إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

غزوة بدر الكبرى

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غزوة بدر الكبرى

    غزوة بدر الكبرى



    لهذه الغزوة الفاصلة في تاريخ الدعوة الإسلامية ، والمعنون لها في القرآن بيوم بدر اسم مدينة تبعد عن المدينة النبوية بمائة وخمسين كيلو متراً ، وقد كانت قبل وداياً به بئر يملكها رجل يقال له بدر ، ووقعت غزوة بدر فسميت غزوة بدر .
    الفرقان لها خطوا قبل الإلتقاء فيه ، وله أحداث جسام عنده وبعده وهذه هي الخطوات التي تمت من الجانبين الإيماني والكفري أو التوحيدي والشركي .
    قافلة تجارية كبرى لقريش خرجت من الشام يقودها أبو سفيان ورجاله في طريقها إلى مكة المكرمة. يصل خبر القافلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينتدب بعض أصحابه لاعتراضها إذا مرت بالحجاز لعل الله تعالي ينفلهم إياها أي يرزقهم ما تحمله من بضائع وسع نافعة وعظيمة ، وهم أحوج ما يكون إلى ذلك لأن أموالهم تركوها بمكة وفروا بأنفسهم مهاجرين فصادرتها قريش منهم ولنستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم ( هذه عبر قريش فيها أموالهم فأخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها) فخف بعض ،وثقف بعض لأن الأمر ما كان ملزماً وإنما هو مجرد عرض لا غير ، كما أنهم كانوا يظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيواجه حرباً ويلقي قتالا.
    أبو سفيان يدنو من الحجاز بقافلته ، وها هو يتحسس الأخبار ويسأل كل من يلقي من الركبان خوفاً من محمد صلى الله عليه وسلم وفعلا أصاب خبراً من بعض الركبان مفاده أن محمد صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه له ولعيره فقوى بذلك خوف أبي سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفارى وبعثه إلى مكة ليستنفر قريشاً فيخرجوا لحماية عبرهم التي بها أموالهم .
    وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه وذلك يوم الاثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان ، واستعمل على المدينة عبدالله بن مكتوم إلا أنه رد أبا لبابه من الروجاء ، واستعمله على المدينة ، وأعطي اللواء مصعب بن عمير وكان أمامه صلى الله عليه وسلم رأيتن سوداوان : العقاب وكانت مع على بن أبي طالب والأخري مع بعض الأنصار ،وكان معهم سبعون بعيراً يعتقبونها وهم ثلثمائة وأربعة عشر رجلا وليس معهم إلا فرسان فرس الزبير بن العوام وفر المقداد بن عمرو .
    وقد أتاه صلى الله عليه وسلم الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم ، فاستشار ثم قام عمر فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول أمض لما أمرك الله به فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسي (أذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) ولكن نقول أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . فوالدي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى ربك الغماد لجالدنا معك من دونه ،حتى بلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اشيروا على أيها الناس) فوقف سعد بن معاذ وقال : والله لكأنك تعنينا يا رسول الله قال (أجل) فقال سعد : فقد أمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا فامض يا رسول الله لما أردت ونحن معك فالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا احد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداًَ إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركه الله فسر الرسول صلى الله عليه وسلم لقول سعد ونشطه فقال : (سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن انظر إلى مصارع القوم )

    تدبير حربي :
    وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصحاب نزول ، وركبا ليمسحا المنطقة التي نزلوا بها تعرفا إلى ماء في المنطقة وتطلعا إلى أخبار العدو ( العير والقريش ) معاً فعثراً على شيخ يقال له : سفيان الضمرى ،فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ،ماذا يعرف عنهم فقال الرجل .لا أخبركما حتى تخبرني من صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا أخبرتنا أخبرناك ) فى هذا القول من الحيطة والاحتراس ما فيه ، فقال الشيخ أذاك بذاك فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم فقال ) الشيخ مخبراً قد بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن صدق الذي أخبرنني فهم اليوم في مكان كذا وكذا للمكن الذي نزله به رسول الله واصحابه ، وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن صدقني الذي أخبرني فهم الآن بمكان كذا وكذا ، إشارة إلى المكان الذي هم الآن به وهو العدوه القصوى ،ثم قال وأنتما فقال صلى الله عليه وسلم (نحن من ماء) أي من جنس الماء الذي خلقنا منه لقوله تعالي ( وجعلنا من الماء كل شئ حي) فكانت منه صلى الله عليه وسلم توريه حسنة يطلبها الموقف .
    فاخذ الشيخ يردد كلمة من ماء محتاراً في هذه النسبة ، أمن ماء العراق هما أم من ماء كذا وعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المعسكر الإسلامي .
    إلا أن أبا سفيان لحذره وشده توقعه تقدم العير إلى ماء بدر فوصلة ووجد مجدياً فسأله قائلا هل أحست أحداً قال ما رأيت أحداً أنكره إلا أني رأيت راكبين أناخاً إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا فأتي أبو سفيان مناخهما واخذ من بعر ناقتهما ففتته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فرجع إلى العير سريعاً وبذلك نجت العير بكل ما فيها .
    وأرسل أبو سفيان إلى قريش يخبرهم أن العير قد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نريد بدراً ، وكانوا بالجحفة فنقيم عليها ثلاثاً فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان ،وتسمع بنا العرب وترى مسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا .

    عودة إلى المعسكر الإسلامي :
    ونظر الحباب بن المنذر إلى المكان الذي نزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم باصحابه . فرآه غير لائق عسكرياً ، فتقدم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل امنزلا انزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ، قال (بل هو الرأي والحرب والمكيدة ) فقال : يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى بالناس حتى نأتي أدني ماء من القوم فننزله ، ثم نغور ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لقد أشرت بالرأي ) فنهض رسول الله بالمسلمين وسار إلى أدني ماء من القوم فنزل عليه ، ثم أمر بالقلب فغورت ،وبني حوضاً على القلب الذي نزل عليه فملؤوه ماء ثم قذفوا فيه الآنية.

    في معسكر الكفر :
    ولما استقرت قريش في معسكر وكانت قد اقتربت نحو الوادي ، بعثت عمير بن وهب الجمحي يحرز لها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فاجال فرسه حول المعسكر الإسلامي ثم رجع فقال ثلثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى انظر ما اذا كان للقوم كمين أو مدد وضرب في حتى أبعدهم فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئاً ولكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليست لهم منعه ولا ملجاً إلا سيوفهم ، والله ما أري أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رايكم.

    في معسكر الإسلام :
    وشرع القائد الاعظم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم في تعديل صفوف أصحابه ، وكان بيده فدح ، يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية وهو مستثل من الصف فطعن في بطنه بالقدح وقال ( استو يا سواد) فقال سواد يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فاقدتني من نفسك فكشف له صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال له (استقد)فاعتنقه يقبل بطنه ، فقال له ( ما حملك على هذا يا سواد قال يا رسول الله حضر ماتري فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير .
    وبعد أن عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف رجع إلى العريش. فدخله ومعه أبوبكر الصديق ليس معه فيه غيره ، وقام الحبيب صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول (اللهم إن تهلك هذا العصابة اليوم لا تعبدها بعدها في الارض ) وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول : (اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم نصرك ) ويرفع يديه إلى السماء حتى يسقط الرداء عن منكبيه ، وجعل أبوبكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه ويسوى عليه رداءه ويقول مشفقاً عليه من كثرة الإبتهال : يا رسول الله بعض مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك ، ,خفق النبي صلى الله عليه وسلم خفقة أي إغفاءه قليله ثم أنبته منها فقال : أبشر يا أبا بكر بكر أتاك نصر الله هذا جبريل اخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع أي الغبار .

    التقاء
    في صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية من الهجرة تلاقي فريق التوحيد مع فريق الشرك ، وقد قلل كلا من الفريقين في عين الآخر جاء هذا في قول الله تعالي من سورة الأنفال (واذ يريكموهم إذ التقيتم في اعنكم قليلا ويقللكم في اعينهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ).
    وبدأت المعركة فرمي المشركون مهجعاً مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بسهم فكان أول قتيل من المسلمين في المعركة ،ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدى بن النجار وهو يشرب من ماء الحوض بسهم فاصاب نحرة فقتل وهو الذي جاءت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاد إلى المدينة وقالت يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت ، وإلا فليرين الله ما أصنع تريد من البكاء والنياحة عليه ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم (ويحك أهبلت) إنها جنان ثمان وغن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ) وخرج من معسكر المشركين الأسود بن عبدالأسد المخزومي وكان رجلا شرساً سيئ الخلق .



  • #2
    غزوة بدر الكبرى.؟.؟.؟.

    :LLL:

    سبب الغزوة

    قد أسلفنا في ذكر غزوة العشيرة أن عيراً لقريش أفلتت من النبي (صلى الله عليه وسلم) في ذهابها من مكة إلى الشام ، ولما قرب رجوعها من الشام إلى مكة بعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال ، ليقوما باكتشاف خبرها ، فوصلا إلى الحوراء ومكثا حتى مر بهما أبو سفيان بالعير ، فأسرعا إلى المدينة ، وأخبرا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالخبر .

    كانت العير مركبة من ثروات طائلة من أهل مكة ، ألف بعير موقرة بالأموال لا تقل عن خمسين ألف دينار ذهبي ، ولم يكن معها من الحرس إلا نحو أربعين رجلاً .
    إنها فرصة ذهبية لعسكر المدينة ، وضربة عسكرية وسياسية واقتصادية قاصمة ضد المشركين لو انهم فقدوا هذه الثروة الطائلة ، لذلك أعلن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المسلمين قائلاً : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها .
    ولم يعز على أحد الخروج ، بل ترك الأمر للرغبة المطلقة ، لما أنه لم يكن يتوقع عند هذا الانتداب أن سيصطدم بجيش مكة _ بدل العير _ هذه الاصطدام العنيف في بدر ، ولذلك تخلف كثير من الصحابة في المدينة ، وهم يحسبون أن مضي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذا الوجه لن يعدوا ما ألفوه في السرايا الماضية ، ولذلك لم ينكر على أحد تخلفه في هذه الغزوة .


    مبلغ قوة الجيش الإسلامي وتوزيع القيادات

    واستعد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) للخروج ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ( 313،، 314، 317) ، 82 أو 83 أو 86 من المهاجرين ، و 61 من الأوس و 170 من الخزرج . ولم يحتفلوا لهذا الخروج احتفالاً بليغاً ، ولا اتخذوا أهبتهم كاملة ، فلم يكن معهم إلا فرسان ، فرس للزبير بن العوام ، وفرس للمقداد بن الأسود الكندي ، وكان معهم سبعون بعيراً ليعتقب الرجلان والثلاثة على بعير واحد ، وكان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وعليّ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً واحداً.
    واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم ، فلما كان بالروحاء ردّ أبا لبابة بن عبد المنذر واستعمله على المدينة .
    ودفع لواء القيادة العامة إلى مصعب بن عمير القرشي العبدري ، وكان هذا اللواء أبيض .
    وقسم جيشه إلى كتيبتين :


    1_ كتيبة المهاجرين ، وأعطي علمها علي بن أبي طالب .
    2_ كتيبة الأنصار ، وأعطى علمها سعد بن معاذ .


    وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام ، وعلى الميسرة المقداد بن عمرو _ وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش كما أسلفنا _ وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة ، وظلت القيادة العامة في يده(صلى الله عليه وسلم) كقائد أعلى للجيش .


    الجيش الإسلامي يتحرك نحو بدر
    سار رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في هذا الجيش غير المتأهب ، فخرج من نقب المدينة ، ومضى على الطريق الرئيسي المؤدي إلى مكة ، حتى بلغ بئر الروحاء ولما ارتحل منها ، ترك طريق مكة بيسار وانحرف ذات اليمين على النازية ( يريد بدراً ) فسلك في ناحية منها ، حتى جذع وادياً يقال له رحقان ، بين النازية وبين مضيق الصفراء ، ثم مر على المضيق ، ثم انصب منه حتى قرب من الصفراء وهنالك بعث بسيس بن عمر الجهني وعدي بن أبي الزغباء الجهني إلى بدر يتجسسان له أخبار العير .


    النذير في مكة
    وأما خبر العير فإن أبا سفيان _ وهو المسؤول عنها _ كان على غاية من الحيطة والحذر ، فقد كان يعلم أن طريق مكة محفوف بالأخطار ، وكان يتحسس الأخبار ، ويسـأل من لقي من الركبان ، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً(صلى الله عليه وسلم) قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير وحينئذ استأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة ، مستصرخاً لقريش بالنفير إلى عيرهم ليمنعوه من محمد(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه .
    وخرج ضمضم سريعاً حتى أتى مكة ، فصرخ ببطن الوادي اقفاً على بعيره ، وقد جدع أنفه وحول رحله وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش اللطيمة ، اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث .



    أهل مكة يتجهزون للغزو
    فتحفز الناس سراعاً ، وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي ؟ كلا ، والله ليعلمن غير ذلك ، فكانوا بين رجلين ، إما خارج ، وإما باعث مكانه رجلاً وأوعبوا في الخروج فلم يتخلف من أشرافهم أحد سوى أبي لهب ، فإنه عوض عنه رجلاً كان له عليه دين ، وحشدوا من حولهم من قبائل العرب ، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي ، فلم يخرج منهم أحد .


    قوام الجيش المكي
    وكان قوام هذا الجيش نحو ألف وثلاثمائة مقاتل في بداية سيره ، وكان معه مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بالضبط ، وكان قائده العام أبا جهل بن هشام ، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش ، فكانوا ينحرون يوما تسعاً ويوماً عشراً من الإبل .


    مشكلة قبائل بني بكر
    ولما أجمع هذا الجيش على المسير ، ذكرت قريش ما كان بينها وبين بني بكر من العداوة والحرب ، فخافوا أن تضربهم هذه القبائل من الخلف ، فيكونوا بين نارين ، فكاد ذلك يثنيهم ، ولكن حينئذ تبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي _ سيد بني كنانة _ فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه .

    جيش مكة يتحرك
    وحينئذ خرجوا من ديارهم ، كما قال الله : "بطراً ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله "وأقبلوا كما قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) "بحدهم وحديدهم ، يحادون الله ويحادون رسوله "وقال تعالى "وغدوا على حردٍ قادرين "وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ، لا جتراء هؤلاء على قوافلهم .
    تحركوا بسرعة فائقة نحو الشمال في إتجاه بدر ، وسلكوا في طريقهم وادي عسفان ، ثم قديد ، ثم الجحفة ، وهناك تلقوا رسالة جديدة من أبي سفيان يقول لهم فيها : إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، وقد نجاها الله فارجعوا .


    العير تفلت

    وكان من قصة أبي سفيان أنه كان يسير على الطريق الرئيسي ولكنه لم يزل حذراً متيقظاً ، وضاعف حركاته الاستكشافية ، ولما اقترب من بدر تقدم عيره ، حتى لقي مجدي بن عمرو ، وسأله عن جيش المدينة ، فقال : ما رأيت أحداً أنكره ، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا ، فبادر أبو سفيان إلى مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيرهما ، ففته ، فإذا فيه النوى ، فقال : هذا والله علائف يثرب ، فرجع إلى عيره سريعاً ، وضرب وجهها محولاً اتجاهها نحو الساحل غرباً ، تاركاً الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار . وبهذا نجا بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة ، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها في الجحفة .


    هم الجيش المكي بالرجوع ووقوع الانشقاق فيه:
    ولما تلقى هذه الرسالة جيش مكة هم بالرجوع ، ولكن قام طاغية قريش أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلاً : والله لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان ، وتسمع بنا بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً .
    ولكن على رغم أبي جهل أشار الأخنس بن شريق بالرجوع فعصوه ، فرجع هو وبنو زهرة _وكان حليفاً لهم ورئيساً عليهم في هذا النفير _ فلم يشهد بدراً زهري واحد ، وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل واغتبطت بنوزهرة بعد رأي الأخنس بن شريق ، فلم يزل فيهم مطاعاً معظماً .
    وأرادت بنو هاشم الرجوع ، فاشتد عليهم أبو جهل ، وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع .
    فسار بالجيش مكة وقوامه ألف مقاتل بعد رجوع بني زهرة _ وهو يقصد بدراً _ فواصل سيره حتى نزل قريباً من بدر ، وراء كثيب يقع بالعدوة القصوى على حدود وادي بدر .




    حراجة موقف الجيش الإسلامي
    أما استخبارات جيش المدينة فقد نقلت إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) _ وهو لا يزال في الطريق بوادي ذفران _ خبر العير والنفير ، وتأكد لديه بعد التدبر في تلك الأخبار أنه لم يبق مجال للاجتناب عن لقاء دام ، وأنه لا بد من إقدام يبنى على الشجاعة والبسالة ، والجراءة ، والجسارة فمما لا شك فيه أنه لو ترك جيش مكة يجوس خلال تلك المنطقة يكون ذلك تدعيماً لمكانة قريش العسكرية ، وامتداداً لسلطانها السياسي ، وإضعافاً لكلمة المسلمين وتوهيناً لها ، بل ربما تبقى الحركة الإسلامية بعد ذلك جسداً لا روح فيه ، ويجرؤ على الشر كل من فيه حقد أو غيظ على الإسلام في هذه المنطقة .
    وبعد هذا كله فهل يكون هناك أحد يضمن للمسلمين أن يمنع جيش مكة عن مواصلة سيره نحو المدينة ، حتى ينقل المعركة إلى أسوارها ، ويغزو المسلمين في عقر دارهم . كلا ، فلو حدث من جيش المدينة نكول ما لكان له أسوأ الأثر على هيبة المسلمين وسمعتهم .




    المجلس الاستشاري

    ونظراً إلى هذا التطور الخطير المفاجئ عقد رسول الله(صلى الله عليه وسلم) مجلساً عسكرياً استشارياً أعلى ، أشار فيه إلى الوضع الراهن ، وتبادل فيه الرأي مع عامة جيشه ، وقادته ، وحينئذ تزعزع قلوب فريق من الناس ، وخافوا اللقاء الدامي ، وهم الذين قال الله فيهم "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون (5) يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون "وأما قادة الجيش ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : (( يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه )) فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خيراً ودعا له به .

    ((أصل القصة رواها البخاري، كتاب التفسير))
    وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين ، وهم أقلية في الجيش ، فأحب رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يعرف رأي الأنصار ، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش ولأن ثقل المعركة سيدور على كواهلهم ، مع أن نصوص العقبة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج ديارهم ، فقال بعد سماع كلام هؤلاء القادة الثلاثة : (( أشيروا علي أيها الناس )) وإنما يريد الأنصار ، وفطن إلى ذلك قائد الأنصار وحامل لوائهم سعد بن معاذ ، فقال :
    والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟
    قال : أجل
    قال : (( فقد آمنا بك ، فصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً ، إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء ، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله )). رواه مسلم (1779)


    وفي رواية أن سعد بن معاذ قال لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) : لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم ، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم ، فاظعن حيث شئت ، وصل حبل من شئت ، واقطع حبل من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، وأعطنا ما شئت ، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت ، وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك ، فو الله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك ، و والله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معـــك .
    فسر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بقول سعد ، ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين : والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم .البداية والنهاية (5/69) بإسناد صحيح



    الجيش الإسلامي يواصل سيره

    ثم ارتحل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من ذفران ، فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ، ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية ، وترك الحنان بيمين _ وهو كثيب عظيم كالجبل _ ثم نزل قريباً من بدر .




    الرسول(صلى الله عليه وسلم) يقوم بعملية الاستكشاف
    وهناك قام بنفسه بعملية الاستكشاف مع رفيقه في الغار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وبينما هما يتجولان حولا معسكر مكة ، إذا هما بشيخ من العرب ، فسأله رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن قريش وعن محمد وأصحابه _ سأل عن الجيشين زيادة في التكتم _ ولكن الشيخ قال : لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : إذا أخبرتنا أخبرناك ، قال : أو ذاك بذلك ؟ قال : نعم .
    قال الشيخ : فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهو اليوم بمكان كذا وكذا _ للمكان الذي به جيش المدينة _ وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا ، فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا _ للمكان الذي به جيش مكة .
    ولما فرغ من خبره قال : ممن أنتما ؟ فقال له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) نحن من ماء ، ثم انصرف عنه وبقي الشيخ يتفوه ، من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟
    سيرة ابن هشام (2/228)



    الحصول على أهم المعلومات عن الجيش المكي
    وفي مساء ذلك اليوم بعث استخباراته من جديد ، ليبحث عن أخبار العدو ، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين ، علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه ، ذهبوا إلى ماء بدر ، فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة ، فألقوا عليهما القبض وجاءوا بهما إلى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وهو في الصلاة ، فاستخبرهما القوم ، فقالا : نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء ، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان _ لا تزال في نفوسهم بقايا أمل في الاستيلاء على القافلة _ فضربوهما موجعاً ، حتى اضطر الغلامان أن يقولا : نحن لأبي سفيان ، فتركوهما .

    ولما فرغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) عن الصلاة قال لهم كالعاتب : إذ صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا والله ، إنهما لقريش .
    ثم خاطب الغلامين قائلاً : أخبراني عن قريش ، قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال لهما : كم القوم ؟ قالا : كثير . قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف ، ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو البخترى بن هشام ، وحكيم بن حزام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر ، وطعيمة بن عدي ، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف في رجال سمياهم .
    فأقبل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على الناس ، فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها .
    رواه مسلم (1404)




    نزول المطر

    وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطراً واحداً ، فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التقدم ، وكان على المسلمين طلا طهرهم به ، وأذهب عنهم رجس الشيطان ، ووطأ به الأرض ، وصلب به الرمل ، وثبت الأقدام ، ومهد به المنزل ، وربط به على قلوبهم .




    الجيش الإسلامي يسبق إلى أهم المراكز العسكرية

    وتحرك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بجيشه ، ليسبق المشركين إلى ماء بدر ، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه ، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر ، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقــال : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلاً أنزلكه الله ، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، قال : يا رسول الله ، فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم _ قريش _ فننزله وتغور _ أي نخرب _ ما وراءه من القلب ، ثم نبني عليه حوضاً ، فنملأه ماء ، ثم نقاتل القوم ، فنشرب ولا يشربون ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : لقد أشرت بالرأي .
    فنهض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالجيش ، حتى أتى أقرب ماء من العدو ، فنزل عليه شطر الليل ، ثم صنعوا الحياض ، وغوَّروا ما عداها من القلب .
    ((وهذه القصة تتقوى وترتفع إلى درجة الحسن انظرمرويات غزوة بدرص (164))



    مقر القيادة
    وبعد أن تم نزول المسلمين على الماء اقترح سعد بن معاذ على رسول الله(صلى الله عليه وسلم) أن يبني المسلمون مقراً لقيادته ، استعداداً للطوارئ ، وتقديراً للهزيمة قبل النصر ، حيث قال : (( يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقي عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم ، يناصحونك ، ويجاهدون معك ))
    فأثنى عليه رسول الله(صلى الله عليه وسلم) خيراً ، ودعا له بخير ، وبنى المسلمون عريشاً على تل مرتفع يقع في الشمال الشرقي لميدان القتال ، ويشرف على ساحة المعركة . سيرة ابن هشام (2/233)
    كما تم انتخاب فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ ، يحرسون رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حول مقر قيادته .



    تعبئة الجيش وقضاء الليل
    ثم عبأ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) جيشه ، ومشى في موضع المعركة ، وجعل يشير بيده : هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله ، وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله .رواه مسلم (2873)
    ثم بات رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يصلي إلى جذع شجرة هنالك ، وبات المسلمون ليلهم هادئ الأنفاس منير الآفاق ، غمرت الثقة قلوبهم ، وأخذوا من الراحة قسطهم ، يأملون أن يروا بشائر ربهم بعيونهم صباحاً "إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام "
    كانت هذه الليلة ليلة الجمعة ، السابع عشر من رمضان في السنة الثانية من الهجرة ، وكان خروجه في 8 أو 12 من نفس الشهر .




    الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الانشقاق فيه

    أما قريش ، فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى ، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها ، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر ، وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فقال : دعوهم فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل ، سوى حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، وأسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال : لا والذي نجاني من يوم بدر ، فلما اطمأنت قريش بعث عمير بن وهب الجمحي ، للتعرف على مدى قوة جيش المدينة ، فدار عمير بفرسه حول العسكر ، ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل ، يزيدون قليلاً أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئاً فرجع إليهم فقال : ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادكم ، فما خير العيش بعد ذلك ، فروا رأيكم .




    وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل _ المصمم على المعركة _ تدعوا إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال ، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس ، وأتى عتبة بن ربيعة فقال : يا أبا الوليد إنك كبير قريش ، وسيدها والمطاع فيها ، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي _ المقتول في سرية نخلة _ فقــال : عتبة : قد فعلت ، أنت ضامن علي بذلك ، إنما هو حليفي فعلي عقله ديته وما أصيب من ماله .
    ثم قال عتبة لحكيم بن حزام ، فأت ابن الحنظلية _ أبا جهل ، والحنظلية أمه _ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره .




    ثم قام عتبة بن ربيعة خطيباً فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه لا يزال ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته ، فارجعوا وخلوا بن محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون .
    وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل _ وهو يهيئ درعاً له _ قال يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ، فقال أبو جهل : انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه ، كلا ، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه رأى أن محمداً وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه _ وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديماً وهاجر _ فتخوفكم عليه .




    ولما بلغ قول أبي جهل : (( انتفخ والله سحره )) قال عتبة : سيعلم من انتفخ سحره ، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل مخافة أن تقوى هذه المعارضة ، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي _ أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش _ فقال : هذا حليفك ( أي عتبة ) يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ، ومقتل أخيك ، فقام عامر ، فكشف عن استه ، وصرخ : واعمراه واعمراه فحمي القوم ، وحقب أمرهم ، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة . وهكذا تغلب الطيش على الحكمة وذهبت هذه المعارضة دون جدوى .




    الجيشان يتراءان

    ولما طلع المشركون ، وترآى الجمعان قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) "اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغــداة ". البداية والنهاية (5/83) بهذااللفظ وأصل القصة رواها البخاري(3953)
    وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) _ ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر _ إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا .
    وعدل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) صفوف المسلمين ، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب ، فقد كان في يده قدح يعدل به ، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من الصف ، فطعن في بطنه بالقدح وقـــال : " استو يا سواد " ، فقال سواد : يا رسول الله أوجعتني فأقدني ، فكشف عن بطنه ، وقـــال : استقد ، فاعتنقه سواد ، وقبل بطنه ، فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله قد حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك . فدعا له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بخير .
    رواه ابن إسحاق في سيرته ، وعبد الرزاق في مصنفه .


    ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بأن لا يبدأوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة ، ثم أدلى إليهم بتوجيه خاص في أمر الحرب فقال : " إذا أكثبوكم _ يعني كثروكم _ فارموهم ، واستبقوا نبلكم_ رواه البخاري _ ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم " _ وهذه الزيادة عند أبي داود وضعفها الألباني ، ضعيف سنن أبي داود (2664) _، ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة ، وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش .



    أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه الغداة ، اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم ، وفي ذلك أنزل الله "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين "




    ساعة الصفر وأول وقود المعركة.

    وكان أول وقود المعركة الأسود بن عبد الأسد المخزومي _ وكان رجلاً شرساً سيء الخلق _ خرج قائلاً : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه . فلما خرج إليه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قلما التقيا ضربه حمزة ، فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد أن تبر يمينه ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض .


    المبارزة
    وكان هذا أول قتل أشعل نار المعركة ، فقد خرج بعده ثلاثة من خيرة فرسان قريش كانوا من عائلة واحدة ، وهم عتبة وأخوه شيبة ابنا ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فلما انفصلوا من الصف طلبوا المبارزة فخرج إليهم ثلاثة من شباب الأنصار ، عوف ومعوذ ابنا الحارث _ وأمهما عفراء _ وعبد الله بن رواحه ، فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : رهط من الأنصار . قالوا : أكفاء كرام ، مالنا بكم حاجة ، وإنما نريد بني عمنا ، ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم ؟ فأخبروهم ، فقالوا : أنتم أكفاء كرام ، فبارز عبيدة _ وكان أسن القوم _ عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة ، وبارز علي الوليد ، فأما حمزة وعلي فلم يمهلا قرنيهما أن قتلاهما ، وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرنه ضربتان ، فأثخن كل واحد منهما صاحبه ، ثم كر علي وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة ، وقد قطعت رجله ، فلم يزل صمتاً حتى مات بالصفراء بعد أربعة أو خمسة أيام من وقعة بدر ، حينما كان المسلمون في طريقهم إلى المدينة .
    وكان علي يقسم بالله أن هذه الآية نزلت فيهم : "هذان خصمان اختصموا في ربهم "
    أصل القصة رواها البخاري (4374/4375)



    الهجوم العام
    وكانت نهاية هذه المبارزة بداية سيئة بالنسبة إلى المشركين ، فقدوا ثلاثة من خيرة فرسانهم وقادتهم دفعة واحدة ، فاستشاطوا غضباً ، وكروا على المسلمين كرة رجل واحد .
    وأما المسلمون فبعد أن استنصروا ربهم ، واستغاثوه ، وأخلصوا له ، وتضرعوا إليه تلقوا هجمات المشركين المتوالية ، وهم مرابطون في مواقعهم ، واقفون موقف الدفاع ، وقد ألحقوا بالمشركين خسائر فادحة ، وهم يقولون : أحد أحد .




    الرسول(صلى الله عليه وسلم) يناشد ربه


    وأما رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فكان منذ رجوعه بعد تعديل الصفوف يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول : "اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ". حتى إذا حمي الوطيس واستدارت رحى الحرب بشدة ، واحتدم القتال ، وبلغت المعركة قمتها ، قال : "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً ". وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فرده عليه الصديق ، وقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربك .رواه مسلم (1763)
    وأوحى الله إلى ملائكته "‏أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ "وأوحى إلى رسوله : "‏أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ "أي ردف لكم ، أو يردف بعضهم بعضاً إرسالاً ، لا يأتون دفعة واحدة .




    نزول الملائكة
    وأغفى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) إغفاءة واحدة ، ثم رفع رأسه فقال : أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع ( أي الغبار ) وفي رواية محمد بن إسحاق : قال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : "أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده ، على ثناياه النقع " رواه البخاري (3995)
    ثم خرج رسول الله(صلى الله عليه وسلم) من باب العريش ، وهو يثب في الدرع ويقول : "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ "ثم أخذ حفنة من الحصباء ، فاستقبل بها قريشاً وقال : شاهت الوجوه ، ورمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة ، وفي ذلك أنزل الله : "‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى ".



    الهجوم المضاد
    وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال : "شدوا "، وحرضهم على القتال ، قائلاً : "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة "وقال وهو يحضهم على القتال : "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض "، ( وحينئذ ) قال العمير بن الحمام : بخ بخ ، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) : ما يحملك على قولك : بخ بخ ؟ قال : لا ، والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال : فإنك من أهلها . فأخرج تمرات من قرنه ، فجعل يأكل منهن ، ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة ، فرمى بما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل .رواه مسلم (1901)
    وكذلك سأله عوف بن الحارث _ ابن عفراء _ فقال : يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ! قال غمسه يده في العدو حاسراً ، فنزع درعاً كانت عليه ، فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .
    رواه ابن أبي شيبة (19499) من طريق معاذ بن عفراء .



    وحين أصدر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) الأمر بالهجوم المضاد كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت ، وفتر حماسه ، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين ، فإنهم حينما تلقوا أمر الشد والهجوم _ وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه _ قاموا بهجوم كاسح مرير ، فجعلوا يقلبون الصفوف ، ويقطعون الأعناق ، وزادهم نشاطاً وحدة أن رأوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يثب في الدرع في جزم وصراحة "‏سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ "فقاتل المسلمون أشد القتال ، ونصرتهم الملائكة .


    ففي رواية ابن سعد عن عكرمة قال : كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه ، وتندر يد الرجل لا يدري من ضربها ، وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه ، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة .
    وقال أبو داود المازني : إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيري .رواه مسلم (1763) .


    وجاء رجل من الأنصار للعباس بن عبد المطلب أسيراً ، فقال العباس : إن هذا والله ما أسرني ، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ، وما أراه في القوم ، فقال الأنصاري : أنا أسرته يا رسول الله ، فقال : أسكت فقد أيدك الله بملك كريم .
    أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (6/76) وقال : رواه أحمد والبزارورجال أحمدرجال الصحيح غيرحارثة بن مضرب وهو ثقة .



    إبليس ينسحب عن ميدان القتال
    ولما رأى إبليس ـ وكان قد جاء في صورة سراقة بن مالك بن جُعْشُم المدلجي كما ذكرنا ، ولم يكن فارقهم منذ ذلك الوقت .
    فلما رأى ما يفعل الملائكة بالمشركين فر ونكص على عقبيه ، وتشبث به الحارث بن هشام ـ وهو يظنه سراقة ـ فوكز في صدر الحارث فألقاه ، ثم خرج هاربًا .
    وقال له المشركون ‏:‏ إلى أين يا سراقة‏ ؟‏ ألم تكن قلت‏ :‏ إنك جار لنا، لا تفارقنا‏ ؟‏
    فقال ‏:‏ ‏" ‏إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏ "‏ ‏[‏الأنفال‏:‏48‏] ‏، ثم فر حتى ألقى نفسه في البحر‏ .‏


    الهزيمة الساحقة
    وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب المبدد، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمت عليهم الهزيمة‏ .


    صمود أبي جهل
    أما الطاغية الأكبر أبو جهل ، فإنه لما رأى أول أمارات الاضطراب في صفوفه حاول أن يصمد في وجه هذا السيل ، فجعل يشجع جيشه ويقول لهم في شراسة ومكابرة‏ :‏ لا يهزمنكم خذلان سراقة إياكم ، فإنه كان على ميعاد من محمد ، ولا يهولنكم قتل عتبة وشيبة والوليد ، فإنهم قد عجلوا ، فواللات والعزى لا نرجع حتى نقرنهم بالحبال ، ولا ألفين رجلاً منكم قتل منهم رجلاً، ولكن خذوهم أخذًا حتى نعرفهم بسوء صنيعهم ‏.‏
    ولكن سرعان ما تبدت له حقيقة هذه الغطرسة ، فما لبث إلا قليلاً حتى أخذت الصفوف تتصدع أمام تيارات هجوم المسلمين ‏.‏


    نعم ، بقى حوله عصابة من المشركين ضربت حوله سياجًا من السيوف ، وغابات من الرماح ، ولكن عاصفة هجوم المسلمين بددت هذا السياج ، وأقلعت هذه الغابات ، وحينئذ ظهر هذا الطاغية ، ورآه المسلمون يجول على فرسه ، وكان الموت ينتظر أن يشرب من دمه بأيدي غلامين أنصاريين‏ .‏



    من روائع الإيمان في هذه المعركة
    لقد أسلفنا نموذجين رائعين من عمير بن الحمام وعوف بن الحارث ـ ابن عفراء ـ وقد تجلت في هذه المعركة مناظر رائعة تبرز فيها قوة العقيدة وثبات المبدأ، ففي هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، خالفت بينهما المبادئ ففصلت بينهما السيوف، والتقى المقهور بقاهره فشفي منه غيظه‏.‏

    1 ـ روى ابن إسحاق عن ابن عباس أن النبي(صلى الله عليه وسلم) قال لأصحابه‏:‏ ‏" ‏إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقى أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البَخْتَرِيّ بن هشام فلا يقتله، ومن لقى العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فإنه إنما أخرج مستكرهًا "‏، فقال أبو حذيفة بن عتبة‏:‏ أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن لقيته لألحمنه ـ أو لألجمنه ـ بالسيف ، فبلغت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فقال لعمر بن الخطاب‏ :‏" يا أبا حفص ، أيضرب وجه عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بالسيف‏ "‏، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ، دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق ‏.‏
    فكان أبو حذيفة يقول‏ :‏ ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن تكفرها عنى الشهادة‏ .‏ فقتل يوم اليمامة شهيدًا ‏.‏


    2 ـ وكان النهي عن قتل أبي البختري ، لأنه كان أكف القوم عن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغ عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض صحيفة مقاطعة بني هاشم وبني المطلب ‏.‏
    ولكن أبا البختري قتل على رغم هذا كله، وذلك أن المُجَذَّر بن زياد الْبَلَوِىّ لقيه في المعركة ومعه زميل له ، يقاتلان سويًا ، فقال المجذر‏:‏ يا أبا البخترى إن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) قد نهانا عن قتلك ، فقال ‏:‏ وزميلي ‏؟‏ فقال المجذر ‏:‏ لا والله ما نحن بتاركي زميلك ، فقال‏ : ‏والله إذن لأموتن أنا وهو جميعًا ، ثم اقتتلا ، فاضطر المجذر إلى قتله ‏.‏


    3 ـ كان عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف صديقين في الجاهلية بمكة ، فلما كان يوم بدر مر به عبد الرحمن ، وهو واقف مع ابنه على بن أمية ، آخذًا بيده ، ومع عبد الرحمن أدراع قد استلبها ، وهو يحملها ، فلما رآه قال ‏:‏ هل لك في ‏؟‏ فأنا خير من هذه الأدراع التي معك ، ما رأيت كاليوم قط ، أما لكم حاجة في اللبن ‏؟‏ ـ يريد أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن ـ فطرح عبد الرحمن الأدراع ، وأخذهما يمشى بهما ، قال عبد الرحمن ‏:‏ قال لي أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين ابنه‏ :‏ من الرجل منكم المعلم بريشة النعامة في صدره ‏؟‏ قلت ‏:‏ ذاك حمزة بن عبد المطلب، قال‏:‏ ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل ‏.‏


    قال عبد الرحمن‏ :‏ فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي ـ وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة ـ فقال بلال ‏:‏ رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أي بلال ، أسيري‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ قلت‏:‏ أتسمع يا بن السوداء‏.‏ قال‏:‏ لا نجوت إن نجا‏.‏ ثم صرخ بأعلى صوته‏:‏ يا أنصار الله، رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا‏.‏ قال‏:‏ فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل الْمَسَكَة، وأنا أذب عنه، قال‏:‏ فأخلف رجل السيف، فضرب رجل ابنه فوقع، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط، فقلت‏:‏ انج بنفسك، ولا نجاء بك، فوالله ما أغني عنك شيئًا‏.‏ قال‏:‏ فَهَبَرُوهُمَا بأسيافهم حتى فرغوا منهما، فكان عبد الرحمن يقول‏:‏ يرحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري‏ .‏
    وفي زاد المعاد أن عبد الرحمن بن عوف قال لأمية : ابرك ، فبرك ، فألقى نفسه عليه ، فضربوه بالسيوف من تحته حتى قتلوه ، وأصاب بعض السيف رجل عبد الرحمن بن عوف .


    وروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال‏:‏ كاتبت أمية بن خلف كتابًا بأن يحفظني في صاغيتي ـ أي خاصتي ومالي ـ بمكة، وأحفظه في صاغيته بالمدينة ،‏ فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال‏:‏ أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية، فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت له‏:‏ ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه‏.‏ وكان عبد الرحمن يرينا ذلك الأثر في ظهر قدمه‏.‏

    4 ـ وقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه، ولكن حين رجع إلى المدينة قال للعباس عم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، وهو في الأسر‏:‏ يا عباس أسلم، فوالله أن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) يعجبه إسلامك.

    5 ـ ونادى أبو بكر الصديق رضي الله عنه ابنه عبد الرحمن ـ وهو يومئذ مع المشركين ـ فقال‏:‏ أين مالي يا خبيث‏؟‏ فقال عبد الرحمن‏:‏
    لَمْ يَبْقَ غَيْرُ شَكَّةٍ ويَعْبُوب وصَارِمٍ يَقْتُلُ ضُلاَّل الشِّيَبْ

    6 ـ ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله(صلى الله عليه وسلم) في العريش ، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحًا سيفه ، رأى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له‏:‏ والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم‏ ؟‏ قال‏:‏ أجل والله يا رسول الله ، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلىّ من استبقاء الرجال ‏.‏

    7ـ وانقطع يومئذ سيف عُكَّاشَة بن مِحْصَن الأسدي ، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) فأعطاه جِذْلاً من حطب ، فقال ‏:‏ ‏( ‏قاتل بهذا يا عكاشة ‏) ‏، فلما أخذه من رسول الله(صلى الله عليه وسلم) هزه ، فعاد سيفًا في يده طويل القامة ، شديد المتن، أبيض الحديدة ، فقاتل به حتى فتح الله تعالى للمسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى العَوْن ، ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد ، حتى قتل في حروب الردة وهو عنده ‏.‏ رواه ابن إسحاق في سيرته.

    8 ـ وبعد انتهاء المعركة مر مصعب بن عمير العبدري بأخيه أبي عزيز بن عمير الذي خاض المعركة ضد المسلمين ، مر به وأحد الأنصار يشد يده ، فقال مصعب للأنصاري‏ :‏ شد يديك به ، فإن أمه ذات متاع ، لعلها تفديه منك ، فقال أبو عزيز لأخيه مصعب ‏:‏ أهذه وصاتك بي ‏؟‏ فقال مصعب ‏:‏ إنه ـ أي الأنصاري ـ أخي دونك ‏.‏

    9 ـ ولما أمر بإلقاء جيف المشركين في القَلِيب، وأخذ عتبة بن ربيعة فسحب إلى القليب، نظر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) في وجه ابنه أبي حذيفة ، فإذا هو كئيب قد تغير، فقال‏:‏ ‏( ‏يا أبا حذيفة، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء‏ ؟‏‏ )‏ فقال‏:‏ لا والله ، يا رسول الله ، ما شككت في أبي ولا مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيًا وحلمًا وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك ‏.‏ فدعا له رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بخير، وقال له خيرًا‏ .


    قتلى الفريقين
    انتهت المعركة بهزيمة ساحقة بالنسبة للمشركين ، وبفتح مبين بالنسبة للمسلمين ، وقد استشهد من المسلمين في هذه المعركة أربعة عشر رجلاً ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ‏.‏
    أما المشركون فقد لحقتهم خسائر فادحة ، قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون ،‏ وعامتهم القادة والزعماء والصناديد‏ .‏


    ولما انقضت الحرب أقبل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) حتى وقف على القتلى فقال ‏:‏ ‏" ‏بئس العشيرة كنتم لنبيك، كذبتموني وصدقني الناس ، وخذلتموني ونصرني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس "‏_ زاد المعاد (3/187) _ ، ثم أمر بهم فسحبوا إلى قليب من قُلُب بدر ‏.‏
    وعن أبي طلحة‏:‏ أن نبي الله(صلى الله عليه وسلم) أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش ، فقذفوا في طَويّ من أطواء بدر خَبِيث مُخْبث‏ .‏ وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعَرْصَة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى ، واتبعه أصحابه ‏.‏

    حتى قام على شفة الرَّكِىّ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ‏" يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله‏؟‏ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا‏ ؟ "‏ فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ، ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ‏؟‏
    قال النبي(صلى الله عليه وسلم) ‏ :‏ ‏" ‏والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏ "‏ وفي رواية ‏:‏ "‏ما أنتم بأسمع منهم ، ولكن لا يجيبون‏ "‏‏.‏ متفق عليه




    مكة تتلقى أنباء الهزيمة

    فر المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة ، تبعثروا في الوديان والشعاب ، واتجهوا صوب مكة مذعورين ، لا يدرون كيف يدخلونها خجلاً ‏.‏
    قال ابن إسحاق‏ :‏ وكان أول من قدم بمصاب قريش الحَيْسُمَان بن عبد الله الخزاعى ، فقالوا‏ :‏ ما وراءك ‏؟‏ قال ‏:‏ قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف ، في رجال من الزعماء سماهم ‏.‏ فلما أخذ يعد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحِجْر ‏:‏ والله إن يعقل هذا، فاسألوه عنى‏.‏ قالوا‏:‏ ما فعل صفوان بن أمية‏ ؟‏ قال‏:‏ ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا ‏.‏


    وقال أبو رافع ـ مولى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ كنت غلامًا للعباس وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أم الفضل ، وأسلمت ، وكان العباس يكتم إسلامه ، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر ، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزًا ، وكنت رجلاً ضعيفًا أعمل الأقداح ، أنحتها في حجرة زمزم ، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحى وعندى أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طُنُب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس ‏:‏ هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب ‏:‏ هلم إلىَّ ، فعندك لعمرى الخبر، قال ‏:‏ فجلس إليه ، والناس قيام عليه‏.‏ فقال‏:‏ يا بن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس ‏؟‏ قال ‏:‏ ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا ، يقتلوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لَقِينَا رجال بيض على خيل بُلْق بين السماء والأرض ، والله ما تُلِيق شيئًا ، ولا يقوم لها شيء ‏.‏

    قال أبو رافع‏ :‏ فرفعت طنب الحجرة بيدى ، ثم قلت ‏:‏ تلك والله الملائكة ‏.‏ قال ‏:‏ فرفع أبو لهب يده ، فضرب بها وجهي ضربة شديدة ، فثاورته ، فاحتملنى فضرب بى الأرض ، ثم برك علىّ يضربني ، وكنت رجلاً ضعيفًا فقامت أم الفضل إلى عمود من عُمُد الحجرة فأخذته ، فضربته به ضربة فَلَعَتْ في رأسه شجة منكرة ، وقالت ‏:‏ استضعفته أن غاب عنه سيده ، فقام موليًا ذليلاً ، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة ‏( وهي قرحة تتشاءم بها العرب‏ )‏ فقتلته ، فتركه بنوه ، وبقى ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ، ولا يحاول دفنه ، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ، ثم دفعوه بعود في حفرته ، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه ‏.‏
    هكذا تلقت مكة أنباء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر ، وقد أثر ذلك فيهم أثرًا سيئًا جدًا ، حتى منعوا النياحة على القتلى ؛ لئلا يشمت بهم المسلمون ‏.‏

    ومن الطرائف أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم ، وكان ضرير البصر ، فسمع ليلاً صوت نائحة، فبعث غلامه ، وقال ‏:‏ انظر هل أحل النَّحْبُ ‏؟‏ هل بكت قريش على قتلاها ‏؟‏ لعلي أبكي على أبي حكيمة ـ ابنه ـ فإن جوفي قد احترق ، فرجع الغلام وقال ‏:‏ إنما هي امرأة تبكى على بعير لها أضلته ، فلم يتمالك الأسود نفسه وقال‏ :‏
    أتبكي أن يضـل لهــا بعيـــر ويمنعها من النوم السهود
    فلا تبكــي على بكــر ولكن على بدر تقاصرت الجدود
    على بدر سراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد
    وبكى إن بكيت على عقيـل وبكى حارثا أسد الأسود
    وبكيهم ولا تسمى جميعــا وما لأبي حكيمة من نديد
    ألا قد ساد بعدهـــم رجــال ولولا يوم بدر لم يسودوا





    المدينة تتلقى أنباء النصر

    ولما تم الفتح للمسلمين أرسل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بشيرين إلى أهل المدينة ، ليعجل لهم البشرى ، أرسل عبد الله بن رواحة بشيرًا إلى أهل العالية ، وأرسل زيد بن حارثة بشيرًا إلى أهل السافلة‏.‏
    وكان اليهود والمنافقون قد أرجفوا في المدينة بإشاعة الدعايات الكاذبة ، حتى إنهم أشاعوا خبر مقتل النبي(صلى الله عليه وسلم)، ولما رأي أحد المنافقين زيد بن حارثة راكبًا القَصْوَاء ـ ناقة رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ قال‏:‏ لقد قتل محمد، وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فَلاّ .

    فلما بلغ الرسولان أحاط بهما المسلمون، وأخذوا يسمعون منهما الخبر، حتى تأكد لديهم فتح المسلميـن، فَعَمَّت البهجـة والسـرور، واهتزت أرجاء المدينة تهليلاً وتكبيرًا، وتقدم رؤوس المسلمين ـ الذين كانوا بالمدينة ـ إلى طريق بدر، ليهنئوا رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بهذا الفتح المبين‏.‏
    قال أسامة بن زيد:‏ أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله(صلى الله عليه وسلم) التي كانت عند عثمان بن عفان، كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خلفنى عليها مع عثمان.




    الجيش النبوي يتحرك نحو المدينة
    أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ببدر بعد انتهاء المعركة ثلاثة أيام ، وقبل رحيله من مكان المعركة وقع خلاف بين الجيش حول الغنائم ، ولما اشتد هذا الخلاف أمر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بأن يرد الجميع ما بأيديهم ، ففعلوا، ثم نزل الوحى بحل هذه المشكلة ‏.‏
    عن عبادة بن الصامت قال ‏:‏ خرجنا مع النبي(صلى الله عليه وسلم)، فشهدت معه بدرًا ، فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يطاردون ويقتلون ، وأكبت طائفة على المغنم يحرزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، لا يصيب العدو منه غِرَّة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم ‏:‏ نحن حويناها ، وليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو‏ :‏ لستم أحق بها منا ، نحـن نحـينا منـها العـدو وهزمناه ، وقال الذين أحدقوا برسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ خفنا أن يصيب العدو منه غرة ، فاشتغلنا به، فأنزل الله‏:‏ ‏" ‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين "‏ ‏[الأنفال‏ :‏1‏ ] ‏‏.‏ فقسمها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) بين المسلمين‏.‏
    رواه الترمذي (1561) وحسنه ووافقه الألباني

    وبعد أن أقام رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين ، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين ، وجعل عليه عبد الله بن كعب ، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة ، وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس ‏.‏
    وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث ـ وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر ، وكان من أكابر مجرمي قريش ، ومن أشد الناس كيدًا للإسلام وإيذاء لرسول الله(صلى الله عليه وسلم) ـ فضرب عنقه علي بن أبي طالب ‏.‏
    ولمـا وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط ـ وقد أسلفنا بعض ما كان عليه من إيذاء رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، فهو الذي كان ألقى سَلا جَزُور على ظهر رسول الله(صلى الله عليه وسلم) وهو في الصلاة ، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله ، لولا اعتراض أبي بكر رضي الله عنه ـ فلما أمر بقتله قال ‏:‏ من للصِّبْيَةِ يا محمد‏ ؟‏ قال ‏:‏ ‏(‏ النار ‏) ‏‏.‏ فقتله عاصم ابن ثابت الأنصارى ، ويقال‏ :‏ علي بن أبي طالب‏ .‏
    وكان قتل هذين الطاغيتين واجبًا نظرًا إلى سوابقهما ، فلم يكونا من الأسارى فحسب ، بل كانا من مجرمى الحرب بالاصطلاح الحديث ‏.



    وفود التهنئة
    ولما وصل إلى الرَّوْحَاء لقيه رؤوس المسلمين ـ الذين كانوا قد خرجوا للتهنئة والاستقبال حين سمعوا بشارة الفتح من الرسولين ـ يهنئونه بالفتح‏.‏ وحينئذ قال لهم سَلَمَة بن سلامة‏:‏ ما الذي تهنئوننا به ‏؟‏ فوالله إن لَقِينا إلا عجائز صُلْعًا كالْبُدْن المعُقَّلَةِ، فنحرناها ، فتبسم رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ، ثم قال‏ :‏ ‏( ‏يا بن أخي ، أولئك الملأ‏ )‏‏.‏
    أخرجه الهيثمي في المجمع (10/23،24) وقال : رواه الطبراني وفيه حسين السلولي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات .

    وقال أسيد بن حضير ‏:‏ يا رسول الله ، الحمد لله الذي أظفرك ، وأقر عينك ، والله يا رسول الله ما كان تخلفي عن بدر وأنا أظن أنك تلقى عدوًا ، ولكن ظننت أنها عير ، ولو ظننت أنه عدو ما تخلفت، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏(‏صدقت‏)‏‏.‏
    ثم دخل رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة مظفرًا منصورًا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها ، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة ، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي وأصحابه في الإسلام ظاهرًا‏ .‏

    وقدم الأسارى بعد بلوغه المدينة بيوم ، فقسمهم على أصحابه ، وأوصى بهم خيرًا‏ .‏ فكان الصحابة يأكلون التمر ، ويقدمون لأسرائهم الخبز ، عملاً بوصية رسول الله(صلى الله عليه وسلم) .


    قضية الأسارى
    ولما بلغ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله، فيكونوا لنا عضدًا‏.‏
    فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏(‏ ما ترى يا ابن الخطاب‏ )‏ ؟ قال‏:‏ قلت‏:‏ والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننى من فلان ـ قريب لعمر ـ فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين‏ ،‏ وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم‏.‏


    فهوى رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء‏:‏ فلما كان من الغد قال عمر‏:‏ فغدوت إلى النبي(صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت‏:‏ يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك‏؟‏ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله(صلى الله عليه وسلم) ‏:‏ ‏( ‏أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة‏ )‏ ـ شجرة قريبة‏.‏
    وأنزل الله تعالى‏
    :‏ "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏ "‏ ‏[‏الأنفال‏:‏67، 68‏]‏‏.‏ رواه مسلم (1383)

    والكتاب الذي سبق من الله قيل‏:‏ هو قوله تعالى‏:‏ ‏" ‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏ "‏ ‏[‏محمد‏:‏ 4‏]‏‏.‏ ففيه الإذن بأخذ الفدية من الأسارى؛ ولذلك لم يعذبوا، وإنما نزل العتاب لأنهم أسروا الكفار قبل أن يثخنوا في الأرض، وقيل‏:‏ بل الآية المذكورة نزلت فيما بعد، وإنما الكتاب الذي سبق من الله هو ما كان في علم الله من إحلال الغنائم لهذه الأمة، أو من المغفرة والرحمة لأهل بدر‏.‏
    وحيث إن الأمر كان قد استقر على رأي الصديق فقد أخذ منهم الفداء، وكان الفداء من أربعة آلاف درهم إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألف درهم، وكان أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم، فإذا حذقوا فهو فداء‏.‏
    ومنّ رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على عدة من الأسارى فأطلقهم بغير فداء، منهم‏:‏ المطلب ابن حَنْطَب، وصَيْفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الجُمَحِى، وهو الذي قتله أسيرا في أحد، وسيأتي‏.‏

    ومنّ على خَتَنِه أبي العاص بشرط أن يخلى سبيل زينب، وكانت قد بعثت في فدائه بمال بعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، فلما رآها رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رق لها رقة شديدة، واستأذن أصحابه في إطلاق أبي العاص ففعلوه، واشترط رسول الله(صلى الله عليه وسلم) على أبي العاص أن يخلى سبيل زينب، فخلاها فهاجرت، وبعث رسول الله(صلى الله عليه وسلم) زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار، فقال‏:‏ ‏( ‏كونا ببطن يَأجَج حتى تمر بكما زينب فتصحباها ‏)‏، _رواه أبو داود (2692) وحسنه الألباني _ فخرجا حتى رجعا بها‏.‏ وقصة هجرتها طويلة ومؤلمة جدًا‏.‏

    وكان في الأسرى سهيل بن عمرو، وكان خطيبًا مِصْقَعًا، فقال عمر‏:‏ يا رسول الله ، انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يَدْلَعْ لسَانُه، فلا يقوم خطيبًا عليك في موطن أبدًا، بيد أن رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رفض هذا الطلب ، احترازًا عن المُثْلَةِ، وعن بطش الله يوم القيامة‏.‏
    وخرج سعد بن النعمان معتمرًا فحبسه أبو سفيان، وكان ابنه عمرو بن أبي سفيان في الأسرى، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد‏.‏



    القرآن يتحدث حول المعركة
    وحول موضوع هذه المعركة نزلت سورة الأنفال، وهذه السورة تعليق إلهي ـ إن صح هذا التعبير ـ على هذه المعركة ، يختلف كثيرًا عن التعاليق التي ينطق بها الملوك والقواد بعد الفتح‏ .‏
    إن الله تعالى لفت أنظار المسلمين ـ أولًا ـ إلى بعض التقصيرات الأخلاقية التي كانت قد بقيت فيهم، وصدر بعضها منهم ، ليسعوا في تحلية نفوسهم بأرفع مراتب الكمال، وفي تزكيتها عن هذه التقصيرات‏.‏


    ثم ثَنَّى بما كان في هذا الفتح من تأييد الله وعونه ونصره بالغيب للمسلمين ‏.‏ ذكر لهم ذلك لئلا يغتروا بشجاعتهم وبسالتهم ، فتتسور نفوسهم الغطرسة والكبرياء ، بل ليتوكلوا على الله، ويطيعوه ويطيعوا رسوله عليه الصلاة والسلام ‏.‏
    ثم بين لهم الأهداف والأغراض النبيلة التي خاض الرسول(صلى الله عليه وسلم) لأجلها هذه المعركة الدامية الرهيبة، ودلهم على الصفات والأخلاق التي تتسبب في الفتوح في المعارك ‏.‏


    ثم خاطب المشركين والمنافقين واليهود وأسارى المعركة، ووعظهم موعظة بليغة، تهديهم إلى الاستسلام للحق والتقيد به .‏
    ثم خاطب المسلمين حول موضوع الغنائم ، وقنن لهم مبادئ وأسس هذه المسألة ‏.‏
    ثم بين وشرع لهم من قوانين الحرب والسلم ما كانت الحاجة تمس إليها بعد دخول الدعوة الإسلامية في هذه المرحلة ، حتى تمتاز حروب المسلمين عن حروب أهل الجاهلية ، ويتفوق المسلمون في الأخلاق والقيم والمثل ، ويتأكد للدنيا أن الإسلام ليس مجرد وجهة نظر، بل هو دين يثقف أهله عمليًا على الأسس والمبادئ التي يدعو إليها ‏.‏


    ثم قرر بنودًا من قوانين الدولة الإسلامية التي تقيم الفرق بين المسلمين الذين يسكنون داخل حدودها ، والذين يسكنون خارجها‏.‏
    وفي السنة الثانية من الهجرة فرض صيام رمضان ، وفرضت زكاة الفطر ، وبينت أنصبة الزكاة الأخرى ، وكانت فريضة زكاة الفطر وتفصيل أنصبة الزكاة الأخرى تخفيفًا لكثير من الأوزار التي كان يعانيها عدد كبير من المهاجرين اللاجئين الذين كانوا فقراء لا يستطيعون ضربًا في الأرض ‏.‏


    ومن أحسن المواقع وأروع الصدقات أن أول عيد تعيد به المسلمون في حياتهم هو العيد الذي وقع في شوال سنة 2 هـ، إثر الفتح المبين الذي حصل لهم في غزوة بدر‏.‏ فما أروع هذا العيد السعيد الذي جاء به الله بعد أن تَوَّجَ هامتهم بتاج الفتح والعز، وما أروق منظر تلك الصلاة التي صلوها بعد أن خرجوا من بيوتهم يرفعون أصواتهم بالتكبير والتوحيد والتحميد، وقد فاضت قلوبهم رغبة إلى الله، وحنينًا إلى رحمته ورضوانه بعد ما أولاهم به من النعم،وأيدهم به من النصر، وقد ذكرهم بذلك قائلًا‏:‏ ‏"وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏ "‏ ‏[‏الأنفال‏:‏26‏]‏‏.
    فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً


    تعليق


    • #3
      رد: غزوة بدر الكبرى



      __________________

      تعليق

      يعمل...
      X