة ، فعسكروا هناك ، وتعبأوا للقتال ، فجعلوا على ميمنتهم قُطْبَة بن قتادة العُذْرِي ، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري ‏.‏








      بداية القتال وتناوبالقواد








      وهناك في مؤتة التقى الفريقان ، وبدأ القتال المرير ، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل ‏.‏ معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة ، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب ‏.‏


      أخذ الراية زيد بن حارثة ـ حِبُّ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ وجعل يقاتل بضراوة بالغة ، وبسالة لا يوجد لها نظير إلا في أمثاله من أبطال الإسلام ، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم ، وخر صريعاً‏ .‏


      وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ، وطفق يقاتل قتالاً منقطع النظير ، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها ، ثم قاتل حتى قطعت يمينه ، فأخذ الراية بشماله ، ولم يزل بها حتى قطعت شماله ، فاحتضنها بعضديه ، فلم يزل رافعاً إياها حتى قتل ‏.‏ يقال‏ :‏ إن رومياً ضربه ضربةً قطعته نصفين ، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة ، يطير بهما حيث يشاء ، ولذلك سمي بجعفر الطيار ، وبجعفر ذي الجناحين ‏.‏










      روى البخاري عن نافع ، أن ابن عمر أخبره‏ :‏ أنه وقف على جعفر يؤمئذ وهو قتيل ، فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ، ليس منها شيء في دبره ، يعني ظهره .‏


      وفي رواية أخرى قال ابن عمر ‏:‏ كنت فيهم في تلك الغزوة ، فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ، ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية‏ .‏ وفي رواية العمري عن نافع زيادة ‏:‏ ‏[ ‏فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده ‏] ‏‏.‏


      ولما قتل جعفر بعد أن قاتل بمثل هذه الضراوة والبسالة ، أخذ الراية عبد الله بن رواحة ، وتقدم بها ، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ، ويتردد بعض التردد ، حتى حاد حيدة ثم قال ‏:‏


      أقسـمت يـا نفس لتـنزلنه

      إن أجلب الناس وشدوا الرنه



      كارهة أو لتـطـاوعنـه

      مالي أراك تكرهين الجنه





      ثم نزل ، فأتاه ابن عم له بعَرْق من لحم فقال ‏:‏ شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده فانتهس منه نَهْسَة ، ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قتل ‏.‏













      الراية إلى سيف من سيوفالله









      وحينئذ تقدم رجل من بني عَجْلان ـ اسمه ثابت بن أقرم ـ فأخذ الراية وقال ‏:‏ يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا ‏:‏ أنت‏ .‏ قال‏ :‏ ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فلما أخذ الراية قاتل قتالاً مريراً ، فقد روى البخاري عن خالد بن الوليد قال ‏:‏ لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية‏ .‏ وفي لفظ آخر ‏:‏ لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، وصبرت في يدي صفيحة لي يمانية ‏.‏







      وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يوم مؤتة ـ مخبراً بالوحي ، قبل أن يأتي إلى الناس الخبر من ساحة القتال‏ :‏ ‏( ‏أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذ جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ، حتى فتح الله عليهم‏ )‏ ‏.‏













      نهايةالمعركة









      ومع الشجاعة البالغة والبسالة والضراوة المريرتين ، كان مستغرباً جداً أن ينجح هذا الجيش الصغير في الصمود أما تيارات ذلك البحر الغطمطم من جيوش الروم‏ ،‏ ففي ذلك الوقت أظهر خالد بن الوليد مهارته ونبوغه في تخليص المسلمين مما ورطوا أنفسهم فيه‏ .‏

      واختلفت الروايات كثيراً فيما آل إليه أمر هذه المعركة أخيراً‏ .‏ ويظهر بعد النظر في جميع الروايات أن خالد بن الوليد نجح في الصمود أمام جيش الرومان طول النهار ، في أول يوم من القتال ‏.‏ وكان يشعر بمسيس الحاجة إلى مكيدة حربية تلقي الرعب في قلوب الرومان حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم الرومان بحركات المطاردة‏ .‏ فقد كـان يعرف جيداً أن الإفلات من براثنهم صعب جداً لو انكشف المسلمون ، وقام الرومان بالمطاردة .‏








      فلما أصبح اليوم الثاني غير أوضاع الجيش ، وعبأه من جديد ، فجعل مقدمته ساقه ، وميمنته ميسرة ، وعلى العكس ، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم ، وقالوا‏ :‏ جاءهم مدد ، فرعبوا ، وصار خالد ـ بعد أن تراآى الجيشان ، وتناوشا ساعة ـ يتأخر بالمسلمين قليلاً قليلاً ، مع حفظ نظام جيشه ، ولم يتبعهم الرومان ظناً منهم أن المسلمين يخدعونهم ، ويحاولون القيام بمكيدة ترمي بهم في الصحراء ‏.‏

      وهكذا انحاز العدو إلى بلاده ، ولم يفكر في القيام بمطاردة المسلمين ونجح المسلمون في الانحياز سالمين ، حتى عادوا إلى المدينة ‏.

















      قتلىالفريقين












      واستشهد يومئذ من المسلمين اثنا عشر رجلاً ، أما الرومان ، فلم يعرف عدد قتلاهم ، غير أن تفصيل المعركة يدل على كثرتهم














      أثرالمعركة







      وهذه المعركة وإن لم يحصل المسلمون بها على الثأر ، الذي عانوا مرارتها لأجله ، لكنها كانت كبيرة الأثر لسمعة المسلمين ، إنها ألقت العرب كلها في الدهشة والحيرة ، فقد كانت الرومان أكبر وأعظم قوة على وجه الأرض ، وكانت العرب تظن أن معنى جلادها هو القضاء على النفس وطلب الحتف بالظِّلْف ، فكان لقاء هذا الجيش الصغير ـ ثلاثة آلاف مقاتل ـ مع ذلك الجيش الضخم العرمرم الكبير ـ مائتا ألف مقاتل ـ ثم الرجوع عن الغزو من غير أن تلحق به خسارة تذكر‏ .‏ كان كل ذلك من عجائب الدهر ، وكان يؤكد أن المسلمين من طراز آخر غير ما ألفته العرب وعرفته ، وأنهم مؤيدون ومنصورون من عند الله ، وأن صاحبهم رسول الله حقاً‏ .‏






      ولذلك نرى القبائل اللدودة التي كانت لا تزال تثور على المسلمين جنحت بعد هذه المعركة إلى الإسلام ، فأسلمت بنو سُلَيْم وأشْجَع وغَطَفَان وذُبْيَان وفَزَارَة وغيرها ‏.‏
      وكانت هذه المعركة بداية اللقاء الدامي مع الرومان ، فكانت توطئة وتمهيداً لفتوح البلدان الرومانية ، واحتلال المسلمين الأراضي البعيدة النائية‏ .













      معركةمؤتة - سرية ذاتالسلاسل











      ولما علم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بموقف القبائل العربية ـ التي تقطن مشارف الشام ـ في معركة مؤتة من اجتماعهم إلى الرومان ضد المسلمين ، شعر بمسيس الحاجة إلى القيام بحكمة بالغة توقع الفرقة بينها وبين الرومان ، وتكون سبباً للائتلاف بينها وبين المسلمين ، حتى لا تتحشد مثل هذه الجموع الكبيرة مرة أخرى ‏.‏


      واختار لتنفيذ هذه الخطة عمرو بن العاص ، لأن أم أبيه كانت امرأة من بَلِي ،.‏ فبعثه إليهم في جمادى الآخرة سنة 8 هـ على إثر معركة مؤتة ، ليستألفهم ، ويقال ‏:‏ بل نقلت الاستخبارات أن جمعاً من قُضَاعَة قد تجمعوا ، يريدون أن يدنوا من أطراف المدينة ، فبعثه إليه ، ويمكن أن يكون السببان اجتمعا معاً ‏.‏


      وعقد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعمرو بن العاص لواء أبيض ، وجعل معه راية سوداء ، وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار ، ومعهم ثلاثون فرساً ، وأمره أن يستعين بمن مر به من بَلِي وعُذْرَةَ وبَلْقَيْن ،‏.‏ فسار الليل وَكمَنَ النهار ، فلما قرب من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً ، فبعث رافع بن مَكِيثٍ الجُهَنِي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يستمده ، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين ، وعقد له لواء ، وبعث له سراة المهاجرين والأنصار ـ فيهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يلحق بعمرو ، وأن يكونا جميعاً ولا يختلفا ‏.‏ فلما لحق به أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ، فقال عمرو‏ :‏ إنما قدمت عليّ مدداً ، وأنا الأمير ، فأطاعه أبو عبيدة ، فكان عمرو يصلي بالناس ‏.‏


      وسار حتى وطئ بلاد قُضَاعَة ، فدوخها حتى أتى أقصي بلادهم ، ولقي في آخر ذلك جمعاً ، فحمل عليهم المسلمون فهربوا في البلاد وتفرقوا ‏.‏


      وبعث عوف بن مالك الأشجعي بريداً إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأخبره بقفولهم وسلامتهم ، وما كان في غزاتهم ‏.‏


      وذات السلاسل ‏( ‏بضم السين الأولى وفتحها‏ :‏ لغتان‏ )‏ بقعة وراء وادي القُرَى ، بينها وبين المدينة عشرة أيام ‏.‏ وذكر ابن إسحاق أن المسلمين نزلوا على ماء بأرض جُذَام يقال له‏ :‏ السلسل ، فسمي ذات السلاسل ‏.‏




















      معركةمؤتة - سرية أبي قتادة إلىخضرة











      كانت هذه السرية في شعبان سنة 8 هـ ، وذلك لأن بني غَطَفَان كانوا يتحشدون في خَضِرَة ـ وهي أرض مُحَارِب بنَجْد ـ فبعث إليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أبا قتادة في خمسة عشر رجلاً ، فقتل منهم ، وسَبَي وغنم ، وكانت غيبته خمس عشرة ليلة‏ .‏











      تعليق


      • #4
        رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم



        غزوة فتحمكة

        قال ابن القيم‏ :‏ هو الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه الأمـين ، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدى للعالمين ، من أيدي الكفار والمشركين ، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عِزِّه على مناكب الجوزاء ، ودخل الناس به فــي ديــن الله أفواجـاً ، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً .


        سببالغزوة


        قدمنا في وقعة الحديبية أن بنداً من بنود هذه المعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل في عقد محمد (صلى الله عليه وسلم) وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق ، فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق‏ .‏
        وحسب هذا البند دخلت خُزَاعَة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وسلم)، ودخلت بنو بكر في عهد قريش ، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخر ، وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ، ووقعت هذه الهدنة ، وأمن كل فريق من الآخر ـ اغتنمها بنو بكر ، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القديم ، فخرج نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي في جماعة من بني بكر في شهر شعبان سنة 8 هـ ، فأغاروا على خزاعة ليلاً ، وهم على ماء يقال له ‏:‏ ‏[ ‏الوَتِير ‏]‏ فأصابوا منهم رجالاً ، وتناوشوا واقتتلوا ، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح ، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر ‏:‏ يا نوفل ، إنا قد دخلنا الحرم ، إلهك إلهك ، فقال كلمة عظيمة ‏:‏ لا إله اليوم يا بني بكر ، أصيبوا ثأركم ‏.‏ فلعمري إنكم لتَسرِقُون في الحرم ، أفلا تصيبون ثأركم فيه ‏؟‏
        ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي ، وإلى دار مولى لهم يقال له‏:‏ رافع‏ .‏
        وأسرع عمرو بن سالم الخزاعي ، فخرج حتى قدم على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة ، فوقف عليه ، وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال ‏:‏
        يـا رب إني نـاشـد محمـداً
        قـد كنـتم ولداًوكنـا والـداً
        فانصر ، هداك الله ، نصر أيداً
        فيهـم رسول الله ، قـدتجردا
        إن سـيم خسـفاً وجهه تربدا
        إن قريشـاً أخلفـوك الموعدا
        وجعـلوالي في كداء رصـدا
        وهــم أذل ، وأقــل عـددا

        حـلف أبينـا وأبيه الأتـلـدا
        ثمـة أسـلمنـاولم ننزع يدا
        وأدع عبـاد الله يـأتـوا مددا
        أبيض مثل البدر ، يسموصعدا
        في فيـلق كالبحر يجري مزبدا
        ونقـضـوا ميثـاقك المـؤكدا
        وزعمـوا أنلست أدعـو أحدا
        هـم بيتـونا بـالوتـير هجدا
        وقتلونا ركعاًسجداً

        فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏نصرت يا عمرو بن سالم ‏) ‏، ثم عرضت له سحابة من السماء ، فقال ‏:‏ ‏( ‏إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب ‏) ‏‏.‏
        ثم خرج بُدَيْل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خُزَاعَة ، حتى قدموا على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة، فأخبروه بمن أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ، ثم رجعوا إلى مكة ‏.‏


        أبو سفيان يخرج إلى المدينةليجدد الصلح


        ولا شك أن ما فعلت قريش وحلفاؤها كان غدراً محضاً ونقضاً صريحاً للميثاق ، لم يكن له أي مبرر ، ولذلك سرعان ما أحست قريش بغدرها ، وخافت وشعرت بعواقبه الوخيمة ، فعقدت مجلساً استشارياً ، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها ليقوم بتجديد الصلح ‏.‏
        وقد أخبر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم ‏.‏ قال :‏ ‏( ‏كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العَقْدَ ، ويزيد في المدة ‏) .‏
        وخرج أبو سفيان ـ حسب ما قررته قريش ـ فلقي بديل بن ورقاء بعُسْفَان ـ وهو راجع من المدينة إلى مكة ـ فقال ‏:‏ من أين أقبلت يا بديل ‏؟‏ ـ وظن أنه أتى النبي(صلى الله عليه وسلم) ـ فقال‏ :‏ سرت في خزاعة في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي ‏.‏ قال ‏:‏ أو ما جئت محمداً‏ ؟‏ قال ‏:‏ لا‏ .‏
        فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان‏ :‏ لئن كان جاء المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ، ففته ، فرأى فيها النوى ، فقال ‏:‏ أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً‏ .‏
        وقدم أبو سفيان المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة ، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طوته عنه ، فقال ‏:‏ يا بنية ، أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عني ‏؟‏ قالت‏ :‏ بل هو فراش رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وأنت رجل مشرك نجس ‏.‏ فقال ‏:‏ والله لقد أصابك بعدي شر‏.‏
        ثم خرج حتى أتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فكلمه ، فلم يرد عليه شيئاً ، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال ‏:‏ ما أنا بفاعل ‏.‏ ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال ‏:‏ أأنا أشفع لكم إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏؟‏ فو الله لو لم أجد إلا الذَّرَّ لجاهدتكم به ، ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب ، وعنده فاطمة ، وحسن ، غلام يدب بين يديهما ، فقال‏ :‏ يا علي ، إنك أمس القوم بي رحماً ، وإني قد جئت في حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائباً ، اشفع لي إلى محمد ، فقال ‏:‏ ويحك يا أبا سفيان ، لقد عزم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه‏ .‏ فالتفت إلى فاطمة ، فقال‏ :‏ هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ‏؟‏ قالت ‏:‏ والله ما يبلغ ابني ذاك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏ . ‏
        وحيئذ أظلمت الدنيا أمام عيني أبي سفيان ، فقال لعلي بن أبي طالب في هلع وانزعاج ويأس وقنوط ‏:‏ يا أبا الحسن ، إني أرى الأمور قد اشتدت علي ، فانصحني ، قال ‏:‏ والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك ‏.‏ ولكنك سيد بني كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الْحَقْ بأرضك ‏.‏ قال ‏:‏ أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً‏ ؟‏ قال‏ :‏ لا والله ما أظنه ، ولكني لم أجد لك غير ذلك ‏.‏ فقام أبو سفيان في المسجد ، فقال ‏:‏ أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره ، وانطلق ‏.‏
        ولما قدم على قريش ، قالوا ‏:‏ ما وراءك‏ ؟‏ قال ‏:‏ جئت محمداً فكلمته ، فو الله ما رد على شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً ، ثم جئت عمر بن الخطاب ، فوجدته أدنى العدو ، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم ، قد أشار علي بشيء صنعته ، فو الله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا‏ ؟‏ قالوا ‏:‏ وبم أمرك ‏؟‏ قال ‏:‏ أمرني أن أجير بين الناس ، ففعلت ، قالوا‏ :‏ فهل أجاز ذلك محمد‏ ؟‏ قال‏ :‏ لا‏ .‏ قالوا ‏:‏ ويلك ، إن زاد الرجل على أن لعب بك ‏.‏ قال ‏:‏ لا والله ما وجدت غير ذلك ‏.


        التهيؤللغزوة ومحاولة الإخفاء


        يؤخذ من رواية الطبراني أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أمر عائشة ـ قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام ـ أن تجهزه ، ولا يعلم أحد ، فدخل عليها أبو بكر ، فقال ‏:‏ يا بنية ، ما هذا الجهاز ‏؟‏ قالت‏ :‏ والله ما أدري ‏.‏ فقال ‏:‏ والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر ، فأين يريد رسول الله ‏؟‏ قالت ‏:‏ والله لا علم لي ، وفي صباح الثالثة جاء عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً ، وارتجز ‏:‏ يا رب إني ناشد محمداً‏ .‏‏.‏‏.‏ الأبيات ‏.‏ فعلم الناس بنقض الميثاق ، وبعد عمرو جاء بديل ، ثم أبو سفيان ، وتأكد عند الناس الخبر ، فأمرهم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالجهاز ، وأعلمهم أنه سائر إلى مكة ، وقال ‏:‏ ‏" ‏اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها "‏‏.‏
        وزيادة في الإخفاء والتعمية بعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سرية قوامها ثمانية رجال ، تحت قيادة أبي قتادة بن رِبْعِي ، إلى بطن إضَم ، فيما بين ذي خَشَب وذي المروة ، على ثلاثة بُرُد من المدينة ، في أول شهر رمضان سنة 8 هـ ، ليظن الظان أنه(صلى الله عليه وسلم) يتوجه إلى تلك الناحية ، ولتذهب بذلك الأخبار ، وواصلت هذه السرية سيرها ، حتى إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خرج إلى مكة ، فسارت إليه حتى لحقته ‏.‏
        وكتب حاطب بن أبي بَلْتَعَة إلى قريش كتاباً يخبرهم بمسير رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها جُعْلاً على أن تبلغه قريشاً ، فجعلته في قرون رأسها ، ثم خرجت به ، وأتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علياً والمقداد فقال ‏:‏ ‏( ‏انطلقا حتى تأتيا رَوْضَةَ خَاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب إلى قريش ‏) ‏، فانطلقا تعادى بهم خيلهما حتى وجدوا المرأة بذلك المكان ، فاستنـزلاها ، وقالا ‏:‏ معك كتاب ‏؟‏ فقالت‏ :‏ ما معي كتاب ، ففتشا رحلها فلم يجدا شيئاً ‏.‏ فقال لها علي ‏:‏ أحلف بالله ، ما كذب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ولا كذبنا ، والله لتخرجن الكتاب أو لنجردنك ‏.‏ فلما رأت الجد منه قالت ‏:‏ أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليهما ، فأتيا به رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فإذا فيه ‏:‏ ‏( ‏من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش‏ )‏ يخبرهم بمسير رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حاطباً ، فقال ‏:‏ ‏( ‏ما هذا يا حطب‏ ؟ ‏‏)‏ فقال ‏:‏ لا تَعْجَلْ على يا رسول الله‏ .‏ والله إني لمؤمن بالله ورسوله ، وما ارتددت ولا بدلت ، ولكني كنت امرأ مُلْصَقـًا في قريش ، لست من أنْفَسِهم ، ولي فيهم أهل وعشيرة وولد ، وليس لي فيهم قرابة يحمونهم ، وكان من معك له قرابات يحمونهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏ :‏ دعني يا رسول الله أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله ، وقد نافق ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال‏ :‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "‏، فذَرَفَتْ عينا عمر ، وقال ‏:‏ الله ورسوله أعلم ‏.‏
        وهكذا أخذ الله العيون ، فلم يبلغ إلى قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وتهيئهم للزحف والقتال ‏.


        الجيش الإسلامي يتحرك نحومكة

        ولعشر خلون من شهر رمضان المبارك 8 هـ ، غادر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة متجهاً إلى مكــة ، في عشرة ألاف من الصحابة رضي الله عنهم ، واستخـلف على المدينة أبا رُهْم الغفاري ‏.‏
        ولما كان بالجُحْفَة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد المطلب ، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلماً مهاجراً ، ثم لما كان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالأبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن الحارث وابن عمته عبد الله بن أبي أمية ، فأعرض عنهما ، لما كان يلقاه منهما من شدة الأذى والهجو ، فقالت له أم سلمة ‏:‏ لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك‏ .‏ وقال علي لأبي سفيان بن الحارث ‏:‏ ائت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من قبل وجهه ، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف‏ :‏ "‏قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ‏ "‏ ‏[ ‏يوسف ‏:‏91‏ ] ‏، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولاً‏ .‏ ففعل ذلك أبو سفيان ، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ "‏قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ‏ "‏ ‏[ ‏يوسف ‏:‏92 ‏] ‏، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها ‏:‏
        لعمرك إني حين أحمل راية
        لكالمدلج الحيرانأظلم ليلههداني هاد غير نفسي ودلني

        لتغلب خيل اللات خيـل محمد
        فهذا أواني حينأهدى فأهتدي
        على الله من طردته كلمطرد

        فضرب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) صدره وقال ‏:‏ ‏" ‏أنتَ طَرَّدْتَنِي كل مُطَرَّد‏ "‏‏.‏


        الجيش الإسلامي ينزل بمرالظهران

        وواصل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) سيره وهو صائم ، والناس صيام ، حتى بلغ الكُدَيْد ـ وهو ماء بين عُسْفَان وقُدَيْد ـ فأفطر ، وأفطر الناس معه‏ .‏
        ثم واصل سيره حتى نزل بمر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء ، فأمر الجيش ، فأوقدوا النيران ، فأوقدت عشرة آلاف نار ، وجعل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه .

        أبو سفيان بين يدي رسولالله(صلى الله عليهوسلم(



        وركب العباس ـ بعد نزول المسلمين بمر الظهران ـ بغلة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) البيضاء ، وخرج يلتمس ، لعله يجد بعض الحَطَّابة أو أحداً يخبر قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قبل أن يدخلها‏ .‏
        وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش ، فهم على وَجَلٍ وترقب ، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار ، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار ‏.‏
        قال العباس‏ :‏ والله إني لأسير عليها ـ أي على بغلة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء ، وهما يتراجعان ، وأبو سفيان يقول ‏:‏ ما رأيت كالليلة نيراناً قط ولا عسكراً‏ .‏ قال ‏:‏ يقول بديل ‏:‏ هذه والله خزاعة ، حَمَشَتْها الحرب ، فيقول أبو سفيان ‏:‏ خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها‏ .‏
        قال العباس‏ :‏ فعرفت صوته ، فقلت ‏:‏ أبا حَنْظَلَة‏ ؟‏ فعرف صوتي ، فقال‏ :‏ أبا الفضل ‏؟‏ قلت ‏:‏ نعم ‏.‏ قال ‏:‏ مالك ‏؟‏ فداك أبي وأمي‏ .‏ قلت ‏:‏ هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الناس ، واصباح قريش والله‏ .‏
        قال ‏:‏ فما الحيلة فداك أبي وأمي ‏؟ قلت ‏:‏ والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة ، حتى آتي بك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأستأمنه لك ، فركب خلفي ، ورجع صاحباه ‏.‏
        قال ‏:‏ فجئت به ، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين ، قالوا ‏:‏ من هذا‏ ؟‏ فإذا رأوا بغلة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأنا عليها قالوا‏ :‏ عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على بغلته‏ .‏ حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال ‏:‏ من هذا ‏؟‏ وقام إلي ، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال ‏:‏ أبو سفيان ، عدو الله‏ ؟‏ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ، ثم خرج يشتد نحو رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وركضتُ البغلة فسبقت ، فاقتحمت عن البغلة ، فدخلت على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ودخل عليه عمر ، فقال ‏:‏ يا رسول الله ، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه ، قال ‏:‏ قلت‏ :‏ يا رسول الله ، إني قد أجرته ، ثم جلست إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأخذت برأسه ، فقلت‏ :‏ والله لا يناجيه الليلة أحد دوني ، فلما أكثر عمر في شأنه قلت ‏:‏ مهلاً يا عمر ، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا ، قال ‏:‏ مهلاً يا عباس ، فوالله لإسلامك كان أحب إليّ من إسلام الخطاب ، لو أسلم ، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من إسلام الخطاب ‏.‏
        فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏" ‏اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به ‏" ‏، فذهبت ، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فلما رآه قال ‏:‏ ‏" ‏ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله‏ ؟‏‏ "‏ قال‏ :‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏؟‏ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئاً بعد ‏.‏
        قال ‏:‏ ‏" ‏ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ‏؟ "‏، قال ‏:‏ بأبي أنت وأمي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ‏:‏ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيء ‏.‏ فقال له العباس‏ :‏ ويحك أسلم ، واشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، قبل أن تضرب عنقك ، فأسلم وشهد شهادة الحق‏ .‏
        قال العباس ‏:‏ يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً‏ .‏ قال ‏:‏ ‏" ‏نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ‏" ‏‏.

        الجيش الإسلامي يغادر مر الظهران إلى مكة


        وفي هذا الصباح ـ صباح يوم الثلاثاءللسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ غادر رسول الله(صلى الله عليه وسلم)مر الظهران إلى مكة ،وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خَطْمِ الجبل ، حتى تمر به جنودالله فيراها ، ففعل ، فمرت القبائل على راياتها ، كلما مرت به قبيلة قال‏ :‏ ياعباس ، من هذه ‏؟‏ فيقول ـ مثلا ـ سليم ، فيقول ‏:‏ مالي ولِسُلَيْم ‏؟‏ ثم تمر بهالقبيلة فيقول ‏:‏ يا عباس ، من هؤلاء‏ ؟‏ فيقول ‏:‏ مُزَيْنَة ، فيقول‏ :‏ ماليولمزينة ‏؟‏ حتى نفذت القبائل ، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها ، فإذا أخبرهقال ‏:‏ مالي ولبني فلان‏ ؟‏ حتى مر به رسول الله(صلى الله عليه وسلم)في كتيبته الخضراء ، فيها المهاجرون والأنصار ،لا يرى منهم إلا الحَدَق من الحديد ، قال :‏ سبحان الله ‏!‏ يا عباس ، من هؤلاء‏ ؟‏قال ‏:‏ هذا رسول الله(صلى الله عليه وسلم)في المهاجرين والأنصار ، قال ‏:‏ ما لأحد بهؤلاءقِبَلٌ ولا طاقة‏ .‏ ثم قال ‏:‏ والله يا أبا الفضل ، لقد أصبح مُلْكُ ابن أخيكاليوم عظيماً‏ .‏ قال العباس ‏:‏ يا أبا سفيان ، إنها النبوة ، قال‏ :‏ فنعم إذن‏.‏
        وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة ، فلما مر بأبي سفيان قال له ‏:‏ اليوم يوم الملحمة ، اليوم تُسْتَحَلُّ الحُرْمَة ، اليـوم أذل الله قـريشاً ‏.‏ فلما حـاذى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أبا سفيان قال ‏:‏ يا رسول الله ، ألم تسمع ما قال سعد ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏وما قال‏ ؟ ‏‏)‏ فقال ‏:‏ قال كذا وكذا ‏.‏ فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف ‏:‏ يا رسول الله ، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏" ‏بل اليوم يوم تُعَظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً‏ "‏ ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء ، ودفعه إلى ابنه قيس ، ورأى أن اللواء لم يخرج عن سعد ‏.‏ وقيل ‏:‏ بل دفعه إلى الزبير‏ .‏

        قريش تباغت زحف الجيش الإسلامي


        ولما مر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بأبي سفيان ومضى قال له العباس ‏:‏ النجاء إلى قومك ‏.‏ فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة ، وصرخ بأعلى صوته‏ :‏ يا معشر قريش ، هذا محمد ، قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ‏.‏ فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ‏.‏ فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت ‏:‏ اقتلوا الحَمِيت الدسم الأخمش الساقين ، قُبِّحَ من طَلِيعَة قوم ‏.‏
        قال أبو سفيان‏ :‏ ويلكم ، لا تغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ‏.‏ قالوا‏ :‏ قاتلك الله ، وما تغني عنا دارك ‏؟‏ قال ‏:‏ ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ‏.‏ فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد ، وبثوا أوباشاً لهم ، وقالوا ‏:‏ نقدم هؤلاء ، فإن كان لقريش شيء كنا معهم ، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا‏ .‏ فتجمع سفهاء قريش وأخِفَّاؤها مع عكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو بالخَنْدَمَة ليقاتلوا المسلمين ‏.‏ وكان فيهم رجل من بني بكر ـ حِمَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سلاحاً ، فقالت له امرأته ‏:‏ لماذا تعد ما أرى ‏؟‏ قال ‏:‏ لمحمد وأصحابه ‏.‏ قالت ‏:‏ والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شيء ‏.‏ قال ‏:‏ إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم ، ثم قال ‏:
        إن يقبلوا اليوم فمالي عِلَّه

        هــذا ســلاح كامــل وألَّه
        وذو غِرَارَيْن سريع السَّلَّة

        فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة ‏.‏


        الجيش الإسلامي بذي طوى


        أما رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فمضى حتى انتهى إلى ذي طوي ـ وكان يضع رأسه تواضعاً لله حين رأي ما أكرمه الله به من الفتح ، حتى أن شعر لحيته ليكاد يمس واسطة الرحل ـ وهناك وزع جيشه ، وكان خالد بن الوليد على المُجَنَّبَةِ اليمنى ـ وفيها أسْلَمُ وسُلَيْم وغِفَار ومُزَيْنَة وجُهَيْنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها ، وقال ‏:‏ ‏" ‏إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً ، حتى توافوني على الصفا "‏‏.‏
        وكان الزبير بن العوام على المُجَنَّبَةِ اليسرى ، وكان معه راية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فأمره أن يدخل مكة من أعلاها ـ من كَدَاء ـ وأن يغرز رايته بالحَجُون ، ولا يبرح حتى يأتيه ‏.‏
        وكان أبو عبيدة على الرجالة والحُسَّر ـ وهم الذيم لا سلاح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حتى ينصب لمكة بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏






        الجيش الإسلامي يدخل مكة

        وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها‏ .‏
        فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من المشركين إلا أناموه ‏.‏ وقتل من أصحابه من المسلمين كُرْز بن جابر الفِهْرِي وخُنَيْس بن خالد بن ربيعة ‏.‏ كانا قد شذا عن الجيش ، فسلكا طريقاً غير طريقه فقتلا جميعاً ، وأما سفهاء قريش فلقيهم خالد وأصحابه بالخَنْدَمَة فناوشوهم شيئا من قتال ، فأصابوا من المشركين اثني عشر رجلاً ، فانهزم المشركون ، وانهزم حِمَاس بن قيس ـ الذي كان يعد السلاح لقتال المسلمين ـ حتى دخل بيته ، فقال لامرأته‏ :‏ أغلقي على بابي ‏.‏
        فقالت ‏:‏ وأين ما كنت تقول‏ ؟‏ فقال ‏:‏
        إنك لو شهـدت يوم الخندمة
        واستقبلتنابالسيوف المسلمة
        ضربـاً فلا يسمع إلا غمغمه

        إذ فر صفوان وفر عكرمة
        يقطعن كل ساعدوجمجمه
        لهـم نهيت خلفنا وهمهمه
        لم تنطقي في اللوم أدنىكلمه
        وأقبل خالد يجوس مكة حتى وافى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الصفا‏ .‏
        وأما الزبير فتقدم حتى نصب راية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالحَجُون عند مسجد الفتح ، وضرب له هناك قبة ، فلم يبرح حتى جاءه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏

        الرسول(صلى الله عليه وسلم) يدخل المسجد الحرام ويطهره من الأصنام

        ثم نهض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله ، حتى دخل المسجد ، فأقبل إلى الحجر الأسود ، فاستلمه ، ثم طاف بالبيت ، وفي يده قوس ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بالقوس ، ويقول ‏:‏ ‏" ‏جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا "‏‏[ ‏الإسراء ‏:‏81 ‏] ‏،‏"‏ قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ‏ "‏ ‏[ ‏سبأ ‏: ‏49 ‏]‏ والأصنام تتساقط على وجوهها ‏.‏
        وكان طوافه على راحلته ، ولم يكن محرماً يومئذ ، فاقتصر على الطواف ، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، فأمر بها ففتحت فدخلها ، فرأى فيها الصور ، ورأى فيها صورة إبراهيم ، وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ يستقسمان بالأزلام ، فقال‏ :‏ ‏" ‏قاتلهم الله ، والله ما استقسما بها قط‏ "‏‏.‏ ورأى في الكعبة حمامة من عيدان ، فكسرها بيده ، وأمر بالصور فمحيت‏ .

        الرسول(صلى الله عليه وسلم) يصلي في الكعبة ثم يخطب أمام قريش

        ثم أغلق عليه الباب ، وعلى أسامة وبلال ، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب حتى إذا كان بينه وبينه ثلاثة أذرع وقف ، وجعل عمودين عن يساره ، وعموداً عن يمينه ، وثلاثة أعمدة وراءه ـ وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ ثم صلى هناك ‏.‏ ثم دار في البيت ، وكبر في نواحيه ، ووحد الله ، ثم فتح الباب ، وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع ‏؟‏ فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته ، فقال ‏:‏
        "‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثُرَة أو مال أو دم فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج ، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة ، مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد‏ها .‏
        يا معشر قريش ، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء ، الناس من آدم ، وآدم من تراب ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏" ‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير‏"‏ .

        **لا تثريب عليكم اليوم :
        ثم قال ‏:‏" ‏يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم‏ ؟‏‏ "قالوا :‏ خيرًا ، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال‏:‏"فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته ‏:‏ ‏" ‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ‏ "‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء ‏" .‏

        مفتاح البيت إلى أهله


        ثم جلس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في المسجد فقام إليه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده فقال ‏:‏ اجمع لنا الحجابة مع السقاية ، صلى الله عليك ـ وفي رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏أين عثمان بن طلحة ‏؟ ‏‏) ‏‏.‏ فدعي له ، فقال له ‏:‏ ‏( ‏هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء ‏) ‏، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه ‏:‏ ‏( ‏خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم ، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته ، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف ‏) ‏‏.‏

        بلال يؤذن على الكعبة

        وحانت الصلاة ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة ، وأبو سفيان بن حرب ، وعتاب بن أسيد ، والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب ‏:‏ لقد أكرم الله أسيداً ألا يكون سمع هذا ، فيسمع منه ما يغيظه‏ .‏ فقال الحارث ‏:‏ أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته ‏.‏ فقال أبو سفيان ‏:‏ أما والله لا أقول شيئًا ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء ‏.‏ فخرج عليهم النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لهم ‏:‏ ‏( ‏لقد علمت الذي قلتم ‏)‏ ثم ذكر ذلك لهم ‏.‏
        فقال الحارث وعتاب ‏:‏ نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك ‏.‏

        صلاة الفتح أو صلاة الشكر

        ودخل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يومئذ دار أم هانئ بنت أبي طالب ، فاغتسل وصلى ثماني ركعات في بيتها ـ وكان ضحى ـ فظنها من ظنها صلاة الضحى ، وإنما هذه صلاة الفتح ، وأجارت أم هانئ حموين لها ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ‏) ‏، وقد كان أخوها علي بن أبي طالب أراد أن يقتلهما ، فأغلقت عليهما باب بيتها ، وسألت النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لها ذلك ‏.‏

        إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين

        وأهدر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين ، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة ، وهم عبد العزى بن خطل ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعكرمة بن أبي جهل ، والحارث بن نفيل بن وهب ، ومقيس بن صبابة ، وهبار بن الأسود ، وقينتان كانتا لابن الأخطل ، كانت تغنيان بهجو النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب ، وهي التي وجد معها كتاب حاطب ‏.‏
        فأما ابن أبي سرح فجاء به عثمان إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ، وشفع فيه ، فحقن دمه ، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله ، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر ، ثم ارتد ورجع إلى مكة ‏.‏
        وأما عكرمة بن أبي جهل ، ففر إلى اليمن ، فاستأمنت له امرأته ، فأمنه النبي(صلى الله عليه وسلم) فتبعته ، فرجع معها وأسلم وحسن إسلامه ‏.‏
        وأما ابن خطل فكان متعلقًا بأستار الكعبة ، فجاء رجل إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) وأخبره ، فقال ‏:‏ ‏( ‏اقتله‏ )‏ فقتله‏.‏
        وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبدالله ، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك ، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله ، ثم ارتد ولحق بالمشركين ‏.‏
        وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله بمكة ، فقتله علي ‏.‏
        وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حين هاجرت ، فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها ، ففر هبار يوم مكة ثم أسلم وحسن إسلامه ‏.‏
        وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى فأسلمت ، كما استؤمن لسارة وأسلمت ‏.‏
        قال ابن حجر‏ :‏ وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحارث بن طلاطل الخزاعي ، قتله علي ‏ وذكر الحاكم أيضاً ممن أهدر دمه كعب بن زهير ، وقصته مشهورة ، وقد جاء بعد ذلك وأسلم ومدح ، ووحشي بن حرب ، وهند بنت عتبة امرأه أبي سفيان ، وقد أسلمت ، وأرنب مولاه ابن خطل أيضاً قتلت ، وأم سعد قتلت ، فيما ذكر ابن إسحاق ، فكملت العدة ثمانية رجال وست نسوة ، ويحتمل أن تكون أرنب وأم سعد القينتان ، أختلف في اسمهما أو باعتبار الكنية واللقب ‏.‏

        إسلام صفوان بن أمية وفضالة بن عمير

        لم يكن صفوان ممن أهدر دمه ، لكنه بصفته زعيماً كبيراً من زعماء قريش خاف على نفسه وفر ، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأمنه ، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة ، فلحقة عمير وهو يريد أن يركب البحر من جدة إلى اليمن فرده ، فقال لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ اجعلني بالخيار شهرين ‏.‏ قال ‏( ‏أنت بالخيار أربعة أشهر ‏)‏ ثم أسلم صفوان ، وقد كانت امرأته أسلمت قبله ، فأقرهما على النكاح الأول ‏.‏
        وكان فضالة رجلاً جريئاً جاء إلى رسول الله، وهو في الطواف ، ليقتله ، فأخبر الرسول
        (صلى الله عليه وسلم) بما في نفسه فأسلم ‏.‏



        خطبة الرسول(صلى الله عليه وسلم) في اليوم الثاني من الفتح

        ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في الناس خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ومجده بما هو أهله ، ثم قال ‏:‏ ‏( ‏أيها الناس ، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقولوا ‏:‏ إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما حلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب‏ ) ‏‏.‏
        وفي رواية ‏:‏ ‏( ‏لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ولا تلتقط ساقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاه‏ )‏ ، فقال العباس ‏:‏ يا رسول الله ، إلا الإذخر ، فإنه لقينهم وبيوتهم ، فقال‏ :‏ ‏( ‏إلا الإذخر ‏)‏‏ .‏
        وكانت خزاعة قتلت يومئذ رجلاً من بنى ليث بقتيل لهم في الجاهلية ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بهذا الصدد‏ :‏ ‏( ‏يا معشر خزاعة ، ارفعو أيديكم عن القتل ، فلقد كثر القتل إن نفع ، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه ، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين ، إن شاءوا فدم قاتله ، وإن شاءوا فعقله ‏)‏‏ .‏
        وفي رواية ‏:‏ فقام رجل من أهل اليمن يقال له‏ :‏ شاه فقال ‏:‏ اكتب لي يا رسول الله ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)‏:‏ ‏(‏اكتبو لأبي شاه‏)‏‏ .‏

        تخوف الأنصار من بقاء الرسول(صلى الله عليه وسلم في مكة

        ولما تم فتح مكة على الرسول(صلى الله عليه وسلم) - وهي بلده ووطنه ومولده - قال الأنصار فيما بينهم‏ :‏ أترون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إذ فتح الله عليه أرضه وبلده أن يقيم بها - وهو يدعو على الصفا رافعاً يديه - فلما فرغ من دعائة قال‏ :‏ ‏( ‏ماذا قلتم‏ ؟ ‏‏)‏ قالوا ‏:‏ لا شيء يا رسول الله ، فلم يزل بهم حتى أخبروه ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏معاذ الله ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم ‏)‏ ‏.

        أخذ البيعة

        وحين فتح الله مكة على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) والمسلمين ، تبين لأهل مكة الحق ، وعلموا أن لا سبيل إلى النجاح إلا الإسلام ، فأذعنوا له ، واجتمعوا للبيعة ، فجلس رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الصفا يبايع الناس ، وعمر بن الخطاب أسفل منه ، يأخذ على الناس فبايعوه على السمع والطاعة فيما استطاعوا ‏.‏
        وفي المدارك‏ :‏ روى أن النبي(صلى الله عليه وسلم) لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء ، وهو على الصفا ، وعمر قاعد أسفل منه ، يبايعهن بأمره ، ويبلغهن عنه ، فجاءت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة ، خوفاً من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يعرفها ، لما صنعت بحمزة ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم)‏( ‏أبايعكن على ألا تشركن بالله شيئاً ‏)‏ ، فبايع عمر النساء على ألا يشركن بالله شيئا فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏ولا تسرقن ‏)‏ فقالت هند ‏:‏ إن أبا سفيان رجل شحيح ، فإن أنا أصبت من ماله هنات ‏؟‏ فقال أبو سفيان ‏:‏ وما أصبت فهو لك حلال ، فضحك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وعرفها ، فقال‏ :‏ ‏(‏ وإنك لهند ‏؟ ‏‏)‏ قالت‏ :‏ نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله ، عفا الله عنك ‏.‏
        فقال ‏:‏ ‏( ‏ولا يزنين ‏) ‏‏.‏ فقالت‏ :‏ أو تزني الحرة‏ ؟‏
        فقال ‏:‏ ‏( ‏ولا يقتلن أولادهن ‏)‏‏ .‏ فقالت‏ :‏ ربيناهم صغاراً ، وقتلناهم كباراً ، فأنتم وهم أعلم ـ وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدرـ فضحك عمر حتى استلقى فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ‏.‏
        قال ‏:‏ ‏(‏ ولا يأتين ببهتان ‏)‏ فقالت ‏:‏ والله إن البهتان لأمر قبيح وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ‏.‏
        فقال ‏:‏ ‏(‏ ولا يعصينك في معروف ‏)‏ فقالت ‏:‏ والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك‏.‏
        ولما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول ‏:‏ كنا منك في غرور‏ .‏
        وفي الصحيح ‏:‏ جاءت هند بنت عتبة فقالت ‏:‏ يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك ، ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض أهل خباء أحب إلي أن يغزوا من أهل خبائك‏ .‏ قال‏ :‏ ‏( ‏وأيضاً ، والذي نفسي بيده ‏)‏ قالت‏ :‏ يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك فهل علي حرج أن أطعم من الذي له عيالنا‏ ؟‏ قال‏ :‏ ‏( ‏لا أره إلا بالمعروف ) ‏‏.‏

        إقامته (صلى الله عليه وسلم) بمكة وعمله فيها

        وأقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام ، ويرشد الناس إلى الهدى والتقى ، وخلال هذه الأيام أمر أبا أسيد الخزاعي ، فجدد أنصاب الحرم ، وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام ، ولكسر الأوثان التي كانت حول مكة ، فكسرت كلها ، ونادى مناديه بمكة ‏:‏ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره‏ .




        السراياوالبعوث بعد فتح مكة

        ولما اطمأن رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)بعد الفتح بعث خالد بن الوليدإلى العزى لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ه ليهدمها، وكانت بنخلة، وكانتلقريش وجميع بني كنانه وهي أعظم أصنامهم وكان سدنتها بني شيبان فخرج إليهاخالد في ثلاثين فارساً حتى انتهى إليها، فهدمها. ولما رجع سأله رسولاللَّه (صلى الله عليه وسلم) هل رأيت شيئاً؟ قال: لا قال: فإنك لم تهدمها،فارجع إليها فاهدمها، فرجع خالد متغيظاً قد جرد سيفه، فخرجت إليه امرأةعريانة سوداء ناشرة الرأس، فجعل السادن يصيح بها، فضربها خالد فجزلهاباثنتين، ثم رجع إلى رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)فأخبره، فقال: نعم،تلك العزى، وقد أيست أن تعبد في بلادكم أبداً.

        ثم بعث عمرو بن العاص في نفس الشهر إلى سواع ليهدمه، وهو صنم لهذيل برهاط،على ثلاثة أميال من مكة، فلما انتهى إليه عمرو قال له السادن ما تريد؟قال: أمرني رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)أن أهدمه، قال: لا تقدر علىذلك، قال: لم؟ قال: تمنع. قال: حتى الآن أنت على الباطل؟ ويحك، فهل يسمعأو يبصر؟ ثم دنا فكسره، وأمر أصحابه فهدموا بيت خزانته، فلم يجدوا فيهشيئاً، ثم قال للسادن كيف رأيت؟ قال: أسلمت للَّه.

        وفي نفس الشهر بعث سعدبن زيد الأشهلي في عشرين فارساً إلى مناة وكانت بالمشلل عند قديد للأوسوالخزرج وغسان وغيرهم، فلما انتهى سعد إليها قال له سادنها ما تريد؟ قال: هدم مناة، قال: أنت وذاك، فأقبل إليها سعد، وخرجت امرأة عريانة سوداءثائرة الرأس، تدعو بالويل، وتضرب صدرها، فقال لها السادن مناة دونك بعضعصاتك. فضربها سعد فقتلها، وأقبل إلى الصنم فهدمه وكسره، ولم يجدوا فيخزانته شيئاً.

        ولما رجع خالد بن الوليد من هدم العزى بعثه رسول اللَّه (صلى الله عليه وسلم)في شعبان من نفس السنة (8هـ) إلى بني جذيمة داعياً إلىالإسلام لا مقاتلاً. فخرج في ثلاثمائة وخمسين رجلاً من المهاجرين والأنصاروبني سليم، فانتهى إليهم فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولواأسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتلهم ويأسرهم، ودفع إلىكل رجل ممن كان معه أسيراً، فأمر يوماً أن يقتل كل رجل أسيره، فأبى ابنعمر وأصحابه حتى قدموا على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فذكروا له، (صلى الله عليه وسلم)وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين. وكانتبنو سليم هم الذين قتلوا أسراهم دون المهاجرين والأنصار، وبعث رسول (صلى الله عليه وسلم) علياً فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم، وكان بين خالدوعبد الرحمن بن عوف كلام وشر في ذلك، فبلغ النبي (صلى الله عليه وسلم)فقال: مهلاً يا خالد، دع عنك أصحابي، فواللَّه لو كان أحد ذهبا، ثم أنفقته فيسبيل اللَّه ما أدركت غدوة رجل من أصحابي ولا روحته.

        تلك هي غزوة فتح مكة،وهي المعركة الفاصلة والفتح الأعظم الذي قضى على كيان الوثنية قضاء باتاًلم يترك لبقائها مجالاً ولا مبرراً في ربوع الجزيرة العربية، فقد كانتعامة القبائل تنتظر ماذا يتمخض عنه العراك والاصطدام الذي كان دائراً بينالمسلمين والوثنيين، وكانت تلك القبائل تعرف جيداً أن الحرم لا يسيطر عليهإلا من كان على الحق، وكان قد تأكد لديهم هذا الاعتقاد الجازم أي تأكد قبلنصف القرن حين قصد أصحاب الفيل هذا البيت، فأهلكوا وجعلوا كعصف مأكول. وكانت صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم، أمن الناس بهوكلم بعضهم بعضاً، وناظره في الإسلام وتمكن من اختفى من المسلمين بمكة منإظهار دينه والدعوة إليه والمناظرة عليه، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام،حتى إن عدد الجيش الإسلامي الذي لم يزد في الغزوات السالفة على ثلاثة آلافإذا هو يزخر في هذه الغزوة في عشرة آلاف.

        وهذه الغزوة الفاصلة فتحت أعينالناس، وأزالت عنها آخر الستور التي كانت تحول بينها وبين الإسلام. وبهذاالفتح سيطر المسلمون على الموقف السياسي والديني كليهما معاً في طول جزيرةالعرب وعرضها، فقد انتقلت إليهم الصدارة الدينية والزعامة الدنيوية. فالطور الذي كان قد بدأ بعد هدنة الحديبية لصالح المسلمين قد تم وكمل بهذاالفتح المبين. وبدأ بعد ذلك طور آخر كان لصالح المسلمين تماماً، وكان لهمفيه السيطرة على الموقف تماماً. ولم يبق لأقوام العرب إلا أن يفدوا إلىالرسول (صلى الله عليه وسلم)، فيعتنقوا الإسلام، ويحملوا دعوته إلى العالم. وقد تم استعدادهم لذلك في سنتين آتيتين. المرحَلة الثالثة: وهي آخر مرحلةمن مراحل حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم). تمثل النتائج التي أثمرتهادعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعاركوحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عاماً. وكان فتح مكة هو أعظم كسبحصل عليه المسلمون في هذه الأعوام، تغير لأجله مجرى الأيام، وتحول به جوالعرب، فقد كان الفتح حداً فاصلاً بين المدة السابقة عليه وبين ما بعده،فإن قريشاً كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره، والعرب في ذلك تبع لهم،فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب.

        ويمكنأن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين:
        صفحة المجاهدة والقتال.

        صفحة تسابقالشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام. وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتافي هذه المرحلة، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى، إلا أنا اخترنا فيالترتيب الوضعي، أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الأخرى، ونظراًإلى أن صفحة القتال ألصق بما مضى، وأكثر مناسبة من الأخرى قدمناها فيالترتيب.








        وهي آخر مرحلة من مراحل حياة الرسول(صلى الله عليه وسلم) ‏، تمثل النتائج التي أثمرتها دعوته الإسلامية بعد جهاد طويل وعناء ومتاعب وقلاقل وفتن واضطرابات ومعارك وحروب دامية واجهتها طيلة بضعة وعشرين عامًا ‏.‏
        وكان فتح مكة هو أعظم فتح حصل عليه المسلمون في هذه الأعوام ، تغير لأجله مجرى الأيام ، وتحول به جو العرب ، فقد كان الفتح حدًا فاصلا بين السابقة عليه وبين ما بعده ، فإن قريشًا كانت في نظر العرب حماة الدين وأنصاره ، والعرب في ذلك تبع لهم ، فخضوع قريش يعتبر القضاء الأخير على الدين الوثني في جزيرة العرب‏ .‏
        ويمكن أن نقسم هذه المرحلة إلى صفحتين ‏:‏
        1ـ صفحة المجاهدة والقتال‏ .‏
        2ـ صفحة تسابق الشعوب والقبائل إلى اعتناق الإسلام‏.‏
        وهاتان الصفحتان متلاصقتان تناوبتا في هذه المرحلة ، ووقعت كل واحدة منهما خلال الأخرى إلا أنا اخترنا في الترتيب الوضعي أن نأتي على ذكر كل من الصفحتين متميزة عن الأخرى ، ونظرًا إلى صفحة القتال ألصق بما مضى ، وأكثر مناسبة من الأخرى قدمناها في الترتيب ‏.‏






        تعليق


        • #5
          رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم






          غزوةحنين

          إن فتح مكة جاء عقب ضربة خاطفة شَدَهَ لها العرب ، وبوغتت القبائل المجاورة بالأمر الواقع ، الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه ، ولذلك لم تمتنع عن الاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة ، وفي مقدمتها بطون هوازن وثقيف ، واجتمعت إليها نَصْرٌ وجُشَمٌ وسعد بن بكر وناس من بني هلال ـ وكلها من قيس عَيْلان ـ رأت هذه البطون من نفسها عزاً وأنَفَةً أن تقابل هذا الانتصار بالخضوع ، فاجتمعت إلى مالك ابن عوف النَّصْري ، وقررت المسير إلى حـرب المسلمين‏ .‏
          مسير العدو ونزولهبأوطاس

          ولما أجمع القائد العام ـ مالك بن عوف ـ المسير إلى حرب المسلمين ، ساق مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم ، فسار حتى نزل بأوْطَاس ـ وهو واد في دار هَوَازِن بالقرب من حُنَيْن ، لكن وادي أوطاس غير وادي حنين ، وحنين واد إلى جنب ذي المجَاز ، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً من جهة عرفات‏ .‏

          مجرب الحروب يغلط رأيالقائد


          ولما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس ، وفيهم دُرَيْدُ بن الصِّمَّةِ ـ وهو شيخ كبير ، ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً ـ قال دريد‏ :‏ بأي واد أنتم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ بأوطاس ، قال ‏:‏ نعم مَجَالُ الخيل ، لا حَزْنٌ ضَرسٌ ، ولا سَهْلٌ دَهِس ، مالي أسمع رُغَاء البعير ، ونُهَاق الحمير ، وبُكَاء الصبي ، وثُغَاء الشاء ‏؟‏ قالوا‏ :‏ ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم ، فدعا مالكاً وسأله عما حمله على ذلك ، فقال‏ :‏ أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم ، فقال ‏:‏ راعي ضأن واللّه ، وهل يرد المنهزم شيء ‏؟‏ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فُضِحْتَ في أهلك ومالك ، ثم سأل عن بعض البطون والرؤساء ، ثم قال ‏:‏ يا مالك ، إنك لم تصنع بتقديم بَيْضَة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً ، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ، ثم الْقَ الصُّبَاة على متون الخيل ، فإن كانت لك لحق بك من وراءك ، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزتَ أهلك ومالك ‏.‏
          ولكن مالكاً ـ القائد العام ـ رفض هذا الطلب قائلاً‏ :‏ واللّه لا أفعل ، إنك قد كبرت وكبر عقلك ، واللّه لتطيعني هوازن أو لأتَّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري ، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي ، فقالوا‏ :‏ أطعناك ‏.‏ فقال دريد ‏:‏ هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْنِي‏ :‏
          يا ليتنـي فيها جـَذَعْ
          أقود وطْفَاءَالزَّمَــعْ

          أخُبُّ فيهـا وأضَعْ
          كأنها شـاة صَدَعْ



          سلام استكشافالعدو
          وجاءت إلى مالك عيون كان قد بعثهم للاستكشاف عن المسلمين ، جاءت هذه العيون وقد تفرقت أوصالهم ، قال‏ :‏ ويلكم ، ما شأنكم ‏؟‏ قالوا ‏:‏ رأينا رجالاً بيضا على خيل بُلْق ، والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى ‏.‏

          سلاح استكشاف رسول الله (صلىالله عليهوسلم)

          ونقلت الأخبار إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) بمسير العدو ، فبعث أبا حَدْرَد الأسلمي ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم، ثم يأتيه بخبرهم ، ففعل ‏.‏



          الرسول(صلى الله عليهوسلم)يغادر مكة إلىحنين

          وفي يوم السبت ـ السادس من شهر شوال سنة 8 هـ ـ غادر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) مكة ـ وكان ذلك اليوم التاسع عشر من يوم دخوله في مكة ـ خرج في اثني عشر ألفاً من المسلمين ، عشرة آلاف ممن كانوا خرجوا معه لفتح مكة ، وألفان من أهل مكة‏ ،‏ وأكثرهم حديثو عهد بالإسلام واستعار من صفوان بن أمية مائة درع بأداتها ، واستعمل على مكة عَتَّاب بن أسيد ‏.‏
          ولما كان عشية جاء فارس ، فقال ‏:‏ إني طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة آبائهم بِظُعُنِهم ونَعَمِهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) وقال ‏:‏ ‏( ‏تلك غنيمة المسلمين غدًا إن شاء اللّه ‏) ‏، وتطوع للحراسة تلك الليلة أنس بن أبي مَرْثَد الغَنَوي ‏.‏
          وفي طريقهم إلى حنين رأوا سِدْرَة عظيمة خضراء يقال لها‏ :‏ ذات أنْوَاط ، كانت العرب تعلق عليها أسلحتهم ، ويذبحون عندها ويعكفون ، فقال بعض أهل الجيش لرسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ اجعل لنا ذات أنواط ، كما لهم ذات أنواط ‏.‏ فقال‏:‏ ‏( ‏اللّه أكبر ، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى ‏:‏ اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ، قال‏ :‏ إنكم قوم تجهلون ، إنها السَّنَنُ ، لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم ‏) ‏‏.‏
          وقد كان بعضهم قال نظراً إلى كثرة الجيش ‏:‏ لن نُغْلَبَ اليوم ، وكان قد شق ذلك على رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏ .


          الجيش الإسلامي يباغت بالرماةوالمهاجمين

          انتهى الجيش الإسلامي إلى حنين ، الليلة التي بين الثلاثاء والأربعاء لعشر خلون من شوال ، وكان مالك بن عوف قد سبقهم ، فأدخل جيشه بالليل في ذلك الوادي ، وفرق كُمَنَاءه في الطرق والمداخل والشعاب والأخباء والمضايق ، وأصدر إليهم أمره بأن يرشقوا المسلمين أول ما طلعوا ، ثم يشدوا شدة رجل واحد ‏.‏
          وبالسَّحَر عبأ رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) جيشه ، وعقد الألوية والرايات ، وفرقها على الناس ، وفي عَمَاية الصبح استقبل المسلمون وادي حنين ، وشرعوا ينحدرون فيه ، وهم لا يدرون بوجود كمناء العدو في مضايق هذا الوادي ، فبينا هم ينحطون إذا تمطر عليهم النبال ، وإذا كتائب العدو قد شدت عليهم شدة رجل واحد ، فانشمر المسلمون راجعين ، لا يلوي أحد على أحد ، وكانت هزيمة منكرة ، حتى قال أبو سفيان بن حرب ، وهو حديث عهد بالإسلام ‏:‏ لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ـ الأحمر ـ وصرخ جَبَلَةُ أو كَلَدَةُ بن الحَنْبَل ‏:‏ ألا بطل السِّحْر اليوم‏ .‏
          وانحاز رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) جهة اليمين وهو يقول ‏:‏ ‏(‏ هَلُمُّوا إلى أيها الناس ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد اللّه‏)‏ ولم يبق معه في موقفه إلا عدد قليل من المهاجرين والأنصار ‏.‏ تسعة على قول ابن إسحاق ، واثنا عشر على قول النووي ، والصحيح ما رواه أحمد والحاكم في المستدرك من حديث ابن مسعود ، قال ‏:‏ كنت مع النبي(صلى الله عليه وسلم) يوم حنين ، فولي عنه الناس وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار ، فكنا على أقدامنا ولم نُوَلِّهم الدُّبُر ، وروى الترمذي من حديث ابن عمر بإسناد حسن قال ‏:‏ لقد رأيتنا يوم حنين وإن الناس لمولين ، وما مع رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) مائة رجل ‏.‏
          وحينئذ ظهرت شجاعة النبي(صلى الله عليه وسلم) التي لا نظير لها ، فقد طفق يركض بغلته قبل الكفار وهو يقول‏ :‏
          أنــا النبي لا كَذِبْ

          أنا ابن عبدالمطلب‏
          بيد أن أبا سفيان بن الحارث كان آخذا بلجام بغلته ، والعباس بركابه ، يكفانها ألا تسرع ، ثم نزل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) فاستنصر ربه قائلاً‏ :‏ ‏( ‏اللّهم أنزل نصرك ‏) ‏‏.‏



          رجوع المسلمين واحتدامالمعركة
          وأمر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) عمه العباس ـ وكان جَهِيَر الصوت ـ أن ينادي الصحابة ، قال العباس ‏:‏ فقلت بأعلى صوتي ‏:‏ أين أصحاب السَّمُرَة‏ ؟‏ قال ‏:‏ فو الله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها ، فقالوا ‏:‏ يا لبيك ، يا لبيك‏ .‏ ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه ، فيأخذ درعه ، فيقذفها في عنقه ، ويأخذ سيفه وترسه ، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت ، حتى إذا اجتمع إليه منهم مائة استقبلوا الناس واقتتلوا‏ .‏
          وصرفت الدعوة إلى الأنصار ‏:‏ يا معشر الأنصار ، يا معشر الأنصار ، ثم قصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج ، وتلاحقت كتائب المسلمين واحدة تلو الأخرى كما كانوا تركوا الموقعة ، وتجالد الفريقان مجالدة شديدة ، ونظر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) إلى ساحة القتال ، وقد استحر واحتدم ، فقال ‏:‏ ‏( ‏الآن حَمِي الوَطِيسُ‏ )‏ ‏.‏ ثم أخذ رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) قبضة من تراب الأرض ، فرمى بها في وجوه القوم وقال‏ :‏ ‏( ‏شاهت الوجوه ‏) ‏، فما خلق اللّه إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة ، فلم يزل حَدُّهُم كَلِيلاً وأمرهم مُدْبِرًا‏ .‏


          انكسار حدة العدو وهزيمتهالساحقة
          وما هي إلا ساعات قلائل ـ بعد رمي القبضة ـ حتى انهزم العدو هزيمة منكرة ، وقتل من ثَقِيف وحدهم نحو السبعين ، وحاز المسلمون ما كان مع العدو من مال وسلاح وظُعُن‏ .‏
          وهذا هو التطور الذي أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله ‏:‏ "‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ‏ "‏ ‏[ ‏التوبة ‏:‏25 ، 26 ‏]‏


          حركةالمطاردة
          ولما انهزم العدو صارت طائفة منهم إلى الطائف ، وطائفة إلى نَخْلَة ، وطائفة إلىأوْطاس ، فأرسل النبي(صلى الله عليه وسلم)إلى أوطاسطائفة من المطاردين يقودهم أبو عامر الأشعري ، فَتَنَاوَشَ الفريقان القتال قليلاً، ثم انهزم جيش المشركين ، وفي هذه المناوشة قتل القائد أبو عامر الأشعري ‏.‏
          وطاردت طائفة أخري من فرسان المسلمين فلول المشركين الذينسلكوا نخلة ، فأدركت دُرَيْدَ بن الصِّمَّة فقتله ربيعة بن رُفَيْع‏ .‏
          وأما معظم فلول المشركين الذين لجأوا إلى الطائف ، فتوجهإليهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم)بنفسه بعدأن جمع الغنائم ‏.‏
          الغنائم
          وكانت الغنائم ‏:‏ السبي ستة آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرون ألفاً ، والغنم أكثرمن أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، أمر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم)بجمعها ، ثمحبسها بالجِعْرَانَة ، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري ، ولم يقسمها حتى فرغ منغزوة الطائف‏ .‏
          وكانت في السبي الشيماءبنت الحارث السعدية ، أخت رسولاللّه(صلى الله عليه وسلم)من الرضاعة ، فلما جيء بها إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم)عرفت لهنفسها ، فعرفها بعلامة فأكرمها ، وبسط لها رداءه ، وأجلسها عليه ، ثم منّ عليها ،وردّها إلى قومها ‏.‏







          غزوةالطائف

          وهذه الغزوة في الحقيقة امتداد لغزوة حنين ، وذلك أن معظم فلول هَوَازن وثَقِيف دخلوا الطائف مع القائد العام ـ مالك بن عوف النَّصْرِي ـ وتحصنوا بها ، فسار إليهم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعد فراغه من حنين وجمع الغنائم بالجعرانة ، في الشهر نفسه ـ شوال سنة 8 هـ ‏.‏
          وقدم خالد بن الوليد على مقدمته طليعة في ألف رجل ، ثم سلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف ، فمر في طريقه على نخلة اليمانية ، ثم على قَرْنِ المنازل ، ثم على لِيَّةَ ، وكان هناك حصن لمالك بن عوف فأمر بهدمه ، ثم واصل سيره حتى انتهى إلى الطائف فنزل قريباً من حصنه ، وعسكر هناك ، وفرض الحصار على أهل الحصن ‏.‏
          ودام الحصار مدة غير قليلة ، ففي رواية أنس عند مسلم‏ :‏ أن مدة حصارهم كانت أربعين يوماً ، وعند أهل السير خلاف في ذلك ، فقيل ‏:‏ عشرين يوماً ، وقيل‏ :‏ بضعة عشر ، وقيل ‏:‏ ثمانية عشر ، وقيل ‏:‏ خمسة عشر‏ .‏
          ووقعت في هذه المدة مراماة ، ومقاذفات ، فالمسلمون أول ما فرضوا الحصار رماهم أهل الحصن رمياً شديداً ، كأنه رِجْل جراد ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة ، وقتل منهم اثنا عشر رجلاً ، واضطروا إلى الارتفاع عن معسكرهم إلى مسجد الطائف اليوم، فعسكروا هناك‏ .‏
          ونصب النبي (صلى الله عليه وسلم) المنجنيق على أهل الطائف ، وقذف به القذائف ، حتى وقعت شدخة في جدار الحصن ، فدخل نفر من المسلمين تحت دبابة ،‏ ودخلوا بها إلى الجدار ليحرقوه ، فأرسل عليهم العدو سكك الحديد محماة بالنار ،‏ فخرجوا من تحتها ، فرموهم بالنبل وقتلوا منهم رجالاً ‏.‏
          وأمر رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ـ كجزء من سياسة الحرب لإلجاء العدو إلى الاستسلام ـ أمر بقطع الأعناب وتحريقها ، فقطعها المسلمون قطعاً ذريعاً ، فسألته ثقيف أن يدعها للّه والرحم ، فتركها للّه والرحم ‏.‏
          ونادى مناديه (صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر ، فخرج إليهم ثلاثة وعشرون رجلاً ، فيهم أبو بكرة ـ تسور حصن الطائف ، وتدلى منه ببكرة مستديرة يستقى عليها ، فكناه رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏[ ‏أبا بكرة ‏]‏ ـ فأعتقهم رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ، ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ، فشق ذلك على أهل الحصن مشقة شديدة‏ .‏
          ولما طال الحصار واستعصيى الحصن ، وأصيب المسلمون بما أصيب من رشق النبال وبسكك الحديد المحماة ـ وكان أهل الحصن قد أعدوا فيه ما يكفيهم لحصار سنة ـ استشار رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) نَوْفَل بن معاوية الدِّيلي فقال ‏:‏ هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته وإن تركته لم يضرك ، وحينئذ عزم رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) على رفع الحصار والرحيل ، فأمر عمر بن الخطاب فأذن في الناس ، إنا قافلون غداً إن شاء اللّه ، فثقل عليهم وقالوا‏ :‏ نذهب ولا نفتحه ‏؟‏ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏اغدوا على القتال ‏) ‏، فغدوا فأصابهم جراح ، فقال ‏:‏ ‏( ‏إنا قافلون غداً إن شاء اللّه ‏)‏ فسروا بذلك وأذعنوا ، وجعلوا يرحلون ، ورسول اللّهيضحك‏ .‏
          ولما ارتحلوا واستقلوا قال ‏:‏ قولوا ‏:‏ ‏( ‏آيبون تائبون عابدون ، لربنا حامدون‏ ) ‏‏.‏
          وقيل ‏:‏ يا رسول اللّه ، ادع على ثقيف ، فقال‏ :‏ ‏( ‏اللّهم اهد ثقيفاً ، وائت بهم ‏) ‏‏.‏

          غزوة الطائف - قسمةالغنائم بالجعرانة

          ولما عاد رسول اللْه (صلى الله عليه وسلم) بعد رفع الحصار عن الطائف مكث بالجعرانة بضع عشرة ليلة لا يقسم الغنائم ، ويتأنى بها ، يبتغي أن يقدم عليه وفد هوازن تائبين فيحرزوا ما فقدوا ، ولكنه لم يجئه أحد، فبدأ بقسمة المال ، ليسكت المتطلعين من رؤساء القبائل وأشراف مكة ، فكان المؤلفة قلوبهم أول من أعطي وحظي بالأنصبة الجزلة‏.‏
          وأعطى أبا سفيان بن حرب أربعين أوقية ومائة من الإبل ، فقال ‏:‏ ابني يزيد ‏؟‏ فأعطاه مثلها ، فقال ‏:‏ ابني معاوية‏ ؟‏ فأعطاه مثلها ، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل ، ثم سأله مائة أخرى ، فأعطاه إياها‏ .‏ وأعطى صفوان بن أمية مائة من الإبل ، ثم مائة ثم مائة ـ كذا في الشفاء ـ وأعطى الحارث بن الحارث بن كَلَدَة مائة من الإبل ، وكذلك أعطى رجالاً من رؤساء قريش وغيرها مائة مائة من الإبل وأعطى آخرين خمسين خمسين وأربعين أربعين ، حتى شاع في الناس أن محمداً يعطي عطاءً ، ما يخاف الفقر ، فازدحمت عليه الأعراب يطلبون المال حتى اضطروه إلى شجرة ، فانتزعت رداءه فقال‏ :‏ ‏( ‏أيها الناس ، ردوا علي ردائي ، فو الذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ‏) ‏‏.‏
          ثم قام إلى جنب بعيره فأخذ من سنامه وبرة ، فجعلها بين إصبعه ، ثم رفعها ، فقال ‏:‏ ‏( ‏أيها الناس ، واللّه مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم‏ ) ‏‏.‏
          كانت هذه القسمة مبنية على سياسة حكيمة ، فإن في الدنيا أقواماً كثيرين يقادون إلى الحق من بطونهم ، لا من عقولهم ، فكما تهدي الدواب إلى طريقها بحزمة برسيم تظل تمد إليها فمها حتى تدخل حظيرتها آمنة ، فكذلك هذه الأصناف من البشر تحتاج إلى فنون من الإغراء حتى تستأنس بالإيمان وتهش له .
          وبعد إعطاء المؤلفة قلوبهم أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) زيد بن ثابت بإحضار الغنائم والناس ، ثم فرضها على الناس ، فكانت سهامهم لكل رجل إما أربعاً من الإبل، وإما أربعين شاة ، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً أو عشرين ومائة شاة ‏.‏


          الأنصار تجد على رسول الله(صلى الله عليه وسلم)

          وهذه السياسة لم تفهم أول الأمر ، فأطلقت ألسنة شتى بالاعتراض ، وكان الأنصار ممن وقعت
          عليهم مغارم هذه السياسة ، لقد حرموا جميعاً أعطية حنين ، وهم الذين نودوا في وقت الشدة فطاروا يقاتلون مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) حتى تبدل الفرار انتصاراً ، وهاهم أولاء يرون أيدي الفارين ملأى ، وأما هم فلم يمنحوا شيئاً قط .
          روى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري قال ‏:‏ لما أعطى رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء ، وَجَدَ هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القَالَةُ ، حتى قال قائلهم‏ :‏ لقي واللّه رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) قومه ، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال ‏:‏ يا رسول اللّه ، إن هذا الحي من الأنصار قد وَجَدُوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء‏ . ‏قال ‏:‏ ‏( ‏فأين أنت من ذلك يا سعد ‏؟ ‏‏)‏ قال ‏:‏ يا رسول اللّه ، ما أنا إلا من قومي‏ .‏ قال ‏:‏ ‏( ‏فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة‏ )‏‏ .‏ فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ، فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا‏.‏ وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال ‏:‏ لقد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) فحمد اللّه ، وأثنى عليه ، ثم قال ‏:‏ ‏" ‏يا معشر الأنصار ، مقَالَهٌ بلغتني عنكم ، وَجِدَةٌ وجدتموها عليّ في أنفسكم‏ ؟‏ ألم آتكم ضلالاً فهداكم اللّه‏ ؟‏ وعالة فأغناكم اللّه‏ ؟‏ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم ‏؟ "‏ قالـوا‏ :‏ بلى ، اللّه ورسولـه أمَنُّ وأفْضَلُ ‏.‏
          ثم قال ‏:‏ ‏" ‏ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ "‏ قالوا‏ :‏ بماذا نجيبك يا رسول اللّه‏ ؟‏ للّه ورسوله المن والفضل ‏.‏ قال‏ :‏ ‏" ‏أما واللّه لو شئتم لقلتم ، فصَدَقْتُمْ ولصُدِّقْتُمْ ‏:‏ أتيتنا مُكَذَّبًا فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسَيْنَاك .‏
          ‏ ‏أوَجَدْتُمْ يا معشر الأنصار في أنفسكم في لَعَاعَةٍ من الدنيا تَألفَّتُ بها قوماً ليُسْلِمُوا ، ووَكَلْتُكم إلى إسلامكم ‏؟‏ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) إلى رحالكم‏ ؟‏ فو الذي نفس محمد بيده ، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعْبًا ، وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار ، اللّهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار‏ "‏‏ .‏
          فبكى القوم حتى أخْضَلُوا لِحَاهُم وقالوا‏ :‏ رضينا برسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) قَسْمًا وحظاً ، ثم انصرف رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ، وتفرقوا‏ .‏

          غزوة الطائف - قدوم وفدهوازن

          وبعد توزيع الغنائم أقبل وفد هوازن مسلماً ، وهم أربعة عشر رجلاً ورأسهم زهير ابن صُرَد ، وفيهم أبو بُرْقَان عم رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) من الرضاعة ، فسألوه أن يمن عليهم بالسبي والأموال ، وأدلوا إليه بكلام ترق له القلوب ، فقال ‏:‏ ‏( ‏إن معي من ترون ، وإن أحب الحديث إليّ أصدقه ، فأبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ‏؟ ‏‏)‏ قالوا‏ :‏ ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً ‏.‏ فقال ‏:‏ ‏( ‏إذا صليت الغداة ـ أي صلاة الظهر ـ فقوموا فقولوا ‏:‏ إنا نستشفع برسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) إلى المؤمنين ، ونستشفع بالمؤمنين إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) أن يرد إلينا سبينا ‏) ‏، فلما صلى الغداة قاموا فقالوا ذلك ‏.‏ فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ، وسأسأل لكم الناس‏ ) ‏، فقال المهاجرون والأنصار ‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏.‏ فقال الأقْرَع بن حابس ‏:‏ أما أنا وبنو تميم فلا ‏.‏ وقال عُيَيْنَة بن حِصْن ‏:‏ أما أنا وبنو فَزَارَة فلا‏ .‏ وقال العباس بن مِرْدَاس ‏:‏ أما أنا وبنو سُلَيْم فلا ‏.‏ فقالت بنو سليم ‏:‏ ما كان لنا فهو لرسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) .‏ فقال العباس بن مرداس ‏:‏ وهنتموني ‏.‏
          فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏إن هؤلاء القوم قد جاءوا مسلمين ، وقد كنت استأنيت سَبْيَهُمْ ، وقد خيرتهم فلم يعدلوا بالأبناء والنساء شيئاً ، فمن كان عنده منهن شيء فطابت نفسه بأن يرده فسبيل ذلك ، ومن أحب أن يستمسك بحقه فليرد عليهم ، وله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء اللّه علينا‏ )‏ ، فقال الناس ‏:‏ قد طيبنا لرسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) ‏.‏ فقال ‏:‏ ‏(‏ إنا لا نعرف من رضي منكم ممن لم يرض ، فارجعوا حتى يرفع إلينا عُرَفَاؤكم أمركم ‏) ‏، فردوا عليهم نساءهم وأبناءهم ، لم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن ، فإنه أبي أن يرد عجوزاً صارت في يديه منهم ، ثم ردها بعد ذلك ، وكسا رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) السبي قبطية قبطية ‏.‏

          غزوة الطائف - العمرة والانصراف إلىالمدينة

          ولما فرغ رسول اللّه (صلى الله عليه وسلم) من قسمة الغنائم في الجِعْرَانة أهلَّ معتمراً منها، فأدي العمرة، وانصرف بعد ذلك راجعاً إلى المدينة بعد أن ولي على مكة عَتَّاب بن أسيد، وكان رجوعه إلى المدينة ودخوله فيها لست ليال بقيت من ذي القعدة سنة 8 هـ‏ ‏.‏
          قال محمد الغزالي : لله ما أفسح المدى الذي بين هذه الآونة الظافرة بعد أن توج الله هامته بالفتح المبين ، وبين مقدمه إلى هذا البلد النبيل منذ ثمانية أعوام .
          لقد جاء مطارداً يبغي الأمان ، غريباً مستوحشاً ينشد الإيلاف والإيناس ، فأكرم أهله مثواه ، وآووه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، واستخفوا بعداوة الناس جميعاً من أجله ، وهاهو ذا بعد ثمانية أعوام يدخل المدينة المنورة التي استقبلته مهاجراً خائفاً ، لتستقبله مرة أخرى وقد دانت له مكة ، وألقت تحت قدميه كبرياءها وجاهليتها فأنهضها ، ليعزها بالإسلام وعفا عن خطيئاتها الأولى "إنه من يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين ".







          البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوةالفتح

          وبعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح أقام رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) بالمدينة يستقبل الوفود ، ويبعث العمال ، ويبث الدعاة ، ويَكْبِتُ من بقي فيه الاستكبار عن الدخول في دين اللّه ، والاستسلام للأمر الواقع الذي شاهدته العرب ‏.‏



          البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح - المصدقون

          قد عرفنا مما تقدم أن رجوع رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة كان في أواخر أيام السنة الثامنة ، فما هو إلا أن استهل هلال المحرم من سنة 9 هـ ، وبعث رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) المُصَدِّقين إلى القبائل ، وهذه هي قائمتهم ‏:‏
          1 ـ عُيَيْنَةُ بن حصن إلى بني تميم‏.‏
          2 ـ يزيد بن الحُصَيْن إلى أسْلَم وغِفَار‏.‏
          3 ـ عَبَّاد بن بشير الأشهلي إلى سُلَيْم ومُزَيْنَةَ‏.‏
          4 ـ رافع بن مَكِيث إلى جُهَيْنَة‏.‏
          5 ـ عمرو بن العاص إلى بني فَزَارَة‏.‏
          6 ـ الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب‏.‏
          7 ـ بشير بن سفيان إلى بني كعب‏.‏
          8 ـ ابن اللُّتِْبيَّة الأزدي إلى بني ذُبْيَان‏.‏
          9 ـ المهاجر بن أبي أمية إلى صنعاء ـ وخرج عليه الأسود العنسي وهو بها‏.‏
          10 ـ زياد بن لبيد إلى حضرموت‏.‏
          11 ـ عدي بن حاتم إلى طيئ وبني أسد‏.‏
          12 ـ مالك بن نُوَيْرَة إلى بني حَنْظَلَة‏.‏
          13ـ الزِّبْرِقَان بن بدر إلى بني سعد ـ إلى قسم منهم‏.‏
          14 ـ قيس بن عاصم إلى بني سعد ـ إلى قسم آخر منهم‏.‏
          15 ـ العلاء بن الحضرمي إلى البحرين‏.‏
          16 ـ علي بن أبي طالب إلى نجران ـ لجمع الصدقة والجزية كليهما‏.

          وليس هؤلاء العمال كلهم بعثوا في المحرم سنة 9 هـ ، بل تأخر بعث عدة منهم إلى اعتناق الإسلام من تلك القبائل التي بعثوا إليها‏ .‏ نعم كانت بداية بعث العمال بهذا الاهتمام البالغ في المحرم سنة 9 هـ ، وهذا يدل على مدى نجاح الدعوة الإسلامية بعد صلح الحديبية ، وأما بعد فتح مكة فقد دخل الناس في دين اللّه أفواجاً ‏.

          البعوث والسرايا بعد الرجوع من غزوة الفتح - السرايا

          وكما بعث المصدقون إلى القبائل ، مَسَّتِ الحاجة إلى بعث عدة من السرايا مع سيادة الأمن على عامة مناطق الجزيرة ، وهاك لوحة تلك السرايا ‏:‏
          1ـ سرية عيينة بن حصن الفزاري ـ في المحرم سنة 9 هـ ـ إلى بني تميم ، في خمسين فارساً ، لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري ، وسببها ‏:‏ أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل ، ومنعوهم عن أداء الجزية ‏.‏
          وخرج عيينة بن حصن يسير الليل ، ويكمن النهار ، حتى هجم عليهم في الصحراء فولى القوم مدبرين ، وأخذ منهم أحد عشر رجلاً وإحدى وعشرين امرأة وثلاثين صبياً ، وساقهم إلى المدينة ، فأنزلوا في دار رَمْلَة بنت الحارث ‏.‏
          وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم ، فجاءوا إلى باب النبي(صلى الله عليه وسلم) فنادوا ‏:‏ يا محمد ، اخرج إلينا ، فخرج ، فتعلقوا به ، وجعلوا يكلمونه ، فوقف معهم ، ثم مضى حتى صلى الظهر ، ثم جلس في صحن المسجد ، فأظهروا رغبتهم في المفاخرة والمباهاة ، وقدموا خطيبهم عُطَارِد بن حاجب فتكلم ، فأمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ثابت بن قيس بن شَمَّاس ـ خطيب الإسلام ـ فأجابهم ، ثم قدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر ، فأنشد مفاخراً ، فأجابه شاعر الإسلام حسان بن ثابت على البديهة ‏.‏
          ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال الأقرع بن حابس ‏:‏ خطيبه أخطب من خطيبنا ، وشاعره أشعر من شاعرنا ، وأصواتهم أعلى من أصواتنا ، وأقوالهم أعلى من أقوالنا ، ثم أسلموا ، فأجازهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، فأحسن جوائزهم ، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم ‏.‏
          2ـ سرية قُطْبَة بن عامر إلى حي من خَثْعَم بناحية تَبَالَة ، بالقرب من تُرَبَة في صفر سنة 9 هـ ‏.‏ خرج قطبة في عشرين رجلاً على عشرة أبعرة يعتقبونها ، فشن الغارة ، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعاً ، وقتل قطبة مع من قتل ، وساق المسلمون النَّعَم والنساء والشاء إلى المدينة ‏.‏
          3ـ سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كِلاَب في ربيع الأول سنة9هـ‏ .‏ بعثت هذه السرية إلى بني كلاب ، لدعوتهم إلى الإسلام ، فأبوا وقاتلوا ، فهزمهم المسلمون ، وقتلوا منهم رجلاً ‏.‏
          4ـ سرية علقمة بن مُجَزِّرِ المُدْلِجي إلى سواحل جُدَّة في شهر ربيع الآخر سنة 9هـ في ثلاثمائة ‏. ‏بعثهم إلى رجال من الحبشة ، كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القَرْصَنَة ضد أهل مكة ، فخاض علقمة البحر حتى انتهى إلى جزيرة ، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا ‏.‏
          5ـ سرية على بن أبي طالب إلى صنم لطيء يقال له ‏:‏ القلْس ـ ليهدمه ـ في شهر ربيع الأول سنة 9 هـ‏ .‏ بعثه رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في خمسين ومائة على مائة بعير وخمسين فرساً ، ومعه راية سوداء ولواء أبيض ، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر ، فهدموه وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء ، وفي السبي أخت عدي بن حاتم ، وهرب عدي إلى الشام ، ووجد المسلمون في خزانة الفلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع ، وفي الطريق قسموا الغنائم ، وعزلوا الصفي لرسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ‏.‏ ولم يقسموا آل حاتم‏.‏
          ولما جاءوا إلى المدينة استعطفت أخت عدي بـن حاتم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، قائلـة ‏:‏ يا رسول اللّه ، غاب الوافد ، وانقطع الوالد ، وأنا عجوز كبيرة ، ما بي من خدمة ، فمُنَّ عليّ ، منّ اللّه عليك ‏.‏ قال ‏:‏ ‏(‏ من وافدك‏ ؟‏ ‏)‏ قالت ‏:‏ عدي بن حاتم ‏.‏ قال ‏:‏ (صلى الله عليه وسلم) ثم مضى ، فلما كان الغد قالت مثل ذلك ، وقال لها مثل ما قال أمس‏ .‏ فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك ، فمنّ عليها ، وكان إلى جنبه رجل ـ ترى أنه علي ـ فقال لها ‏:‏ سليه الحِمْلان فسألته فأمر لها به‏ .‏
          ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام ، فلما لقيته قالت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم):‏ لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها ، ائته راغباً أو راهباً ، فجاءه عدي بغير أمان ولا كتاب ‏.‏ فأتى به إلى داره ، فلما جلس بين يديه حمد اللّه وأثنى عليه ، ثم قال :‏ ما يُفِرُّكَ ‏؟‏ أيُفِرُّك أن تقول ‏:‏ ‏( ‏لا إله إلا اللّه ‏؟‏ فهل تعلم من إله سوى اللّه ‏؟ ‏‏)‏ قال ‏:‏ لا ‏.‏ ثم تكلم ساعة ثم قال ‏:‏ ‏( ‏إنما تفر أن يقال ‏:‏ اللّه أكبر ، فهل تعلم شيئاً أكبر من الله ‏؟ ‏‏)‏ قال ‏:‏ لا ‏.‏ قال ‏:‏ ‏( ‏فإن اليهود مغضوب عليهم ، وإن النصارى ضالون‏ ) ‏‏.‏ قال ‏:‏ فإني حَنِيف مسلم ، فانبسط وجهه فرحاً ، وأمر به فنزل عند رجل من الأنصار ، وجعل يأتي النبي(صلى الله عليه وسلم) طرفي النهار‏ .‏
          وفي رواية ابن إسحاق عن عدي‏:‏ أن النبي(صلى الله عليه وسلم) لما أجلسه بين يديه في داره قال له‏ :‏ ‏( ‏إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن رَكُوسِيّا ‏؟‏ ‏)‏ قال‏ :‏ قلت‏ :‏ بلى ، قال‏:‏ ‏( ‏أو لم تكن تسير في قومك بالمِرْبَاع ‏؟ ‏‏) ‏‏. ‏قال‏ :‏ قلت ‏:‏ بلى ‏.‏ قال ‏:‏ ‏( ‏فإن ذلك لم يحل لك في دينك‏ )‏ ‏.‏ قال ‏:‏ قلت أجل واللّه ‏.‏ قال ‏:‏ وعرفت أنه نبي مرسل ، يعرف ما يُجْهَل ‏.‏
          وفي رواية لأحمد ‏:‏ أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال ‏:‏ ‏( ‏يا عدي ، أسلم تسلم ‏) ‏‏.‏ فقلت ‏:‏ إني من أهل دين‏ .‏ قال ‏:‏ ‏( ‏أنا أعلم بدينك منك ‏) ‏‏.‏ فقلت‏ :‏ أنت أعلم بديني مني ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏نعم ، ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ‏؟ ‏‏)‏ فقلت‏ :‏ بلى ، قال ‏:‏ ‏( ‏فإن هذا لا يحل لك في دينك‏ ) ‏‏.‏ قال ‏:‏ فلم يعد أن قالها فتواضعت لها‏ .‏
          وروى البخاري عن عدي قال ‏:‏ بينا أنا عند النبي(صلى الله عليه وسلم) إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ، فقال‏ :‏ ‏( ‏يا عدي ، هل رأيت الحيرة‏ ؟‏ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ، لا تخاف أحداً إلا اللّه ، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى ، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة ، ويطلب من يقبله فلا يجد أحداً يقبله منه ‏.‏‏.‏‏. ‏‏)‏ الحديث وفي آخره ‏:‏ قال عدي ‏:‏ فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا اللّه ‏.‏ وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏يخرج ملء كفه ‏) ‏‏.





          غزوة تبوك ( في رجب سنة 9 هـ (

          إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل ، لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد(صلى الله عليه وسلم) عند العرب ، ولذلك انقلب المجرى تماماً ، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً ـ كما سيظهر ذلك مما نقدمه في فصل الوفود ، ومن العدد الذي حضر في حجة الوداع ـ وانتهت المتاعب الداخلية ، واستراح المسلمون لتعليم شرائع الله ، وبث دعوة الإسلام ‏.‏

          سببالغزوة

          إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر ، وهي قوة الرومان ـ أكبر قوة عسكرية ظهرت على وجه الأرض في ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ـ الحارث بن عمير الأزدي ـ على يدي شُرَحْبِيل بن عمرو الغساني ، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي(صلى الله عليه وسلم) إلى عظيم بُصْرَي، وأن النبي(صلى الله عليه وسلم) أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً في مؤتة ، ولم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين ، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب ، قريبهم وبعيدهم ‏.‏
          ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين ، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر ، ومواطأتهم للمسلمين ، إن هذا كان خطراً يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة ، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب ، فكان يرى أن القضاء يجب على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليها ، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان ‏.‏
          ونظراً إلى هذه المصالح ، لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة حتى أخذ يهيئ الجيش مـن الرومـان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم ، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة‏ .‏

          الأخبار العامة عن استعداد الرومانوغسان

          وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان ، للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين ، حتى كان الخوف يتسورهم كل حين ، لا يسمعون صوتاً غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان ، ‏ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن الخطاب ، فقد كان النبي(صلى الله عليه وسلم) آلى من نسائه شهراً في هذه السنة ( 9هـ ) وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ، ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته ، فظنوا أن النبي(صلى الله عليه وسلم) طلقهن ، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق‏ ،‏ يقول عمر بن الخطاب ـ وهو يروي هذه القصة ‏:‏ وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر ، وإذا غاب كنت آتية أنا بالخبر ـ وكانا يسكنان في عوالي المدينة ، يتناوبان إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) ـ ونحن نتخوف ملكاً من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا ، فقد امتلأت صدورنا منه ، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب ، فقال ‏:‏ افتح ، افتح ، فقلت ‏:‏ جاء الغساني ‏؟‏ فقال ‏:‏ بل أشد من ذلك ، اعتزل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أزواجه ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث ‏.‏
          وفي لفظ آخر ( أنه قال )‏ :‏ وكنا تحدثنا أن آل غسان تنعل النعال لغزونا ، فنزل صاحبي يوم نَوْبَتِهِ ، فرجع عشاء ، فضرب بابي ضرباً شديداً وقال ‏:‏ أنائم هو ‏؟‏ ففزعت ، فخرجت إليه ، وقال‏ :‏ حدث أمر عظيم ‏.‏ فقلت‏ :‏ ما هو ‏؟‏ أجاءت غسان ‏؟‏ قال‏ :‏ لا بل أعظم منه وأطول ، طلق رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) نساءه ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏ .‏
          وهذا يدل على خطورة الموقف ، الذي كان يواجهه المسلمون بالنسبة إلى الرومان ، ويزيد ذلك تأكداً ما فعله المنافقون حينما نقلت إلى المدينة أخبار إعداد الرومان ، فبرغم ما رآه هؤلاء المنافقون من نجاح رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في كل الميادين ، وأنه لا يوجل من سلطان على ظهر الأرض ، بل يذيب كل ما يعترض في طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ طفق هؤلاء المنافقون يأملون في تحقق ما كانوا يخفونه في صدورهم ، وما كانوا يتربصونه من الشر بالإسلام وأهله ‏.‏ ونظراً إلى قرب تحقق آمالهم أنشأوا وكرة للدس والتآمر ، في صورة مسجد ، وهو مسجد الضِّرَار ، أسسوه كفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله ، وعرضوا على رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أن يصلي فيه ، وإنما مرامهم بذلك أن يخدعوا المؤمنين فلا يفطنوا ما يؤتى به في هذا المسجد من الدس والمؤامرة ضدهم ، ولا يلتفتوا إلى من يرده ويصدر عنه ، فيصير وكرة مأمونة لهؤلاء المنافقين ولرفقائهم في الخارج ، ولكن رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أخر الصلاة فيه ـ إلى قفوله من الغزوة ـ لشغله بالجهاز ، ففشلوا في مرامهم وفضحهم اللّه ، حتى قام الرسول(صلى الله عليه وسلم) بهدم المسجد بعد القفول من الغزو ، بدل أن يصلي فيه ‏.

          الأخبار الخاصة عن استعداد الرومانوغسان

          كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي يواجهها ويتلقاها المسلمون ، إذ بلغهم من الأنباط الذين قدموا بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشاً عرمرماً قوامه أربعون ألف مقاتل ، وأعطى قيادته لعظيم من عظماء الروم ، وأنه أجلب معهم قبائل لَخْمٍ وجُذَامٍ وغيرهما من متنصرة العرب ، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء ، وبذلك تمثل أمام المسلمين خطر كبير ‏.‏

          زيادة خطورةالموقف

          والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد ، وكان الناس في عسرة وجدب من البلاء وقلة من الظهر ، وكانت الثمار قد طابت ، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم فيه ، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة ، والطريق وعرة صعبة ‏.‏
          الرسول(صلى الله عليه وسلم)يقرر القيام بإقدامحاسم

          ولكن الرسول(صلى الله عليه وسلم) كان ينظر إلى الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله ، إنه كان يرى أنه لو توانى وتكاسل عن غزو الرومان في هذه الظروف الحاسمة ، وترك الرومان لتجوس خلال المناطق التي كانت تحت سيطرة الإسلام ونفوذه ، وتزحف إلى المدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة الإسلامية وعلى سمعة المسلمين العسكرية ، فالجاهلية التي تلفظ نفسها الأخير بعد ما لقيت من الضربة القاصمة في حنين ستحيا مرة أخرى ، والمنافقون الذين يتربصون الدوائر بالمسلمين ، ويتصلون بملك الرومان بواسطة أبي عامر الفاسق سيبعجون بطون المسلمين بخناجرهم من الخلف ، في حين تهجم الرومان بحملة ضارية ضد المسلمين من الأمام ، وهكذا يخفق كثير من الجهود التي بذلها هو أصحابه في نشر الإسلام ، وتذهب المكاسب التي حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة متواصلة ‏،‏ تذهب هذه المكاسب بغير جدوى ‏.‏
          كان رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يعرف كل ذلك جيداً ، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ بغزوة فاصلة يخوضها المسلمون ضد الرومان في حدودهم ، ولا يمهلونهم حتى يزحفوا إلى دار الإسلام‏ .
          الإعلان بالتهيؤ لقتالالروم

          ولما قرر الرسول(صلى الله عليه وسلم) الموقف أعلن في الصحابة أن يتجهزوا للقتال ، وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة يستنفرهم ،‏ وكان قل ما يريد غزوة يغزوها إلا وَرَّي بغيرها ، ولكنه نظراً إلى خطورة الموقف وإلى شدة العسرة أعلن أنه يريد لقاء الرومان ، وجلى للناس أمرهم ، ليتأهبوا أهبة كاملة ، وحضهم على الجهاد ، ونزلت قطعة من سورة براءة تثيرهم على الجلاد ، وتحثهم على القتال ، ورغبهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في بذل الصدقات ، وإنفاق كرائم الأموال في سبيل اللّه‏ .
          المسلمون يتسابقون إلى التجهزللعدو

          ولم يكن من المسلمين أن سمعوا صوت رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يدعو إلى قتال الروم إلا وتسابقوا إلى امتثاله ، فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة ، وأخذت القبائل والبطون تهبط إلى المدينة من كل صوب وناحية ، ولم يرض أحد من المسلمين أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إلا الذين في قلوبهم مرض وإلا ثلاثة نفر ـ حتى كان يجيء أهل الحاجة والفاقة يستحملون رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، ليخرجوا إلى قتال الروم ، فإذا قال لهم ‏:‏ ‏" لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ‏ "‏ ‏[ ‏التوبة ‏: ‏92 ‏] ‏‏.‏
          كما تسابق المسلمون في إنفاق الأموال وبذل الصدقات ، كان عثمان بن عفان قد جهز عيراً للشام ، مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ، ومائتا أوقية ، فتصدق بها ، ثم تصدق بمائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجره(صلى الله عليه وسلم) ، فكان رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يقلبها ويقول‏ :‏ ‏(‏ ما ضَرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم ‏)‏ ، ثم تصدق وتصدق حتى بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعير ومائة فرس سوى النقود‏ .‏
          وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة ، وجاء أبو بكر بماله كلّه ولم يترك لأهله إلا اللّه ورسوله ـ وكانت أربعة آلاف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته ‏.‏ وجاء عمر بنصف ماله ، وجاء العباس بمال كثير ، وجاء طلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة ، كلهم جاءوا بمال‏ .‏ وجاء عاصم بن عدي بتسعين وَسْقًا من التمر ، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها ، حتى كان منهم من أنفق مُدّا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها ‏.‏ وبعثت النساء ما قدرن عليه من مَسَك ومعاضد وخلاخل وقُرْط وخواتم ‏.‏
          ولم يمسك أحد يده، ولم يبخل بماله إلا المنافقون " ‏الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ‏ "‏‏[ ‏التوبة ‏:‏ 79 ‏] ‏‏.‏

          الجيش الإسلامي إلىتبوك

          وهكذا تجهز الجيش ، فاستعمل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري، وقيل‏ :‏ سِبَاع بن عُرْفُطَةَ ، وخلف على أهله علي بن أبي طالب ، وأمره بالإقامة فيهم ، وغَمَصَ عليه المنافقون ، فخرج فلحق برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فرده إلى المدينة وقال ‏:‏ " ‏ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي‏ "‏‏.‏
          وتحرك رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) يوم الخميس نحو الشمال يريد تبوك ، ولكن الجيش كان كبيراً ـ ثلاثون ألف مقاتل ، لم يخرج المسلمون في مثل هذا الجمع الكبير قبله قط ـ فلم يستطع المسلمون مع ما بذلوه من الأموال أن يجهزوه تجهيزاً كاملاً ، بل كانت في الجيش قلة شديدة بالنسبة إلى الزاد والمراكب ، فكان ثمانية عشر رجلاً يعتقبون بعيراً واحداً ، وربما أكلوا أوراق الأشجار حتى تورمت شفاههم ، واضطروا إلى ذبح البعير ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما في كرشه من الماء ، ولذلك سمي هذا الجيش جيش العُسْرَةِ‏ .‏
          ومر الجيش الإسلامي في طريقه إلى تبوك بالحِجْر ـ ديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، أي وادي القُرَى ـ فاستقى الناس من بئرها ، فلما راحوا قال رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ " ‏لا تشربوا من مائها ولا تتوضأوا منه للصلاة ، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ، ولا تأكلوا منه شيئاً ‏" ‏، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح رسول الله .‏
          وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ لما مر النبي(صلى الله عليه وسلم) بالحجر قال‏ :‏ "‏ لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين‏ "، ثم قَنعَ رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي ‏.‏
          واشتدت في الطريق حاجة الجيش إلى الماء حتى شكوا إلى رسول اللّه ، فدعا اللّه ، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا حاجاتهم من الماء ‏.‏
          ولما قرب من تبوك قال ‏:‏ " ‏إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعالى عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يَضْحَى النهار ، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي "‏، قال معاذ ‏:‏ فجئنا وقد سبق إليها رجلان ، والعين تَبِضُّ بشيء من مائها ، فسألهما رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) :‏ ‏( ‏هل مسستما من مائها شيئاً‏ ؟ ‏‏)‏ قالا‏ :‏ نعم ‏.‏ وقال لهما ما شاء اللّه أن يقول ‏.‏ ثم غرف من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع الْوَشَلُ ، ثم غسل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) فيه وجهه ويده ، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير ، فاستقى الناس ، ثم قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ " ‏يوشك يا معاذ ، إن طالت بك حياة أن ترى هاهنا قد ملئ جناناً‏ "‏‏.‏
          وفي الطريق أو لما بلغ تبوك ـ على اختلاف الروايات ـ قال رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ " ‏تهب عليكم الليلة ريح شديدة، فلا يقم أحد منكم، فمن كان له بعير فليشد عِقَالَه "‏، فهبت ريح شديدة ، فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيء ‏.‏
          وكان دأب رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) في الطريق أنه كان يجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء جمع التقديم وجمع التأخير كليهما ‏.

          الجيش الإسلاميبتبوك

          نزل الجيش الإسلامي بتبوك ، فعسكر هناك ، وهو مستعد للقاء العدو ، وقام رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) فيهم خطيباً ، فخطب خطبة بليغة ، أتى بجوامع الكلم، وحض على خير الدنيا والآخرة ، وحذر وأنذر ، وبشر وأبشر ، حتى رفع معنوياتهم ، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من حيث قلة الزاد والمادة والمؤنة ‏.‏ وأما الرومان وحلفاؤهم فلما سمعوا بزحف رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) أخذهم الرعب ، فلم يجترئوا على التقدم واللقاء ، بل تفرقوا في البلاد في داخل حدودهم ، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إلى سمعة المسلمين العسكرية ، في داخل الجزيرة وأرجائها النائية ، وحصل بذلك المسلمون على مكاسب سياسية كبيرة خطيرة ، لعلهم لم يكونوا يحصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بين الجيشين ‏.‏
          جاء يُحَنَّةُ بن رُؤْبَةَ صاحب أيْلَةَ ، فصالح الرسول(صلى الله عليه وسلم) وأعطاه الجزية ، وأتاه أهل جَرْبَاء وأهل أذْرُح ، فأعطوه الجزية ، وكتب لهم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) كتاباً فهو عندهم ، وصالحه أهل مِينَاء على ربع ثمارها ، وكتب لصاحب أيلة ‏:‏"‏بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذه أمنة من اللّه ومحمد النبي رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة ، سفنهم وسياراتهم في البر والبحر لهم ذمة اللّه وذمة محمد النبي ، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر ، فمن أحدث منهم حدثاً ، فإنه لا يحول ماله دون نفسه ، وإنه طيب لمن أخذه من الناس ، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ، ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر ‏" ‏‏.‏
          وبعث رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) خالد بن الوليد إلى أُكَيْدِرِ دُومَة الجَنْدَل في أربعمائة وعشرين فارسا ً، وقال له‏ :‏ ‏(‏ إنك ستجده يصيد البقر ‏)‏ ، فأتاه خالد ، فلما كان من حصنه بمنظر العين ، خرجت بقرة ، تحك بقرونها باب القصر ، فخرج أكيدر لصيدها ـ وكانت ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد في خيله ، فأخذه وجاء به إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، فحقن دمه ، وصالحه على ألفي بعير ، وثمانمائة رأس وأربعمائة درع ، وأربعمائة رمح ، وأقر بإعطاء الجزية ، فقاضاه مع يُحَنَّة على قضية دُومَة وتبوك وأيْلَةَ وَتَيْماء ‏.‏
          وأيقنت القبائل التي كانت تعمل لحساب الرومان أن اعتمادها على سادتها الأقدمين قد فات أوانه ، فانقلبت لصالح المسلمين ، وهكذا توسعت حدود الدولة الإسلامية ، حتى لاقت حدود الرومان مباشرة ، وشهد عملاء الرومان نهايتهم إلى حد كبير ‏.‏


          غزوة تبوك ( في رجب سنة 9 هـ ) - الرجوع إلىالمدينة

          ورجع الجيش الإسلامي من تبوك مظفرين منصورين ، لم ينالوا كيداً ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وفي الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر رجلاً من المنافقين الفتك بالنبي(صلى الله عليه وسلم) ، وذلك أنه حينما كان يمر بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته ، وحذيفة ابن اليمان يسوقها ، وأخذ الناس ببطن الوادي ، فانتهز أولئك المنافقون هذه الفرصة ‏.‏ فبينما رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) وصاحباه يسيران إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم ، قد غشوه وهم ملتثمون ، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم بمِحْجَن كان معه ، فأرعبهم اللّه ، فأسرعوا في الفرار حتى لحقوا بالقوم ، وأخبر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) بأسمائهم ، وبما هموا به ، فلذلك كان حذيفة يسمى بصاحب سـر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وفي ذلك يقول اللّه تعالى ‏:‏ "‏وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا‏ "‏ ‏[ ‏التوبة ‏:‏ 74‏ ] ‏‏.‏
          ولما لاحت للنبي(صلى الله عليه وسلم) معالم المدينة من بعيد قال ‏:‏ "‏هذه طلة، وهذا أحُدٌ ، جبل يحبنا ونحبه "‏، وتسامع الناس بمقدمه ، فخرج النساء والصبيان والولائد يقابلن الجيش بحفاوة بالغة ويقلن ‏:
          طلع البـدر علينا
          وجب الشكر علينا


          من ثنيات الوداع
          مـا دعا لله داع


          وكانت عودته(صلى الله عليه وسلم) من تبوك ودخوله في المدينة في رجب سنة 9هـ ، واستغرقت هذه الغزوة خمسين يوماً ، أقام منها عشرين يوماً في تبوك ، والبواقي قضاها في الطريق جيئة وذهوبًا‏ .‏ وكانت هذه الغزوة آخر غزواته(صلى الله عليه وسلم) .‏



          المخلفون

          وكانت هذه الغزوة ـ لظروفها الخاصة بها ـ اختباراً شديداً من اللّه ، امتاز به المؤمنون من غيرهم ، كما هي سنته تعالى في مثل هذه المواطن ، حيث يقول ‏:‏ ‏" ‏مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏ "‏‏[‏ آل عمران ‏:‏179‏ ]‏ فقد خرج لهذه الغزوة كل من كان مؤمناً صادقاً ، حتى صار التخلف أمارة على نفاق الرجل ، فكان الرجل إذا تخلف وذكروه لرسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) قال لهم‏ :‏ ‏( ‏دعوه ، فإن يكن فيه خير فسيلحقه اللّه بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم منه ‏) ‏، فلم يتخلف إلا من حبسهم العذر ، أو الذين كذبوا اللّه ورسوله من المنافقين ، الذين قعدوا بعد أن استأذنوا للقعود كذباً ، أو قعدوا ولم يستأذنوا رأسا‏ً .‏ نعم كان هناك ثلاثة نفر من المؤمنين الصادقين تخلفوا من غير مبرر ، وهم الذين أبلاهم اللّه ، ثم تاب عليهم‏ .‏
          ولما دخل رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) المدينة بدأ بالمسجد ، فصلى فيه ركعتين ، ثم جلس للناس ، فأما المنافقون ـ وهم بضعة وثمانون رجلاً ـ فجاءوا يعتذرون بأنواع شتى من الأعذار ، وطفقوا يحلفون له ، فقبل منهم علانيتهم ، وبايعهم ، واستغفر لهم ، ووكل سرائرهم إلى اللّه ‏.‏
          وأما النفر الثلاثة من المؤمنين الصادقين ـ وهم كعب بن مالك ، ومُرَارَة بن الربيع ، وهلال بن أمية ـ فاختاروا الصدق ، فأمر رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) الصحابة ألا يكلموا هؤلاء الثلاثة ، وجرت ضد هؤلاء الثلاثة مقاطعة شديدة ، وتغير لهم الناس ، حتى تنكرت لهم الأرض ، وضاقت عليهم بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وبلغت بهم الشدة إلى أنهم بعد أن قضوا أربعين ليلة من بداية المقاطعة أمروا أن يعتزلوا نساءهم ، حتى تمت على مقاطعتهم خمسون ليلة ، ثم أنزل اللّه توبتهم ‏:‏ ‏" ‏وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏ "‏‏[‏التوبة‏:‏118‏]‏‏.‏
          وفرح المسلمون ، وفرح الثلاثة فرحاً لا يقاس مداه وغايته ، فبشروا وأبشروا واستبشروا وأجازوا وتصدقوا ، وكان أسعد يوم من أيام حياتهم ‏.‏
          وأما الذين حبسهم العذر فقد قال تعالى فيهم ‏:‏ ‏" ‏لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ‏ "‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 91‏]‏‏‏ وقال فيهم رسول اللّه حين دنا من المدينة ‏:‏ ‏( ‏إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مَسِيراً ، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم ، حبسهم العُذْرُ‏ ) ‏، قـالوا ‏:‏ يا رسول اللّه ، وهــم بالمدينة ‏؟‏ قال ‏:‏ ‏( ‏وهم بالمدينة ‏) ‏‏.‏

          أثرالغزوة

          وكان لهذه الغزوة أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويتهعلى جزيرة العرب ، فقد تبين للناس أنه ليس لأي قوة من القوات أن تعيش في العرب سوىقوة الإسلام ، وبطلت بقايا أمل وأمنية كانت تتحرك في قلوب بقايا الجاهليينوالمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمسلمين ، وكانوا قد عقدوا آمالهمبالرومان ، فقد استكانوا بعد هذه الغزوة ، واستسلموا للأمر الواقع ، الذي لم يجدواعنه محيداً ولا مناصاً ‏.‏
          ولذلك لم يبق للمنافقين أن يعاملهم المسلمون بالرفق واللين، وقد أمر اللّه بالتشديد عليهم ، حتى نهى عن قبول صدقاتهم ، وعن الصلاة عليهم ،والاستغفار لهم والقيام على قبرهم ، وأمر بهدم وكرة دسهم وتآمرهم التي بنوها باسمالمسجد ، وأنزل فيهم آيات افتضحوا بها افتضاحاً تاماً ، لم يبق في معرفتهم بعدها أيخفاء ، كأن الآيات قد نصت على أسمائهم لمن يسكن بالمدينة‏ .‏
          ويعرف مدى أثر هذه الغزوة من أن العرب وإن كانت قد أخذت فيالتوافد إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم)بعد غزوةفتح مكة ، بل وما قبلها ، إلا أن تتابع الوفود وتكاثرها بلغ إلى القمة بعد هذهالغزوة‏ .‏
          نزول القرآن حول موضوعالغزوة

          نزلت آيات كثيرة من سورة براءة حول موضوع الغزوة ، نزل بعضها قبل الخروج ، وبعضها بعد الخروج ـ وهو في السفر ـ وبعض آخر منها بعد الرجوع إلى المدينة ، وقد اشتملت على ذكر ظروف الغزوة ، وفضح المنافقين ، وفضل المجاهدين والمخلصين ، وقبول التوبة من المؤمنين الصادقين ، الخارجين منهم في الغزوة والمتخلفين ، إلى غير ذلك من الأمور ‏.‏

          بعض الوقائع المهمة في هذهالسنة

          وفي هذه السنة وقعت عدة وقائع لها أهمية في التاريخ ‏:‏
          1 ـ بعد قدوم رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) من تبوك وقع اللعان بين عُوَيْمِر العَجْلاني وامرأته‏ .‏
          2 ـ رجمت المرأة الغامدية ، التي جاءت فاعترفت على نفسها بالفاحشة ، رجمت بعدما فطمت ابنها ‏.‏
          3 ـ توفي النجاشي أصْحَمَة ، ملك الحبشة ، في رجب ، وصلي عليه رسول الله صلاة الغائب في المدينة ‏.‏
          4 ـ توفيت أم كلثوم بنت النبي(صلى الله عليه وسلم) في شعبان ، فحزن عليها حزناً شديداً ، وقال لعثمان ‏:‏ ‏( ‏لو كانت عندي ثالثة لزوجتكها‏ ) ‏‏.‏
          5 ـ مات رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سَلُول بعد مرجع رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) من تبوك ، فاستغفر له رسول اللّه(صلى الله عليه وسلم) ، وصلى عليه بعد أن حاول عمر منعه عن الصلاة عليه ، وقد نزل القرآن بعد ذلك بموافقة عمر ‏.‏








          تعليق


          • #6
            رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

            أيام العزة و الشرف

            اللهم لا تحرمنا الجهاد في سبيلك و الشهادة على أعتاب أقصاك
            (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة)

            تعليق


            • #7
              رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

              جزاااااااااااااااكِ الله خيراً يا أحلى رشيدة في الدنيا ..........يارب نحشر معا في الجنة ان شاء الله
              سيعود زمن العزة و رب العزة ............فلنصبر و نعمل و نسبق ...
              أسأل الله ان أموت شهيدة على اعتاب الاقصى يارب العالمين ..
              (( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً )) سورة الأحزاب .
              (( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78}وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79}وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80}وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ{81}وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ{82} )) سورة الشعراء .

              تعليق


              • #8
                رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

                جزاكم الله خيرا


                ربنا يرزقككم حبه وحب من يحبه وحب عمل صالح يقربككم الى حبه
                من أجمل ما سمعت

                تعليق


                • #9
                  رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

                  جزاك الله خيرا دكتور خالد والله هى فعلا ايام العزه والشرف وحبيبة قلبى أية الله شكرا ياقمر على مرورك الكريم والاخت روميساء جزاكى الله ك الخير حبيبتى فى الله أحبكم فى الله

                  تعليق


                  • #10
                    رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم

                    سأقوم إن شاء الله بنقل الغزوات هنا لتعم الفائدة
                    (إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة)

                    تعليق


                    • #11
                      رد: غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم



                      السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                      صلى الله عليه وسلم
                      جزاكم الله خيرا
                      ينقل لقسم سير وغزوات
                      اللهم إن أبي وأمي و عمتي في ذمتك وحبل جوارك، فَقِهِم من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر لهما وارحمهما، فإنك أنت الغفور الرحيم.

                      تعليق

                      يعمل...
                      X