تعدَّدت أساليب التعامل مع الأسرى من ديانة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر، وإن كان الذي يغلب على الجميع -قبل ظهور الإسلام- هو القسوة والبطش والظلم، ورغم شيوع تلك الأساليب في التعامل مع الأسرى إلاَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَحِدْ عن طبيعته الأخلاقية في التعامل معهم، فلم ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم مطلقًا على أنهم كانوا يريدون القضاء على الكيان الإسلامي بكل جوانبه بداية من قتلهم للرسول صلى الله عليه وسلم وانتهاء بإبادة المسلمين.
تعامل رسول الله مع أسرى بدر
ولننظر إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لندرك عظمة أخلاقه في التعامل مع الأسرى فمن مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الخالدة، ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أسرى بدر؛ فمن المعلوم أن معركة بدر كانت المعركة الأولى بين المسلمين والمشركين، وقد تمَّ النصر فيها للمسلمين مع قلَّة عددهم وعُدَّتهم؛ بل إنهم مع هذا النصر أسروا من المشركين سبعين، وفيهم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأنهم، وماذا يفعل معهم؟ وهذا الأمر يرويه عمر بن الخطاب إذ يقول: قال أبو بكر : يا رسول الله، هؤلاء بنو العمِّ والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدًا. فقال رسول الله: "مَا تَرَى يَابْنَ الْخَطَّابِ؟" قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تُمَكِّنني من فلان -قريب لعمر- فأضرب عنقه، وتُمكِّن عليًّا من عقيل[1] فيضرب عنقه، وتُمكِّن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوي الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يَهْوَ ما قلتُ -أي عمر- وأخذ منهم الفداء[2].
وعلى الرغم من نزول الآيات بعد هذا الموقف تعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بالرفق واللين مع هؤلاء الأسرى في هذا الموقف {لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] رغم ذلك؛ لم يكن هذا دافعًا لأن يسيء رسول الله صلى الله عليه وسلم معاملة هؤلاء الأسرى، أو يُغَيِّر من تعامله معهم بعد أن أخذ قرارًا بإعفائهم من القتل، وقبول الفدية ممن يستطيع منهم، وقد تفاوت مقدار هذه الفدية ونوعها بحسب حالة كل أسير.
فقد أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الأسرى كعمرو بن أبي سفيان مقابل أن يطلق المشركون سراح سعد بن النعمان بن أكال ، الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر[3].
ومن الأسرى من كان يفدي نفسه بالمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعي الحالة المادية لكل أسير، فمنهم من دفع أربعة آلاف درهم كأبي وداعة، وأبي عزيز واسمه زرارة بن عمير -وهو أَخٌ لمصعب بن عمير - دفعتها أُمُّه، وكانت صاحبة مال وفير، ومنهم من دفع مائة أوقية كالعباس بن عبد المطلب، ومنهم من دفع ثمانين أوقية كعقيل بن أبي طالب، وقد دفعها له العباس، ودفع بعض الأسرى أربعين أوقية فقط[4].
أما من لم يكن معه مال، وكان يعرف القراءة والكتابة فكان فداؤه أن يُعَلِّم بعض المسلمين القراءة والكتابة؛ فقد روى ابن عباس قال: كان ناسٌ من الأسرى يوم بدرٍ لم يكن لهم فداءٌ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلِّموا أولاد الأنصار[5].
ومن هؤلاء الأسرى مَن مَنَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم عليه بغير فداء مثل: المطلب بن حنطب، وأبي عزة الشاعر، وصيفي بن أبي رفاعة[6].
وقد أَحسَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا إلى سهيل بن عمرو صاحب المكانة والزعامة في قريش، ولم يشأ أن يهينه أو يُمثِّل به وإن كان قادرًا على ذلك، وقد أراد عمر بن الخطاب نَزْعَ ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم خطيبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم في موطن أبدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاَ أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللهُ بِي وَإِنْ كُنْتُ نَبِيًّا"[7].
وكان في الأسرى أيضًا أبو العاص بن الربيع ختن[8] رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب فبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها عليه حين بنى عليها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقَّة شديدة، وقال: "إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدّوا إلَيْهَا مَتَاعَهَا فَعَلْتُمْ". قالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه، وردوا عليها الذي لها[9]. فكان هذا أيضًا ممن أُطلِقَ بغير فداء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعداد لإطلاق الجميع من دون فداء لو شفع فيهم المطعم بن عدي الزعيم المشرك المعروف، غير أنه كان قد مات، وقد أشار إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري عن جبير بن مطعم : أن النبي قال في أسارى بدر: "لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ"[10]؛ وذلك لأنه اشترك في نقض الصحيفة التي قاطعت بها قريش بني هاشم، وكذلك أجار النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عند عودته من الطائف.
ومن الواضح أنه تمَّ إطلاق سراح جميع من بقي من أسرى بدر خلال أقل من عامٍ من غزوة بدر، ومما يؤكِّد هذا الأمر أن المشركين في أُحُد لم يتفاوضوا على أيِّ من أسراهم.
موقف رسول الله مع ثمامة بن أثال
ومن المواقف الخالدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأسرى ذلك الموقف النادر مع ثمامة بن أثال؛ فقد كان ثمامة بن أثال زعيمًا مشهورًا من زعماء بني حنيفة، وكان قد قرَّر أن يأتي للمدينة المنورة ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم[11]، فأسره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا به إلى المسجد النبوي، فما كان من ردِّ فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أَحْسِنُوا إِسَارَهُ"[12]. وقال أيضًا: "اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَابْعَثُوا بِهِ إِلَيْهِ"[13]. فكانوا يُقَدِّمُون إليه لبن لقحة[14] الرسول صلى الله عليه وسلم.
لقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل معاملة غاية في الاحترام والتأدب والعفو، فقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قال: عندي يا محمد خيرٌ؛ إن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن تُنْعِمْ تنعم على شاكرٍ، وإن كنت تريد المال فسل تُعْطَ منه ما شئت.
فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد فقال: "مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" قال: ما قلتُ لك: إن تنعم تنعم على شاكرٍ، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت.
فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغد فقال: "مَاذَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟" فقال: عندي ما قلتُ لك: إن تنعم تنعم على شاكرٍ، وإن تقتل تقتل ذا دمٍ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ".
فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، يا محمد، والله! ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلِّها إليَّ، والله! ما كان من دينٍ أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدِّين كلِّه إليَّ، والله! ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ، وإنَّ خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟
فبشَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم مكَّة قال له قائلٌ: أصبوت؟ فقال: لا ولكنِّي أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطةٍ حتَّى يأذن فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم[15].
فهذه المعاملة الكريمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تركت في نفس ثمامة أثرًا طَيِّبًا إلى درجة أنه غَيِّر دينه، وأسلم لله رب العالمين، دون ضغط أو إكراه، بل إن إسلامه وُلِدَ قويًّا إلى الدرجة التي دفعته إلى مقاطعة قريش من أجل أنها تحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ مضحيًا بذلك بثروة هائلة كانت تأتيه من تجارته معها، ومضحيًا بعلاقات اجتماعية مهمة مع أشراف قريش.
عناية رسول الله بالأسرى
ولقد كانت القاعدة العامة التي حَثَّ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول غزوة غنم فيها المسلمون أسرى هي: "اسْتَوصُوا بِهمْ -أي بِالأَسْرَى- خَيْرًا"[16]. وهذه المعاملة الحسنة التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأسرى لم تكن مجرَّد قوانين نظرية ليس لها تطبيق في واقع الحياة، ولكنَّها تمثلت في مظاهر كثيرة تنبئ عن قلوب ملأتها الرحمة.
لذلك أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب غلامي قريش في أحداث بدر، إذ قال لأصحابه: "إذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صَدَقَا، وَاَللّهِ إنّهُمَا لِقُرَيْشِ.."[17]. فرغم كون هذين الغلامين من الجيش المعادي، وضربهما قد يكشف للمسلمين مناطق الضعف في الجيش القرشي، إلاَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر ضربهما وتعذيبهما، وهذا الأمر ما عبّر عنه الإمام مالك رحمه الله؛ إذ سُئل: أَيُعذَّبُ الأسيرُ إن رُجِيَ أن يدلَّ على عورة العدو؟ قال: ما سمعت بذلك[18].
بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا أيضًا على راحة الأسير البدنية والصحية ليُدرك - بما لا يدع مجالاً للشكِّ - أن هذا المنهج إلهيٌّ، وليس من صُنع البشر! إنه ليس من أحد أرحم بالعباد من الله ، ومن رحمته أنه أوصى برعاية الأسير حتى لو كان هذا الأسير كافرًا به وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم كل الحرص على تطبيق هذا المنهج الإلهي الرحيم؛ فخرجت لنا عدة مواقف نجزم أنها لا توجد في تاريخ أمة غير أمة الإسلام.
وقد تجلَّى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعاملاته مع الأسرى في الاهتمام بمأكلهم؛ فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم بدر أن يُكرموا الأسارى، فكانوا يُقَدِّمُونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة[19].
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم يُقدِّمون للأسرى ما بقي من طعامهم، بل كانوا ينتقون لهم أجود ما لديهم من طعام، ويجعلونهم يأكلونه عملاً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، وها هو أبو عزيز -شقيق مصعب بن عمير - يروي ما حدث بقوله: كنتُ في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خَصُّوني بالخبز، وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إيَّاهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلاَّ نفحني بها؛ فأستحي فأردها فيردّها عَلَيَّ ما يمسُّها! قال ابن هشام: وكان أبو عزيز هذا صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث[20]. فالرجل لم يكن شخصية عادية، بل كان من أشدِّ المشركين على المسلمين، فلا يحمل اللواء إلاَّ شجعان القوم وسادتهم! ولكن هذا لم يُغَيِّر من الأمر شيئًا؛ لأن الرحمة بالأسير أصل من أصول التعامل لا يجوز التخلِّي عنه تحت أي ظرف من الظروف.
ولم يقتصر المسلمون على إطعام أسراهم من المشركين؛ بل كانوا يُقَدِّمون لهم الملابس أيضًا، وهذا ثابت في الصحيح، فقد جعل البخاري –رحمه الله- بابًا في الصحيح سمَّاه: باب الكسوة للأُسارى ذكر فيه أن جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما- قال: لمَّا كان يوم بدرٍ أُتِيَ بأسارى، وأُتِيَ بالعبَّاس، ولم يكن عليه ثوبٌ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم له قميصًا فوجدوا قميص عبد اللَّه بن أبيٍّ يَقْدُرُ عليه[21]، فكساه النبي صلى الله عليه وسلم إيَّاه..."[22].
وورد أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لأسرى هوازن بالكساء فقد أمر رجلاً أن يَقدم مكة فيشتري للسبي -الأسرى- ثياب المُعَقَّد[23]، فلا يخرج الحرُّ منهم إلاَّ كاسيًا[24].
التعامل بالرفق ولين الجانب مع الأسرى
ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم البارزة في التعامل مع الأسرى الرفقُ ولين الجانب، حتى يشعروا بالأمن والطمأنينة، وقد كان من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يردُّ على استفسارات الأسرى، ولا يسأم أو يَمَلُّ من أسئلتهم؛ ممَّا يُوحِي بسعة صدره، وعمق رحمته صلى الله عليه وسلم التي شملت البشر جميعًا؛ ففي صحيح مسلم عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبنى عقيلٍ، فأَسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيلٍ، وأصابوا معه العضباء[25]، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الوثاق قال: يا محمد. فأتاه فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" فقال: بم أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاجِّ[26]؟ فقال: "إِعْظَامًا لِذَلِكَ أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ".
ثمَّ انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رقيقًا فرجع إليه، فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" قال: إنِّي مسلمٌ. قال: "لَوْ قُلْتَهَا وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَكَ أَفْلَحْتَ كُلَّ الْفَلاَحِ".
ثمَّ انصرف فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد. فأتاه فقال: "مَا شَأْنُكَ؟" قال: إنِّي جائعٌ فأطعمني، وظمآن فاسقني. قال: "هَذِهِ حَاجَتُكَ"[27].
فهذه الاستفسارات المتكرِّرة من الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو القائد الأول للدولة الإسلامية- ومناداته باسمه صلى الله عليه وسلم مجرَّدًا يدلُّ على مدى الرحمة والإنسانية التي يحملها الرسول صلى الله عليه وسلم في قلبه لكل البشر.
ولعلَّ الأعظم من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتمُّ بالنواحي النفسية للأسرى ويحترمها كل الاحترام، ويظهر هذا الأمر بوضوح في أوقات الشدائد وبعد الحروب خاصَّة، فنجد النبي صلى الله عليه وسلم يوجِّه أصحابه الكرام توجيهات إنسانية راقية في شأن التعامل مع الأسرى من النساء والأطفال؛ فينهى عن التفريق بين الأُمِّ وطفلها؛ فعن أبي أيوب قال: "سمعت رسول الله يقول: "مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[28].
ولعلَّ القصة التالية تكون خاتمة جميلة لهذا المقال؛ حيث تظهر فيها أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الأسرى في أبهى صورها، فقد أتى أبو أُسَيْدٍ الأنصاري[29] بسبي من البحرين فَصُفُّوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إليهم؛ فإذا امرأة تبكي؛ فقال: "ما يُبْكِيكَ؟" فقالت: بِيعَ ابني في بني عبس؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي أُسيد: "لَتَرْكَبَنَّ فَلَتَجِيئَنَّ بِهِ". فركب أبو أسيد فجاء به[30]!
لقد رقَّ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة الأسيرة فأرسل أحد جنوده إلى بلد بعيد ليأتي لها بابنها، حتى يهدأ بالها، وتجفَّ دموعها!
ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نستقصي جميع تعاملات رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تُظهر حقيقة سريرته، وحسن خُلقه في سلمه وحربه وتعاملاته كلها صلى الله عليه وسلم ولكننا اكتفينا ببعض هذه المواقف، والتي تدلُّ دلالة واضحة على كمال أخلاقه، وعظمة رسالته التي أوحى الله بها إليه.
د. راغب السرجاني
[1] عقيل بن أبي طالب، وهو أخو علي بن أبي طالب، وكان عقيل آنذاك مشركًا في جيش الكفار.
[2] ابن كثير: السيرة النبوية 2/457.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 3/311.
[4] ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/14.
[5] أحمد عن ابن عباس (2216)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن. وقال الهيثمي: رواه أحمد عن علي بن عاصم، وهو كثير الغلط والخطأ، وقد وثَّقه أحمد. مجمع الزوائد 4/172.
[6] ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/352.
[7] الحاكم 3/318، ابن هشام: السيرة النبوية 3/200.
[8] خَتَنُ الرجلِ: المُتزوِّجُ بابنته. انظر: ابن منظور: لسان العرب مادة ختن 13/137.
[9] ابن سيد الناس: عيون الأثر 1/351-352.
[10] البخاري عن محمد بن جبير بن المطعم عن أبيه: كتاب الخمس، باب ما منَّ النبي r على الأسارى من غير أن يُخَمّس (2970)، وأبو داود (2689)، والطبراني في الكبير (1504)، ورواه عبد الرزاق في مصنفه (9400)، ورواه البيهقي في سننه الكبرى (12616).
[11] البيهقي: السنن الكبرى (17810)، ابن حجر: الإصابة 1/302، ابن الأثير: أسد الغابة 1/337.
[12] ابن هشام: السيرة النبوية: 6/51.
[13] انظر: ابن حجر: فتح الباري 8/88.
[14] لقحة: الناقة الحلوب. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة لقح 2/579.
[15] البخاري: كتاب أبواب المساجد، باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير أيضًا في المسجد (450)، مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه، واللفظ له (1764). والحنطة: القمح.
[16] أخرجه الطبراني في الكبير (977), وفي الصغير(409), وقال الهيثمي: إسناده حسن من حديث أبي عزيز بن عمير. مجمع الزوائد 6/115.
[17] ابن هشام: السيرة النبوية 1/616، 617. وانظر الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 4/27، والسهيلي: الروض الأنف 3/58.
[18] محمد بن يوسف المواق: التاج والإكليل 3/353.
[19] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/584.
[20] ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/15، وابن كثير: السيرة النبوية 2/475.
[21] يقدر عليه: بضم الدال، وإنما كان ذلك لأن العباس كان بَيِّنَ الطول، وكذلك كان عبد الله بن أبي. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6/144.
[22] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب كسوة الأسرى (2846)، والبيهقي في سننه الكبرى (18570).
[23] ثياب المعقد: المُعَقَّدُ: ضَرْبٌ من بُرُودِ هَجَر. انظر: الزبيدي: تاج العروس باب الدال فصل العين مع القاف 9/62.
[24] البيهقي: دلائل النبوة 5/264.
[25] أصبحت بعد ذلك ناقة رسول الله r.
[26] سابقة الحاج: أراد بها العضباء؛ فإنها كانت لا تُسبق أو لا تكاد تسبق، معروفة بذلك.
[27] مسلم: كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله (1641)، وأبو داود (3316)، وابن حبان (4859)، والشافعي (1490)، والدارقطني (37)، والبيهقي في سننه الكبرى (17845)، وأبو نعيم في الحلية 8/651.
[28] الترمذي: كتاب السير، باب في كراهية التفريق بين السبي (1566)، وقال: حديث حَسَنٌ غريب. وأحمد (23546) وقال شعيب الأرناءوط: حسن بمجموع طرقه وشواهده. والحاكم (2334) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاه، والطبراني في الكبير(4080)، والبيهقي في الكبرى (18089)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (6412).
[29] هو عبد الله بن ثابت الأنصاري، وكنيته أبو أسيد، وهو غير أبي أسيد الساعدي، كان يخدم النبي r، وروى عنه "كلوا الزيت وادهنوا به". انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 5/13، وابن حجر العسقلاني: الإصابة ترجمة رقم (9573).
[30] الحاكم (6193)، وقال: حديث صحيح الإسناد، ولم يخرَّجاه، ورواه سعيد بن منصور في سننه (2654).
تعليق