تضحية لم يُسمع بها
- خالد يحيى محرق
في تراث الإنسانية، تنسابُ قصصُ الكرم عبر الأجيال.
ومثلها قصص الأنانية، وكذلك قصص الحروب والدهاء، وأيضًا قصص التضحيات والوفاء،
أمَّا قصص العشَّاق فقد ظفرتْ بنصيب طيب من المرويات..
قصصٌ نقلتها الألسنُ عبرَ القرون.. تَسْكُنُ الأرواحُ بشيءٍ من عِبَرِها.. وتَنْشَطُ النفوسُ الذابلةُ عند السَّمَرِ بها.
لكنَّ أكثَرَ قصصٍ تتقنُ فن التحفيز للأرواح، لتُصعدها نحو المعالي والأخلاق الملاح - هي قصص التضحيات.
وما أدراك ما التضحيات؟!
أقرب صورة واقعية لتقريب معنى التضحية، تختزله لك (شمعةٌ تتَّقد)؛ فهي تُحرق نفسها لتضيء لغيرها.
مِنْ أقدارِ أحاسيس البشر، شعورهم في لحظة ما، أنَّهم يقومون بدور الشمعةِ راضين أو مغصوبين.
إنك ربما لن تجدَ بشرًا إلَّا وقد أحسَّ بذلك الدور.
لكنَّ مِنهم مَن تقلَّد هذه الوظيفة، حتى بلغ حَدَّ الإدمان، فصار لا يَرى نفسه في غير هذا الموضع؛ كالأب والأم خاصةً.
شئتَ أَم أبيت، ستعيشُ دورَ المُضَحِّي والمُضَحَّى من أجله، فأيُّ الدورين سيطول مُكثُكَ فيه؟
مِن لطيف توصيفاتِ البشر.. تجدهم حينًا يمتدحون ما قاموا به من تضحية.
وحينًا يروونها ممزوجة بالنَّدم، وشيء من الحزن والحسرة، موشكين أن يستقبلوا العزاءَ في ذلك لولا الحياء؛ (من باب المبالغة).
التضحية التي يُقرِّرها شخصٌ كاملُ الأهليةِ غيرُ مغصوب، لا تصدر إلَّا حين تبلغُ النفسُ رُقيًّا في الصفاء والنقاء،
هي نسيانُ الذاتِ من أجل الآخر.
لكنَّ كلَّ هذه المُثُل، تكون سرابًا حين تُهرَعُ إليك أمُّك يوم القيامة، من أجل حسنة تعطيها.
إنَّك ستُجيد القفز على البشر ربما، وتتخطَّى الكتل البشريَّة من الجموع، فرارًا من والديك أن يأخذا حسنةً منك.
ولن تبقى من تلك المُثُل، ورُقيِّ النفس ونقائها تجاه مفهوم التضحية - باقية.
التضحيةُ لا تعيشُ إلَّا في بيئةٍ تُسَمَّى (الحياة الدنيا) فقط، وتقريبًا لا مكان لها في الآخرة.
أمَّا الجنة، فلا حاجة إليها؛ فالجميع في اكتفاءٍ ذاتي.
قد يُضحي المرءُ بماله.. بمنصبه.. بصحَّته.
لكنَّ الشريعة في عمومها، نَفَّرَت من التضحية بموضعٍ في الصفِّ الأول أثناء الصلاة.
• "إن استطعت ألا يَسبقك إلى الله أحدٌ، فافعل".
فلا تُضَحِّ بطاعة ربك متنازلًا عنها لغيرك؛ فالطاعةُ ترجو مِن ورائها رحمةَ ربِّك، ليدخلك الجنة.
والجنة ليس فيها تضحيات؛ إذًا فالطاعةُ كذلك.
وهذه الجنَّةُ التي لا تقبلُ التضحيات، هي درجاتٌ ودرجات.
فجنة الخلد.. وجنة المأوى.. وعَدن.. والفردوس الأعلى التي هي مطلبُ كلِّ عارف.
لكنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولربما أُولي العزمِ منهم خاصَّة، أعينهم على موضعٍ آخر.
• "الوسيلة".
وهي موضعٌ في الجنة، خاصٌّ جدًّا..
فهي الأرفعُ على الإطلاق.
والأقرب على الإطلاق من الله سبحانه.
ومِن خُصوصية هذا الموضِع، أنَّه لا يحتمل إلا وجود عبدٍ واحدٍ فقط.
هو مقعدٌ واحد، لعبد واحد.
وعليه، فإنَّ السباق سيكون محمومًا بين الأنبياء لا محالة.
من جهة أخرى: لا تَنسَ أن الله جعل لكلِّ نبيٍّ دعوةً مستجابة؛ فالألزمُ والأوفقُ أن تُستخدمَ في مثل هذا الموضع.
فلا مجال للتضحية بها لأجل شيء آخر.
فلم يَعُد فوق (الوسيلة) موضعٌ لمخلوق.
وبالطبع.. ليس في الجنة تضحيات.
لكنَّ ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه يجعلك في ذُهولٍ لأيام.
قال صلى الله عليه وآله وسلم:
((لكلِّ نبي دعوة مستجابةٌ يدعو بها، وأُريدُ أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمَّتي في الآخرة)).
مَن يجرؤ على مثل ذلك، إنَّها تضحيةٌ لم يُسمع بها في تاريخ الخلق.
ما هذا الجودُ الذي لا وجود له حتى في الأحلام؟!
لكنَّه موجود في واقع رجل اسمه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.. نحن نستحقُّ التهنئة.
والوسيلة يا رسول الله، ما شأنها إذًا؟
قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: ((إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثلما يقول، ثم صلُّوا عليَّ..
ثمَّ سَلوا الله ليَ الوسيلة؛ فإنها منزلةٌ في الجنة، لا تَنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو)).
تأمَّل ماذا قال بعد ذلك: ((فمن سألَ ليَ الوسيلة، حَلَّت له الشفاعة)) صححه الألباني.
إنها لفتة لك أنَّه ضحَّى بدعوته من أجلك؛ لعلمه أنَّك يوم القيامة أحوج ما تكون لواسطةٍ تنقذك.
هو لا يكاد يُكلِّفُ أمَّته بشيء يخصه شخصيًّا، أَما وإنَّ الأمر يتعلَّق بالوسيلة،
فقد طلب منك أن تدعو اللهَ له بها خمسَ مرات كل يوم؛ لأنَّك استنفدتَ ما خصه الله به (الدعوة المستجابة).
لقد أحرجتَ من يَدَّعي التضحية مِن بعدك.
طِبتَ حيًّا وميتًا من رجل كريم يستحق الحب.
(منقول - شبكة الألوكة)
تعليق