جزاء التمسك بكتاب الله وسنة نبيه:
النجاة في الآخرة:
فالاعتصام بها كما قال الإمام مالك رحمه الله: السنة كسفينة نوح، من اعتصم بها نجى، ومن تخلف عنها غرق. وهكذا حتى يوم القيامة، لا يكون الناجون يوم القيامة إلا من تمسك بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ»، وفي رواية: «فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي» (20). وهذا يحمل على من ارتد بعد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يراجع الإسلام.
وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد أثنى الله عليهم، ورضي الله تبارك وتعالى عنهم، ورضوا عنه، وأعد لهم ما أعد من الخير، قال تبارك وتعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ﴾ [التوبة: 100]. وأثنى الله عليهم في القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ [الفتح: 18].
لكن قول النبي عليه الصلاة والسلام: «سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي». فهذا لمن ارتد، ولم يراجع الإسلام، فبعض الذين قاتلهم الصديق رضي الله تعالى عنه، والذين قاتلوه ولم يذعنوا للإسلام، قاتلوا الصحابة، وقاتلوا التابعين، والحمد لله أن جعل هؤلاء الصحابة واسطة بين النبي – صلى الله عليه وسلم – وبين أمته، وجعلهم أمناء على هذه الشريعة، مجاهدين في سبيل الله عز وجل، فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ورضي الله تعالى عنهم.
ورود حوض النبي:
فالمتمسك بالسنة يرد على النبي – صلى الله عليه وسلم – الحوض، فهذا دليل عظيم، وهذا أيضا فيه زجر كبير، وفيه تحذير لمن غير وبدل في سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فعلى المسلم أن يكون دائمًا مُعظمًا لسنة رسول الله، كما أن الله تبارك وتعالى عظَّم ذلك، وكما عظمه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، يقول الله عز وجل: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: الآيتان 3 – 4].
دخول الجنة:
المتمسك بالكتاب والسنة ثوابه عند الله عز وجل، فهذه الأمة العظيمة – أمة النبي عليه الصلاة والسلام – باقية إلى يوم القيامة، وهي أفضل الأمم، وأفضل أمة تدخل الجنة من الأمم كلها، وتكون يوم القيامة مرتفعة على ربوة، والناس تحتها، وأول ما يقضى بين هذه الأمة وهي تشهد على الأمم قبلها، وذلك كله لأجل تمسكها بكتاب الله، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
الحصول على رضوان الله:
فثواب هذا التمسك رضوان الله عز وجل، وهو أعظم من الجنة، وأعظم من كل نعيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة: 72]. ولما ذكر أن المؤمنين يدخلون الجنة ذكر أن الرضوان من الله عز وجل أكبر، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي لعباده المؤمنين بعد ما دخلوا الجنة: «هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ. فَيَقُولُ: أَنَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالُوا: يَا رَبِّ، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا» (21).
فالجنة أيضًا لمن حفظ الله تبارك وتعالى في كتابه، وحفظه في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وعمل بذلك. قال الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ﴾ [التوبة: 100]. فكذلك السابقون الأولون لهم هذا الفضل العظيم، ولمن جاء بعدهم واتبعهم بإحسان.
والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن المؤمنين يتفاضلون في الجنة بأعمالهم، فيقول – والحديث في صحيح مسلم -: «إِنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُقِ، مِنَ المَشْرِقِ أَوِ المَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ. قَالَ: «بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ» (22). والله عز وجل: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46]. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الكِبْرِ، عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» (23). هذا كله لمن تمسك بكتاب الله، ولمن تمسك بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
الحياة الطيبة في الدنيا:
كذلك من ثواب الله للأمة إذا تمسكت بكتاب الله، وسنة رسول الله: الحياة الطيبة، هذه الحياة الطيبة لا تشترى الدراهم، ولا الدنانير، لا تشترى بالأموال ولا بالأولاد، وإنما هي هبة من الله تبارك وتعالى، ونعمة وخير، وهي من ثواب الله عز وجل في الدنيا، مع ما ينتظر المسلم في الآخرة من الثواب العظيم، قال تبارك وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97].
الحياة الطيبة فيها الحياة بالعمل الصالح، بفعل ما أمر الله، وترك ما نهى الله، بالقناعة بالرزق الحلال، والأنس بذكر الله، ومحبة الله، ومحبة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والشوق إلى لقاء الله عز وجل، وتذكر الآخرة، والإنابة إلى الآخرة، والتجافي عن هذه الدار، وذكر هذه الدار بأنها دار غرور، وأنها دار زوال، وأن الآخرة الباقية هي الدار الآخرة.
فإذا كان الله تبارك وتعالى يقول في مدة الدنيا من أولها إلى آخرها، وطول اللبس في البرزخ، والبقاء في القبور، يقول الله تبارك وتعالى في ذلك: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: 45]. ويقول عز وجل عن هذا القدر الذي يراه مَن بُعث على غير الإيمان، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ [الروم: 55]. ويقول عز وجل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا *فِيمَ أَنْتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: الآيات 42: 46].
هذه الدنيا قصيرة، وكذلك عمر الإنسان فيها، إذا نسب إلى ما يأتي من الزمان، وما يستقبل من البرزخ، وما بعد البرزخ من البعث والنشور والزمان السرمدي، فإنه يكون أقل من لحظة العين، فذلك هذه الحياة، حياة فانية، ما فيها سيذهب ولا يبقى، إلا التمسك بكتاب الله، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
البركة:
من ثواب الله للأمة، ولمن تمسك بكتاب الله، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم: البركة، البركة في العمر، والبركة في المال، والبركة في الولد، والبركة البدن، والبركة في كل شيء؛ لأن الحياة الطيبة هي العمل الصالح، والعمل الصالح يتضمن كل خير في الدنيا وفي الآخرة، والمعاصي هي سبب الشر والشقاء في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: 79].
ما أصابك من حسنة فمن الله: من فضله ومنته عليك، ليس لأنك استحققت ذلك، واستوجبته من الله عز وجل، ولكن الله تفضل به. وما أصابك من سيئة فمن نفسك: أي أن الله عز وجل قدر ذلك عليك بسبب عملك.
ولو أن الله عز وجل يأخذ الناس بما عملوا فإنه يعاجلهم بالعقوبة، وتنتهي الحياة، كما قال عز وجل: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾ [يونس: 11]. ويقول عز وجل: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ [فاطر: 45].
فيا أيها المسلم، هذا العمر، الذي أعطاك الله إياه، هو عمر قصير، فأعمار هذه الأمة يقول عنها النبي عليه الصلاة والسلام: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ» (24). والأمم السابقة كان الرجل منهم يُعمَّر ألف سنة وتسعمائة سنة، وقريبًا من هذا، ولكن هذه الأمة بارك الله لها في أسمعاها، وبارك الله لها في أبصارها، وفي علمها، حتى إن علم هذه الأمة لو قيس ونسب إلى علوم الأمم السابقة قبلها فإن علوم الأمم السابقة قطرة من بحر في جانب علوم هذه الأمة، مع قصر أعمارها.
فإن هذه العقيدة الصحيحة النقية الصافية، التي جاء بها كتاب الله، وجاء بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – تزيد في الإدراك. ولذلك تجد الحُفَّاظ من هذه الأمة: أهل القرآن وأهل الحديث وأهل الفقه والتفسير. فهذه علوم لم نجدها عند الأمم السابقة؛ لأن مرد ذلك إلى العقيدة الصافية النقية، فإن العقيدة الصافية النقية تزيد في الإدراك، وتزيد في النور، وهذه الفطرة نور من الله عز وجل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ» (25).
هذه الفطرة نور من الله، ولكن لا يستطيع الإنسان أن يعرف تفاصيل الإسلام، وتفاصيل الحق، وتفاصيل الباطل، إلا بوحي من الله عز وجل، كما قال عز وجل: ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: 35]. وكما قال عز وجل: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ﴾ [الشورى: 52]. وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾ [الأحزاب: الآيتان 45 – 46].
فالفطرة للإنسان بمنزلة العين الباصرة، ترى الشمس، والشمس هو الوحي، وإذا كان الإنسان في ضلال فإنه لا ينتفع بشيء. فلا بد من الوحي، والنور هو نور القلب، قال تبارك وتعالى: ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ﴾ [الأنعام: 122]. وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [الأنفال: 29]. النور الذي في القلب هو الذي يهدي الله به الإنسان، قال عز وجل: ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 22].
فيا أيها الأخوة في الله، اعملوا للآخرة، فإن هذه الدنيا زائلة، وهذه الدنيا متاع الغرور، قال عز وجل: ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ﴾ [لقمان: 33].
فالبركة في العمر هو بفضل التمسك بكتاب الله، وبسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأن المنحرف عن ذلك لا بركة في عمره، ولا في عمله، ولا في ماله. والبركة في المال ليس معناها كثرة المال، وكذلك في الولد، هو بما كان سببًا في طاعة الله عز وجل، وكان معينًا على طاعة الله عز وجل، وكان عاقبة خير لصاحبه في الدنيا وفي الآخرة.
وأما المنحرف عن السنة، والمرتكب للمعاصي والمحرمات، فهذا – وإن طال عمره – لا بركة في عمله، فقد جاء عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ». قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» (26). ويقول الله تبارك وتعالى في هؤلاء الذين ليس لهم هم إلا اتباع الهوى، واتباع الشهوات، والاغترار بهذه الحياة، والافتتان بزهرتها، يقول الله عز وجل: ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 55]. والمسلم يحاسب نفسه أشد الحساب على هذا.
الألفة والتراحم:
كذلك من ثواب التمسك بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والعمل بالقرآن العظيم الألفة والتراحم، والتعاون والتواد، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2 ]. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (27). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ» (28).
وهكذا كان صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، فيقول عز وجل: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ﴾ [الفتح: 29].
وكذلك أن يود المسلم أخاه المسلم، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (29). ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَحْقِرُهُ، وَلاَ يَخْذُلُهُ» (30). ويقول عز وجل: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10].
هذا كله لا يتحقق إلا بالاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأن الاعتصام بذلك هو الثبات على الحق، والحق هو واحد لا يتعدد، ولكن الأهواء إذا تفلتت تفلت الناس من تعاليم السنة، فإن الأهواء تختلف. ولذلك كان السلف يسمون أهل البدع: أهل الأهواء. فهذا من ثواب الله تبارك وتعالى للتمسك بكتب الله، وبسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
اختفاء البدع:
ومن أثر ذلك على الأمة الإسلامية، ومن ثواب الله عز وجل كذلك: اختفاء البدع عن الأمة، فإن البدع هي أضر شيء على الإسلام، فالكبائر أقل ضررًا من البدع، والبدع يتقرب بها المبتدع، ويتمسك بها على أنها دين، فلا يوفق إلى التوبة إلى الله عز وجل، ولكن مرتكب الكبيرة يعلم أنه مذنب، وأنه عاص لله، ويحدث نفسه بالتوبة، ويندم ويستغفر ويتوب، فيتوب الله عز وجل عليه.
ولكن هذه البدع لا يتوب منها صاحبها، وقد حصل الاختلاف في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فظهرت أول البدع في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وأول ذلك هم الخوارج، ثم جاء المرجئة والقدرية، وكذلك ظهر التشيع، وأصاب الأمة من البدع الكثيرة ضرر كثير، وقد كان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام أمة واحدة، وفي عهد الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، وما كان من الشجار بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم فهو اجتهاد منهم، المخطئ مغفور ذنبه عند الله عز وجل، والمصيب له أجران عند الله تبارك وتعالى.
فإذا تسمك الناس بالكتاب والسنة اختفت هذه البدع، وهي أعظم ما يضر الإسلام. والنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث الذي يقول في افتراق الأمة: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً إِلَّا وَاحِدَةً. وَهِيَ: الْجَمَاعَةُ» (31).
والحمد لله أن أكثر الأمة من أهل السنة والجماعة، فالأكثرية في الأمة هي على المعتقد الصحيح، وأما أهلال البدع منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا، وإن كان لهم وجود، لكنهم قلة بالنسبة إلى الأمة الإسلامية، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: «أَهْلُ الْجَنَّةِ عِشْرُونَ وَمِئَةُ صَفٍّ، ثَمَانُونَ مِنْهَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ» (32).
فهذا يدل على أن أكثر الأمة على الحق – ولله الحمد – وأن البدع المكفرة صاحبها في النار – والعياذ بالله – إذا كانت مكفرة بدليل من كتاب الله، ومن سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبعض البدع ليس فيها كفر؛ لأن بعض البدع لا دليل يكفر صاحبها، ولا دليل يكفر أربابها، فتبقى على أن صاحب هذه البدعة، إما أن يعفو الله عنه، وإما أن يعذبه الله تبارك وتعالى في النار بقدر ذنبه، ثم يدخله الله تبارك وتعالى الجنة.
ولكن البدع المكفرة التي تكلم فيها علماء الإسلام، وكفروا أصحابها بدليل من كتاب الله، ومن سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فذلك خطر عظيم، وذلك أمر خطير، وهو معول من معاول هدم الإسلام، والعياذ بالله.
فمن أثر التمسك بالكتاب والسنة هو اختفاء البدع، وظهور السنن، وما من بلد، وما من أرض، تظهر فيها السنن، وتختفي فيها البدع، إلا كانت ظاهرة، وكانت منصورة، وكانت مؤيدة من الله تبارك وتعالى، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» (33).
فهذا هو الانتصار بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهذا أمر عظيم، على كل مسلم أن يحرص عليه، فإن الله عز وجل يقول: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًّا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 – 3].
(21) أخرجه أحمد (3/88، رقم 11853)، والبخاري (5/2398، رقم 6183)، ومسلم (4/2176، رقم 2829).
(22) أخرجه البخاري (3/1188، رقم 3083)، ومسلم (4/2177، رقم 2831).
(23) أخرجه البخاري (6/2710، رقم 7006)، ومسلم (1/163، رقم 180).
(24) أخرجه الترمذي (5/553، رقم 3550) وقال: حسن غريب. وابن ماجه (2/1415، رقم 4236)، والحاكم (2/463، رقم 3598) وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (3/370، رقم 6314). وأخرجه أيضًا: ابن حبان (7/246، رقم 2980)، وأبو يعلى (10/390، رقم 5990)، والطبراني في الأوسط (6/85، رقم 5872)، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح (3/1452، رقم 5280).
(25) أخرجه البخاري (1/456، رقم 1292)، ومسلم (4/2047، رقم 2658).
(26) أخرجه أحمد (5/40، رقم 20431)، والترمذي (4/566، رقم 2330) وقال: حسن صحيح. والحاكم (1/489، رقم 1256) وقال: صحيح على شرط مسلم. والبيهقي (3/371، رقم 6317)، وأخرجه أيضًا: الطيالسي (ص 116، رقم 864)، وابن أبى شيبة (7/90، رقم 34424)، والدارمي (2/398، رقم 2742)، والبزار (9/92، رقم 3623)، والطبراني في الأوسط (5/327، رقم 5449)، وفى الصغير (2/81، رقم 818)، قال الهيثمي (10/203): إسناده جيد. وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزياداته (1/624، رقم 3297).
(27) أخرجه البخاري (5/2238، رقم 5665)، ومسلم (4/1999، رقم 2586).
(28) أخرجه أحمد (5/323، رقم 22807)، قال المنذري (1/64): إسناده حسن. والضياء من طريق الطبراني (8/361، رقم 445). قال الهيثمي (1/127): رواه أحمد والطبراني في الكبير، وإسناده حسن. وصححه الألباني في الصحيحة 2196.
(29) رواه البخاري (1/14، رقم 13)، ومسلم (1/67، رقم 45).
(30) أخرجه مسلم (4/1986، رقم 2564).
(31) أخرجه أحمد (4/102، رقم 16979)، وأبو داود (4/198، رقم 4597)، وابن أبي عاصم في السنة (1/7، رقم 2)، والحاكم (1/218، رقم 443)، والطبراني (19/377، رقم 885). وصححه الألباني في الصحيحة 204.
(32) أخرجه أحمد (5/347، رقم 22990)، والترمذي (4/683، رقم 2546) وقال: حسن. وابن ماجه (2/1434، رقم 4289)، والدارمي (2/434، رقم 2835)، وابن حبان (16/498، رقم 7459)، والحاكم (1/155، رقم 273 ) وقال: صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (3/1569، رقم 5644).
(33) أخرجه البخاري (3/1331، رقم 3442)، ومسلم (3/1524، رقم 1037).
المصدر: جزء من محاضرة أثر التمسك بالكتاب والسنة في حياة الأمة
للشيخ الدكتور: علي بن عبد الرحمن الحذيفي
تعليق