إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الحكم البليغة في حجة الوداع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحكم البليغة في حجة الوداع




    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،
    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك وأن محمد عبده ورسوله، ثم أما بعــد،




    مقدمة:

    لا شكَّ أن ما اشتملت عليه خطبُ النبي- صلى الله عليه وسلم- من: العلومِ، والفوائدِ الساميةِ، والقواعدِ الهامةِ، والوصايا النافعةِ، ما يَنبغِي لكلِّ مسلمٍ معرفتُها والعملُ بها؛ فقد قرَّر فيها النبي- صلى الله عليه وسلم- قواعدَ الإسلامِ، وهَدَم فيها قواعدَ الشركِ والجاهلية، وقرَّر فيها تحريمَ المحرَّمات التي اتفقتِ المِلَلُ على تحريمِها، وهي: الدماءُ، والأموالُ، والأعراضُ.

    ووضع فيها أمورَ الجاهليةِ تحت قدميه، ووضَع فيها رِبَا الجاهليةِ كلَّه، وأبطله، وأوصاهم بالنساءِ خيرًا، وذكر الحقَّ الذي لهن وعليهن، وأن الواجب لهن: الرزق، والكسوة بالمعروف- ولم يقدِّر ذلك بتقديرٍ- وأباح للأزواج ضربَهن إذا أَدخَلن إلى بيوتِهن مَن يكرهه أزواجُهن، وأوصى الأمَّة فيها بالاعتصام بكتاب الله، وأخبر أنهم لن يَضِلُّوا ما داموا مُعتَصمِين به، ثم أخبرهم أنهم مسؤولون عنه، واستنطقهم بماذا يقولون، وبماذا يشهَدون، فقالوا: نشهَد أنك بلَّغت، وأدَّيت، ونَصَحت، فرفع أصبعه إلى السماء، واستشهد الله عليهم ثلاث مرات، وأمرهم أن يبلِّغ شاهدُهم غائبَهم، كما خطب الناس يوم النَّحر خطبةً بليغةً، أعلمَهم فيها بحرمةِ يوم النحر، وفضلِه عند الله، وحرمةِ مكة على جميع البلاد، وأمر بأخذ مناسكهم عنه، وقال))لعليلا أَحُجُّ بعد عامي هذا))، وعلَّمهم مناسكهم.

    ونَهَى الناسَ أن يرجِعوا بعده كفارًا، يضرب بعضُهم رقابَ بعضٍ، وأمر بالتبليغِ، وأخبر أنه رُبَّ مبلَّغٍ أوعى من سامعٍ.
    وقال في خطبته تلك: ((لا يَجْنِي جانٍ إلا على نفسه))،
    وقال: ((
    إن الشيطان أَيِسَ أن يُعبد ببلدِكم، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تَحتَقِرون من أعمالكم، فيَرضَى بها)).

    وقال: ((اعبدوا ربَّكم، وصلُّوا خَمْسَكم، وصوموا شهرَكم، وأطيعوا أُمَراءَكم؛ تَدْخُلوا جنَّة ربِّكم))، وودَّع حينئذٍ الناسَ، فقالوا: حجَّة الوداع.

    كما خطبهم- صلى الله عليه وسلم- أيضًا أوسطَ أيامِ التشريقِ خطبةً عظيمةً بليغةً، بيَّن فيها حرمةَ ذلك اليومِ والشهرِ والبلدِ، وبيَّن حرمةَ الدَّمِ والعِرضِ، التي اتفقتِ المِلَل على حُرمتِها، وحذَّر فيها من الظلم والتعدِّي على المال، وأنه لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ بغيرِ طيبِ نفسٍ منه، وبيَّن- في خطبتِه تلك-أن الزمانَ قد استدار كهيئتِه يومَ خلَق اللهُ السمواتِ والأرض، وأن ربَّهم واحدٌ، وأباهم واحدٌ، وأنه لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأسودَ على أحمرَ، ولا لأحمرَ على أسودَ، إلا بالتَّقوى.



    سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد
    تابعونا






  • #2
    رد: الحكم البليغة في حجة الوداع


    أولاً : خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة .
    هنــــــــــــــــــــــــــــا




    ثانياً: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر:
    روى الإمام أحمد عن جابر - رضي الله عنه - قال: "خطَبنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يوم النَّحر، فقال: ((أيُّ يوم أعظمُ حُرمة؟))، فقالوا: يومُنا هذا، قال: ((فأيُّ شهرٍ أعظمُ حُرمةً؟))، قالوا: شهرُنا هذا، قال: ((أيُّ بلدٍ أعظمُ حُرمة؟))، قالوا: بلدُنا هذا، قال: ((فإنَّ دماءَكم، وأموالكم عليكم حرامٌ، كحُرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، هل بلَّغتُ؟))، قالوا: نعم، قال: ((اللهمَّ اشْهَد)).
    قوله: ((أيُّ يومٍ أعظمُ حُرمةً؟))؛ أي: يَحرُم فيه التعدِّي من قتالٍ وغيره أكثرَ من سائر الأيام.
    قوله: "قالوا: يومنا هذا"؛ أي: اليوم العاشر الذي هو الحجُّ الأكبر.
    وقوله: ((أيُّ بلدٍ أعظمُ حُرمةً؟))، قالوا: بلدُنا هذا؛ أي: مكة؛ إذ إنها أفضلُ بِقاع الأرض، وفيها الكعبة المُشرَّفة التي جعَلها الله قيامًا للناس وأَمْنًا، وفيها وُلِد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأُرْسِل إليه، وهي مولِد الخلفاء الراشدين، وقد تكاثَرت النصوص في فضْلها وعِظَم شَأْنها، والمعنى ما يقع في ذلك اليوم والشهر والبلد من قتالٍ وتَعَدٍّ على الناس، فإنه - وإن كان في هذا اليوم والشَّهر والبلد - أشدَّ غِلظة، وأعظمَ جريمةً مما لو وقَع في غيرها، وغيرها أيضًا - من يومٍ وشهرٍ وبلدٍ - حرامٌ فيه قتالُ الناس بغير حقٍّ، والتعدِّي عليهم في أعراضهم ودمائهم وأموالهم، وإنما أرادَ بذلك تذكيرَهم ما هو مُسْتقرٌّ في نفوسهم من حُرمة اليوم والشهر والبلد؛ ليَبنيَ عليه ما أراد تقريرَه؛ حيث قال: ((فإنَّ دماءَكم وأموالكم))، وفي رواية: ((وأعراضكم عليكم حرامٌ)).
    والعِرْض - بكِسر العين - موضعُ المدح والذمِّ في الإنسان في نفسِه أو سَلفه، والمعنى: أنَّ انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضِكم - عليكم حرامٌ، فمال المسلم حرامٌ كحُرمة دمه وعِرضه، وقد تقدَّم بيان ذلك مُستوفًى في شَرْح خُطبته بعَرَفةَ.
    وقوله: ((كحُرمة يومكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا))، إنما شبَّهها في الحُرمة بهذه الأشياء؛ لأنهم كانوا لا يَرَون استباحتها وانتهاكَ حُرمتها بحالٍ، وقال ابن المُنَيِّر: قد استقرَّ في القواعد أنَّ الأحكام لا تتعلَّق إلاَّ بأفعال المُكَلَّفين، فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر، تحريمُ أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعِرض، فما معنى إذًا تشبيه الشيء بنفسه؟ وأجاب بأنَّ المراد أنَّ هذه الأفعال في غير هذا البلد وهذا الشهر وهذا اليوم، مُغَلَّظةُ الحُرمة، عظيمةٌ عند الله، فلا يَستسهِل المعتدِي كونَه تعدَّى في غير البلد الحرام والشهر الحرام، بل ينبغي له أن يَخاف خوفَ مَن فَعَل ذلك في البلد الحرام، وإن كان فِعْلُ العُدوان في البلد الحرام أغلظَ، فلا يَنفي كونَ ذلك في غيره غليظًا أيضًا، وتَفاوُتُ ما بينهما في الغِلَظ لا يَنفع المعتدِي في غير البلد الحرام، فإن فرَضناه تعدَّى في البلد الحرام، فلا يَستسهل حُرمة البلد، بل ينبغي له أن يَعتقد أنَّ فِعله أقبحُ الأفعال، وأنَّ عقوبته بحسب ذلك؛ فيُراعي الحالتين.
    قوله: ((هل بلَّغت؟))، قال: ((اللهمَّ اشْهَد))، المعنى: هل بلَّغتُكم ما أُرْسِلتُ به إليكم؛ لأنَّ التبليغ فرضٌ عليه، فقالوا: نعم؛ أي: بلَّغتَ الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونَصَحت الأُمَّة، فعند ذلك استَشْهَد اللهَ عليهم بقوله: ((اللهمَّ اشْهَد))، والرسولُ بلَّغ ما أُمِر به في قوله: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) [المائدة: 67].
    ويتضمَّن:
    1- حِفظ الله ووقايته لِمَن اعتصَم بكتابه العزيز.
    2- دليل إثبات عُلُوِّ الله على عرشه.
    3- الحِكَم التي اشْتَمَلت عليها خُطبته يوم النَّحر.
    روى ابن ماجه في سُنَنه عن شَبيب بن غَرْقَدةَ، عن سليمان بن عمرو بن الأحْوَص، عن أبيه، قال: سَمِعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حَجَّة الوداع: ((يا أيُّها الناس، ألا أيُّ يوم أحرمُ؟)) ثلاثَ مرَّات، قالوا: يوم الحجِّ الأكبر، قال: ((فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضكم، بينكم حرامٌ كحُرمة يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا، ألا لا يَجْنِي جانٍ إلاَّ على نفسه، ولا يَجْنِي والدٌ على ولدِه، ولا مولودٌ على والده، ألا إنَّ الشيطان قد أَيِس أن يُعبد في بلدِكم هذا أبدًا، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تَحتقِرون من أعمالكم، فيَرضى بها، ألا وكلُّ دمٍ من دماء الجاهليَّة موضوعٌ، وأوَّل ما أضَع منها دَمَ الحارث بن عبدالمطَّلب، كان مُسترْضِعًا في بني ليثٍ، فقتَلتْه هُذَيل، ألا وإنَّ كلَّ ربًا من ربا الجاهليَّة موضوعٌ، لكم رؤوسُ أموالِكم، لا تَظلِمون ولا تُظلَمون، ألا يا أُمَّتاه، هل بلَّغتُ؟)) ثلاثَ مرَّات، قالوا: نعم، قال: ((اللهمَّ اشْهَد)) ثلاث مرَّات.
    قوله: ((يا أيها الناس، ألا أيُّ يوم أحرمُ)) ثلاثَ مرَّات:
    أحرم؛ أي: أشدُّ حُرمة، كرَّرها ثلاث مرَّات؛ اهتمامًا بها، وبما ستُرَتِّبه عليها من قوله: ((فإنَّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم - بينكم حرامٌ، وكما تقدَّم بيانُه في حديث جابر، وفيه دليلٌ على أنَّ يومَ الحجِّ الأكبر هو يوم النَّحر؛ كما اختارَه جمعٌ من المُحَقِّقين، منهم: العلاَّمة ابن القَيِّم، وغيره.
    وقوله: ((ألا لا يَجنِي جانٍ إلاَّ على نفسه))، قال في النهاية: "الجِناية: الذَّنب والجُرْم، وما يَفعَله الإنسان مما يوجِب عليه العذابَ، أو القِصاص في الدنيا والآخرة.
    المعنى: أنه لا يُطالَب بجِناية غيرِه من أقاربه وأباعده، فإذا جَنَى أحدُهم جِنايةً لا يُعاقَب بها الآخر؛ كقوله: ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [الأنعام: 164]، وقوله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) [المدثر:38].
    فالمرءُ له حسناتُه وأعماله الصالحة، وعليه جريمة ما يَرتكبه من ذنبٍ أو جنايةٍ في: دَمٍ، أو مالٍ، أو عِرضٍ.
    قوله: ((ولا يَجنِي والدٌ على ولدِه، ولا مولودٌ على والدِه)).
    المراد: النهي عن الجِناية عليه؛ لاختصاصها بمزيد قُبْحٍ، وأن يكونَ المرادُ تأكيدَ: ((لا يَجني جانٍ إلاَّ على نفسه))، فإنَّ عادَتهم جرَتْ بأنهم يأخذون أقاربَ الشخص بجِنايته، والحاصل أنَّ هذا ظلمٌ يؤدِّي إلى ظُلم آخرَ، والأظهر أنَّ هذا نفيٌ، فيُوافق قوله -تعالى-: ( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) [الأنعام: 164]، وإنما خصَّ الولدَ والوالد؛ لأنهما أقربُ الأقارب، فإذا لَم يُؤاخَذَا بفِعلهما، فغيرُهما أَوْلَى، وفي رواية: ((لا يُؤْخَذ الرجُل بجريمة أبيه)).
    فإذا كان هذا بين الوالد وولده، فغيرُهما من الأقارب بطريق الأَوْلَى، من أنه لا يُؤْخَذ أحدٌ بذنب أحدٍ، وإنما يُؤْخَذ الشخص بفِعله.
    قوله: ((ألا إنَّ الشيطان قد أَيِسَ أن يُعبَد في بلدِكم هذا أبدًا))؛ أي: إنه أَيِس بنفسه بالبناء للفاعل لا بالبناء للمفعول، وهو أنه لَمَّا رأى انتشارَ الإسلام ودخولَ الناس في دين الله أفواجًا، أَيِسَ أن يُعبَد في جزيرة العرب، وعبادتُه: طاعتُه بنوعٍ من أنواع الكفر؛ كما قال -تعالى-: ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ) [يس: 60]؛ أي: ألاَّ تُطيعوه، وهذا من جنس قوله -تعالى-: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) [المائدة: 3].
    فإن الكفار أَيِسوا من رجوع المسلمين عن إسلامِهم إلى دين الكفر، فالرسول: نَسَب الإياس إلى الشيطان، ولَم يقل: إنَّ الله آيَسَه، فالإياس الحاصل من الشيطان، لا يَلزم تحقيقُه واستمرارُه، ولكنَّ عدوَّ الله لَمَّا رأى ما ساءَه من ظهور الإسلام في جزيرة العرب وعُلُوِّه - أَيِس مِن تَرْكِ المسلمين دينَهم الذي أكرَمهم الله به، ورجوعِهم إلى الشِّرك الأكبر.
    فالكل يَئِسَ من ارتداد المسلمين وتَرْكهم دينَهم، ولا يَلزم من ذلك امتناعُ وجود الكفر في أرض العرب؛ ولهذا قال ابنُ رجب على الحديث: "إنَّ الشيطان يَئِس أن تُجمع الأُمَّةُ على أصْل الشِّرك الأكبر، يوضِّح ذلك ما حصَل من ارتداد أكثرِ أهل الجزيرة بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقتال الصِّدِّيق والصحابة لهم على اختلاف تنوُّعهم في الرِّدَّة، وقال أبو هريرة: "لَمَّا مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان أبو بكرٍ، وكفَر مَن كفَر من العرب، ورِدَّة بَني حَنِيفة،....إلخ".
    ولا دَلالة في هذا الحديث لِمَن قال بعدم وقوع الشِّرك في جزيرة العرب، فوقوع الشِّرك فيها معلومٌ بالضرورة؛ كارتِداد الكثير في جزيرة العرب، وكُفر مُسَيلِمة وأصحابه، والأسود العَنسي، وأمثالهم كثير، فهل يُقال: إنهم ليسوا بكفَّار، بناءً على حديث: ((إنَّ الشيطان أَيِس أن يُعبد في جزيرة العرب))، أعتقد أنه لا قائلَ بهذا.
    وأيضًا ما يَفعله بعضُ هذه الأُمَّة عند القبور من الذَّبح لها والنَّذر، وسؤالِها تفريجَ الكُربات، وكَشْفَ الشدائد، وطلبِ المَدَد من أصحابها - فهذا هو الشِّرك بعينه المنافي للتوحيد.
    قال البخاري في صحيحه - باب تغيُّر الزمان حتى تُعبد الأوثان -: حدَّثنا أبو اليمان، أخبَرنا شُعيب عن الزُّهْري، قال: قال سعيد بن المُسَيَّب: أخبَرني أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: ((لا تقومُ الساعة حتى تَضطربَ أَلَيَاتُ نساء دَوْسٍ على ذي الخَلَصَة))، وذُو الخَلَصَة طاغية دَوْسٍ التي كانوا يعبدون في الجاهلية.
    وفي معنى هذا الحديث ما أخرَجه الحاكم عن عبدالله بن عمرو، قال: "لا تَقوم الساعة، حتى تُدافع مناكبُ نساء بني عامر على ذي الخَلَصَة"، وابن عَدِي من رواية أبي معشر، عن سعيد، عن أبي هريرة رفَعه: ((لا تَقوم الساعة حتى تُعبد اللات والعُزَّى)).
    وعلى قول مَن زعَم أنَّ هذه الأُمَّة لا يقعُ فيها شِرْكٍ - استنادًا منه إلى حديث: ((إنَّ الشيطان أَيِس أن يُعبَد في جزيرة العرب)) - يَلزم منه أنَّ الصحابة أخْطَؤُوا في قتال مُسَيْلمة والأسود العَنسي، وأمثالهم ممن ارْتَدَّ عن الإسلام، وقد ثبَت في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((لا تَقوم الساعة، حتى تُعبد اللات والعُزَّى)).
    وفي الحديث الصحيح أيضًا من خَبر الدَّجَّال: أنه لا يَدخل المدينة، بل يَنزل بالسَّبخة، فتَرجُف المدينة ثلاثَ رَجَفات، فيَخرج منها كلُّ كافرٍ ومنافق، فأخبَر أنَّ في المدينة إذ ذاك كفَّارًا ومنافقين.
    وقوله: ((ولكن سيكونُ له طاعةٌ في بعضِ ما تَحتقِرون من أعمالكم، فيَرضَى بها))؛ أي: دون الكفر؛ من القتل والنَّهب، ونحوهما من الكبائر، وتحقير الصغائر، فيَرضى بصيغة المعلوم؛ أي: الشيطان، بها؛ أي: بالمُحْتَقَر؛ حيث لَم يَحصل له الذنبُ الأكبر الذي هو الكفر؛ ولهذا ترى المعاصيَ - من الكذب، والخيانة، والغشِّ، ونحوها - تُوجَد كثيرًا في المسلمين، وقليلاً في الكافرين؛ لأنه قد رَضِي من الكفَّار بالكفر، فلا يُوَسْوِس لهم في الجزئيَّات، بخلاف المسلمين يَرمِيهم في المعاصي؛ لعدم حصوله منهم على الكفر.
    رُوِي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "الصلاة التي ليس لها وَسْوسة، إنما هي صلاة اليهود والنصارى"؛ لأنها لا تَنفعهم، وغيرُ صحيحةٍ من أصلها؛ لوجود ما يُنافيها وهو الكفر، ومن الأمثال: "لا يدخلُ اللصُّ في بيتٍ إلاَّ فيه متاعٌ نفيسٌ.

    فالشيطان كاللصِّ لا يدخل البيوت الخَرِبة، وهم الذين صدَر منهم الكفر، وإنما يدخل البيوت التي فيها أمْتَعِة ثمينة يريد انتهابَ شيءٍ منها ولو قليلاً؛ لعدم تمكُّنه مِن أخْذ المَتاع كلِّه.
    قوله: ((ألا وكلُّ دَمٍ من دماء الجاهليَّة موضوعٌ))، أبطَل ما بين الناس في جاهليَّتهم من الدماء، وكذا بَيْعاتهم الفاسدة التي لَم يتَّصل بها قَبْضٌ، وبدَأ في ذلك بأقاربه الأَدْنَيْن؛ ليكون أوْقَعَ في نفوس السامعين، وأَهْيَأَ لقَبولهم؛ فإن الآمرَ الناهي إذا بدَأ بنفسه وبأهله - فيما يأمرُ به، وما يَنهَى عنه - صار لعِظَته وَقْعٌ في النفوس، بقَبول ما يأمرُ به، وما يَنهَى عنه، بخلاف إذا كان يُخالف ما يحضُّ به، ويأمر ويَنهَى الناس عنه، فلا يكون لكلامه في النفوس القَبول التامُّ.
    قوله: ((ألاَ يا أُمَّتاه، هل بلَّغتُ)) ثلاثَ مرَّات، قالوا: نعم، قال: ((اللهمَّ اشْهَد)) ثلاثَ مرَّات - تقدَّم شرحُ هذا الحديث في خُطبته يومَ عرَفَة، واستشَهد اللهَ عليهم ثلاثَ مرَّات، حين اسْتَنْطَقهم بتبليغه لهم، واعترافهم بذلك، فلقد بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانة، ونصَح الأُمَّة، وجاهَد في الله حقَّ جهاده، فما توفِّي إلاَّ وقد أكمَل اللهُ به الدِّينَ، وبلَّغ البلاغ المُبين.


    تعليق


    • #3
      رد: الحكم البليغة في حجة الوداع



      ثالثاً: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بالخيف بمنى:

      *::**::*::*:::*:*::*::*::*:*:*::*


      وتتضمَّن:
      1- دعاءَه لأهل الحديث دعاءً اختصَّهم به دون الأُمة؛ وذلك يدلُّ على شرف الحديث وأهله.
      2- أنَّ حاملَ الحديث ليس من شرْطه أن يكون فقيهًا، فرُبَّما كان مَن حُمِل إليه الحديثُ أفقهَ منه.
      3- أنَّ علماء الأُمَّة صنفان: صِنف هم أهل الحديث والرِّواية، وصِنف هم أهل الفقه والدِّراية، فأهل الحديث كالصيادلة، وأهل الفقه كالأطباء.
      4- الإخلاص في العمل، والنُّصح لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم.
      روى ابن ماجه في سُنَنه، قال: حدَّثنا محمد بن عبدالله بن نُمير، حدَّثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالسلام، عن الزُّهْري، عن محمد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه، قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بالخَيْف من مِنًى، فقال: ((نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فبلَّغها، فرُبَّ حامل فقهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ - يعني: قلب مؤمن -: إخلاص العمل لله، والنصيحة لوُلاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإنَّ دعوتهم تُحيط من ورائهم)).
      قوله: ((نضَّر الله امرأً سَمِع مقالتي فبلَّغها))، قال الأصمعي: هو بالتشديد، وقال النووي: هو قول الأكثر، وقيل بالتخفيف، والمعنى: خصَّه الله بالبهجة والسرور؛ لِما رُزِق بعلمه ومعرفته من القدْر والمنزلة بين الناس في الدنيا، ونعَّمه في الآخرة؛ حتى يُرى عليه أثرُ الرَّخاء والنعمة، وخصَّ مُبلِّغ الحديث كما سَمِعه بهذا الدعاء؛ لأنه سَعَى في نضارة العلم، وتجديد السُّنة، فجازاه بالدعاء بما يُناسب حاله، وهذا يدلُّ على شرف الحديث، وفضْله، وعُلوِّ درجة طلاَّبه؛ حيث خصَّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعاءٍ لَم يُشرِك فيه أحدًا من الأُمَّة، ولو لَم يكن في طلب الحديث وحِفظه وتبليغه فائدةٌ سوى أن يَستفيد بركةَ هذه الدعوة المباركة - لكفى ذلك فائدةً وغُنمًا.
      وقال محيي السُّنة:
      اختُلف في نقْل الحديث بالمعنى، وإلى جوازه ذهَب الحسن والشعبي والنَّخَعي، وقال مجاهد: انُقصْ من الحديث ما شِئتَ، ولا تَزِد، وقال سفيان: إن قلتُ حدَّثتكم كما سَمِعتُ، فلا تصدِّقوني، فإنما هو المعنى، وقال وكيعٌ: إن لَم يكن المعنى واسعًا، فقد هلَك الناس، وقال أيُّوب عن ابن سيرين: كنتُ أسمع الحديث من عشَرة، واللفظ مختلِف، والمعنى واحد.
      وذهَب قومٌ إلى اتِّباع اللفظ؛ منهم: ابن عمر، وهو قول القاسم بن محمد، وابن سيرين، ومالك بن أنس، وابن عُيينة، وقال محيي السُّنة: "الرواية بالمعنى حرامٌ عند جماعات من العلماء، وجائزة: عند الأكثرين، والأَوْلى اجتنابها"؛ اهـ.
      قوله: ((فرُبَّ حامل فقهٍ غيرِ فقيهٍ))؛ أي: إن راويَ الحديث ليس الفقهُ من شرْطه، إنما شرطه الحِفظ، وعلى الفقيه التفهُّم والتدبُّر، وقوله: ((ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه((؛ أي: فرُبَّ حاملِ فقهٍ قد يكون فقيهًا، ولا يكون أفقهَ، فيَحفظه ويُبلِّغه إلى مَن هو أفقه منه، فيَستنبط منه ما لا يَفهمه الحامل، أو إلى مَن يَصير أفقهَ منه؛ إشارة إلى فائدة النقل والداعي إليه؛ قال الطِّيبي: هو صفةٌ لمدخول رُبَّ، استَغنى بها عن جوابها؛ أي: رُبَّ حامل فقه أدَّاه إلى مَن هو أفقه منه.
      قوله: ((ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ))؛ يعني: قلب مؤمن: هو بفتْح الياء وكسْر الغين من الغِل، وهو الضِّغْن والحقد، يُريد: لا يَدخله حقدٌ يُزيله عن الحقِّ.
      قوله: ((إخلاص العمل لله))، فالعمل لا يُقبل إلاَّ إذا كان خالصًا لله، نقيًّا مما يَشُوبه، قُصِد به وجهُ الله، فإن قَصد بعمله غيرَ الله - كتعلُّمه العلم؛ لنيْل وظيفةٍ، أو طلب جاهٍ - فعملُه لا يُقبل؛ لتخلُّف النيَّة الصالحة، بل لا بدَّ أن يكون العملُ لله، وعلى سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فالعمل لا يُقبَل إلاَّ إذا انبَنى على أصلين؛ الأوَّل: تجريد الإخلاص لله، وهذا معنى قوله: ((إنما الأعمال بالنيَّات))، والثاني: تجريد المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معنى قوله: ((مَن عَمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))، فالعمل لا بدَّ أن يكون خالصًا صوابًا، فالخالص يكون لله، والصواب يكون على سُنة رسول الله.

      وقال الفُضيل بن عياض في قوله - تعالى -: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [هود: 7].

      قال: "أخلصُه وأصْوبُه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصُه وأصوبُه؟ قال: أخلصُه أن يكون لله، وأصوبُه أن يكون على سُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: العمل إذا كان خالصًا، ولَم يكن صوابًا، لَم يُقبل، وإذا كان صوابًا، ولَم يكن خالصًا، لَم يُقبل؛ حتى يكونَ خالصًا صوابًا، فالعمل بغير نيَّة عناءٌ، والنية بغير إخلاص رياءٌ، والإخلاص من غير تحقيق هباءٌ.

      *::**::*::*:::*:*::*::*::*:*:*::*


      قوله: ((والنُّصح لولاة المسلمين ولزوم جماعتهم))؛ النُّصح: عبارة عن إرادة الخير للمنصوح له، قال الحافظ ابن رجب الحنبلي: "النصيحة تشمل خِصال الإسلام والإيمان والإحسان، ومعنى النصح لأئمَّة المسلمين: معاونتُهم على الحقِّ وطاعتهم فيه، وتذكيرهم ونَهْيهم في رِفْق ولُطفٍ، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق، وتنبيهم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهَفوة، وغرْس محبَّتهم في قلوب الرعيَّة، وردُّ القلوب الشاردة إليهم، وغرْس محبَّة الرعيَّة في قلوبهم، وعدم الخروج عليهم بلزوم جماعة المسلمين".




      تعليق


      • #4
        رد: الحكم البليغة في حجة الوداع


        رابعاً: خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق:

        *::**::*::*:::*:*::*::*::*:*:*::*

        وروى الإمام أحمد عن أبي حرَّةَ الرَّقَاشِي، عن عمه قال: كنتُ آخذًا بزمامِ ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وسط أيام التشريق أَذودُ عنه الناس، فقال: ((يا أيها الناس، هل تدرون في أيِّ شهرٍ أنتم؟ وفي أيِّ يومٍ أنتم؟ وفي أيِّ بلدٍ أنتم؟))، فقالوا: في يومٍ حرامٍ، وبلدٍ حرامٍ، وشهرٍ حرامٍ، قال: ((فإن دماءَكم، وأموالَكم، وأعراضَكم عليكم حرامٌ: كحرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، وفي بلدِكم هذا إلى يوم تَلْقَونه))، ثم قال: ((اسمعوا مني تعيشوا: ألا لا تَظْلِموا، ألا لا تَظْلِموا، إنه لا يَحِلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بطيبِ نفسٍ منه، ألا وإن كلَّ دمٍ، ومالٍ، ومأثرةٍ كانت في الجاهلية تحت قدميَّ هذه إلى يوم القيامة، وإن أوَّل دمٍ يوضَع دمُ رَبِيعةَ ابن الحارث بن عبدالمطلب كان مسترْضِعًا في بني لَيث فقتَلَتْه هُذَيل، ألا وإن كلَّ ربًا في الجاهلية موضوعٌ، وإن الله - عز وجل - قَضَى أن أوَّل ربًا يوضَع ربا العباس بن عبدالمطلب، لكم رؤوس أموالِكم لا تَظلِمون.

        ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللهُ السموات والأرض، ثم قرأ: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ) [التوبة: 36].
        ألا لا تَرجِعوا بعدي كفارًا، يَضرِب بعضُكم رِقابَ بعضٍ، ألا إن الشيطان قد أَيِس أن يَعبُدَه المصلُّون، ولكنه في التحريش بينكم.
        واتقوا الله في النساء؛ فإنهن عندكم عوان، لا يملِكن لأنفسهن شيئًا، وإنَّ لهن عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقًّا، أن لا يُوطِئن فُرُشَكم أحدًا غيرَكم، ولا يأذَنَّ في بيوتِكم لأحدٍ تَكْرَهونه؛ فإن خفتم نشوزَهنَّ، فعِظُوهنَّ، واهجُرُوهنَّ في المضاجِع، واضربِوهنَّ ضربًا غير مبرِّح - قال حميد: قلتُ ما المبرَّح؟ قال: المؤثِّر - ولهن رزقُهن وكسوتُهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانةٍ الله، واستحللتم فروجَهن بكلمة الله - عز وجل.
        ألا ومَن كانت عنده أمانةٌ؛ فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وبسط يديه))، وقال: ((ألا هل بلَّغتُ، ألا هل بلَّغتُ))، ثم قال: ((ليُبلغ الشاهدُ الغائبَ؛ فإنه رُبَّ مبلَّغٍ أسعد من سامعٍ))، قال حميد: قال الحسن - حين بلغ هذه الكلمة -: قد والله بلغوا أقوامًا كانوا أسعدَ به.
        أبو حُرَّة الرَّقَاشِي، هو: بضم الحاء المهملة وتشديد الراء، واسم أبي حُرَّة "حنيفة"، وقيل: "حكيم"، والرَّقَاشِي: بفتح الراء، وتخفيف القاف، وبعد الألف شين معجمة، وثَّقه أبو داود، وضعَّفه ابن مَعِين.
        قوله: "أَذُودُ عنه الناس"؛ أي: أدفع الناس، وأسوقهم عنه.
        قوله: ((يا أيُّها الناس، هل تَدْرُون في أيِّ شهر ٍأنتم، وفي أيِّ يومٍ أنتم، وفي أيِّ بلدٍ أنتم؟))، فقالوا: ((في يومٍ حرامٍ، وبلدٍ حرامٍ، وشهرٍ حرامٍ))؛ أي: إن هذا الشهر - وهو شهر ذي الحجة - واليوم الذي هو أوسط أيام التشريق، والبلد - التي هي مكة - أعظمُ تحريمًا من غيره؛ فالقتال والتعدِّي في هذا الشهر، وفي هذا اليوم، وفي هذا البلد أشدُّ تحريمًا من غيره في بقية الشهور والأيام والبلاد، وإن كان كلُّ ذلك حرامًا ممنوعًا، غير أنه في هذا البلد وفي هذا الزمن أشدُّ وأعظمُ، وقد تقدَّم شرح ذلك.
        قوله: ((فإن دماءَكم، وأموالَكم، وأعراضكم عليكم حرامٌ: كحرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، وفي بلدِكم هذا إلى يوم تَلْقَونه))؛ أراد: تذكيرَهم بما هو مستقِرٌّ في نفوسهم من حرمة الشهر واليوم والبلد؛ ليقرِّر لهم تحريمَ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، بانيًا بهذا على ما هو ثابتٌ في قلوبِهم، ومعلومٌ لديهم من حرمة الشهر واليوم والبلد، وقد تقدَّم تحريمه.
        وقوله: ((اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تَظلِموا، ألا لا تَظلِموا، ألا لا تَظلِموا)).
        الظلم: وضعُ الشيء في غير موضعه، وشرعًا: التعدِّي على الناس في دمٍ، أو عِرْض، أو مال، وقد حرَّم الله الظلم على نفسِه؛ كما قال في الحديث القدسي: ((إني حرَّمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلا تظَّالموا))، فالله - سبحانه وتعالى - أخبر بعدمِ ظلمِه لعباده، قال - تعالى -: ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت: 46]، ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف: 49]، ( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) [غافر: 31].
        وقوله: ((ألا لا تَظلِموا))؛ أي: لا تَظلمِوا أنفسكم بالعدول عن التوحيد إلى الشرك، ومن الهُدَى إلى الضلال، ومن الخير إلى الشر، كما لا تَظلِموا غيرَكم في دم أو مال أو عِرْضٍ؛ فإن الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عمَّاله عن الظلم، فقال: ((واتقِ دعوةَ المظلوم))؛ أي: اجعل بينك وبينها وِقَايةً بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران يَقِيان مَن رُزِقَهما من جميع الشرور دنيا وأخرى.
        وفي الحديث: ((إن دعوةَ المظلوم لتختَرِق السبع الطِّبَاق، حتى تأخذ بالعرشِ، فيقول لها الربُّ: ارجعي؛ فوعِزَّتي وجلالي لأنصرنَّك، ولو بعد حين)).
        وكرَّر النهيَ عن الظلم ثلاثًا؛ تعظيمًا لشأنه، وتحذيرًا من عاقبة شؤمه، فلا يجوز التعدِّي على أحدٍ بغير حق في دم ولا عِرض ولا مال، والله - سبحانه وتعالى - أمر بالعدل بين الناس في أقوالهم وأفعالهم، قال - تعالى -: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء: 58].
        وقال: ( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام: 152]، وقال: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) [النحل: 90]، الآيةَ.
        والعدل: هو جماعُ كلِّ خيرٍ، به تستقيم الأمور، وتنتظم الأحوال، ويَستَقِر الأمن، ويحصل به الرخاء والطمأنينة والراحة.
        وقوله: ((إنه لا يَحِل مالُ امرئٍ مسلمٍ إلا بطِيبِ نفسٍ منه))؛ أي: إن مالَ المسلمِ محترَم، لا يجوز التعدي عليه، وفي هذا تحقيقٌ لاحترام المِلكية الفَرْدِية، وبطلان الاشتراكية، وقد قامت دلائل النصوص القطعية الكثيرة باحترام الملكية الفردية ومقارنتها بالدَّمِ والعِرض كما في حديث: ((كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: دمُه، ومالُه وعِرْضه))، وحديث: ((مَن قُتِل دون مالِه؛ فهو شهيدٌ))؛ الحديثَ.
        وقد تقدَّم بيانُ ذلك في شرح خُطبته يوم عرفة.
        وقوله: ((ألا وإن كلَّ دمٍ، ومالٍ، ومأثرةٍ كانت في الجاهلية تحت قدميَّ هذه إلى يوم القيامة))، تقدَّم شرح هذا كله.
        وقوله: ((مأثرة))؛ أي: كلُّ مفخَرةٍ تَفتَخِر بها العرب، وتتعاظم بها، مما هي من أمور الجاهلية؛ فهي ((موضوعة))؛ أي: مبطَلة مهدَرة.
        وقوله: ((وإنَّ أوَّل دمٍ يُوضَع دمُ رَبِيعة))، إلخ.
        تقدَّم الكلام عليه أيضًا.
        قوله: ((ألا وإن الزمان قد استدار))، إلخ.
        المرادُ من استدارة الزمان عودةُ حسابِ الشهور إلى ما كان عليه من أولِ نظام الخلقِ، بعد أن كان قد تغيَّر عند العرب بسبب النَّسِيء في الأشهر.
        وقال الحافظ: إن المراد بالزمان السَّنَة.
        وقوله: ((كهيئتِه))؛ أي: استدار استدارةً مثل حالته، ولفظُ الزمانِ يطلَق على قليلِ الوقت وكثيرِه، والمرادُ باستدارتِه: وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلَّت فيه الشمس برج الحَمَل، حيث يستوي الليل والنهار؛ اهـ.
        قال القرطبي: "حكي الإمام المازري عن الخُوارَزمي، أنه قال: أول ما خلق اللهُ الشمسَ أجراها في برج الحَمَل، وكان الزمان الذي أشار به النبي - صلى الله عليه وسلم - صادف حلول الشمس برج الحَمَل".
        قلتُ: والمعنى - والله أعلم - أنَّ الزمان الذي حجَّ فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استدار كمثلِ ما كان عليه من أوَّلِ نظامِ الخَلقِ.
        وقوله: ((ألا لا تَرجِعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض))؛ ينهاهم: عن الرجوع عما كانوا عليه في عهدِه من: الصلاح، والاستقامة، ولزوم السنِّة وجماعة المسلمين، والكفرُ المذكورُ في هذا الحديث غيرُ مخرِجٍ من الملَّة، مثل قوله: ((اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ))، فوجود الخَصلة من خصال الكفر في العبد لا يَستَلزِم وجودَ الكفرِ المطلَق، كما أن مَن ترك خَصلة من خصال الإيمان لا يُسلَب عنه الإيمان المطلَق، ولا يكون مؤمنًا باقتصارٍ على خَصلة من خصال الإيمان.
        والكفر ما جاء منكرًا في قوله: ((لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رقاب بعض))، كما في الحديث الآخر: ((اثنتان في الناس هما بهم كفرٌ))، وقولِه: ((سِبَاب المسلِم فسوقٌ، وقتالُه كفرٌ))، بخلاف الكفر المعرف، فهو المخرِج من الملة؛ كحديث: ((بين العبدِ وبين الكفرِ تركُ الصلاة))، وقد وقع بين المسلمين من القتال، وضرب الرقاب ما لم يخرُجوا به عن دائرة الإسلام، كما وقع في وقعة الجمل، ووقعة صِفِّين، وغيرهما؛ لأن كلاًّ منهم مجتهدٌ، وقصدُه الحقُّ، غير أن أحدَهم مجتهدٌ مُصِيبٌ، والآخرُ مجتهِد مخطئٌ، وخطؤهم مغفور في جانب فضلهم وسابقتهم وجهادهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى غير ذلك؛ قال - تعالى -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات: 9]، فسمَّاهم مؤمنينَ، مع وجود القتال بينهم؛ فالقتال بين المسلمين لا يُخرِجهم عن دائرة الإسلام.
        وقوله: ((ألا إن الشيطان أَيِس أن يَعبُده المصلُّون))، إلخ.
        تقدَّم الكلام عليه في خطبته يوم النحر.
        وقوله: ((واتَّقوا الله في النساءِ؛ فإنهن عندكم عَوان، لا يملِكن لأنفسهن شيئًا)).
        ((عوانٌ))؛ أي: أَسْرَى، وتقوى الله فيهن؛ أي: بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ فالنساء ضعيفاتٌ، يجب على الرجل: احترامُهن، ومراعاةُ حقوقِهنَّ، والمحافظة عليهنَّ باجتنابهنَّ ما يُزْرِيهنَّ، أو يَخدِش من كرامتِهنَّ، فالرجل مسؤولٌ عن أهل بيته، قال - تعالى -) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ([النساء: 34].
        وقد تقدَّم شرح هذه الجملة في خطبته بعرفة.
        قوله: ((ألا ومَن كانت عنده أمانةٌ فليؤدِّها إلى مَن ائتمنه عليها)).
        فأداءُ الأمانةِ إلى مَن ائتمنه عليها أمرٌ لازِم، وحقٌّ واجِب، قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء: 58]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك))؛ فخيانة الأمانةِ خَصلةٌ ذميمةٌ، وصفة قبيحة، بل هي من علامات النفاق؛ لقوله في وصف المنافق: ((إذا اؤتُمِن خان))، فمَن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى صاحبها موفورةً كاملةً كما كانت.
        وذكرُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لها في خطبته العظيمة في المجمَع العظيم، يدلُّ على الاهتمام بها، وعظم شأنها، ويأمر المسلمين بتأديتِها، حيث ا عليها من وديعة، وقِراض، وقرض، وغير ذلك.

        *::**::*::*:::*:*::*::*::*:*:*::*

        وصلى الله على سيدنا ونبينا ومعلمنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

        والحمد لله رب العالمين.










        تعليق


        • #5
          اللهم صلِّ على محمد في الاولين وصلِّ على محمد في الاخرين وصلِّ على محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين

          تعليق

          يعمل...
          X