نظرات في غزوة تبوك
رُوحِي الفِدَاءُ لِمَنْ أَخْلاقُهُ شَهِدَتْ *** بِأَنَّهُ خَـيْرُ مَبْعُـوثٍ مِنَ البَشَرِ
عَمَّتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ البِـــلادِ كَمَا *** عَمَّ البَرِيَّةَ ضوء الشَّمسِ وَ القَمَرِ
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِــبَرْ *** ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَــبَرْ
بلغ النبي- صلى الله عليه وسلم- أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت ، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم ؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة <مؤتة> التي جلبوا لها مائتيْ ألف ، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل ؛ بل ولا هزيمتهم ، فيا للَّه !!
كنا جبـالا في الجبـال و ربمـا *** صـرنا على موج البحـار بحـارا
يَدعُـو جَهارًا: لا إلهَ سِوى الذِي *** خَلَقَ الوُجُـودَ وقَـدَّرَ الأقْـدَارَا .
يا لله !! هذه أرض سكنها الظَلَمَة ، فقولوا لي -بالله فيمن يجالس الظَلَمَة ، و يؤيد الظَلَمَة ، و يركَن إلى الظَلَمَة ، و يكون لهم أنيسًا و لسانًا و صاحبًا- : كيف يكون حاله ؟ ألا يخاف أن يغضب الله عليه ؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر ( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) و يستسقي الناس من بئر في< ديار ثَمُود> فيقول -صلى الله عليه وسلم- : "لا تشربوا من مائها ، و لا تتوضئوا منه للصلاة ، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل ، و لا تأكلوا منه شيئًا " ففعلوا امتثالا لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم – و مع الغروب يُعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة ، فلا يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له ، حتى تهدأ الريح ، و خالف أمره رَجُلان من المسلمين ، لضَعف في إيمانهم ، خرج أحدهم ليقضي حاجته فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته ، وخرج الآخر في طلب بَعِير له ، فاحْتَمَلته الريح حتى طرحته في< جبال طَيء> ، فدعا رسـول الله -صلى الله عليه وسلم- للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ ، فَشُفِي ، فكانت هذه آية من آيات نبوَّته- صلى الله عليه وسلم- وأمَّا الآخر ، فسُلِّم للنبي- صلى الله عليه وسلم- عند عودته إلى <المدينة> .
لازال - صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى <تَبُوك> ، قد بلغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغًا عظيمًا ، لكن في سبيل الله يهون ، و مع السَّحَرِ ينام من التعب- صلى الله عليه وسلم- على دابَّتِه حتى يكاد يسقط- كما في صحيح مسلم- فيقترب منه [أبو قتادة] ، فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل ، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين ، حتى كاد يسقط ، فيدعمه بيده ، فيرفع رأسه- صلى الله عليه وسلم- و يقول : من هذا ؟ قال : أنا أبو قتادة ، فيُكَافِئَه- صلى الله عليه وسلم ، فبمَّ كافأه ؟ قال : " حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة" . يقول أهل العلم : فوالله مازال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله في أهله و ذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا ، وهذا درس عظيم ، فإن من حفظ الله حفظه الله فلا خوف عليه ، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وينزل –صلى الله عليه وسلم- و المؤمنون منزلا ، يقول عمر : في ذلك المنزل و قد أصابنا عطش عظيم حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعتصر قرته فيشربه ، وتضل راحلة النبي- صلى الله عليه وسلم- و يخرج أصحابه يبحثون عنها ، فيقوم أحد المنافقين ، فيقول : إن محمدًا يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء و هو الآن لا يدري أين ناقته ، و يأتي جبريل رسول الله –صلَّى الله عليه وسلم- بالخبر ، و يقول : إنَّ رجلا منكم يقول : إنَّ محمدًا يزعم أنَّه نبي و يخبركم بأمر السماء و هو لا يدري أين ناقته ، وإني – والله - ما أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها . يقول لهم النبي – صلى الله عليه وسلم- : "هي في هذا الوادي في شعب كذا ، قد حبستها شجرة بزمامها ، فانْطَلِقُوا حتى تأتوني بها" فذهبوا فوجدوها كما ذكر- صلى الله عليه وسلم- وظهرت آية نبوته وفُضِحَ هذا المنافق وطُرِدَ عدو الله من جيش محمد -صلى الله عليه وسلم- ويمضي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى <تبوك> ، ويتخلف عنه بعض المسلمين ، فيقول الصحابة : فلان تخلف يا رسول الله ، فيقول :"دعوه إن يكن فيه خير فسَيُلْحِقَه الله بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه" ، ويتأخر [أبو ذر] ، بعيره هزيل ، أبطأ به بعيره ، فترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره ، وينزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله على الطريق ، وينظر ناظر المسلمين ويقول : يا رسول الله : رجلٌ يمشي على الطريق وحده ، متاعه على ظهره ، فقال- صلى الله عليه وسلم- :" كن أبا ذر كن أبا ذر " فيتأمل الصحابة ، فيقولون هو والله أبو ذرٍ يا رسول الله ، فقال- صلى الله عليه وسلم- :" رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده." ، وتمضي الأيام على هذه المقولة ، وتمضي الأعوام ، و يُنْفَى أبو ذرٍ إلى <الربدة> ، ويحضره الموت هناك ، وليس معه إلا امرأته وغلامه ، وقبل موته أوصاهما : أن يُكَفِّنَاه و يُغَسِّلاه ، و يضعاه على الطريق ، و أول ركب يمر بهم يقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعينونا على دفنه. و يفعلان ذلك ، ويأتي [عبد الله بن مسعود] في رهط من أهل العراق ؛ ليعتمروا و ما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق ، كادت الإبل أن تطأها ، عندها قام غلام أبي ذر و قال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعينونا على دفنه ، فاندفع عبد الله بن مسعود باكيًا يقول : صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- " تمشي وحدك وتموت وحدك." ، ثم نزل هو وأصحابه فدفنوه ، ودموعهم تَهْراق على خدودهم .
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنـها روحٌ تسيل فتَقْــطُرُ
لازالت الأحداث المثيرة تتوالى في <تبوك> يقول [ابن مسعود] -رضى الله عنه-: "ونِمْنًا تلك الليلة وانتبهت وسط الليل ، فالتفت إلى فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم أجده ، إلى فراش أبي بكر فلم أجده ، إلى فراش عمر فلم أجده ، و إذ بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر ، فذهبت أتبعها ؛ فإذا برسول –الله صلى الله عليه وسلم- قد حفر قبرًا و معه أبو بكر وعمر. و عند رسول- الله صلى الله عليه وسلم- سراج بيده قد نزل إلى القبر قال : قلت يا رسول الله من الميت ؟ قال هذا أخوك [عبد الله ذو البجادين]. "من هو ؟ إنه أحد الصحابة حلت به سكرات الموت بالليل ، فقام- صلى الله عليه وسلم- و شهد موته و ودعه و دعا له و حفر قبره بيده الشريفة و أيقظ أبا بكر و عمر. يقول ابن مسعود :" فو الذي لا إله إلا هو- ما نسيت قوله – صلى الله عليه وسلم - و هو في القبر ، و قد مد ذراعيه لذي البجادين ، و هو يقول لأبي بكر و عمر:" أدنيا إليَ أخاكما فدلياه في القبر و دموعه –صلى الله عليه وسلم- تتساقط على الكفن. ثم وقف –صلى الله عليه وسلم- لما وضعه في القبر رافعا يديْه مستقبلا القبلة يقول: اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه ، اللهم إني أمسيت عنه راضيًا ، فارض عنه. يقول ابن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة ، لأنال دعاءه –صلى الله عليه وسلم-". من هو [ذو البجادين] ؟ إنه صحابي جليل ، أسلم و كان تاجرًا ، فأخذ أهله و قومه ماله كله ؛ لأنه آمن وهم يريدون له الكفر ، أخذوا حتى لباسه ، فذهب فما وجد لباسًا غير شملة قطعها إزارًا و رداء – بجادين-، و فر بدينه يريد الله و الدار الآخرة . قدم على المصطفى-صلى الله عليه وسلم- ذو البجادين- ، وأُخبِرَ صلى الله عليه وسلم بخبره ،" فقال: تركت مالك لله ورسوله ، أبدلك الله ببجاديْك إزارًا ورداء في الجنة ، أنت ذو البجادين". فلُقِّب من تلك اللحظة بذي البجادين ، و كان مصرعه في <تبوك> ، و مضى الركب وخلفوه هناك ، لكنهم يجتمعون معه في جنة عرضها السماوات و الأرض. ( يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ) و يقيم –صلى الله عليه وسلم- بـ<تبوك> و يدنو من الروم و يفزعهم ، و يكاتب رسلهم ، و يفرض عليهم الجزية ، و هم صاغرون ، و لم يلق كيدًا منهم ، لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر ، فلم يقرب إليه الروم خوفًا و فزعًا ، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره. ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) و يرسل –صلى الله عليه وسلم- [خالدًا] على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى [أُكيْدِر] ملك <دومة الجندل> ، و يخبر –صلى الله عليه وسلم- خالدًا أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش ، خرج خالد ، ولما بلغ قريبًا من حصنه ، وجده قد خرج للصيد ، كما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، فتلقته خيل الله بقيادة خالد ، فاستأسرته ، واستلب خالد منه قباء مخوصًا بالذهب –قميصًا مخوصًا بالذهب- ، و بعث به إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل قدومه عليه ، فجعل المسلمون يتعجبون من هذا القباء ، فقال –صلى الله عليه و سلم- مُزهِّدًا لهم في زخرف الدنيا : "أتعجبون من هذا ؟ لَمناديل [سعد بن معاذ] في الجنة خير من هذا". قدم خالد بـ[الأكيدر] ، و حقن دمه –صلى الله عليه وسلم- و ضرب عليه الجزية ، ولكنه مجرم ، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه ، نقض العهد في عهد أبي بكر ، فقتله خالد–رضي الله عنه وأرضاه- . وهكذا نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا ، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.
عباد الله: ويعود –صلى الله عليه وسلم- إلى <المدينة> ، بعد إرهاب أعداء الله من نصارى و يهود و مشركين ، يعود في يوم بهيج ، لتستقبله <المدينة> ، لتستقبل نور بصرها –صلى الله عليه وسلم- يخرج الأطفال في فرح ، ليصطفُّوا إلى مداخل المدينة ، و على أفواه الطرقات ، ليستقبلوا رسول البرية –صلى الله عليه وسلم- أصواتهم -كما حقق [ابن القيم] عليه ر حمه الله طلعَ البدرُ علينَا *** مِن ثنيَّات الوداعْ وجَب الشكر علينَا *** ما دَعا لله دَاعْ
- :
أيها المبعُوث فينَا *** جئتَ بالأمرِ المُطاعْ
جئتَ شرَّفت المدينةْ *** مرحبًا يا خيرَ داعْ
اللهم أنت الناصر لدينك ، و المعز لأوليائك ؛ افتح لنا فتحًا مبينًا ، انصرنا نصرًا عزيزًا ، و اجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا ، اللهم ثبِّت أقدامنا ، وزلزل أعداءنا ، اللهم أدخل الرعب في قلوبهم ، واستأصل شأفتهم ، و اقطع دابرهم ، وأَبِدْ خضراءهم ، و اجعل تدبيرهم تدميرهم ، و أورثنا أرضهم ، و ديارهم و أموالهم ، و كن لنا وليًا ، و بنا حفيًّا. يا من نصرت بماض ضعف أمتنا على الطواغيت عجل نصرنا الثاني . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم.
تعليق