وإنك لعلى خلق عظيم
لفضيلة الشيخ : محمد حسان
روى الطبراني عن عبد الله بن سلام بسند رجاله ثقات أن زيد بن سعنه - وهو الحبر الكبير من أحبار يهود - قال : ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه محمد حين نظرت إليه إلا اثنتين الأولى : يسبق حلمه جهله ، الثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً يقول زيد بن سعنه : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من الحجرات مع علي بن أبي طالب وإذ برجل من الأعراب يقبل على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول : يا رسول الله إن قومي في قرية بني فلان قد دخلوا في الإسلام ، ولكنهم دخلوا في الإسلام طمعاً ، فلقد أخبرتهم أنهم إن دخلوا في الإسلام أتاهم رزقهم رغداً وقد نزلت بهم اليوم شدة وقحط فأخشى أن يخرجوا من الإسلام طمعاً ، كما دخلوا في الإسلام طمعاً فإن رأيت أن ترسل إليهم بشيء تغيثهم به فعلت يا رسول الله
فالتفت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق إلى علي بن أبي طالب وسأله ((هل عندنا شيء من المال ؟ ))
فقال علي بن أبي طالب : لا والله يا رسول الله لقد نفذ المال كله .
يقول زيد بن سعنه : فدنوت من محمد صلى الله عليه وسلم وقلت له : يا محمد هل تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلى أجل معلوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(( نعم أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل معلوم لكن لا تسمي حائط بني فلان ))
فوافقت على ذلك ، وأعطيت النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين مثقالاً من الذهب يقول زيد بن سعنه : فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم كلها وأعطاها لهذا الأعرابي وقال :
(( اذهب إلى قومك فأغثهم بهذا المال )) فانطلق الأعرابي بالمال كله ، ولم يمض غير قليل من الوقت ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه بعد أن صلى جنازة على صاحب له وأتى إلى جدار ليجلس إليه في ظله فاقترب منه زيد بن سعنه ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوجه غليظ وأخذ بقميص النبي صلى الله عليه وسلم وردائه وهز الحبر اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم هزاً عنيفاً وهو يقول له ((أدع ما عليك من الحق ومن دين يا محمد ! فوالله ما علمتم يا بني عبد المطلب إلا مطلاً في أداء الحقوق وسداد الديون ))
فالتفت إليه عمر بن الخطاب وعينه تدور وقال له : يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى ؟!! والذي نفسي بيده لو لا أني أخشى فوته وغضبه لضربت رأسك بسيفي هذا .
يقول زيد بن سعنه : وأنا أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بالنبي ينظر إلي في سكون وهدوء ، ثم التفت المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى عمر بن الخطاب وقال له :
((يا عمر لقد كنت انا وهو في حاجة إلى غير ذلك ، يا عمر لقد كان من الواجب عليك أن تأمرني بحسن الأداء وأن تأمره بحسن الطلب ... )) فبهت الحبر أمام هذه الأخلاق السامية ، وأمام هذه الروح الوضيئة العالية من الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم .
أتدرون ماذا قال الحبيب صاحب الأخلاق العظيمة ؟
التفت الحبيب إلى عمر رضي الله عنه وقال :
(( يا عمر خذه وأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر جزاء ما روعته !! ))
يقول زيد بن سعنه : فأخذني عمر بن الخطاب وأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من التمر .
فقلت له : ما هذه الزيادة يا عمر ؟
فقال : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدكا جزاء ما روعتك !!
فالتفت الحبر اليهودي إلى عمر وقال : ألا تعرفني ؟
قال : لا قال : أنا زيد بن سعنه .
قال عمر : حبر اليهود ؟ قال : نعم .
فالتفت إليه عمر وقال : فما الذي حملك على أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت ؟ وعلى أن تفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت ؟
فقال زيد : والله يا ابن الخطاب ما من شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه ، ولكنني لم أختبر فيه خصلتين من خصال النبوة .
فقال عمر : وما هما ؟
قال حبر اليهود : الأولى : يسبق حلمُه جهله . والثانية : لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً ، أما وقد عرفتهما اليوم في رسول الله فأشهدك يا عمر أني : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الراوي: زيد بن سعنة المحدث: المزي - المصدر: تهذيب الكمال - الصفحة أو الرقم: 5/230
خلاصة حكم المحدث: حسن مشهور
أيها الأفاضل :
ماذا أقول أمام هذه الأخلاق ؟! وبأي لغة أعلق ؟!
وأنا أسأل الآن وأقول : هل في لغة البشر ما أستطيع أن أعبر به عن هذه الأخلاق السامقة ؟ ألا ورب الكعبة فلا !!
فلندع المشهد يتألق سمواً وروعةً وجلالاً ولتردد معي أيها المحب للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم هذه الشهادة العظيمة من خالقه جل وعلا :
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [ القلم : ٤ ] .
وروى ابن اسحاق بسند صحيح مرسل وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : أخرجه الطبراني عن أنس ورجاله رجال الصحيح من حديث عروة بن الزبير أن عمير بن وهب أُسِرَ ولده وهب بن عمير في غزوة بدر فجلس عمير بن وهب مع صفوان بن أمية وكان على الكفر والشرك ، جلسا إلى جوار الكعبة فتذكرا يوم بدر ، فقال عمير بن وهب لصفوان بن أمية : والله لو لا دَيْنٌ علي ّ وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت إلى محمد لأقتله ، فإن لي قبلهم علة ، ابني أسيرٌ في أيديهم ، فاغتنمها صفوان بن أمية وقال : عليَّ دَيْنُك أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي ، لا أمنع شيئاً عنهم .
فقال له عمير : فاكتم شأني وشأنك ، قال : أفعل
فانطلق عمير إلى المدينة وقد شحذ سيفه وسَّمه ، فلما أناخ راحلته على باب المسجد رآه الفاروق الملهم عمر بن الخطاب متوشحاً سيفه .
فقال عمر : هذا عدو الله عميرُ بن وهب والله ما جاء إلا لشر .
ثم أخذ عمر بحمالة سيفه في عنقه ، فلببَّه بها ثم أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أرسله يا عمر )) ثم قال : (( ادن يا عمر )) ، فدنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما الذي جاء بك يا عمير ؟ ))
فقال ابني أسيرٌ في أيديكم جئت لتحسنوا في فدائه .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اصدقني يا عمير ، ما الذي جاء بك )) ؟
قال : ما جئت إلا لهذا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فما بال السيف في عنقك ؟ ))
فقال : عمير بن وهب : قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؟فقال صلى الله عليه وسلم : (( اصدقني يا عمير ما الذي جاء بك ؟ ))
قال عمير : ما جئت إلا لذلك .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( بل جلست أنت وصفوان بن أمية في حجر الكعبة فذكرتما أهل بدر من قريش ، ثم قلت لصفوان : لولا دَيْنٌ علي وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت إلى محمد لأقتله ، فتحمل لك صفوان بِدَينِكَ وعيالك على أن تقتلني ، والله حائل بينك وبين ذلك ... )) .
الله أكبر !!
فقال عمير بن وهب : أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم أنه ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق ثم شهد شهادة الحق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( فقهوا إخاكم في دينه وأقرئوه القرآن وأطلقوا له أسيره ))
الراوي: محمد بن جعفر بن الزبير المحدث: الهيثم - المصدر: مجمع الزوائد - الصفحة أو الرقم: 8/287
خلاصة حكم المحدث: مرسل إسناده جيد
هل في لغة البشر ما أستطيع أن أعبر به عن هذه الأخلاق السامية ؟!
يتبع ...
تعليق