قصة اختراق الحجاب ليلة الإسراء والمعراج
إعداد : علي حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت، وكان لاشتهارها وانتشارها أسباب منها:
1- أن هذه القصة أُذيعت على مستوى العالم ضمن حلقات الإسراء والمعراج في برنامج "نور على نور" لأحد الشيوخ، من غير أن نتناول اسمه ولا شخصه؛ لأن الغاية الوقوف على حقيقة ما نُسِب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحلقة الثانية المذاعة يوم الجمعة 2 شعبان 1393ه الموافق 31 أغسطس 1973م، وسجلت هذه الحلقات وتذاع كل عام بمناسبة الإسراء والمعراج، بل وطبعت في كتاب انتشر بين الوعاظ والقصاص بعنوان "الإسراء والمعراج" تحت الحلقة الثانية (ص72)، حيث جاء فيه:
"ثم بعد ذلك نجد أنه بعد أن انتقل إلى مرحلة يكون فيها ملائكيًا كالملائكة يراهم ويتكلم معهم ويخاطبهم ويفهم، يأتي بعد ذلك في منطقة أخرى بعد سدرة المنتهى فينتهي حد جبريل، ثم بعد ذلك يزج برسول الله في سبحات النور ولم يكن جبريل معه، وهذا دليل على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام قد ارتقى ارتقاءًا آخر، ونقل من ملائكية لا قدرة لها على ما وراء سدرة المنتهى إلى شيء من الممكن يتحمل إلى ما وراء سدرة المنتهى، دون مصاحبة جبريل عليه السلام، إذًا فمحمد كان بشرًا في الأرض مع جبريل، وبعد ذلك كانت له ملائكية مع الرسل ومع جبريل في السماء، وبعد ذلك كان له وضع آخر ارتقى به عن الملكية حتى أن جبريل نفسه يقول: "أنا لو تقدمت لاحترقت.. وأنت لو تقدمت لاخترقت".
فذاتية محمد حصل فيها شيء من التغيير، التغيير الذي يناسب ذلك الملأ الأعلى، فجبريل بملائكيته لا يستطيع أن يخترق وإلا احترق، أما هو فيستطيع أن يخترق". اه.
2- وتأثر بقصة اختراق الحجاب أحد الوعاظ من غير ذكر لاسمه أيضًا. يقول في شريط كاسيت قد انتشر واشتهر: "جبريل عند سدرة المنتهى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : السير من هنا قد انتهى، والنبي يقول لجبريل: أفهذا الموضع يترك الخليل خليله، وجبريل يقول: لكل منا مقام معلوم، فوالذي بعثك بالحق لو تقدمت قدر أنملة لاحترقت بأنوار الكمال، ولو تقدمت يا ابن عبد الله لاخترقت أنوار الجلال، تقدم إلى ربك الكبير المتعال، تقدم إلى الله، وهنا يحس النبي برعدة شديدة ويتساءل: أين أنا يا رب؟ فالله يقول: أنت على بساط أنس الله يا محمد".
3- وقصة اختراق الحجاب ليلة الإسراء والمعراج جاءت في كتاب منسوب إلى الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما ويسمى "الإسراء والمعراج للإمام ابن عباس رضي الله عنهما".
قلت: وهو مليء بالكذب والأباطيل، وابن عباس بريء من هذا الكتاب الذي اشتهر وانتشر لصغر حجمه، حيث يحتوي على ست وأربعين صفحة ورخص ثمنه واحتوائه على عجائب منكرة يستميل بها القصاص والوعاظ قلوب العوام.
ففي (ص26): جاءت قصة اختراق الحجاب، حيث نُسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثم تقدمت أمامي فلم أر أخي جبريل معي، فقلت: يا أخي يا جبريل، أفي مثل هذا المكان يفارق الخليل خليله والأخ أخاه، فَلِمَ تركتني وتخلفت عني؟ فنادى: يَعِزُّ عليَّ أن أتخلف عنك، والذي بعثك بالحق نبيًا ما منا إلا له مقام معلوم، ولو أن أحدًا منا تجاوز مقامه لاحترق بالنور، قال صلى الله عليه وسلم : فلما قال لي هذا المقال وضعت يدي على وجهي وأخذتني الرَّعدة والخوف، فضمني جبريل إلى صدره بجناحه، وقال لي: لا تخف ولا تحزن إنما عرج بك ربك ليحييك ويكرمك ويصطفيك ويعطيك، فلما قال لي هذا المقال خفَّ عني كل ما أجده، وإذ بالنداء من قبل الله تعالى: زُجوا حبيبي محمدًا في النور، فأتتني الملائكة برفرف أخضر كمثل المقعد يحمله أربعة من الملائكة فوضعوه بين يدي وقالوا لي: ارق يا محمد، فاستويت على الرفرف فسار بي كالسهم يخرج من القوس، وبينما أنا أتفكر وقد أخذتني الهيبة مما رأيت من الجلال والكمال والبهاء والعظمة وهيبة الله، نوديت: يا أحمد، أمامك أمامك، أدن مني، فخطوت خطوة مسيرة خمسمائة عام، فقيل لي: يا أحمد لا تخف ولا تحزن، فسكن قلبي مما كنت أجده، وأخذ ذلك الرفرف يعلو بي حتى قربني من حضرة سيدي ومولاي، فأبصرت أمرًا عظيمًا لا تناله الأوهام ولا تبلغه الخواطر، سبحانه وتعالى مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فدنوت من ربي حتى صرت منه كقاب قوسين أو أدنى فوضع سبحانه يده بين كتفي ولم تكن يدًا محسوسة كيد المخلوقين، بل يد قدرة وإرادة، فوجدت بردها على كبدي، فذهب عني كل ما كنت أجده وأورثني علم الأولين والآخرين وملئت فرحًا وسرورًا
فأخذني عند ذلك الثبات والسكون، فظننت أن من في السماوات والأرض قد ماتوا إلا أنا لا أسمع هناك لا حسًا ولا حركة، ثم رجع إليَّ عقلي وتفكرت فيما أنا فيه من الشرف العظيم، فنوديت: يا أحمد، ادن مني، فقلت: إلهي وسيدي ومولاي، أنت السلام ومنك السلام، فناداني ثانيًا: ادن مني، فدنوت منه، فقال: وعليك السلام...".
4- وقصة الرفرف الأخضر، واختراق الحجاب وتأخر جبريل: ليلة الإسراء أوردها الإمام ابن عراق في "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (1-155: 169) في حديث ابن عباس الطويل، حيث بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة سطر، وفيه بعض الزيادات التي نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:
أ- فلما أسرى بي إلى العرش وحاذيت به ودلي لي رفرف أخضر لا أطيق وصفه لكم، فأهوى بي جبريل فأقعدني عليه ثم قصر دوني ورد يديه على عينيه مخافة على بصره أن يلتمع من تلألؤ نور العرش، وأنشأ يبكي بصوت رفيع ويسبح الله تعالى ويحمده ويثني عليه، فرفعني ذلك الرفرف بإذن الله ورحمته إياي وتمام نعمته عليَّ إلى قرب سيد العرش، إلى أمر عظيم لا تناله الألسن ولا تبلغه الأوهام.
ب- فنظرت إليه فإذا هو حين كشف عنه حجبه مستو على عرشه في وقاره وعزه ومجده وعلوه.
ج- فمال إليَّ من وقاره بعض الميل فأدناني منه، فذلك قوله في كتابه يخبركم فعاله بي وإكرامه إياي: ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى، حيث مال إليَّ فقربني منه قدر ما بين طرفي القوسين.
د- فلما مال إليَّ من وقاره سبحانه وتعالى وضع إحدى يديه بين كتفي، فلقد وجدت برد أنامله على فؤادي حينًا، ووجدت عند ذلك حلاوته وأطيب ريحه وبرد لذاذته وكرامة رؤيته، وظننت أن من في الأرض والسماوات ماتوا كلهم.
التخريج والتحقيق للقصة:
الحديث الذي جاءت به هذه القصة: أخرجه ابن مردويه في "التفسير" من حديث ابن عباس من طريق ميسرة ابن عبد ربه، كذا في "تنزيه الشريعة" (1-169)، وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" (3-11) قال: أخبرنا محمد بَدْوست النسوي: قال: حدثنا حميد بن زِنْجوَيه قال: حدثنا محمد بن أبي خِداش الموصلي قال: حدثنا علي بن قتيبة عن ميسرة بن عبد ربه قال: حدثنا عمر بن سليمان الدمشقي عن الضّحاك بن مزاحم عن ابن عباس مرفوعًا.
1- قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1-169): أخرج ابن حبان قطعة منه.
قلت: وهذا إجمال ما قد فصلنا حيث بيَّنا أنه أخرجه في كتابه "المجروحين" لا في "صحيحه" هذا بالنسبة لمصنفات ابن حبان.
أما قول ابن عراق: "أخرج ابن حبان قطعة منه"، فهو إجمال بالنسبة للمتن، فابن حبان يعرف متن الحديث بطوله، فبعد أن ذكر هذه القطعة من حديث ابن عباس من طريق ميسرة بن عبد ربه عن عمر بن سليمان قال: "فذكره بطوله أكره ذكره لشهرته عند من كتب الحديث وطلبه". اه.
قلت: ثم بيّن الإمام ابن حبان في "المجروحين" (3-11) علة الحديث فقال: "ميسرة بن عبد ربه الفارسي من أهل دَوْرق كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ويضع المعضلات عن الثقات في الحث على الخير والزجر عن الشر، لا يحل كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار.
قلت: ثم أخرج ابن حبان هذا الحديث دليلاً على أن ميسرة بن عبد ربه يروي الموضوعات، وذكر قطعة منه، ثم قال: "فذكر- أي ميسرة بن عبد ربه- حديثًا طويلاً في قصة المعراج شبيهًا بعشرين ورقة". وعلل ابن حبان عدم ذكره للحديث بطوله حيث قال: "أكره ذكره لشهرته عند من كتب الحديث وطلبه". اه.
2- أورده الإمام البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ترجمة (355)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه: يُرْمى بالكذب".
3- أورده الإمام النسائي في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (580)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه: متروك الحديث".
فائدة:
قلت: هذا المصطلح عند النسائي له معناه، حيث قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" (ص69): "مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه".
4- أورده الدارقطني في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (510)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه، بغدادي عن زيد بن أسلم كتاب "العقل" لداود بن المُحبَّر تصنيفه". اه.
فائدة:
يتوهم من لا دراية له بهذا الفن أن عبارة الدارقطني هذه لا تدل على الجرح، ولا يدري أن مجرد ذكر اسم الراوي فقط يدل على أنه متروك، يدل على ذلك قول الإمام البرقاني: "طالت محاورتي مع ابن خمكان لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني عفا الله عني وعنهما في المتروكين من أصحاب الحديث، فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات".
5- أقر الإمام الذهبي هذه الأقوال في "الميزان" (4-230-8958).
6- ثم ذكر الإمام الذهبي في "الميزان" (3-202-6129) علة أخرى لحديث القصة، فقال: "عمر بن سليمان عن الضحاك، فذكر حديث الإسراء بلفظ موضوع".
وأقره الحافظ ابن حجر في "اللسان" (4-356) (1731-6082)، وبهذا التحقيق حكم الحافظان الذهبي وابن حجر على حديث القصة في ليلة الإسراء بأنه موضوع.
فائدة:
الموضوع: "هو الكذب المختلق المصنوع وهو شر الضعيف وأقبحه وتحرم روايته مع العلم بوضعه في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها إلا مبينًا أي مقرونًا ببيان وضعه". قاله السيوطي في "التدريب" 01-274).
ولقد تأثر بهذه القصة الواهية "قصة اختراق الحجاب" ليلة الإسراء والمعراج كثير من الكتاب والوعاظ والقُصاص، هذا التأثر أدى إلى الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى نسبوا إليه أن الله مال إليه بعض الميل فأدناه منه، وذلك قوله تعالى: ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى {النجم: 8، 9}.
والقارئ الكريم يرى هذا التأثير في الكتاب الذي أوردناه آنفًا والذي يتضمن ثلاث حلقات مذاعة في برنامج "نور على نور" حول الإسراء والمعراج، حيث قال الشيخ في "الكتاب" (ص80): "أنا شخصيًا لست مع المفسرين حين يفسرون: "دنا" المدنو والداني جبريل؛ لأن جبريل معه، وما دام جبريل معه، فماذا دنا؟ فكان قاب قوسين أو أدنى، ذلك ملحظ آخر يعطينا أن الدنو: ثم دنا فتدلى.. لشيء آخر، من ربه، أو ربه منه". اه.
الرد على هذه الشبهة:
1- قول الشيخ - عفا الله عنا وعنه - أنا شخصيًا لست مع المفسرين حين يفسرون "دنا" الداني جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: "الدنو لشيء آخر: من ربه أو ربه منه".
2- ثم بيّن السبب الذي جعله يخالف هؤلاء المفسرين الذين قالوا: أن الدنو هو دنو جبريل.
قلت: هذا السبب فيه نظر؛ لأن الشيخ ظن أن جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدنو وأثناء الدنو وبعد الدنو على صورة واحدة، ولكن جبريل كان في حالة الدنو على صورته التي خلقه الله عليها، هذه الصورة التي هي من آيات الله الكبرى، وهي من أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أعطاه الله سبحانه القدرة في بصره فيرى جبريل منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، وأما صورته التي كان فيها معه قبل ذلك فكان يأتيه في صورة الرجال.
هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها، هذا الحديث الذي أورده الإمام المزي في "تحفة الأشراف" (12-309) (ح17613) من طريق عامر بن شراحيل الشعبي عن مسروق(1) بن الأجدع أبي عائشة الهمداني، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبعد أن بيّن طريق مسلم في كتاب "الإيمان" من صحيحه قال: "وهو أتم الروايات".
قلت: فقد أخرجه مسلم في "الصحيح" (ح287) من حديث مسروق قال: كنت متكئًا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية.
وكنت متكئًا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: ولقد رآه بالأفق المبين، ولقد رآه نزلة أخرى، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، أو لم تسمع أن الله يقول: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم.
قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فمابلغت رسالته. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله". اه.
قلت: انظر أيها القارئ الكريم إلى الجزء المرفوع من الحديث وهو موضوع بحثنا في الرد على الشيخ في قوله: أنا شخصيا لست مع المفسرين حين يفسرون (دنا) بأن الداني جبريل هذا الجزء المرفوع الذي قالت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
"أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل.." قلت: والشيخ إن لم يكن مع المفسرين فليكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكني أرى أن الشيخ "عفا الله عنا وعنه" لم يقف على هذا الحديث المتفق عليه.
بل ولم يقف على الحديث المتفق عليه الذي أخرجه الإمام البخاري (361-6- فتح) ح (3235) والإمام مسلم ح (290) من طريق الشَّعْبي عن مسروق قال: قلت لعائشة: فأين قوله: "ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى".
قالت: إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء" واللفظ لمسلم.
قلت: والحديث موقوف لفظا مرفوع حكما.
فائدة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "شرح النخبة" (ص141):
"ومثال المرفوع من القول حكما لا تصريحا: أن يقول الصحابي- الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات مالا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة، أو شرح غريب.
1- كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء.
2- أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة.
3- وكذا الإخبار عمَّا يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص
وإنما كان له حكم الرفع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي مُوقِفًا للقائل به، ولا موقِّف للصحابي: إلا النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة، فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع" أه.
قلت: وبتطبيق هذه القاعدة الهامة جدًا التي تدل على دقيق حفظ السنة من الإسرائيليات على حديث عائشة رضي الله عنها نجد أن الحديث مرفوع حكما:
1- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تأخذ عن الإسرائيليات كما هو مقرر عند أهل الحديث.
2- الحديث لا مجال للاجتهاد فيه حيث إنه من أحاديث بدء الخلق ولذلك أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" كتاب رقم (59) "كتاب بدء الخلق" باب (7).
3- يشهد لرفعه الحديث السابق الذي فيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إنما هو جبريل".
بل ولم يقف على الحديث المتفق عليه الذي أخرجه الإمام البخاري في "الصحيح" (476-8- فتح) والإمام مسلم في "الصحيح" ح (280) عن سليمان الشيباني قال: سألت زِرَّ بن حُبَيْش عن قول الله عز وجل: "فكان قاب قوسين أو أدنى" قال:
أخبرني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له سِتمائة جناح"
قلت: وحسبك ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (662-8 فتح) ح (5002) ومسلم في "صحيحه" ح (2463) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "والله الذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لرَكِبت إليه".
فائدة هامة:
ولقد رَدَّ الإمام ابن القيم في "مدارج السالكين (319-3) على أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي صاحب "منازل السائرين" عندما قال الهروي في "باب الاتصال" قال الله تعالى "ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدني" آيس العقول فقطع البحث بقوله "أو أدنى".
فرد عليه الإمام ابن القيم قال: "كأن الشيخ فهم من الآية أن الذي دنا فتدلى فكان- من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى: هو الله عز وجل.
والصحيح: أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام فهو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله: ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى.
هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. قالت عائشة رضي الله عنها: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية؟ فقال: جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين". اه.
قلت: بهذا قد تبيَّن للقارئ الكريم أن قصة اختراق الحجاب ليلة الإسراء قصة مكذوبة وتبين أيضا من الأحاديث الصحيحة أن الذي دنا فتدلى فكان- من محمد #- قاب قوسين أو أدنى: هو جبريل.
وسبحان ربي كيف يخرق الحجاب أو يكشف وقد ثبت في صحيح مسلم ح (179-293) "وسنن ابن ماجه" ح (195) و"سند أحمد" (405-4) ح (19649) من حديث عبد الله بن قيس أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حجابه النور لو كشفه لأَحْرَقت سُبْحَاتٌ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
قلت: ومن المناسبة أن أختم هذا التحقيق بالحديث الذي ختم به الإمام النووي كتابه "رياض الصالحين" هذا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح" ح (181) والترمذي ح (2255)، وابن ماجه ح (187) وأحمد (332-4) وابن أبي عاصم ح (472) والآجُرَّى ح (295) من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أَزِيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل".
فائدة هامة:
لئلا يعتقد من لا دراية له بهذا الفن في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه ما لا يليق بالإمام مسلم متعلقا بقول الإمام الترمذي في "السنن" (593-4):
"هذا حديث إنما أسنده حماد بن سلمة ورفعه، وروى سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد هذا الحديث عن ثابت البُناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله" أه.
قلت: فيطعن في صحيح مسلم بما أعله به الترمذي وهو ليس بعله ولقد بيَّن ذلك الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (26-10) فقال: "قال أبو عيسى الترمذي وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعا عن ثابت غير حماد بن سلمة، ورواه سليمان بن المغيرة، وحماد بن زيد، وحماد بن واقد عن ثابت عن ابن أبي ليلى من قوله ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر صهيب، وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحة الحديث فقد قدمنا في الفصول أن المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين وصححه الخطيب البغدادي: أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متصلا وبعضهم مرسلا، أو بعضهم مرفوعا وبعضهم موقوفا حكم بالمتصل وبالمرفوع لأنهما زيادة ثقة مقبولة عند الجماهير من كل الطوائف والله أعلم" أه.
قلت: أضف إلى ذلك أقوال أئمة هذا الفن في رواية حماد بن سلمة عن ثابت البناني كما في "تهذيب التهذيب" (11-3).
1- قال الدوري عن ابن معين: "من خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد".
2- قال ابن المديني: "لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة".
3- قال أحمد بن حنبل: "أثبتهم في ثابت حماد بن سلمة".
قلت: وبأقوال هؤلاء الأئمة أخذ الشيخ الألباني رحمه الله في "ظلال الجنة" ح (472) حيث قال: حماد بن سلمة ثقة حافظ، ولا سيما في روايته عن ثابت فزيادته حجة وصحح الحديث في "الظلال" ح (472) وصححه في "صحيح الجامع" ح (523) وصححه في "رياض الصالحين" ح (1905) وقال: "يكشف الله تبارك وتعالى الحجاب وهو حجاب منه للعباد، أن يروه فيرفعه عنهم فيروه جل جلاله نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بالنظر إلى وجهه الكريم والحمد لله رب العالمين" أه.
قلت: فما أفضل وما أجمل ما ختم به النووي بهذا الحديث العظيم الذي نسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعلى القراء الكرام برؤية وجهه الكريم وبهذا الختام أراد الإمام النووي رحمه الله أن يظهر عقيدة أهل السنة والجماعة برؤية رب العالمين في الآخرة خلافا للمعتزلة وغيرها".
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.
هامش:
(1) قال الشعبي: "ما رأيت أطلب للعلم من مسروق". كذا في "تهذيب التهذيب" (10-100).
انتهى
إعداد : علي حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت، وكان لاشتهارها وانتشارها أسباب منها:
1- أن هذه القصة أُذيعت على مستوى العالم ضمن حلقات الإسراء والمعراج في برنامج "نور على نور" لأحد الشيوخ، من غير أن نتناول اسمه ولا شخصه؛ لأن الغاية الوقوف على حقيقة ما نُسِب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الحلقة الثانية المذاعة يوم الجمعة 2 شعبان 1393ه الموافق 31 أغسطس 1973م، وسجلت هذه الحلقات وتذاع كل عام بمناسبة الإسراء والمعراج، بل وطبعت في كتاب انتشر بين الوعاظ والقصاص بعنوان "الإسراء والمعراج" تحت الحلقة الثانية (ص72)، حيث جاء فيه:
"ثم بعد ذلك نجد أنه بعد أن انتقل إلى مرحلة يكون فيها ملائكيًا كالملائكة يراهم ويتكلم معهم ويخاطبهم ويفهم، يأتي بعد ذلك في منطقة أخرى بعد سدرة المنتهى فينتهي حد جبريل، ثم بعد ذلك يزج برسول الله في سبحات النور ولم يكن جبريل معه، وهذا دليل على أن محمدًا عليه الصلاة والسلام قد ارتقى ارتقاءًا آخر، ونقل من ملائكية لا قدرة لها على ما وراء سدرة المنتهى إلى شيء من الممكن يتحمل إلى ما وراء سدرة المنتهى، دون مصاحبة جبريل عليه السلام، إذًا فمحمد كان بشرًا في الأرض مع جبريل، وبعد ذلك كانت له ملائكية مع الرسل ومع جبريل في السماء، وبعد ذلك كان له وضع آخر ارتقى به عن الملكية حتى أن جبريل نفسه يقول: "أنا لو تقدمت لاحترقت.. وأنت لو تقدمت لاخترقت".
فذاتية محمد حصل فيها شيء من التغيير، التغيير الذي يناسب ذلك الملأ الأعلى، فجبريل بملائكيته لا يستطيع أن يخترق وإلا احترق، أما هو فيستطيع أن يخترق". اه.
2- وتأثر بقصة اختراق الحجاب أحد الوعاظ من غير ذكر لاسمه أيضًا. يقول في شريط كاسيت قد انتشر واشتهر: "جبريل عند سدرة المنتهى يقول للنبي صلى الله عليه وسلم : السير من هنا قد انتهى، والنبي يقول لجبريل: أفهذا الموضع يترك الخليل خليله، وجبريل يقول: لكل منا مقام معلوم، فوالذي بعثك بالحق لو تقدمت قدر أنملة لاحترقت بأنوار الكمال، ولو تقدمت يا ابن عبد الله لاخترقت أنوار الجلال، تقدم إلى ربك الكبير المتعال، تقدم إلى الله، وهنا يحس النبي برعدة شديدة ويتساءل: أين أنا يا رب؟ فالله يقول: أنت على بساط أنس الله يا محمد".
3- وقصة اختراق الحجاب ليلة الإسراء والمعراج جاءت في كتاب منسوب إلى الصحابي الجليل ابن عباس رضي الله عنهما ويسمى "الإسراء والمعراج للإمام ابن عباس رضي الله عنهما".
قلت: وهو مليء بالكذب والأباطيل، وابن عباس بريء من هذا الكتاب الذي اشتهر وانتشر لصغر حجمه، حيث يحتوي على ست وأربعين صفحة ورخص ثمنه واحتوائه على عجائب منكرة يستميل بها القصاص والوعاظ قلوب العوام.
ففي (ص26): جاءت قصة اختراق الحجاب، حيث نُسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثم تقدمت أمامي فلم أر أخي جبريل معي، فقلت: يا أخي يا جبريل، أفي مثل هذا المكان يفارق الخليل خليله والأخ أخاه، فَلِمَ تركتني وتخلفت عني؟ فنادى: يَعِزُّ عليَّ أن أتخلف عنك، والذي بعثك بالحق نبيًا ما منا إلا له مقام معلوم، ولو أن أحدًا منا تجاوز مقامه لاحترق بالنور، قال صلى الله عليه وسلم : فلما قال لي هذا المقال وضعت يدي على وجهي وأخذتني الرَّعدة والخوف، فضمني جبريل إلى صدره بجناحه، وقال لي: لا تخف ولا تحزن إنما عرج بك ربك ليحييك ويكرمك ويصطفيك ويعطيك، فلما قال لي هذا المقال خفَّ عني كل ما أجده، وإذ بالنداء من قبل الله تعالى: زُجوا حبيبي محمدًا في النور، فأتتني الملائكة برفرف أخضر كمثل المقعد يحمله أربعة من الملائكة فوضعوه بين يدي وقالوا لي: ارق يا محمد، فاستويت على الرفرف فسار بي كالسهم يخرج من القوس، وبينما أنا أتفكر وقد أخذتني الهيبة مما رأيت من الجلال والكمال والبهاء والعظمة وهيبة الله، نوديت: يا أحمد، أمامك أمامك، أدن مني، فخطوت خطوة مسيرة خمسمائة عام، فقيل لي: يا أحمد لا تخف ولا تحزن، فسكن قلبي مما كنت أجده، وأخذ ذلك الرفرف يعلو بي حتى قربني من حضرة سيدي ومولاي، فأبصرت أمرًا عظيمًا لا تناله الأوهام ولا تبلغه الخواطر، سبحانه وتعالى مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فدنوت من ربي حتى صرت منه كقاب قوسين أو أدنى فوضع سبحانه يده بين كتفي ولم تكن يدًا محسوسة كيد المخلوقين، بل يد قدرة وإرادة، فوجدت بردها على كبدي، فذهب عني كل ما كنت أجده وأورثني علم الأولين والآخرين وملئت فرحًا وسرورًا
فأخذني عند ذلك الثبات والسكون، فظننت أن من في السماوات والأرض قد ماتوا إلا أنا لا أسمع هناك لا حسًا ولا حركة، ثم رجع إليَّ عقلي وتفكرت فيما أنا فيه من الشرف العظيم، فنوديت: يا أحمد، ادن مني، فقلت: إلهي وسيدي ومولاي، أنت السلام ومنك السلام، فناداني ثانيًا: ادن مني، فدنوت منه، فقال: وعليك السلام...".
4- وقصة الرفرف الأخضر، واختراق الحجاب وتأخر جبريل: ليلة الإسراء أوردها الإمام ابن عراق في "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة" (1-155: 169) في حديث ابن عباس الطويل، حيث بلغ خمسة وسبعين وثلاثمائة سطر، وفيه بعض الزيادات التي نسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال:
أ- فلما أسرى بي إلى العرش وحاذيت به ودلي لي رفرف أخضر لا أطيق وصفه لكم، فأهوى بي جبريل فأقعدني عليه ثم قصر دوني ورد يديه على عينيه مخافة على بصره أن يلتمع من تلألؤ نور العرش، وأنشأ يبكي بصوت رفيع ويسبح الله تعالى ويحمده ويثني عليه، فرفعني ذلك الرفرف بإذن الله ورحمته إياي وتمام نعمته عليَّ إلى قرب سيد العرش، إلى أمر عظيم لا تناله الألسن ولا تبلغه الأوهام.
ب- فنظرت إليه فإذا هو حين كشف عنه حجبه مستو على عرشه في وقاره وعزه ومجده وعلوه.
ج- فمال إليَّ من وقاره بعض الميل فأدناني منه، فذلك قوله في كتابه يخبركم فعاله بي وإكرامه إياي: ذو مرة فاستوى. وهو بالأفق الأعلى. ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى، حيث مال إليَّ فقربني منه قدر ما بين طرفي القوسين.
د- فلما مال إليَّ من وقاره سبحانه وتعالى وضع إحدى يديه بين كتفي، فلقد وجدت برد أنامله على فؤادي حينًا، ووجدت عند ذلك حلاوته وأطيب ريحه وبرد لذاذته وكرامة رؤيته، وظننت أن من في الأرض والسماوات ماتوا كلهم.
التخريج والتحقيق للقصة:
الحديث الذي جاءت به هذه القصة: أخرجه ابن مردويه في "التفسير" من حديث ابن عباس من طريق ميسرة ابن عبد ربه، كذا في "تنزيه الشريعة" (1-169)، وأخرجه ابن حبان في "المجروحين" (3-11) قال: أخبرنا محمد بَدْوست النسوي: قال: حدثنا حميد بن زِنْجوَيه قال: حدثنا محمد بن أبي خِداش الموصلي قال: حدثنا علي بن قتيبة عن ميسرة بن عبد ربه قال: حدثنا عمر بن سليمان الدمشقي عن الضّحاك بن مزاحم عن ابن عباس مرفوعًا.
1- قال ابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1-169): أخرج ابن حبان قطعة منه.
قلت: وهذا إجمال ما قد فصلنا حيث بيَّنا أنه أخرجه في كتابه "المجروحين" لا في "صحيحه" هذا بالنسبة لمصنفات ابن حبان.
أما قول ابن عراق: "أخرج ابن حبان قطعة منه"، فهو إجمال بالنسبة للمتن، فابن حبان يعرف متن الحديث بطوله، فبعد أن ذكر هذه القطعة من حديث ابن عباس من طريق ميسرة بن عبد ربه عن عمر بن سليمان قال: "فذكره بطوله أكره ذكره لشهرته عند من كتب الحديث وطلبه". اه.
قلت: ثم بيّن الإمام ابن حبان في "المجروحين" (3-11) علة الحديث فقال: "ميسرة بن عبد ربه الفارسي من أهل دَوْرق كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات ويضع المعضلات عن الثقات في الحث على الخير والزجر عن الشر، لا يحل كتابة حديثه إلا على سبيل الاعتبار.
قلت: ثم أخرج ابن حبان هذا الحديث دليلاً على أن ميسرة بن عبد ربه يروي الموضوعات، وذكر قطعة منه، ثم قال: "فذكر- أي ميسرة بن عبد ربه- حديثًا طويلاً في قصة المعراج شبيهًا بعشرين ورقة". وعلل ابن حبان عدم ذكره للحديث بطوله حيث قال: "أكره ذكره لشهرته عند من كتب الحديث وطلبه". اه.
2- أورده الإمام البخاري في كتابه "الضعفاء الصغير" ترجمة (355)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه: يُرْمى بالكذب".
3- أورده الإمام النسائي في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (580)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه: متروك الحديث".
فائدة:
قلت: هذا المصطلح عند النسائي له معناه، حيث قال الحافظ ابن حجر في "شرح النخبة" (ص69): "مذهب النسائي أن لا يترك حديث الرجل حتى يجتمع الجميع على تركه".
4- أورده الدارقطني في كتابه "الضعفاء والمتروكين" ترجمة (510)، ثم قال: "ميسرة بن عبد ربه، بغدادي عن زيد بن أسلم كتاب "العقل" لداود بن المُحبَّر تصنيفه". اه.
فائدة:
يتوهم من لا دراية له بهذا الفن أن عبارة الدارقطني هذه لا تدل على الجرح، ولا يدري أن مجرد ذكر اسم الراوي فقط يدل على أنه متروك، يدل على ذلك قول الإمام البرقاني: "طالت محاورتي مع ابن خمكان لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني عفا الله عني وعنهما في المتروكين من أصحاب الحديث، فتقرر بيننا وبينه على ترك من أثبته على حروف المعجم في هذه الورقات".
5- أقر الإمام الذهبي هذه الأقوال في "الميزان" (4-230-8958).
6- ثم ذكر الإمام الذهبي في "الميزان" (3-202-6129) علة أخرى لحديث القصة، فقال: "عمر بن سليمان عن الضحاك، فذكر حديث الإسراء بلفظ موضوع".
وأقره الحافظ ابن حجر في "اللسان" (4-356) (1731-6082)، وبهذا التحقيق حكم الحافظان الذهبي وابن حجر على حديث القصة في ليلة الإسراء بأنه موضوع.
فائدة:
الموضوع: "هو الكذب المختلق المصنوع وهو شر الضعيف وأقبحه وتحرم روايته مع العلم بوضعه في أي معنى كان سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها إلا مبينًا أي مقرونًا ببيان وضعه". قاله السيوطي في "التدريب" 01-274).
ولقد تأثر بهذه القصة الواهية "قصة اختراق الحجاب" ليلة الإسراء والمعراج كثير من الكتاب والوعاظ والقُصاص، هذا التأثر أدى إلى الغلو في النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى نسبوا إليه أن الله مال إليه بعض الميل فأدناه منه، وذلك قوله تعالى: ثم دنا فتدلى. فكان قاب قوسين أو أدنى {النجم: 8، 9}.
والقارئ الكريم يرى هذا التأثير في الكتاب الذي أوردناه آنفًا والذي يتضمن ثلاث حلقات مذاعة في برنامج "نور على نور" حول الإسراء والمعراج، حيث قال الشيخ في "الكتاب" (ص80): "أنا شخصيًا لست مع المفسرين حين يفسرون: "دنا" المدنو والداني جبريل؛ لأن جبريل معه، وما دام جبريل معه، فماذا دنا؟ فكان قاب قوسين أو أدنى، ذلك ملحظ آخر يعطينا أن الدنو: ثم دنا فتدلى.. لشيء آخر، من ربه، أو ربه منه". اه.
الرد على هذه الشبهة:
1- قول الشيخ - عفا الله عنا وعنه - أنا شخصيًا لست مع المفسرين حين يفسرون "دنا" الداني جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: "الدنو لشيء آخر: من ربه أو ربه منه".
2- ثم بيّن السبب الذي جعله يخالف هؤلاء المفسرين الذين قالوا: أن الدنو هو دنو جبريل.
قلت: هذا السبب فيه نظر؛ لأن الشيخ ظن أن جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدنو وأثناء الدنو وبعد الدنو على صورة واحدة، ولكن جبريل كان في حالة الدنو على صورته التي خلقه الله عليها، هذه الصورة التي هي من آيات الله الكبرى، وهي من أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أعطاه الله سبحانه القدرة في بصره فيرى جبريل منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء والأرض، وأما صورته التي كان فيها معه قبل ذلك فكان يأتيه في صورة الرجال.
هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها، هذا الحديث الذي أورده الإمام المزي في "تحفة الأشراف" (12-309) (ح17613) من طريق عامر بن شراحيل الشعبي عن مسروق(1) بن الأجدع أبي عائشة الهمداني، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وبعد أن بيّن طريق مسلم في كتاب "الإيمان" من صحيحه قال: "وهو أتم الروايات".
قلت: فقد أخرجه مسلم في "الصحيح" (ح287) من حديث مسروق قال: كنت متكئًا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية.
وكنت متكئًا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل: ولقد رآه بالأفق المبين، ولقد رآه نزلة أخرى، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطًا من السماء سادًا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، أو لم تسمع أن الله يقول: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم.
قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فمابلغت رسالته. قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد، فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله". اه.
قلت: انظر أيها القارئ الكريم إلى الجزء المرفوع من الحديث وهو موضوع بحثنا في الرد على الشيخ في قوله: أنا شخصيا لست مع المفسرين حين يفسرون (دنا) بأن الداني جبريل هذا الجزء المرفوع الذي قالت فيه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
"أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل.." قلت: والشيخ إن لم يكن مع المفسرين فليكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكني أرى أن الشيخ "عفا الله عنا وعنه" لم يقف على هذا الحديث المتفق عليه.
بل ولم يقف على الحديث المتفق عليه الذي أخرجه الإمام البخاري (361-6- فتح) ح (3235) والإمام مسلم ح (290) من طريق الشَّعْبي عن مسروق قال: قلت لعائشة: فأين قوله: "ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى".
قالت: إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء" واللفظ لمسلم.
قلت: والحديث موقوف لفظا مرفوع حكما.
فائدة:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "شرح النخبة" (ص141):
"ومثال المرفوع من القول حكما لا تصريحا: أن يقول الصحابي- الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات مالا مجال للاجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة، أو شرح غريب.
1- كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء.
2- أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة.
3- وكذا الإخبار عمَّا يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص
وإنما كان له حكم الرفع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي مُوقِفًا للقائل به، ولا موقِّف للصحابي: إلا النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة، فلهذا وقع الاحتراز عن القسم الثاني وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مرفوع" أه.
قلت: وبتطبيق هذه القاعدة الهامة جدًا التي تدل على دقيق حفظ السنة من الإسرائيليات على حديث عائشة رضي الله عنها نجد أن الحديث مرفوع حكما:
1- أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تأخذ عن الإسرائيليات كما هو مقرر عند أهل الحديث.
2- الحديث لا مجال للاجتهاد فيه حيث إنه من أحاديث بدء الخلق ولذلك أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" كتاب رقم (59) "كتاب بدء الخلق" باب (7).
3- يشهد لرفعه الحديث السابق الذي فيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إنما هو جبريل".
بل ولم يقف على الحديث المتفق عليه الذي أخرجه الإمام البخاري في "الصحيح" (476-8- فتح) والإمام مسلم في "الصحيح" ح (280) عن سليمان الشيباني قال: سألت زِرَّ بن حُبَيْش عن قول الله عز وجل: "فكان قاب قوسين أو أدنى" قال:
أخبرني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له سِتمائة جناح"
قلت: وحسبك ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (662-8 فتح) ح (5002) ومسلم في "صحيحه" ح (2463) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "والله الذي لا إله غيره ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لرَكِبت إليه".
فائدة هامة:
ولقد رَدَّ الإمام ابن القيم في "مدارج السالكين (319-3) على أبي إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي صاحب "منازل السائرين" عندما قال الهروي في "باب الاتصال" قال الله تعالى "ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدني" آيس العقول فقطع البحث بقوله "أو أدنى".
فرد عليه الإمام ابن القيم قال: "كأن الشيخ فهم من الآية أن الذي دنا فتدلى فكان- من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى: هو الله عز وجل.
والصحيح: أن ذلك هو جبريل عليه الصلاة والسلام فهو الموصوف بما ذكر من أول السورة إلى قوله: ولقد رآه نزلة أخرى. عند سدرة المنتهى.
هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح. قالت عائشة رضي الله عنها: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية؟ فقال: جبريل، لم أره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين". اه.
قلت: بهذا قد تبيَّن للقارئ الكريم أن قصة اختراق الحجاب ليلة الإسراء قصة مكذوبة وتبين أيضا من الأحاديث الصحيحة أن الذي دنا فتدلى فكان- من محمد #- قاب قوسين أو أدنى: هو جبريل.
وسبحان ربي كيف يخرق الحجاب أو يكشف وقد ثبت في صحيح مسلم ح (179-293) "وسنن ابن ماجه" ح (195) و"سند أحمد" (405-4) ح (19649) من حديث عبد الله بن قيس أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حجابه النور لو كشفه لأَحْرَقت سُبْحَاتٌ وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه".
قلت: ومن المناسبة أن أختم هذا التحقيق بالحديث الذي ختم به الإمام النووي كتابه "رياض الصالحين" هذا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في "الصحيح" ح (181) والترمذي ح (2255)، وابن ماجه ح (187) وأحمد (332-4) وابن أبي عاصم ح (472) والآجُرَّى ح (295) من حديث صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئا أَزِيدكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أُعطوا شيئا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل".
فائدة هامة:
لئلا يعتقد من لا دراية له بهذا الفن في هذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه ما لا يليق بالإمام مسلم متعلقا بقول الإمام الترمذي في "السنن" (593-4):
"هذا حديث إنما أسنده حماد بن سلمة ورفعه، وروى سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد هذا الحديث عن ثابت البُناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله" أه.
قلت: فيطعن في صحيح مسلم بما أعله به الترمذي وهو ليس بعله ولقد بيَّن ذلك الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (26-10) فقال: "قال أبو عيسى الترمذي وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعا عن ثابت غير حماد بن سلمة، ورواه سليمان بن المغيرة، وحماد بن زيد، وحماد بن واقد عن ثابت عن ابن أبي ليلى من قوله ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر صهيب، وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحة الحديث فقد قدمنا في الفصول أن المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين وصححه الخطيب البغدادي: أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متصلا وبعضهم مرسلا، أو بعضهم مرفوعا وبعضهم موقوفا حكم بالمتصل وبالمرفوع لأنهما زيادة ثقة مقبولة عند الجماهير من كل الطوائف والله أعلم" أه.
قلت: أضف إلى ذلك أقوال أئمة هذا الفن في رواية حماد بن سلمة عن ثابت البناني كما في "تهذيب التهذيب" (11-3).
1- قال الدوري عن ابن معين: "من خالف حماد بن سلمة في ثابت فالقول قول حماد".
2- قال ابن المديني: "لم يكن في أصحاب ثابت أثبت من حماد بن سلمة".
3- قال أحمد بن حنبل: "أثبتهم في ثابت حماد بن سلمة".
قلت: وبأقوال هؤلاء الأئمة أخذ الشيخ الألباني رحمه الله في "ظلال الجنة" ح (472) حيث قال: حماد بن سلمة ثقة حافظ، ولا سيما في روايته عن ثابت فزيادته حجة وصحح الحديث في "الظلال" ح (472) وصححه في "صحيح الجامع" ح (523) وصححه في "رياض الصالحين" ح (1905) وقال: "يكشف الله تبارك وتعالى الحجاب وهو حجاب منه للعباد، أن يروه فيرفعه عنهم فيروه جل جلاله نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بالنظر إلى وجهه الكريم والحمد لله رب العالمين" أه.
قلت: فما أفضل وما أجمل ما ختم به النووي بهذا الحديث العظيم الذي نسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعلى القراء الكرام برؤية وجهه الكريم وبهذا الختام أراد الإمام النووي رحمه الله أن يظهر عقيدة أهل السنة والجماعة برؤية رب العالمين في الآخرة خلافا للمعتزلة وغيرها".
هذا ما وفقني الله إليه وهو وحده من وراء القصد.
هامش:
(1) قال الشعبي: "ما رأيت أطلب للعلم من مسروق". كذا في "تهذيب التهذيب" (10-100).
انتهى
تعليق