الحمد لله الذي جعل شهر رمضان سيد الشهور ، وضاعف فيه الحسنات والأجور ، أحمده وأشكره فهو الغفور الشكور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة أوفرها ليوم النشور ، أرجو برها وذخرها والفوز بها بدار القرار والسرور .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف آمر ومأمور ، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور .
أما بعد :
أخي المسلم المبارك :
ما هي إلا أيام قلائل حتى تكتمل دورة الفلك ، ويشرف على الدنيا كلها هلال شهر رمضان المبارك ، الذي تهفو إليه قلوب المؤمنين وتتشوق إليه نفوسهم ، وتتطلع شوقاً إلى بلوغه لتنتظم في جامعته الكبرى التي تفتح أبوابها كل عام لتستقبل أفواج الصائمين من كل أنحاء المعمورة .
أخي : سنستقبل شهر رمضان بعد أيام ليعيد للقلوب صفاءها ، وللنفوس إشراقها وللضمائر نقاءها ، بعدما تكدرت بفتنة الحياة ، وزحام الدنيا ، وتلوثت بالنزوات العابرة ، والشهوات العارمة فجاء رمضان ليبعثها من رقاد ويوقظها من سبات .
أخي الكريم : إن الله تعالى قد أمتن علينا بشهر عظيم ، ووافد كريم ، قد أظلنا زمانه ، وأدركنا أوانه ، وإن بلوغ هذا الشهر أمنية عظيمة ونعمة جليلة ، ولذلك كان السلف يدعون الله تعالى أن يبلغهم رمضان .
وذلك لأن شهر رمضان شهر عظيم ، فهو أفضل الشهور على الإطلاق ، شهر خصه الله بفضائل كثيرة ، وخيرات عظيمة ، فهو شهر نزول القرآن ، شهر تتنزل فيه الرحمات ، وتغفر فيه الذنوب والسيئات ، وتفتح فيه أبوب الجنات ، وتغلق فيه أبواب النيران ، فيه ليلة هي خير من ألف شهر وغير ذلك من الفضائل العظيمة والخيرات الجسيمة التي خص الله بها هذا الشهر العظيم .
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه رضوان الله عليهم عند حلوله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاكم شهر رمضان شهر مبارك ، فرض الله عز وجل عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب السماء ، وتغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه مردة الشياطين فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم " أخرجه أحمد (9/225،226) والنسائي (4/129) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/490) وتمام المنة ص (395) .
نعم والله إنها بشرى عظيمة ، كيف لا يبشر المؤمن بشهر يفتح الله فيه أبواب الجنة ؟ كيف لا يبشر المذنب بشهر يغلق الله فيه أبواب النار ؟ كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل الله فيه مردة الشياطين ؟ كيف لا يبشر العابد بليلة هي خير من ألف شهر ؟ شهر لا تحصى فضائله ، ولا تعد فوائده فكيف لا يبشر به ؟
أخي الكريم ، ولكي يزداد شوقك لهذا الشهر العظيم فهذه بعض فضائل هذا الشهر المبارك ، لعل أن يكون لك واعظ من نفسك ، فتعلو الهمة وتزكو النفس ، ويصفو القلب ويطهر من عوالق الحياة وفتنها ، ويكون لك النصيب الأوفر من بركة هذا الشهر وخيره .
ا ـ شهر رمضان شهر نزول القرآن والكتب السماوية :
قال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) البقرة / 185 .
وقال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) القدر / 1 .
وقال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) الدخان / 3 .
عن واثله بن الأسقع رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثلاث عشر مضت من رمضان ، وأنزل الزبور لثمان عشر خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " أخرجه أحمد والطبراني في "الكبير" وحسن إسناده الألباني في "صحيح الجامع" (1509) .
فيا أخي الكريم ليكن لك نصيبٌ من القرآن في هذا الشهر المبارك ، الذي أنزل فيه ، وليكن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة , ففي "الصحيحين" عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة .
قال الحافظ ابن رجب : دل الحديث على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك ، وعرض القرآن على من هو أحفظ له ، وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان ا.هـ من "لطائف المعارف" (189) .
وقال أيضاً : كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة كل ست ليال …. وكان قتادة يختم القرآن كل سبع ليال ، فإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث ليال مرة ، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة .
وكان النخعي يفعل مثل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة وفى بقية الشهر في ثلاث .
قال الربيع بن سليمان : كان محمد بن إدريس الشافعي يختم في شهر رمضان ستين ختمه ) ا.هـ لطائف المعارف ص (191) وما بعدها .
وحال السلف رضي الله عنهم مع القرآن في رمضان عجيبة ، فلا تكن من الغافلين في هذا الشهر عن قراءة القرآن , بل كن من الذاكرين له آناء الليل وأطراف النهار .
2- شهر رمضان شهر القيام والتراويح والتهجد :
قف أخي عند هذه البشائر التي بشر بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من قام رمضان إيمانا واحتسابا :
(**1) من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه البخاري (2008) ومسلم (759) .
(2) من قام رمضان فهو من الصديقين والشهداء : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، وصليت الصلوات الخمس ، وأديت الزكاة ، وصمت رمضان وقمته فممن أنا ؟ قال " من الصد يقين والشهداء " أخرجه البزار وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحها" واللفظ لابن حبان ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب رقم (993) .
(3) من قام مع إمامة حتى ينصرف كتب له قيام ليلة :جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام الليلة " أخرجه أبو داود واللفظ له ، والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وقال الألباني في "صلاة التراويح" (ص:15) :سنده صحيح .
فيا أخي :
هل بعد هذا الفضل من فضل ؟ هل بعد هذا الخير من خير ؟ أما زلت مصراً على تقصيرك وتركك لصلاة التراويح وللقيام بعد ما سمعت وقرأت هذه الأحاديث ؟ أما زلت تقضي الليل في السمر والفجور ومشاهدة ما حرم الله تعالى ، وسماع الأغاني والطرب والمجون ؟
ألا فاتق الله في عمرك ، وأقبل على صلاة التراويح يقبل الله عليك ، فطوبى لعبد صام نهاره ، وقام أسحاره .
3- شهر رمضان شهر تكفير الذنوب :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " أخرجه البخاري (38) مسلم (759) .
قال الإمام الخطابي : ( " إيمانا واحتسابا " أي نية وعزيمة ، وهو أن يصوم على التصديق والرغبة في ثوابه ، طيبة به نفسه غير كاره له ، ولا مستثقل لأيامه ، لكن يغتنم أيامه لعظم الثواب ) ا.هـ فتح الباري لابن حجر (4/138-139)
أخي : إن تكفير الذنوب والخطايا نعمة من الله عظيمة ، ومنةٌ من الله جسيمة ، وذلك لمن سلك سبيل الهداية ، وترك سبل الضلال والغواية ، وهذا رمضان بين يديك ، فاغتنم الفرصة عسى الله أن يغفر لك ذنبك ، ويحط عنك خطأك ويمحو عنك سيئاتك .
4- شهر رمضان شهر العتق من النيران :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ، صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ، وياباغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة " أخرجه الترمذي (682) وابن ماجة (1642) وابن خزيمة (1883) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/585) .
وعن أبي أمامه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لله عز وجل عند كل فطر عتقاء " أخرجه أحمد (5/256) وغيره ، وقال الألباني في "صحيح الترغيب" 1/586 (1001) : حسن صحيح .
فتعرض أخي الكريم لنفحات الرب جل جلاله في هذا الشهر الكريم ، عسى الله أن يمن عليك بكرمه وجوده فيعتق رقبتك من النار ، فتكون من السعداء الفائزين بجنة الخلد عنده سبحانه وتعالى .
5- شهر رمضان شهر تفتح فيه أبواب الجنان ، وتغلق فيه أبواب النيران :
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين " متفق عليه البخاري (1898) مسلم (1079) وفي رواية مسلم عنه : " فتحت أبواب الرحمة ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين " مسلم (1079/2) .
فيا أخي :
اعلم أن أبواب الجنة تفتح في رمضان ، وأن أبواب النار تغلق فيه أيضا ، وذلك على الحقيقة دون تأويل ، وهذا من نعم الله العظيمة ، يتفضل بها على عباده في هذا الشهر الكريم .
فوا عجباً لمن يعلم أن الجنة تفتح أبوابها وتتزين للصائمين في رمضان ، ثم لا يشتاق إليها ويحث السير نحوها ، ويسعى لها .
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من خاف أدلج ،ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة " أخرجه الترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه ، وحسن إسناده الألباني في الصحيحة (2/637-638) (954) وانظر المشكاة ( 5348 ) .
اعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
فالحذر أن تقدم على جنة عرضها السموات والأرض وليس لك فيها موضع قدم .
تعليق