بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله واله وصحبه ومن والاه
ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أمّا بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإن السيرة النبوية المباركة كتابٌ ناطق وصفحاتٌ شاهدة بمقدار ما تنطوي عليه قلوب الكافرين من عداوة لله ورسوله ولعباد الله المؤمنين، كتابٌ ناطقٌ بعداوة هؤلاء للحقّ وأهله، كتابٌ ناطقٌ بما يجب أنْ يكون عليه المسلمون من حرصٍ وحذرٍ وجهادٍ وبذلٍ وحبٍ للفداء والتضحية.
إنّ أحداث السيرة النبوية المباركة يستلهم منها المسلمون المؤمنون دروسًا وعبرًا لحاضرهم ومستقبلهم، فإنّ الله عز وجل قد خاطبنا ـ معشر المؤمنين ـ بقوله: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
ليست أحداث السيرة المباركة حكاياتٍ مَضَتْ وانقضت وعفى أثرها وذهب أمرها، بل سيرة رسول الله مرآةٌ فاحصة، إذا نظر فيها المسلم أدرك ما يدور حوله، وعرف أنّ الذي أصاب رسول الله وأصحابه مِن أحزانٍ وآلامٍ وجراحٍ ودماءٍ وأشلاءٍ، كل ذلك أُريد منه أنْ يتعلّم المسلمون أنّ تاريخ الدعوة طويلٌ، وأنّ الكافرين لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمة، لا يُضمِرون لهم خيرًا، ولا يوفون بعهدٍ ولا ميثاق، وأنّهم أشدُّ الناس عداوة للمؤمنين، لأهل الحق، لأصحاب الهدى.
أيها المسلمون، عباد الله، حدثان عظيمان في سيرة رسول الله كثيرًا ما غفل الناس عنهما، وما انتبهوا إليهما، كثيرًا ما كان ينبغي أنْ يُعرَض هذان الحدثان بتفاصيلهما من أجل أنْ يَعرف الناس أنّ نبيّنا محمدًا في طريقه للدعوة فَقَدَ أصحابًا وأنصارًا وإخوانًا وأصهارًا، جاهدوا في الله حقّ جهاده، وثبتوا على المبدأ مِن أولِّ أمْرِهم إلى نهاية أعمارِهِم، كانوا بالعهد موفين، وكانوا على الصراط المستقيم راسخين، ما زلَّت أقدامهم، ولا ضلَّت أفهامهم، ولا التمسوا بُنَيّات الطريق.
في صفر مِنْ العام الرابع مِنْ الهجرة النبوية المباركة قدم وفْدٌ مِنْ عَضَل والقَارَة ـ قبيلتان مِنْ قبائل نجد ـ، قدموا على رسول الله وأظهروا الإسلام وقالوا: يا رسول الله، إنّ فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا مِنْ أصحابك يُقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فاختار النبي لهذه المهمة العظيمة لهذا الأمر الجلل ستةً مِنْ الصالحين الطيبين مِنْ القُراءِ الواعين العلماء الراسخين: مَرْثد بن أبي مَرْثد الغنويّ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البُكيْر، وخُبَيْب بن عَديّ.
بعث بهم رسول الله مِنْ أجل أنْ يقوموا بهذا الأمر: تعليمٌ وتزكية، تفقيهٌ وتربية، فخرجوا مع أولئك القوم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، جاؤوا بوجوهٍ بريئةٍ، ولكنّهم كانوا يحملون قلوبًا مريضة، قلوب المنافقين، المنافقون الذين يُظهرون خلاف ما يُبطنون، ويقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون.
لمّا ذهب القوم وبلغوا مكانًا يُقال له: الرجيع ـ ماءٌ بين عسفان ومكّة ـ، لمّا بلغوا ذلك المكان استصرخوا عليهم أقوامًا مِن الكفار، فأحاطوا بهؤلاء الستة الصالحين القُراء العلماء، أحاطوا بهم وقد شهروا سيوفهم، ثم قالوا لهم: لكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، ولكننا نريد أنْ نصيب بكم مِن أهل مكة، نريدُ أنْ نبيعكم إلى أهل مكّة ونصيب بكم مالاً، فماذا كان موقف أصحاب رسول الله ، هؤلاء الستة الطيبون رضوان الله عليهم؟
أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقال: والله، لا أقبل من مشركٍ عهدًا ولا عقدًا. كان يعلم يقينًا أنّ المشرك الذي نقض العهد مع الله، أخَذَ عليه العهد يومَ الميثاق حين أخرجه من صلب أبيه آدم قال للناس جميعًا: أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا [الأعراف:172]، هذا المشرك عاهد ربّه على ذلك يوم الميثاق، فلما خرج إلى الدنيا متّعه الله بالسمع والبصر، وأسبغ عليه النعم ظاهرةً وباطنةً، فنقض العهد مع الله، أشرك بالله وكفر به، سبّه واستهزأ بآياته، أعرض عن هداه.
قال عاصم: لا أقبل من مشركٍ عهدًا ولا عقدًا، وقد عاهدتُ ربي أن لا يمسني مشركٌ، وأن لا أمسّ مشركًا. ثم قام معه خالد ومرثد يُقاتلون حتى قُتِلوا رضوان الله عليهم.
أما ثلاثةٌ وهم عبد الله بن طارقٍ وزيدُ بن الدَّثِنة وخُبيب بن عديّ رضوان الله عليهم فقد ألقَوا بأيديهم، وصدّقوا القوم في وعودهم، لأنّ المؤمن غِرٌّ قد يُخدَع، يظنّ أنّ الناس جميعًا صادقون، وأنّهم بعهودهم موفون، فألقوا بأيديهم، فما أنْ أمسكوا بهم حتى حلوا أوتار قسيّهم، ثم قيّدوهم بها، قال عبد الله بن طارق: هذا والله أوّل الغدر. هذه أول علامةٍ مِن علامات الغدر، أول دليلٍ من أدلة اللؤم.
ثم لما كانوا ببعض الطريق حلّ عبد الله بن طارقٍ رضي الله عنه يدَه، ثم حمل سيفه وتربّص بالقوم ليقاتلهم، لكنّهم كانوا جبناء، كانوا أذلّة صاغرين، ما اجترؤوا على قتاله، بل وقفوا من بعيد يرجمونه بالحجارة حتى فاضت روحه إلى بارئها.
بقيَ خُبيب بن عديّ وزيد بن الدَّثِنة رضوان الله عليهما، فلمّا ذهبوا بهم إلى مكّة باعوهما، أما خُبيب بن عديّ رضي الله عنه فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر الذي قُتِل يوم بدر، وأما زيد بن الدَّثِنة فقد اشتراه صفوان بن أمية ليقتلَه بأبيه أمية بن خلف الجُمَحيّ الذي قُتل يوم بدر، ثم بعد ذلك حُبسا وما زال أهل مكّة تتلمظُ شفاههم، وتتحرق قلوبهم، وينتظرون ساعة الانتقام، الساعة التي يقتلون فيها أسيرين مُقيَّدين لا حول لهما ولا طول، لا قوة ولا بأس، لا يقتلونهما في ميدان نِزال، ولا في حال قتال، وإنما يقتلونهما وهُما مقيدانِ مربوطان أسيران، لا يملكان لأنفسهما نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.
فخرج القوم بخُبيب بن عديّ رضي الله عنه، فاستأذن مِن الناس أنْ يُصلّيَ ركعتين قبل أنْ يُنفّذ فيه حُكم الإعدام، ما صرخ ولا بكى، ولا اشتهى طعامًا، ولا طلب بأولاده لقاءً، وإنّما أراد أنْ يقف بين يدي ربّه مصليًا راكعًا ساجدًا قبل أنْ تُزهق روحه، قبل أنْ تذهب نفسه، فكان رضي الله عنه أول مَنْ سنّ الصلاة قبل القتل.
ثم بعد ذلك ماذا قال رضي الله عنه؟ قال للمشركين: والله لولا أني أخشي أن تقولوا: قد خاف من الموت لطوّلت فيهما، لصليت ركعتين طويلتين، أتلذّذ فيهما بمناجاة ربي والوقوف بين يدي مولاي.
ثم بعد ذلك دعا ربه فقال: اللهم إنّا قد بلّغنا رسالة نبيك، فأبلغه عنّا الغداة ما يُفعل بِنا. ثم دعا على المشركين فقال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا. ثم رُفع رضي الله عنه على الخشبة وقتل، مضى إلى ربه شهيدًا.
وأما زيد بن الدَّثِنة رضي الله عنه فقد أخرجوه للقتل على ملأ من الناس، فقال له أبو سفيان بن حرب ـ وهو يريد أن يشفي غليلَه، وقد كان كافرًا مشركًا، عظيم الضّغن على رسول الله ـ، قال له: يا زيد، أتحبّ أنك بين أهلك وولدك ومحمدٌ يقتل مكانك؟ فقال له زيد بن الدَّثِنة في ذلك الموقف الذي يحار فيه اللبيب، يطيش فيه العقل، وتذهب فيه الفكرة، قال له زيد رضي الله عنه ـ وهو رابط الجأش ثابت القلب لا يتردّد ولا يتلجلج ـ، قال: والله ما أحبّ أني بين أهلي وولدي ورسول الله يُشاك بشوكة، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا يحُبّ أحدًا كحُبّ أصحاب محمدٍ محمدًا، ثم قتلوا زيدًا رضي الله عنه، قدّموا غلامًا عبدًا لصفوان بن أمية يقال له: نسطاس فطعنه.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه الحادثة في السيرة النبوية المباركة فقَد فيها رسول الله ستة مِن خيار أصحابه، من الصالحين القانتين الطيبين العابدين، لكنّ فيها فوائد.
في هذه القصة المباركة علّمنا رسول الله أن الدعوة فداؤها الرجال، فداؤها العلماء الأفذاذ، فداؤها القرّاء الطيبون، فداؤها الفُقهاء الصالحون، يقدِّمون أنفسهم طاعة لله ورسوله، يسترخصون دماءهم في سبيل الله وتبليغ دينه.
ثم ثانيًا: تعلّمنا من هذه القصة أنّ المشرك لا يؤمَنُ غدرُه، كان الوفاء قيمة مرعيّةً في العرب، ما كانوا يغدرون بذمّة، وما كانوا يُخْفِرون بعهد، لكن هؤلاء المشركين لمّا كانوا يواجهون جماعةً من المؤمنين نسوا تلك القيَم الأصيلة، مثلما يتبجّح المشركون اليوم بأنّهم أهل الحريّات، وأنّهم أهل حقوق الإنسان، وأنهم الذين يُعلّمون الناس الديمقراطية وإبداء الرأي، ثم بعد ذلك إذا كانت العداوة للمسلمين فلا حريةَ ولا رأي، لا ديمقراطيةَ ولا حقوق إنسان، كل هذه القيم تكون تحت النعال ودَبَر الآذان، لا يُفكّرون فيها، ولا يُدندنون حولها، مع المسلمين لا حرية ولا رأي ولا حقوقَ للإنسان ولا هذه الشعارات الجوفاء، كلها تذهب أدراج الرياح، لا قيمة لها.
ثم ثالثًا: في هذه الحادثة مِن أحداث السيرة النبوية المباركة نُثبت كرامات الأولياء، أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، عبادُ الله الصالحون أولياؤه المقربون، مَن والَوْا بين الطاعات، وتقرّبوا إلى الله بالسُّنن بعد الواجبات، هؤلاء اللهُ عزّ وجلّ يثبِّتهم ويؤازرهم ويسددهم ويُقويهم ويَرعاهم ويحميهم:
أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أمير القوم رضي الله عنه، عاصم بن ثابت هذا يومَ بدر قتَل رجُلين من المشركين أمُّهما سُلافة بنت سعد، فنذرت إنْ ظفرت برأس عاصم بن ثابت أنْْ تشرب في قِحفه الخمر، أنْ تشرب في دماغه الخمر، المشركون بعدما قتلوا عاصمًا في ميدان الشرف في ميدان الوغى أرادوا أنْ يأخذوا جسده الشريف ليبيعوه إلى تلك المرأة الكافرة، ماذا فعل الله لوليّه؟ ماذا فعل الله لهذا العبد الصالح؟ أرسل الله عزّ وجلّ ظُلّة مِن الدَّبر من الزنابير أو من ذكورِ النحل، فأحاطت به وأظلّته، ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه، ولا أن يقترِبوا منه، ولا أن يمسّوا جسدَه، حتى قال بعضهم لبعض: انتظروا حتى إذا كان الليل أخذناه، فماذا فعل الله بهم لما أقبل الليل؟ أرسل الله عز وجل سيلاً جارفًا حمل ذلك الجثمان الشريف إلى حيث لا يعلم مكانه إلاّ الله، ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه، لِمَ؟ لأنّه صدق الله فصدَقه، كان رجلاً عقيدةُ الولاءِ البراءِ قد تخللت قلبه، قد خالطت شِغافَ فؤاده، عاهد الله أن لا يمسَّ مشركًا ولا يمسّه مشرك، ما كان متهوّكًا متردّدًا، يتزلّف للمشركين، ويتقرب للكافرين، ويتمسح بأعتاب المنافقين، بل بلغ من حبه لله وحبه لرسول الله واعتزازه بإيمانه وافتخاره بإسلامه أن يُعاهد الله أن لا يمس مشركًا ولا يمسه مشرك، لِمَ؟ لأنّه تعلّم من شريعة الإسلام أنّ المشركين نَجَس، المشرك نجِس القلب، نجِس الاعتقاد، نجِس الباطن، نجِس الفؤاد، ثم بعد ذلك في الظاهر لا يتورّع عن النجاسات، قد يأكل الدم، قد يشرب الخمر، قد لا يتمسح من بوله وعذرته، لا يتورع عن النجاسات، فهو نجسٌ ظاهرًا وباطنًا. لمّا كان عاصم بن ثابت رضي الله عنه قوي الإيمان صحيح اليقين حماه الله عز وجل.
وأما خُبيب بن عديّ رضي الله عنه فلما كان محبوسًا مقيدًا وعلم أنّ ساعة القتل قد دنت وأنّ لقاءه بربّه قد اقترب طلب من جارية لبني الحارث بن عامر، جارية، خادمة، أمة، طلب منها موسى حديدة ليحلق عانته ليتهيّأ للقاء ربّه، فجاءته بتلك الحديدة التي طلب، بينما هو يحملها في يده إذا غلامٌ صغيرٌ من بني الحارث قد دبّ حتى دخل عليه، فأجلسه خُبيبٌ في حِجْره، يُداعبه ويُلاعبه يحنو عليه ويُلاطفه؛ لأنّه تعلم ذلك من رسول الله ، تعلّم توقير الكبير والعطف على الصغير وإنزال كلّ إنسانٍ منزلته، لما رأت تلك الجارية ذلك الغلام جالسًا في حِجْر خُبيب والحديدة في يده فزعت وقالت في نفسها: قد أدرك الرجل ثأره، والله ليقتلنّ الغلام، خُبيب رضي الله عنه وليُّ الله تفرّس بما حدّثت به المرأة نفسها، فقال لها: أخشيت أن أقتله؟ والله ما كنتُ لأفعل. ما تعلمنا من رسول الله أن نقتل صغيرًا، ولا أن نعتديَ على طفلٍ، ما تعلّمنا من شريعة الإسلام أن نؤاخذ صغيرًا بجريرة كبير، "ما كنت لأفعل".
تقول هذه الجارية بعدما أسلمت رضي الله عنها، تقول: ما رأيت أسيرًا قطّ خيرًا من خُبيب، والله لقد رأيت بين يديه قِطفًا من عنب وما بمكّة يومئذٍ عنبٌ قطّ، وإنّه لمقيّد اليدين، وإنّما هو رزقٌ ساقه الله إليه. أعادوا كرامة مريم ابنة عمران التي قال الله في شأنها: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].
أيها المسلمون، عباد الله، قبل أنْ يصل خبر هؤلاء الستة إلى رسول الله ، وقبل أنْ يعلم بمقتلهم رضوان الله عليهم جاء نفرٌ مِن أهل نجدٍ بقيادة عامر بن مالك المعروف: بمُلاعب الأسنّة، جاء يطلب مِن رسول الله قُراء عُلماء ليُعلّموا الناس القرآن ويشرحوا لهم الإسلام، فقال النبي : ((إنّي أخشى عليهم أهلَ نجد))، فقال الرجل: أنا لهم جارٌ يا رسول الله، ماذا حدث مع هؤلاء؟ كانوا سبعين فيهم حرام بن مِلحان، فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، فيهم الحارث بن الصِّمَّة، نافع بن بُدَيل بن ورقاء، وغيرهم، فيهم نفرٌ كِرامٌ، صالحون طيبون، سبعون من القُرّاء، يحتطبون بالنهار ويتدارسون القرآن ويُصلون بالليل، ويُطعمون أهل الصُفة، فإذا نادى المنادي: حيّ على الجهاد كانوا في أول الناس، ماذا حدث مع هؤلاء؟ حدث ما حدث مع أولئك في خبر ينبغي أنْ يُفصَّل وأنْ يُبيّن.
نسأل الله عز وجل أن يجزي أصحابَ محمد عنّا وعن الإسلام خيرًا، وأن يرفع درجاتهم في أعلى عليّين، وأن يرزقنا السير على طريقهم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
يتبع باذن الله
ثم أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أمّا بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإن السيرة النبوية المباركة كتابٌ ناطق وصفحاتٌ شاهدة بمقدار ما تنطوي عليه قلوب الكافرين من عداوة لله ورسوله ولعباد الله المؤمنين، كتابٌ ناطقٌ بعداوة هؤلاء للحقّ وأهله، كتابٌ ناطقٌ بما يجب أنْ يكون عليه المسلمون من حرصٍ وحذرٍ وجهادٍ وبذلٍ وحبٍ للفداء والتضحية.
إنّ أحداث السيرة النبوية المباركة يستلهم منها المسلمون المؤمنون دروسًا وعبرًا لحاضرهم ومستقبلهم، فإنّ الله عز وجل قد خاطبنا ـ معشر المؤمنين ـ بقوله: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
ليست أحداث السيرة المباركة حكاياتٍ مَضَتْ وانقضت وعفى أثرها وذهب أمرها، بل سيرة رسول الله مرآةٌ فاحصة، إذا نظر فيها المسلم أدرك ما يدور حوله، وعرف أنّ الذي أصاب رسول الله وأصحابه مِن أحزانٍ وآلامٍ وجراحٍ ودماءٍ وأشلاءٍ، كل ذلك أُريد منه أنْ يتعلّم المسلمون أنّ تاريخ الدعوة طويلٌ، وأنّ الكافرين لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمة، لا يُضمِرون لهم خيرًا، ولا يوفون بعهدٍ ولا ميثاق، وأنّهم أشدُّ الناس عداوة للمؤمنين، لأهل الحق، لأصحاب الهدى.
أيها المسلمون، عباد الله، حدثان عظيمان في سيرة رسول الله كثيرًا ما غفل الناس عنهما، وما انتبهوا إليهما، كثيرًا ما كان ينبغي أنْ يُعرَض هذان الحدثان بتفاصيلهما من أجل أنْ يَعرف الناس أنّ نبيّنا محمدًا في طريقه للدعوة فَقَدَ أصحابًا وأنصارًا وإخوانًا وأصهارًا، جاهدوا في الله حقّ جهاده، وثبتوا على المبدأ مِن أولِّ أمْرِهم إلى نهاية أعمارِهِم، كانوا بالعهد موفين، وكانوا على الصراط المستقيم راسخين، ما زلَّت أقدامهم، ولا ضلَّت أفهامهم، ولا التمسوا بُنَيّات الطريق.
في صفر مِنْ العام الرابع مِنْ الهجرة النبوية المباركة قدم وفْدٌ مِنْ عَضَل والقَارَة ـ قبيلتان مِنْ قبائل نجد ـ، قدموا على رسول الله وأظهروا الإسلام وقالوا: يا رسول الله، إنّ فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا مِنْ أصحابك يُقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فاختار النبي لهذه المهمة العظيمة لهذا الأمر الجلل ستةً مِنْ الصالحين الطيبين مِنْ القُراءِ الواعين العلماء الراسخين: مَرْثد بن أبي مَرْثد الغنويّ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البُكيْر، وخُبَيْب بن عَديّ.
بعث بهم رسول الله مِنْ أجل أنْ يقوموا بهذا الأمر: تعليمٌ وتزكية، تفقيهٌ وتربية، فخرجوا مع أولئك القوم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، جاؤوا بوجوهٍ بريئةٍ، ولكنّهم كانوا يحملون قلوبًا مريضة، قلوب المنافقين، المنافقون الذين يُظهرون خلاف ما يُبطنون، ويقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون.
لمّا ذهب القوم وبلغوا مكانًا يُقال له: الرجيع ـ ماءٌ بين عسفان ومكّة ـ، لمّا بلغوا ذلك المكان استصرخوا عليهم أقوامًا مِن الكفار، فأحاطوا بهؤلاء الستة الصالحين القُراء العلماء، أحاطوا بهم وقد شهروا سيوفهم، ثم قالوا لهم: لكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، ولكننا نريد أنْ نصيب بكم مِن أهل مكة، نريدُ أنْ نبيعكم إلى أهل مكّة ونصيب بكم مالاً، فماذا كان موقف أصحاب رسول الله ، هؤلاء الستة الطيبون رضوان الله عليهم؟
أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقال: والله، لا أقبل من مشركٍ عهدًا ولا عقدًا. كان يعلم يقينًا أنّ المشرك الذي نقض العهد مع الله، أخَذَ عليه العهد يومَ الميثاق حين أخرجه من صلب أبيه آدم قال للناس جميعًا: أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا [الأعراف:172]، هذا المشرك عاهد ربّه على ذلك يوم الميثاق، فلما خرج إلى الدنيا متّعه الله بالسمع والبصر، وأسبغ عليه النعم ظاهرةً وباطنةً، فنقض العهد مع الله، أشرك بالله وكفر به، سبّه واستهزأ بآياته، أعرض عن هداه.
قال عاصم: لا أقبل من مشركٍ عهدًا ولا عقدًا، وقد عاهدتُ ربي أن لا يمسني مشركٌ، وأن لا أمسّ مشركًا. ثم قام معه خالد ومرثد يُقاتلون حتى قُتِلوا رضوان الله عليهم.
أما ثلاثةٌ وهم عبد الله بن طارقٍ وزيدُ بن الدَّثِنة وخُبيب بن عديّ رضوان الله عليهم فقد ألقَوا بأيديهم، وصدّقوا القوم في وعودهم، لأنّ المؤمن غِرٌّ قد يُخدَع، يظنّ أنّ الناس جميعًا صادقون، وأنّهم بعهودهم موفون، فألقوا بأيديهم، فما أنْ أمسكوا بهم حتى حلوا أوتار قسيّهم، ثم قيّدوهم بها، قال عبد الله بن طارق: هذا والله أوّل الغدر. هذه أول علامةٍ مِن علامات الغدر، أول دليلٍ من أدلة اللؤم.
ثم لما كانوا ببعض الطريق حلّ عبد الله بن طارقٍ رضي الله عنه يدَه، ثم حمل سيفه وتربّص بالقوم ليقاتلهم، لكنّهم كانوا جبناء، كانوا أذلّة صاغرين، ما اجترؤوا على قتاله، بل وقفوا من بعيد يرجمونه بالحجارة حتى فاضت روحه إلى بارئها.
بقيَ خُبيب بن عديّ وزيد بن الدَّثِنة رضوان الله عليهما، فلمّا ذهبوا بهم إلى مكّة باعوهما، أما خُبيب بن عديّ رضي الله عنه فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر الذي قُتِل يوم بدر، وأما زيد بن الدَّثِنة فقد اشتراه صفوان بن أمية ليقتلَه بأبيه أمية بن خلف الجُمَحيّ الذي قُتل يوم بدر، ثم بعد ذلك حُبسا وما زال أهل مكّة تتلمظُ شفاههم، وتتحرق قلوبهم، وينتظرون ساعة الانتقام، الساعة التي يقتلون فيها أسيرين مُقيَّدين لا حول لهما ولا طول، لا قوة ولا بأس، لا يقتلونهما في ميدان نِزال، ولا في حال قتال، وإنما يقتلونهما وهُما مقيدانِ مربوطان أسيران، لا يملكان لأنفسهما نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.
فخرج القوم بخُبيب بن عديّ رضي الله عنه، فاستأذن مِن الناس أنْ يُصلّيَ ركعتين قبل أنْ يُنفّذ فيه حُكم الإعدام، ما صرخ ولا بكى، ولا اشتهى طعامًا، ولا طلب بأولاده لقاءً، وإنّما أراد أنْ يقف بين يدي ربّه مصليًا راكعًا ساجدًا قبل أنْ تُزهق روحه، قبل أنْ تذهب نفسه، فكان رضي الله عنه أول مَنْ سنّ الصلاة قبل القتل.
ثم بعد ذلك ماذا قال رضي الله عنه؟ قال للمشركين: والله لولا أني أخشي أن تقولوا: قد خاف من الموت لطوّلت فيهما، لصليت ركعتين طويلتين، أتلذّذ فيهما بمناجاة ربي والوقوف بين يدي مولاي.
ثم بعد ذلك دعا ربه فقال: اللهم إنّا قد بلّغنا رسالة نبيك، فأبلغه عنّا الغداة ما يُفعل بِنا. ثم دعا على المشركين فقال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا. ثم رُفع رضي الله عنه على الخشبة وقتل، مضى إلى ربه شهيدًا.
وأما زيد بن الدَّثِنة رضي الله عنه فقد أخرجوه للقتل على ملأ من الناس، فقال له أبو سفيان بن حرب ـ وهو يريد أن يشفي غليلَه، وقد كان كافرًا مشركًا، عظيم الضّغن على رسول الله ـ، قال له: يا زيد، أتحبّ أنك بين أهلك وولدك ومحمدٌ يقتل مكانك؟ فقال له زيد بن الدَّثِنة في ذلك الموقف الذي يحار فيه اللبيب، يطيش فيه العقل، وتذهب فيه الفكرة، قال له زيد رضي الله عنه ـ وهو رابط الجأش ثابت القلب لا يتردّد ولا يتلجلج ـ، قال: والله ما أحبّ أني بين أهلي وولدي ورسول الله يُشاك بشوكة، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا يحُبّ أحدًا كحُبّ أصحاب محمدٍ محمدًا، ثم قتلوا زيدًا رضي الله عنه، قدّموا غلامًا عبدًا لصفوان بن أمية يقال له: نسطاس فطعنه.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه الحادثة في السيرة النبوية المباركة فقَد فيها رسول الله ستة مِن خيار أصحابه، من الصالحين القانتين الطيبين العابدين، لكنّ فيها فوائد.
في هذه القصة المباركة علّمنا رسول الله أن الدعوة فداؤها الرجال، فداؤها العلماء الأفذاذ، فداؤها القرّاء الطيبون، فداؤها الفُقهاء الصالحون، يقدِّمون أنفسهم طاعة لله ورسوله، يسترخصون دماءهم في سبيل الله وتبليغ دينه.
ثم ثانيًا: تعلّمنا من هذه القصة أنّ المشرك لا يؤمَنُ غدرُه، كان الوفاء قيمة مرعيّةً في العرب، ما كانوا يغدرون بذمّة، وما كانوا يُخْفِرون بعهد، لكن هؤلاء المشركين لمّا كانوا يواجهون جماعةً من المؤمنين نسوا تلك القيَم الأصيلة، مثلما يتبجّح المشركون اليوم بأنّهم أهل الحريّات، وأنّهم أهل حقوق الإنسان، وأنهم الذين يُعلّمون الناس الديمقراطية وإبداء الرأي، ثم بعد ذلك إذا كانت العداوة للمسلمين فلا حريةَ ولا رأي، لا ديمقراطيةَ ولا حقوق إنسان، كل هذه القيم تكون تحت النعال ودَبَر الآذان، لا يُفكّرون فيها، ولا يُدندنون حولها، مع المسلمين لا حرية ولا رأي ولا حقوقَ للإنسان ولا هذه الشعارات الجوفاء، كلها تذهب أدراج الرياح، لا قيمة لها.
ثم ثالثًا: في هذه الحادثة مِن أحداث السيرة النبوية المباركة نُثبت كرامات الأولياء، أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، عبادُ الله الصالحون أولياؤه المقربون، مَن والَوْا بين الطاعات، وتقرّبوا إلى الله بالسُّنن بعد الواجبات، هؤلاء اللهُ عزّ وجلّ يثبِّتهم ويؤازرهم ويسددهم ويُقويهم ويَرعاهم ويحميهم:
أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أمير القوم رضي الله عنه، عاصم بن ثابت هذا يومَ بدر قتَل رجُلين من المشركين أمُّهما سُلافة بنت سعد، فنذرت إنْ ظفرت برأس عاصم بن ثابت أنْْ تشرب في قِحفه الخمر، أنْ تشرب في دماغه الخمر، المشركون بعدما قتلوا عاصمًا في ميدان الشرف في ميدان الوغى أرادوا أنْ يأخذوا جسده الشريف ليبيعوه إلى تلك المرأة الكافرة، ماذا فعل الله لوليّه؟ ماذا فعل الله لهذا العبد الصالح؟ أرسل الله عزّ وجلّ ظُلّة مِن الدَّبر من الزنابير أو من ذكورِ النحل، فأحاطت به وأظلّته، ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه، ولا أن يقترِبوا منه، ولا أن يمسّوا جسدَه، حتى قال بعضهم لبعض: انتظروا حتى إذا كان الليل أخذناه، فماذا فعل الله بهم لما أقبل الليل؟ أرسل الله عز وجل سيلاً جارفًا حمل ذلك الجثمان الشريف إلى حيث لا يعلم مكانه إلاّ الله، ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه، لِمَ؟ لأنّه صدق الله فصدَقه، كان رجلاً عقيدةُ الولاءِ البراءِ قد تخللت قلبه، قد خالطت شِغافَ فؤاده، عاهد الله أن لا يمسَّ مشركًا ولا يمسّه مشرك، ما كان متهوّكًا متردّدًا، يتزلّف للمشركين، ويتقرب للكافرين، ويتمسح بأعتاب المنافقين، بل بلغ من حبه لله وحبه لرسول الله واعتزازه بإيمانه وافتخاره بإسلامه أن يُعاهد الله أن لا يمس مشركًا ولا يمسه مشرك، لِمَ؟ لأنّه تعلّم من شريعة الإسلام أنّ المشركين نَجَس، المشرك نجِس القلب، نجِس الاعتقاد، نجِس الباطن، نجِس الفؤاد، ثم بعد ذلك في الظاهر لا يتورّع عن النجاسات، قد يأكل الدم، قد يشرب الخمر، قد لا يتمسح من بوله وعذرته، لا يتورع عن النجاسات، فهو نجسٌ ظاهرًا وباطنًا. لمّا كان عاصم بن ثابت رضي الله عنه قوي الإيمان صحيح اليقين حماه الله عز وجل.
وأما خُبيب بن عديّ رضي الله عنه فلما كان محبوسًا مقيدًا وعلم أنّ ساعة القتل قد دنت وأنّ لقاءه بربّه قد اقترب طلب من جارية لبني الحارث بن عامر، جارية، خادمة، أمة، طلب منها موسى حديدة ليحلق عانته ليتهيّأ للقاء ربّه، فجاءته بتلك الحديدة التي طلب، بينما هو يحملها في يده إذا غلامٌ صغيرٌ من بني الحارث قد دبّ حتى دخل عليه، فأجلسه خُبيبٌ في حِجْره، يُداعبه ويُلاعبه يحنو عليه ويُلاطفه؛ لأنّه تعلم ذلك من رسول الله ، تعلّم توقير الكبير والعطف على الصغير وإنزال كلّ إنسانٍ منزلته، لما رأت تلك الجارية ذلك الغلام جالسًا في حِجْر خُبيب والحديدة في يده فزعت وقالت في نفسها: قد أدرك الرجل ثأره، والله ليقتلنّ الغلام، خُبيب رضي الله عنه وليُّ الله تفرّس بما حدّثت به المرأة نفسها، فقال لها: أخشيت أن أقتله؟ والله ما كنتُ لأفعل. ما تعلمنا من رسول الله أن نقتل صغيرًا، ولا أن نعتديَ على طفلٍ، ما تعلّمنا من شريعة الإسلام أن نؤاخذ صغيرًا بجريرة كبير، "ما كنت لأفعل".
تقول هذه الجارية بعدما أسلمت رضي الله عنها، تقول: ما رأيت أسيرًا قطّ خيرًا من خُبيب، والله لقد رأيت بين يديه قِطفًا من عنب وما بمكّة يومئذٍ عنبٌ قطّ، وإنّه لمقيّد اليدين، وإنّما هو رزقٌ ساقه الله إليه. أعادوا كرامة مريم ابنة عمران التي قال الله في شأنها: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].
أيها المسلمون، عباد الله، قبل أنْ يصل خبر هؤلاء الستة إلى رسول الله ، وقبل أنْ يعلم بمقتلهم رضوان الله عليهم جاء نفرٌ مِن أهل نجدٍ بقيادة عامر بن مالك المعروف: بمُلاعب الأسنّة، جاء يطلب مِن رسول الله قُراء عُلماء ليُعلّموا الناس القرآن ويشرحوا لهم الإسلام، فقال النبي : ((إنّي أخشى عليهم أهلَ نجد))، فقال الرجل: أنا لهم جارٌ يا رسول الله، ماذا حدث مع هؤلاء؟ كانوا سبعين فيهم حرام بن مِلحان، فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، فيهم الحارث بن الصِّمَّة، نافع بن بُدَيل بن ورقاء، وغيرهم، فيهم نفرٌ كِرامٌ، صالحون طيبون، سبعون من القُرّاء، يحتطبون بالنهار ويتدارسون القرآن ويُصلون بالليل، ويُطعمون أهل الصُفة، فإذا نادى المنادي: حيّ على الجهاد كانوا في أول الناس، ماذا حدث مع هؤلاء؟ حدث ما حدث مع أولئك في خبر ينبغي أنْ يُفصَّل وأنْ يُبيّن.
نسأل الله عز وجل أن يجزي أصحابَ محمد عنّا وعن الإسلام خيرًا، وأن يرفع درجاتهم في أعلى عليّين، وأن يرزقنا السير على طريقهم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
يتبع باذن الله
تعليق