الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى..
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [التوبة: 36].
وعن أبي بكرة رضي الله عنهُ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حُرُم: ثلاثة متواليات ذو القعدةِ وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان" رواه البخاري، وقال الحسن: إنَّ الله افتتح السنة بشهر حرام، وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرَّم.
لقد جعل الله فاتحة العام شهراً مباركاً نجى الله فيه موسى وقومه من فرعون وقومه، فشرع فيه الطاعة والعبادة والصوم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ". رواه مسلم. وكانوا يسمون شهر المحرم شهر الله الأصم لشدة تحريمه. والمحرم سمي بذلك لكونه شهراً محرماً وتأكيداً لتحريمه.
قال أبو عثمان النهدي عن السلف: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم.
ومن عظيم فضل الله أن جعل آخر شهر في العام شهر عبادة وطاعة، وأول شهر في العام شهر عبادة وطاعة ليفتتح المرء عامه بإقبال ويختتمه بإقبال، قال ابن رجب:
" من صام من ذي الحجة وصام من المحرم فقد ختم السنة بالطاعة وافتتحها بالطاعة فيرجى أن تكتب له سنته كلها طاعة، فإن من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العمَلَين ".
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشهر شهر الله المحرم فاختصه بإضافته إلى الله، وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله، ولما كان هذا الشهر مختصاً بإضافته إلى الله وكان الصيام من بين الأعمال مختصاً بإضافته إلى الله ناسب أن يختص هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إلى الله المختص به وهو الصوم. (انظر لطائف 85-86).
ومما اختص به شهر الله المحرم يومه العاشر وهو يوم عاشوراء. وهو يوم مبارك معظم منذ القدم:
فاليهود أتباع موسى عليه السلام كانوا يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه ويتخذونه عيداً لهم، ويلبسون فيه نساءهم حليهم واللباس الحسن الجميل، وسر ذلك أنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام من فرعون. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال:"ما هذا" قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى. رواه البخاري. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال:" كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم". رواه البخاري.
وكذلك النصارى كان لهم حظ من تعظيم هذا اليوم، والظاهر أنهم في هذا تبع لليهود، إذ أن كثيراً من شريعة موسى عليه السلام لم ينسخ بشريعة عيسى بدليل قوله تعالى:
﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [آل عمران: 50].
وحتى قريش فإنها على وثنيتها وعبادتها الأصنام كانت تصوم يوم عاشوراء وتعظمه! تقول عائشة رضي الله عنها:(كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية). رواه مسلم.
وأما سر صيامهم هذا، فلعله مما ورثوه من الشرع السالف، وعن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: (أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل: صوموا عاشوراء يكفر ذلك).
وحين جاء الإسلام، وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورأى اليهود يصومون هذا اليوم فرحاً بنجاة موسى قال:" أنا أحق بموسى منكم". فصامه وأمر بصيامه. متفق عليه.
وكان ذلك في أول السنة الثانية، فكان صيامه واجباً فلما فرض رمضان انتقل صومه من الأمر إلى التطوع، وإذا علمنا أن صوم رمضان في السنة الثانية للهجرة تبين لنا أن الأمر بصوم عاشوراء وجوباً لم يقع إلا في عام واحـد، تقول عائشة رضي الله عنها: ( فلما قدم صلى الله عليه المدينة صامه - أي عاشوراء - وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه) رواه البخاري.
وصوم عاشوراء وإن لم يعد واجباً فهو مما ينبغي الحرص عليه غاية الحرص، وذلك لما يأتي:
صيامه يكفر السنة الماضية ففي صحيح مسلم أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء فقال:" أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله "- تحري الرسول صلى الله عليه وسلم صيام هذا اليوم فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال:( ما رأيت النبي يتحرى صوم يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء). رواه البخاري.
وقوع هذا اليوم في شهر الله المحرم الذي يسن صيامه.
كان الصحابة رضي الله عنهم يصومون فيه صبيانهم تعويداً لهم على الفضل، فعن الربيع بنت معوذ قالت أرسل النبي صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار:" من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه، ومن أصبح صائماً فليصم". قالت: فكنا نصومه بعدُ ونصوم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار. رواه البخاري.
وكان بعض السلف يصومون يوم عاشوراء في السفر، ومنهم ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي والزهري، وكان الزهري يقول:
"رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت، ونص أحمد على أنه يصام عاشوراء في السفر."
والسنة في صوم هذا اليوم أن يصوم التاسع قبله، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع". رواه مسلم.
ولا يكره على الصحيح إفراد اليوم العاشر بالصوم كما قال ابن تيمية رحمه الله. وإن لم يتمكن الإنسان من صوم يوم قبله أو بعده وصام عاشوراء وحده فلا حرج عليه وإن وافق يوم السبت، قال صاحب الشرح الكبير: وإن وافق صوماً لإنسان لم يكره. (الشرح7 /533).
وأما ما ورد في بعض الأحاديث من استحباب الاختضاب والاغتسال والتوسعة على العيال في يوم عاشوراء فكل ذلك لم يصح منه شيء، قال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء فيمن وسع على أهله يوم عاشوراء فلم يره شيئاً. (لطائف العارف 125).
وقال ابن تيمية: لم يرد في ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين … ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً… لا صحيحاً ولا ضعيفاً … ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. (الفتاوى 25 /299و317).
وقال الحافظ ابن رجب: وأما اتخاذه مأتما كما تفعل الرافضة لأجل قتل الحسين فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعاً، ولم يأمر الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً فكيف بمن هو دونهم. (لطائف المعارف 126).
شهر الحرام مبارك ميمون
والصوم فيه مضاعف مسنون
وثواب صائمه لوجه إلهه
في الخلد عند مليكه مخزون
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
وجعلنا الله وايّاكم ممن يتبعون هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
منقول