إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية



    دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية
    (مرحلة الجهر بالدعوة)


    دعوة الأقربين

    بعد فترة الدعوة السرية التي سمحت للدعوة أن توسع فيها قاعدتها وتبني فيها أسسها بعيداً عن أعين كفار قريش، ولحكمة يعلمها العليم الخبير، حان الوقت لتبدأ الدعوة مرحلة جديدة تتسم بالإعلان عن نفسها ولكن في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، بينما يواصل بقية المسلمين كتمانهم لإيمانهم ومواصلة ممارسة الدعوة في السر إلى أن يأذن الله غير ذلك.
    أنزل الله تعالى قوله {
    وَأَنْذِرْ عَشِيَرتَكَ الْأَقْرَبِينْ} [الشعراء -214] لتكون الأمر المباشر للجهر بالدعوة، ومن الطبيعي والموافق للفطرة البشرية أن يبدأ الأمر بعرض الدعوة على الأقربين قبل الأبعدين.

    "دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشيرته بني هاشم بعد نزول هذه الآية، فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسة وأربعين رجلًا‏.‏ فلما أراد أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره أبو لهب وقال‏:‏ هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكلم، ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشر مما جئت به، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس‏".[الرحيق المختوم – للمباركفوري].

    أود أن أسجل وقفة في هذا المقام، حيث أن نجاح الدعوة تحتاج إلى دعائم عديدة منها الجو العام أو المحيط الذي يتحرك فيه الداعية، فلا بد من توفير كل الشروط والدعائم لإنجاح عملية الدعوة، وفي حال غياب شرط أو عنصر من هذه العناصر فإنه من الصعب تحقيق نجاح أو تقدم في ميدان الدعوة، لهذا ينبغي على الدعاة أن يختاروا الوقت والمكان المناسبين لممارسة دعوتهم مع الناس، وتكون لديهم ملكة وحدس الإقدام أو الإحجام في الوقت المناسب .
    فقد تجتمع عناصر ايجابية كثيرة يظن الداعية أنها قادرة على خلق النجاح ولكنه قد يغفل عن عنصر سلبي واحد قد يكون سبباً في نسف كل تلك العناصر الإيجابية وبالتالي قد يصاب‏ الداعية بالإحباط كما أن الدعوة تصبح رخيصة ويزهد فيها الناس.
    فلابد من تحين فرص النجاح ومحاولة خلقها وتفادي كل عوامل الفشل والتثبيط التي من شأنها أن تضعف الداعية والدعوة على حد سواء.


    وعنصر التريث والتأني من أهم عناصر النجاح فينبغي أن يروض الداعية نفسه على الصبر ويمتلك طول النفس حتى لا يستعجل قطف ثمار دعوته قبل أوانها فيعاود الكَرََّة تلو الكَرَّة إلى أن يحين الوقت المناسب كما أراد الله عز وجل، وليس كما نريد نحن، فكل شيء بقدر ولكل أجل كتاب.
    ثم دعاهم ثانية وقال‏:‏ ‏(‏الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكل عليه‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏(‏إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا‏)‏‏.‏
    فقال أبو طالب‏:‏ ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك‏.‏ وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به‏.‏ فوالله ، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب‏.‏
    فقال أبو لهب‏:‏ هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب‏:‏ والله لنمنعه ما بقينا‏.‏


    وفي هذا المقام المختلف عن المقام الأول، بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإعلان عن غايات دعوته أمام أعمامه وأبناء عمومته، وركز على الوحدانية المطلقة
    [وذلك في قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وقوله : والله الذي لا إله إلا هو]،
    ثم ركز أيضاً على عالمية رسالته صلى الله عليه وسلم ، ثم ختم قولته بالحديث عن الموت والبعث والنشور والحساب ثم حقيقة الجنة والنار كمعاد حقيقي لبني البشر بعدما يقضون حياتهم الدنيا الفانية.

    وقد تعمد النبي صلى الله عليه وسلم التركيز على هذه الدعائم لينسف بها دعائم دين كفار قريش ، الذي يقوم على تعدد الآلهة والكفر بالمعاد واليوم الآخر ثم الجزاء الأخروي ( جنة أو نار) المخالف لعقيدتهم القائمة على العبث وأن الدهر هو الذي يهلكهم وكذلك إيمانهم باستحالة البعث بعد الموت. كما صور ذلك رب العزة في كتابه الكريم {
    بل قالوا مثل ما قال الأولون ، قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون} [المؤمنون – 82] وقوله سبحانه
    {
    إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما نحن بمبعوثين} [المؤمنون 37].


    الدعوة العامة على جبل الصفا

    وبعد أن ضمن النبي صلى الله عليه وسلم وقوف عمه أبي طالب وتعهده بحمايته وهو يبلغ عن ربه، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على جبل الصفا، فاعتلى أعلى قمة فيه ثم هتف‏:‏ ‏(‏يا صباحاه‏)‏
    وكانت هذه كلمة إنذار تخبر عن هجوم جيش أو وقوع أمر عظيم‏.‏
    ثم جعل ينادي بطون قريش، ويدعوهم قبيلة قبيلة ‏:‏ ‏(‏يا بني فهر، يا بني عدي، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب‏)‏‏.‏
    فلما سمعوا قالوا‏:‏ من هذا الذي يهتف‏؟‏ قالوا‏:‏ محمد‏.‏ فأسرع الناس إليه، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج إليه أرسل رسولًا لينظر ما الخبر، فجاء أبو لهب وقريش‏.‏
    فلما اجتمعوا قال‏:‏ ‏(‏أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَ‏؟‏‏)‏‏.‏
    قالوا‏:‏ نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إلا صدقًا‏.‏
    قال‏:‏ ‏(‏إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العَدُوّ فانطلق يَرْبَأ أهله‏)‏‏(‏ أي يتطلع وينظر لهم من مكان مرتفع لئلا يدهمهم العدو‏)‏ ‏(‏خشي أن يسبقوه فجعل ينادي‏:‏ يا صباحاه‏)‏
    ثم دعاهم إلى الحق، وأنذرهم من عذاب الله، فخص وعم فقال‏:‏
    ‏(‏يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا‏.‏
    يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
    يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
    يا معشر بني قصي، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا‏.‏
    يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا‏.‏
    يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
    يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار‏.‏
    يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنكم من الله شيئًا، سلوني من مالي ماشئتم، لا أملك لكم من الله شيئًا‏.‏
    يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا‏.‏
    يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله ، لا أغنى عنك من الله شيئًا‏.‏
    يا فاطمة بنت محمد رسول الله ، سليني ما شئت من مالي، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك ضرًا ولا نفعًا، ولا أغني عنك من الله شيئًا‏.‏
    غير أن لكم رحمًا سأبُلُّها بِبلاَلها‏)‏ أي أصلها حسب حقها‏.‏
    ولما تم هذا الإنذار انفض الناس وتفرقوا، ولا يذكر عنهم أي ردة فعل، سوى أن أبا لهب واجه النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء، وقال‏:‏ تبا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏سورة المسد‏:‏1‏]‏‏.‏
    نقف الآن على بعض العبر والدروس التربوية فنقول وبالله التوفيق:

    أولاً: لابد للداعية أن يبحث عن منبر عال وموقع معروف لكي يمارس عليه دعوته ويحاول الوصول إلى قلوب الناس، وجبل الصفا هنا رمز لهذا العلو والارتقاء لكي يكون الداعية في موقع مريح يلقي من خلاله كلمته وهو يغلب على ظنه أنها ستبلغ أكبر عدد ممكن من الناس.
    وجبل الصفا اليوم قد يكون عبارة عن القيمة الاجتماعية والأخلاقية والتربوية للداعية وسط المحيط الذي يتحرك فيه، لابد أن يصنعه يوماً بعد يوم بتعاملاته الطيبة ووقوفه إلى جانب المحتاجين وحكمته في التعامل مع غيره، حتى إذا حان موعد نشر دعوته لقي آذاناً صاغية واحتراماً وقبولاً من طرف المدعوين.
    فهذا المنبر يصنعه ويبنيه الداعية بعمله المتواصل الدءوب في محيطه وانغماسه وسط الناس والاختلاط بهم وبهمومهم ، وعدم الاستعلاء على الناس والانزواء في ركن بعيد عنهم بحجة أنك أعلم منهم أو أن مستواك دون مستواهم، كما يفعل الكثير ممن يحسبون أنفسهم دعاة وهم في حقيقة الأمر أقرب منهم إلى تنفير الناس من هذا الدين بسبب ما فيهم من غرور وكبر وتميز مذموم عن الآخرين.
    والنبي صلى الله عليه وسلم كان حكيماً في طريقة استدراج القوم ولفت انتبهاهم لما سيأتي من كلام: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي بسَفْح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مُصَدِّقِيَ‏؟‏‏)‏‏.‏
    فما وراء الجبل خاف عن أعين القوم ولا يراه إلا هو صلى الله عليه وسلم، كذلك الكثير من أمور الدعوة وغاياتها لا تكون واضحة في بداية الأمر في أعين الناس، ولابد من إيجاد سبل واضحة وسهلة لإيصالها لهم وإقناعهم بها.
    ولاشك أن الإخبار عن هجوم مباغت للعدو أمر مهول يثير اهتمام الجميع ويخلق حالة استنفار قصوى في النفس وتجعلها متنبهة ويقظة إلى أبعد حد، ولله المثل الأعلى ، حيث أن الداعية يكون نذيراً للناس لما هو أخطر من العدو المباغت ، فهو نذير بين يدي عذاب أليم إن لم يؤمنوا بربهم ويعبدوه حق عبادته ، وأسلوب الترهيب من أهم الأساليب التي تؤثر على النفوس إلى جانب أسلوب الترغيب، فالله هو الذي خلق هذه النفس وهو أعلم بما يناسبها { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخْبَيِرْ } [الملك -14].
    فالناس بحاجة دوماً إلى من ينتشلهم من هذه الجاهلية ويأزُّهم أزاً لكي يفيقوا من غفوتهم ويرجعوا إلى فطرتهم، فيقرروا مصيرهم قبل فوات الأوان، فإما طريق النجاة وإما طريق الخسران.
    والدعوة تكون عامة وخاصة، يبدأ الداعية بأقرب الأقربين ثم ينتقل إلى الآخرين ويختار الأسلوب الأنسب ولكنه يعرض كل ما في دعوته دون أن ينقص منها شيئاً خوفاً من تكذيب الناس له أو طمعاً في استدراجهم بعرض ما يوافق أهواءهم فقط، فهذا الأسلوب يضر أكثر مما ينفع وليس مما يرضاه الله ويباركه لأنه يعود على الدعوة والداعية بالضرر الكبير والخسران المبين ويتسبب في تمييع الدعوة وانتكاستها.
    فالمطلوب منا أن نعرض مبادئنا كلها ونبين معالم الطريق بكل وضوح كما ينبغي أن نبين تبعات الدعوة ومشقات الطريق منذ البداية ليعلم الناس ما ينتظرهم فيؤمن من يؤمن عن بينة أو يكفر من يكفر عن بينة، وإن الله لسميع عليم .
    إن طريق الدعوة مليء بالأشواك والعقبات ولا يظنن الداعية أن الأمور ستسير دائماً كما يتمنى، بل قد يفاجأ بمعارضة أقرب الناس إليه ومعاداتهم لدعوته، كما فعل أبو لهب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان الوحيد المعارض من بين الناس جميعاً في لقاء جبل الصفا.
    والواقع يعزز هذه الحقيقة في كل زمان ومكان حيث نرى تكذيب الكثير من الدعاة والمصلحين ومحاربتهم من قبل ذويهم وعشائرهم، فيسخر الله لهم أنصاراً من الأبعدين لينصروهم ويآزروهم ويؤووهم.

    فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نثر بذور دعوته من على جبل الصفا، ولكل زمان جبله المناسب للمحيط الذي يتحرك فيه الدعاة وكذلك المناسب لنفوس الناس من حوله، والداعية لا يأبه كثيراً بردود أفعال الناس بقدر ما يهمه أنه قد بلَّغ كل ما جعبته ولم يُبق شيئاً خوفاً من تكذيب الناس له أو رفض بعض ما سيعرضه عليهم،

    {
    يَا أَيُّهَا النَبِيُّ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [المائدة - 67]، فما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفي شيئاً من أمور دعوته أبداً.

    وهذا هو الدرس الأكبر والأهم الذي ينبغي استيعابه من طرف الدعاة اليوم، حيث نراهم ينتقون من أمور الدعوة ويحاولون عرض ما يناسب أهواء الناس ويتحاشون الاصطدام معهم ومع أعرافهم وعاداتهم حتى يُقبلوا على دعوتهم ويَقبلوها فيصبحوا من أنصارهم ويوسعون حلقات علمهم وإن كان في ذلك تنقيص للدعوة وتبعيضها.
    (يراجع في هذا المقام تفصيل هذه النقطة في مقالنا:"
    (ودوا لو تدهن فيدهنون").

    تصعيد وتيرة الدعوة

    بعد لقاء جبل الصفا الذي كان بمثابة المواجهة الأولى مع قريش، وبعد أن أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الصرخة الإيمانية المدوية في مكة ليسمعها القاصي والداني وتكون هي نقطة البدء في مسيرة دعوية طويلة مدتها ثلاث وعشرون سنة، أنزل الله تعالى على نبيه الأمر بمواصلة الصدع بدعوته دون أن يبالي بقريش وردود أفعالها، وذلك في قوله تعالى { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينْ } [الحجر- 94]، وقد كانت هذه الآية إيذاناً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ مرحلة تحدي لكفار قريش وهو يمارس دعوته وعبادته جهراً نهاراً بل حتى في جوف الكعبة دون أن يبالي بكفار قريش.



    وقد بدأت هذه الدعوة تؤتي بعض ثمارها بدخول العديد من الناس في الإسلام وما صحب ذلك من تصادم بينهم وبين ذويهم وعشائرهم بسبب مخالفتهم لدين آبائهم واعتناق دين جديد يدعو إلى نبذ آلهتهم المـُدَّعاة وتسفيه أحلامهم.

    بينما وقف كبراء قريش موقف الدهشة والارتباك أمام هذه الدعوة الجديدة وما زالوا كذلك يبحثون عن موقف موحد لمجابهة هذا الواقع الجديد، خوفاً من تطور الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه، فتفلت زمامها من بين أيديهم أمام انتشار هذا الدين الجديد وما يُحدثه من تغييرات جذرية على مستوى النفوس والعلاقات القائمة وأسس حياتهم كلها.

    يا الله
    علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة


  • #2
    رد: دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

    إجماع قريش لصد الدعوة

    اجتمع كبراء قريش في شأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم للبحث عن وسيلة يصدون بها للدعوة حتى لا يكون لها أثر في نفوس العرب، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة في هذا الشأن ، فقال لهم الوليد‏:‏ أجمعوا فيه رأيـًا واحدًا،ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضًا، ويرد قولكم بعضه بعضًا، قالوا‏:‏ فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به‏.‏ قال‏:‏ بل أنتم فقولوا أسمع‏.‏ قالوا‏:‏ نقول‏:‏ كاهن‏.‏ قال‏:‏ لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزَمْزَمَة الكاهن ولا سجعه‏.‏ قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ مجنون، قال‏:‏ ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، ما هو بخَنْقِه ولا تَخَالُجِه ولا وسوسته‏.‏
    قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ شاعر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رَجَزَه وهَزَجَه وقَرِيضَه ومَقْبُوضه ومَبْسُوطه، فما هو بالشعر، قالوا‏:‏ فنقول‏:‏ ساحر‏.‏ قال‏:‏ ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَفْثِهِم ولا عقْدِهِم‏.‏ قالوا‏:‏ فما نقول‏؟‏ قال‏:‏ والله إن لقوله لحلاوة، ‏[‏وإن عليه لطلاوة‏]‏ وإن أصله لعَذَق، وإن فَرْعَه لجَنَاة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا‏:‏ ساحر‏.‏ جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك‏.‏
    قالوا‏:‏ أرنا رأيك الذي لا غضاضة فيه، فقال لهم‏:‏ أمهلونى حتى أفكر في ذلك، فظل الوليد يفكر ويفكر حتى أبدى لهم رأيه الذي ذكر آنفًا‏.‏ [سيرة ابن هشام بتصرف].
    وأنزل اللهتعالى في الوليد ست عشرة آية من سورة المدثر‏{
    ‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَر َ* فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ‏ }‏ ‏[‏المدثر - 11 إلى 26‏]‏

    وصور الله تعالى كيفية تفكيره في قوله‏:
    ‏ ‏{
    ‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏ } ‏[‏المدثر‏:‏18‏إلى‏ 25‏]‏ .
    وبعد أن اتفق المجلس على هذا القرار أخذوا في تنفيذه، فجلسوا يعترضون الناس في الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمر النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏
    أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج يتبع الناس في منازلهم وفي عُكَاظ ومَجَنَّة وذي المَجَاز، يدعوهم إلى الله ، وأبو لهب وراءه يقول‏:‏ لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب‏.
    حينما تكون حجة أصحاب الحق أقوى من حجج خصومهم – وهي دوماً كذلك –
    {
    بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }‏[‏الأنبياء – 18 ‏]‏،
    {
    وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }‏[‏ الإسراء – 81 ‏]‏
    ، وحينما لا يجد أصحاب الباطل ما يدافعون به عن باطلهم يلجأون إلى وسائل خسيسة لمحاولة صد الناس عن هذا الحق، ويضعون حواجز مادية ومعنوية بين الدعاة وبين الناس ،

    وأهم هذه الأساليب هو الكذب ونشر الإشاعات من أجل تشويه سمعة الدعاة والدعوة فيُنَفِّرُوا الناس منها ويعزلوا الدعاة ليظلوا ضعفاء وقليلون، ليقولوا كما قال الأولون { إِ
    نَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُون * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونْ }[الشعراء 54-55].
    وتأتي وسائل الإعلام وكذلك المجال التربوي والثقافي على رأس القائمة لمواجهة الحق وأهله، فسخَّر الطواغيت جنوداً مجندة من الإعلاميين والكتاب والمثقفين والمربين لينشروا تعاليم باطلهم ويركزوا جهودهم على تشويه المنهج الرباني.

    هكذا إذن يتوارث الطغاة والكفار هذه الأساليب قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل كأنهم يتواصون بها إلى أن تقوم الساعة، إذ أنه لابد للباطل أن يحمي كيانه المزيف ويحافظ على أسسه الهشة بمزيد من الكذب والبطش حتى تتوارى حقيقته عن أعين الناس فينخدعوا به.

    استغل رسول الله صلى الله عليه وسلم موسم الحج لهذا العام ليطوف على الوفود المختلفة فيبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ الأصنام والآلهة المدعاة، فقد قام بدور المبلغ كما أمره ربه عز وجل أما نتائج هذا الجهد وثماره فإنها بيد الله وحده، فقلوب العباد بين أصبيه يقلبها كيف يشاء فيهدي من يشاء إلى الإيمان ويظل من ختم الله على قلبه في ظلمات الجاهلية والكفر إلى حين.

    الثمرة الكبرى في هذا الموسم هو انتشار خبر الدعوة إلى خارج مكة عن طريق الحجيج الذين قدموا إلى البيت في هذا العام، فهذه في حد ذاتها نتيجة عظيمة تحتاج إلى أسفار وجهود كبيرة لإيصالها إلى القبائل المجاورة والبعيدة من مكة.

    أهم وسائل الحرب النفسية

    تابع
    ونا
    يا الله
    علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

    تعليق


    • #3
      رد: دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية


      أهم وسائل الحرب النفسية

      نقف الآن على أهم هذه الأساليب التي كان يستعملها الكفار للحيلولة دون وصول الدعوة إلى أسماع الناس ومن ثم محاولة تحجيمها وتهميشها لتتلاشى مع الزمن، ظانين أنها دعوة مبتورة لا أصل لها ولا قرار كما هي عادة الدعوات والمذاهب البشرية الناقصة الزائلة، ولكنهم نسوا أنها مرتبطة بالله تعالى وبحبله المتين، فمهما حاولوا إطفاء نورها فلا يزيد إلا توهجاً ومهما حاولوا حصارها فلا تزيد إلا توسعاً وانتشاراً، هذه هي أهم سمات هذه الدعوة الربانية الخالدة.

      أولاً : - السخرية والاستهزاء والتكذيب

      كما سبق الإشارة إليه فإن كفار قريش قد اختاروا مجموعة من النعوت والصفات يصفون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الساحر والمجنون والكاهن والشاعر وغيرها، ‏{
      ‏وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ‏ }‏
      ‏[‏ الحجر‏:‏6 ‏]‏،
      ‏{‏
      وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏ }[ص – 4 ]. وهي كلها صفات من شأنها أن تؤثر على نفسية النبي صلى الله عليه وسلم وتثبطه عن أداء واجبات الدعوة،
      {‏
      وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ‏ }‏ ‏[‏الحجر‏:‏97‏]،

      فأنت حينما تُواجَهُ بالسخرية والاستهزاء من قبل من تريد أن توصل لهم رسالة ملؤها الخير والصلاح، وتريد أن تهديهم إلى طريق الحق والفلاح، حينما تجد تواجه بهكذا أسلوب فإنه حتماً سيؤثر على معنوياتك وسيضع سدوداً وحواجز بينك وبين هؤلاء المدعوين، وقد يدفعك إلى إيقاف جهودك الدعوية وترك الدعوة من أساسها.

      لذلك وجب على الدعاة إلى الله أن يتسلحوا بإيمان قوي جداً وبثقة كبيرة في وعد ربهم لهم لكي يتمكنوا من مواصلة الدعوة رغم التكذيب والاستهزاء والسخرية.
      وأنبياء الله ورسله الكرام يحتاجون مثل غيرهم إلى توجيهات ربانية تسليهم وتقذف في قلوبهم الأمل بأنهم منصورون وأن دعوتهم لابد ستنتشر وتسود رغم التكذيب والعناد، ومن هذه الأساليب الربانية أن الله تعالى يُنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص الأمم الغابرة مع أنبيائهم، حيث أن سنة الدعوات واحدة لم تتغير ولم تتبدل، تكذيب واستهزاء وسخرية وتعذيب وتقتيل للرسل وأتباعهم ثم يكون صبر وثبات واستقامة من طرف أصحاب الدعوات فيأتي بعد ذلك نصر الله وتمكينه لهم وانتقامه من المكذبين عبر آيات عديدة ومختلفة.
      من هذه الآيات نسرد على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى

      {‏
      وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ‏ }‏ ‏[‏الأنعام‏:‏10‏]‏‏.‏

      ‏{ ‏إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ الله ِ إِلـهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ‏
      }‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 95، 96‏]‏،

      واليوم تعود هذه السُّنَّة من جديد إلى عالم الدعوة فنجد المكذبين من أصحاب السلطة والجاه ومؤسسات الإفساد في الأرض يشنون حملات تشويه واسعة ومتواصلة على أصحاب الدعوة بالتكذيب تارة وبالاستهزاء تارة وبالسخرية تارة أخرى، نلمس ذلك في وسائل إعلامهم الخبيثة الواسعة الانتشار أو عبر كُتَّابهم ومفكريهم أو عبر برامج التربية والتعليم التي تتلقاها الأجيال الصاعدة.

      ثانياً : - إثارة الشبهات والدعايات الكاذبة

      وهذه مرحلة وأسلوب جديد يوازي أسلوب التكذيب والاستهزاء حيث يلجأ الكفار إلى إثارة الشبهات حول شخص النبي صلى الله عليه وسلم ذاته، إما بنعته بالمرض أو الجنون أو التخريف أو ارتباطه بالجن أو جهات خارجية تملي عليه هذا القرآن وهذه الدعوة الغريبة على بيئتهم كما يزعمون، وهذه تهم باطلة وشبهات داحضة لا أساس لها ولا قرار، إذ أن القرآن الكريم كان يتنزل ويفندها واحدة تلو الأخرى.

      من ذلك قوله تعالى {‏ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ‏ }‏ وقالوا‏:‏ ‏{ ‏إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏ }‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ أي اشترك هو وزملاؤه في اختلاقه‏.‏ ‏{‏
      وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا‏ }‏ ‏[‏الفرقان‏:‏5‏]‏،
      ‏{‏ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
      ‏ }‏ ‏[‏الشعراء‏:‏221، 222‏].

      هذا بالإضافة إلى التشكيك في شخص النبي وتكبرهم عليه وقولهم بأنه لا يستحق أن يكون رسولاً مختاراً من عند الله عز وجل، إما بسبب بشريته ‏{
      ‏مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ‏ }‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏، وقالوا‏:‏ إن محمدًا صلى الله عليه وسلم بشر،و ‏{‏مَا أَنزَلَ الله ُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏- 19]، ‏ .فكان الرد من الله تعالى في قوله ‏:‏‏{‏ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ‏}‏، وكانوا يعرفون ويعترفون بأن موسى بشر‏.‏ ورد عليهم أيضًا بأن كل قوم قالوا لرسلهم إنكارًا على رسالتهم‏:‏ ‏{ ‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا‏ }‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏10‏]‏، فـ ‏{‏ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَـكِنَّ الله َ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏ }‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 11‏]، فالرسل تنزل لتبليغ الرسالة وهداية الناس ولا يفرقون بين غني وفقير أو سيد وعبد ، بل إن الناس عندهم سواسية .

      أو بسبب تدني مستواه المادي والاجتماعي { ‏
      وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‏ }‏ ‏[‏الزخرف‏:‏31‏]، ويقصدون أحد وجهاء مكة والطائف، فكان الرد من الله تعالى في قوله ‏:‏‏{ ‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏32‏]‏، يعنى أن الوحي والرسالة رحمة من اللهو‏{ ‏الله ُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏ }‏ ‏[‏الأنعام‏:‏124‏]‏‏.‏ فالله تعالى هو الذي يختار الأنسب لهذه الرسالة ومقاييس الدعوة والآخرة الباقية ليست هي مقاييس الهوى والدنيا الفانية.
      فيا من يتكبر على القيادات الصالحة الراشدة بحجة أنهم لا يملكون المال الكافي والجاه المناسب والشهرة المادية، إلى هؤلاء نقول بأن مركز القيادة اختيار من الله تعالى وتوفيق منه سبحانه، فضلاً عن أنها مسؤولية وأمانة ينبغي على المؤمن الكيس أن يفر منها فراره من الفتن، فالعاقل لا يتمنى أن يُحمِّل نفسه ما لا تطيق من أعباء الدعوة والتسيير والتربية، إنما يتمنى أن يكون فرداً عادياً يقوم بواجباته خير قيام وينفذ أوامر قيادته بلا إبطاء.
      فنحن نعلم وندرك المخاطر التي تلاقيها هذه القيادات في طريق الدعوة والجهاد، فالمسألة ليست تشريفاً بقدر ما هي تكليف في الدنيا والآخرة. فاحرص يا عبد الله أن يكون حسابك يسيراً وتبعاتك خفيفة وابحث عن طاعة ربك بطاعة أولي أمرك في اليسر والعسر وفي المنشط والمكره لكي تنال رضا ربك وتفوز بأجر عظيم.
      أما أعداؤنا – الذين يسعون إلى تشويه سمعة قياداتنا – فنقول لهم: موتوا بغيظكم فلن تنالوا منا سوى الخيبة والحسرة، واعلموا أن إشاعاتكم وأكاذيبكم لن تزيدنا إلا يقيناً بربنا ووعده لنا بالنصر عليكم تحت قيادة هؤلاء الأمراء الربانيين الزاهدين في فتات الدنيا والرافضين لعروضكم المادية الدنيئة والمحاربين لقيمكم ومناهجكم الكفرية، الثابتين على نهج ربهم القويم الصابرين على كيدكم ومكركم، فهم من سينصر الله بهم دينه ويعلي رايته وينصرهم عليكم ويشف صدور قوم مؤمنين.
      فكل ما تنفقونه من قناطير مقنطرة من الذهب والفضة لمحاربة أهل الحق والصد عن سبيل الله سوف تذهب سدى وستكون عليكم حسرة ثم تُغلبون بإذن الله .

      ثالثاً: - مواجهة القرآن الكريم بأساطير الأولين

      هذا أسلوب جديد استعمله كفار قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما لم تفلح الأساليب سالفة الذكر، فكانوا يتهمون القرآن نفسه ويشككون في صدقيته، حينما علموا خطورة تأثيره على النفوس واستمالتها إلى الحق بعدما كانت مغيبة في عالم الخرافة والبدعة والشرك المختلف ألوانه وأشكاله.
      قال تعالى‏:‏ ‏{
      وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏ }‏ ‏[‏فصلت‏:‏26‏]،
      فالخوف كل الخوف من ترك القرآن يصل إلى آذان الناس، وقد كان النضر بن الحارث أحد الذين يتولون هذه المهمة الشيطانية، حيث كان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا للتذكير بالله والتحذير من نقمته خلفه النضر ويقول‏:‏ أنا و الله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسفنديار، ثم يقول‏:‏ بماذا محمد أحسن حديثًا مني‏.‏
      لقد دأب قادة الكفر على تخدير الناس وإبعادهم عن الحق والصواب بنشر مذاهبهم الباطلة المختلفة ولا يهمهم في أي واد سقط هؤلاء ولا أي تيار فاسد جرفهم مادام أن ذلك يبقيهم في منأى عن تهديد مصالحهم.

      أما اليوم فنحن نشاهد انتشار هذه المذاهب المنحرفة والأفكار الهدامة المنتشرة عبر وسائل الإعلام والمؤسسات التعليمية والأنشطة الثقافية والفكرية المتعددة، فيعرضوا عقائد باطلة يناهضون بها عقيدة التوحيد وينفرون الناس من تبعات هذا الدين العظيم، وذلك باللعب على بعض الأوتار الحساسة لدى الناس وإثارة بعض الشبهات الداحضة وعرض الكثير من الشهوات وتقريبها لهم وتعبيد الطرق للوصول إليها لصرفهم عن دينهم، فيكون الإقبال كبيراً على هذه البضاعة المغرية ويغفل الناس عن نداء ربهم ولا يلتفتون إلى الدعاة بل تراهم يحتقرونهم ويزدرونهم بحجة أنهم متزمتون أو متشددون أو مخالفون لأعراف الناس وعاداتهم.

      هذا في الوقت الذي تُنشر فيه مذاهب الباطل وأفكاره في قوالب مزركشة وميسورة مثل الأفلام والمسلسلات وبعض الروايات فضلاً عن المئات من القنوات الفضائية الفاسدة والمواقع المخلة بالحياء والحشمة والأخلاق على الشبكة العنكبوتية، كل هذا يلقى إقبالاً لا نظير له من طرف الشباب في الوقت الذي تشدد السلطات الطاغوتية الرقابة على المواقع النافعة ومنها المواقع الجهادية ثم تضرب الحصار على بعض الدعاة المخلصين وتغلق القنوات الهادفة وتعتبر كل من ينشرها أو يشارك فيها متهماً ومجرماً ينبغي محاربته.

      هذه هي بعض صور المواجهة التي يلاقيها الدعاة إلى الله وأصحاب الحق في طريق دعوتهم وسيرهم إلى الله، قد تختلف الأطر والأساليب ولكن الجوهر واحد والغاية لم تتبدل على مدار السنين، محاولة إيقاف المد الإسلامي الجارف بتقديم بدائل لباطلهم وأنـَّى لهم ذلك.

      فكما تخطَّت الدعوات الأولى على أيدي أنبياء الله ورسله كل عقبات الباطل وحواجزه فإن الدعوة اليوم قادرة بإذن الله على نسف كل الحواجز الجديدة رغم كثرتها وإيصال كلمة الحق إلى قلوب الناس وتجنيدهم ليصبحوا أنصاراً للحق ومعاول هدم لصروح الباطل ولو بدت لأصحابها أنها شامخة ، لكنها في حقيقة الأمر لا تعدو أن تكون سراباً يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، أو كشجرة خبيثة لا تلبث أن تُجتثَّ من فوق الأرض لأنها بلا قرار.

      يا الله
      علّمني خبيئة الصَّدر حتّى أستقيم بِكَ لك، أستغفر الله مِن كُلِّ مَيلٍ لا يَليق، ومِن كُلّ مسارٍ لا يُوافق رضاك، يا رب ثبِّتني اليومَ وغدًا، إنَّ الخُطى دونَك مائلة

      تعليق


      • #4
        رد: دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية



        جزاكم الله خيرا ونفع الله بكم
        يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ


        تعليق


        • #5
          رد: دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

          جزاكم الله خيرا ونفع الله بكم

          تعليق


          • #6
            رد: دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

            جزاكم الله خيرا ونفع الله بكم


            ربِّ خذ من حياتي حتى ترضى، واجعل كل سكنة وكل حركة وكل لحظة طَرْفٍ فيك ولك!

            تعليق


            • #7
              رد: دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية

              عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
              جزاكم الله خيرًا، وبارك الله فيكم


              تعليق

              يعمل...
              X