إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
كنا قد انتهينا في الدرس السابق إلى الاستماع إلى أمِّنا عائشة -رضي الله عنها- وهي تحكي لنا نبأ الإفك الذي روَّجه زعيمُ المنافقين ورأس النِّفاق عبد الله بن أُبَي أثناء رجوعهم من غزوة بني المُصطَلِق، وانتهينا إلى إخبارها -رضي الله عنها- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صعِد المنبر يومًا فاستعذر من ذلك الرجل الذي قال في أهله ما قال، وتثاور الحيَّان الأوسُ والخزرجُ حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ على المنبر، فلم يزل يُخفِّضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت -رضي الله عنها- بعد ذلك: "وبكيتُ يومي ذلك، فلا يرقأ لي دمعٌ، ولا أكتحل بنومٍ، فأصبحت عند أبوي وقد بكيتُ ليلتين ويومًا، وهما يظنان أنَّ البكاء فالقٌ كبدي".
قالت -رضي الله عنها: "فبينما أنا جالسةٌ أبكي إذ استأذنت امرأةٌ من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّم ثم جلس".
قالت: "ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني بشيءٍ".
قالت: "فتشهَّد -صلى الله عليه وسلم- حين جلس، ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئكَ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَلَمَّ بِذَنْبٍ ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهِ وَتَابَ إِلَى اللهِ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»".
ومعنى ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم هل هي بريئة أم لا؟ لأنَّ هذا أمر غيب لم يطَّلع عليه، ولا يعلم الغيبَ إلا الله.
فكان لكلامه -صلى الله عليه وسلم- في نفسها -رضي الله عنها- أثرٌ بالغٌ.
قالت: "فما قضى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مقالته قلُصَ دمعي". هذا الدمع الذي استمر يومين لما سمعتُ هذا الكلام جفَّ، حتى ما أُحسُّ منه قطرةً، فقلت لأبي: "أجِبْ عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قال".
فقال أبو بكر -رضي الله عنه: "والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم!".
كيف أبرئك وأنا لا أعلم.
"فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم!".
قالت -رضي الله عنها: "وأنا جاريةٌ حديثة السنِّ لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلتُ: إني والله قد علمتُ أنَّكم قد سمعتم هذا الحديثَ حتى استقرَّ في نفوسكم، فلئن قلتُ لكم إني بريئةٌ -والله يعلم أني بريئة- لا تُصدِّقوني، ولئن اعترفتُ لكم بأمرٍ -الله يعلم أني منه بريئة- لتُصدِّقوني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف -ونسيت -رضي الله عنها- من شدَّة الحزن اسم يعقوب -عليه السلام- فقالت: أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18] ".
قالت: "ثم تحوَّلت فاضطجعتُ على فراشي، وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأنَّ الله مُبَرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن يُنزِّل الله فيَّ قرآنًا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يُتلى، وما كنتُ أرجو إلا أن يرى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في نومه رؤيا يُبرِّئني اللهُ بها".
الإنسان -يا إخواني- كلَّما كانت نفسُه عنده صغيرةً كلَّما كانت عند الله كبيرةً، فكلَّما احتقر الإنسانُ نفسَه وازدراها كلَّما عظمت عند الله -عز وجل- فعائشة تقول: أنا أعرف أنني بريئة، وربنا سيُبَرِّئني، لكن كلَّ ما كنتُ أتمنَّاه أنَّ الله يُرِي رسولَه في المنام رؤيا يعرف منها أنني بريئة، أمَّا أن ينزل اللهُ فيَّ قرآنًا فهذا ما كان يخطر على بالي أبدًا، مَن أنا حتى ينزل الله فيَّ قرآنًا؟!
فلَّما احتقرت نفسَها عظُمَت عند ربها.
قالت: "فوَالله ما رام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسه، ولا أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- فجاءه جبريل فأخذه من البُرَحَاء حين ينزل عليه ما كان يأخذه، حتى لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في يومٍ شاتٍ"، وذلك من شدَّة الوحي وثِقَلِه.
قالت: "فسُرِّيَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك، فكانت أول كلمةٍ قالها: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ؛ فَإِنَّ الهَق قَدْ بَرَّأَكِ»". ونزلت الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ وهو ابن أَبَي، ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11].
قالت -رضي الله عنها: "فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله فاحمديه. فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله -عز وجل- فهو الذي أنزل براءتي".
قالت: "فلمَّا نزلت الآياتُ بالبراءة قال أبو بكر وكان يُنفِق على مِسْطَح". ومِسْطَح هذا رجل من فقراء المهاجرين قريب لأبي بكر، فقير، فكان أبو بكر يُنفِق عليه؛ لقرابته وفقره، وكان مِسْطَح من الذين خاضوا في هذا الحديث -حديث الإفك- فغضب أبو بكرٍ على مسطح؛ لأنَّه لم يُراعِ حُرمةَ القرابة، ولم يُراعِ فضلَ أبي بكرٍ وإحسانه إليه.
فقال أبو بكر: والله لا أُنفقُ على مِسْطَحٍ شيئًا أبدًا وقد قال في عائشةَ ما قال.
فلم يترك اللهُ أبا بكرٍ نفسه، وأنزل عليه قول الله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ﴾ الإيلاء: الحلف. ﴿وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]. فما هو أن تلاها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على أبي بكرٍ حتى قال: بلى، والله إني لأحبُّ أن يغفر اللهُ لي، والله لا أقطع عن مِسْطَحٍ شيئًا بعد ذلك اليوم".
وهكذا برَّأ الله -سبحانه وتعالى- أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- الصِّديقة بنت الصديق، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- برَّأها الله تعالى من فوق سبع سماوات مما قال فيها أهلُ الإفك: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ [النور: 26].
فمَن لم يعتقد براءتها فقد كفر؛ لأنَّه كذَّب اللهُ -عز وجل.
إذا كان الإنسان إلى اليوم يتَّهم أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- فهو كافر وإن زعم الإسلام.
كان هذا حديث الإفك الذي حدث أثناء عودتهم من غزوة بني المُصطَلِق، بيَّنَّاه، وبيَّنَّا فيه كيف برَّأ الله -تبارك وتعالى- أمَّنا عائشة -رضي الله عنها؟ وكيف توعَّد المنافقين الذين روَّجوا هذا الإفك؟
بعد ذلك كانت غزوة الخَنْدَق:
وغزوة الخَنْدَق أو غزوة الأحزاب نقول فيها:
عرفنا من السيرة أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المدينة وبها ثلاث طوائف من اليهود: بنو قَيْنُقَاع، وبنو النَّضير، وبنو قُريظة.
أمَّا بنو النَّضير وبنو قَيْنُقَاع فقد أجلاهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وكانوا بعد غزوة بدرٍ قد استاؤوا جدًّا من انتصار المسلمين في بدرٍ، وحزنوا لذلك النصر حزنًا شديدًا، فهمُّوا بما لم ينالوا، فهمُّوا بحرب رسول الله والمسلمين؛ ليُنسوهم فرحتهم بيوم بدرٍ، فجعل الله كيدَهم في نحورهم، ومكَّن رسولَه منهم، فأجلاهم عن المدينة؛ فخرجوا منها إلى خَيبَر، وبقي بنو قُريظة في المدينة.
فلمَّا كان يوم أُحُدٍ وأصاب المسلمين ما أصابهم فرحت اليهودُ بهذا المُصاب، وطمعوا في استئصال المسلمين، فخرج حُيَيُّ بن أَخْطَب وأبو رافع بن أبي الحقيق في نفرٍ من اليهود إلى قريشٍ، فدعوهم إلى حرب محمدٍ والمسلمين، فأجابهم أبو سفيان لذلك، فتركوه وانطلقوا إلى القبائل المجاورة، فأتوها قبيلةً قبيلةً، ودعوهم إلى ما دعوا قريشًا إليه، وأخبروهم أنَّ أبا سفيان مُوافقٌ على هذه الحرب، فوافقت القبائلُ على ما دعوهم إليه، وتواعدوا على الخروج إلى المدينة، واجتمع منهم نحو عشرة آلاف مقاتلٍ.
فلمَّا بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خروجُ أولئك الأحزاب جمع أصحابَه واستشارهم كعادته -عليه الصلاة والسلام- ماذا نفعل؟ كيف نردُّ هذا الجيش الجرَّار القادم إلى المدينة؟
فأُشِير عليه بحفر الخَنْدَق، وقيل أنَّ الذي أشار بذلك سلمانُ الفارسي -رضي الله عنه- فعمِلَ -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه في حفر الخندق بنفسه، فكان يحفر بيده، ويحمل التُّرابَ بيده -عليه الصلاة والسلام- وجعل يغدو ويروح ويقول وهو معهم في العمل:
وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوا عَلَيْنَا
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
ثم يقول: أبينا أبينا، ويمد بها صوته.
وأخذ المنافقون يتسللون لواذًا ويرجعون إلى المدينة، وأخذ بعضُهم يتظاهر بالاستئذان كذبًا وافتراءً: ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ [الأحزاب: 13].
أمَّا المؤمنون الصَّادقون فقد ثبتوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجدُّوا في حفر الخندق حتى انتهوا منه في أيامٍ قليلةٍ، وجاء المشركون من القبائل المختلفة ووجدوا الخندقَ، وكانت مكيدةً حربيةً لا تعرفها العرب، فوقفوا أمام هذا الخندق حيارى كيف يتصرفون؟
فأخذت الحميَّةُ الجاهليَّة ثلاثةً منهم؛ فأخذوا يدورون حول الخندق يبحثون عن مكانٍ ضيِّقٍ يستطيعون الاقتحامَ منه، فرأوا مكانًا ضيِّقًا في الخندق فاقتحموا بخيلهم، ثم تقدَّم أشقاهم ودعا إلى المُبارزة: مَن يُبارز؟
فخرج إليه عليٌّ -رضي الله عنه- فتجاولا وتصاولا، فضربه عليٌّ فقتله، فلاذ الباقون بالفرار وولوا الأدبار.
فثارت ثائرةُ حُيَيِّ بن أَخْطَب النَّضري الذي كان قد دعا قريشًا والقبائل العربية لهذه الحرب، وأخذ يُفكِّر في حيلةٍ ماكرةٍ أخرى، فأتى يهودَ بني قُريظة -الفرقة الثالثة الباقية في المدينة- فأتى كبيرَهم وصاحب عقدهم وعهدهم كعبًا القُرَظيَّ، وكانوا في الحصن، فنادى: يا كعب، افتح لي. فأغلق دونه الأبواب، وقال: ويحك يا حُيي، إنَّك رجلٌ مشؤُومٌ، وقد أعطيتُ محمدًا عهدًا وميثاقًا ولم أرَ منه إلا وفاءً وصدقًا، فما أنا بناقضٍ عهده.
هذا كلام كعب القُرَظِي رئيس وكبير بني قُريظة.
وحُيي بن أَخْطَب رئيس بني النَّضير يقول له: افتح لي، أريد أُكلمك.
قال له: أنت رجل شؤمٍ، أنا بيني وبين محمدٍ عهد، ولم أرَ منه إلا كلّ أمانٍ ووفاءٍ والتزامٍ بالعهد، وأنا لن أنقض عهده.
فما زال حُيي بكعبٍ يُغرِيه حتى فتح له، فدخل عليه فأخذ يُبيِّن له حجم الجيوش الجرَّارة التي جاءت من قريشٍ ومن القبائل العربية حتى أقنعه أنَّ النصر محسومٌ للألوف المُؤلَّفة التي جاءت، وأنَّ المسلمين سينتهون في هذا اليوم، فما زال به حتى وافق على أن ينقض عهدَه مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ويُحاربه مع تلك الأحزاب التي جاءت.
وفي استجابة كعب القُرَظِي إلى حُيي بن أَخْطَب ونقض عهده مع رسول الله مع اعترافه بأنَّه لم يرَ من رسول الله إلا وفاءً وصدقًا دليلٌ على أنَّ اليهود أهلُ غدرٍ وخيانةٍ، فإذا كانت بينهم وبين المسلمين مُعاهدات سلامٍ يلتزمون بها ما داموا يرون أنَّ في الالتزام مصلحتهم، فإذا رأوا أنَّ في الغدر ونقض العهد مصلحتهم نقضوا عهدهم وغدروا.
وبلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ بني قُريظة نقضوا عهدهم، فبعث من أصحابه مَن يتأكَّد له من ذلك، فجاء الخبر أنَّ بني قُريظة قد نقضوا عهدهم وميثاقهم.
وفي ذلك يقول ربنا -عز وجل: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾ [الأحزاب: 10].
فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ يعني الأمر اشتدَّ علينا. قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا». فقالوا: اللَّهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
ودعا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: «اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ، وَسَرِيعَ الْحِسَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ»، فاستجاب الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل على الأحزاب ريحًا وجنودًا لم يروها، وأُطفِئت نارهم، وقُلِعَت خيامهم، فرأوا أن ينجوا بأنفسهم ويرجعوا إلى بيوتهم.
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].
فلمَّا رجعت الأحزابُ تجُرُّ أذيالَ الخيبة والخسران لم ينالوا شيئًا مما أرادوه، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَا»، نحن نسير إليهم، وكان هذا عَلَمًا من أعلام النبوة، ففعلًا بعد غزوة الخندق قريشٌ لم تأتِ المدينةَ لحربٍ، وإنَّما النبيُّ هو الذي سار إليهم كما قال: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَا».
فلمَّا ردَّ الله الذين كفروا بغيظهم ورجعوا إلى مكَّة وإلى حيث جاءوا من القبائل المجاورة دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ورجعت بنو قُريظة إلى حصونهم، ودخل حُيي بن أُخْطَب مع كعب القُرَظِي حصنه وفاءً له بالعهد؛ لأنَّه قال له: لك عليَّ إن لم يكن ما نُريد أن أرجع معك حتى يُصيبني ما أصابك.
فرجع بنو قُريظة ودخلوا حصونَهم، ورجع حُيَيُّ بن أَخْطَب النَّضري ودخل مع كعبٍ حصنه، ورجع النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- ودخل المدينة، فبينما هو -عليه الصلاة والسلام- يغسل التُّرابَ عن جسده –فقد قلنا أنَّه كان يحفر بيده ويحمل التراب بيده- فبينما هو قد وضع سلاحَه وأخذ يغسل الترابَ عن جسده إذ جاءه جبريلُ -عليه السلام- فقال: «أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قال: «نَعَمْ». قال: «وَاللهِ مَا وَضَعْنَاهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ». نحن الملائكة كنا معكم في الأحزاب ولم نضع أسلحتنا بعد، اخرج إليهم، قال: «إِلَى أَيْنَ؟» قال: «هَا هُنَا»، وأشار بيده إلى بني قُريظة.
فدعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ فأعطاه الرايةَ، فانطلق بها إلى بني قُريظة، ثم لبس النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سلاحَه ونادى في المسلمين: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فطار المسلمون زُرُفَاتٍ ووُحْدَانًا، وهم على يقينٍ من النصر المُؤَزَّر الذي ينتظرهم؛ تحقيقًا لوعد الله -عز وجل- ولاسيَّما أنَّ جبريل قد سبقهم إلى بني قُريظة.
فحاصر المسلمون بني قُريظة في حصونهم، وطال الحصارُ، وأخذوا يُفكِّرون ماذا يصنعون؟
وبينما هم مُحاصَرُون صعدت امرأةٌ منهم على سطحٍ وأخذت رحًى كبيرةً ورمتها من فوق السَّطح على رجلٍ من الأنصار فقتلته.
فحاول بنو قُريظة أن يأخذوا من رسول الله عفوًا مُطلقًا أو مُقيَّدًا، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا.
فلمَّا طال الحصارُ قذف الله في قلوبهم الرعبَ؛ فطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينزلوا على حكمه دون شروطٍ، فلمَّا وافق -عليه الصلاة والسلام- قام حلفاؤهم -وهم الأوس فقد كانت بنو قُريظة حليفةً للأوس- إلى رسول الله يسألونه أن يهبهم لهم وأن يعفو عنهم كما استوهَبَ من قبل الخزرج يهود بنو قَيْنُقَاع، فقال -عليه الصلاة والسلام: «أَيُرْضِيكُمْ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْكُمْ؟» منكم أي من الأوس، قالوا: نعم. فجعل حكمهم إلى كبيرهم سعد بن مُعاذ -رضي الله عنه- فجيء به -رضي الله عنه- فالتَفَّ به أهلُه وإخوانه يسترحمونه ويستعطفونه: إخواننا وحلفاؤنا. حتى يُخفف فيهم الحكم، ولكنَّه -رضي الله عنه- لم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وقال: "أرى أن تُقتَل مُقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُقسَّم أموالهم".
فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ»، هذا حكم الله -عز وجل.
فسبى النِّساءَ والذَّراري، وقتل المُقاتلة من الرِّجال، ولم تُقتَل من نساء بني قُريظة امرأةٌ إلا تلك المرأة التي كانت قد صعِدت السطحَ وألقت الرَّحَى فقتلت رجلًا من الأنصار -رضي الله عنه- ولم يُقتَل من الصِّبيان صبيٌّ واحدٌ.
وفي بني قُريظة أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 26، 27].
فلمَّا قتل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رجالَهم أخذ يُقسِّم أموالهم ونساءهم بعد أن أخرج منها الخمس، واصطفى -صلى الله عليه وسلم- لنفسه من نسائهم ريحانة، فعرض عليها الإسلامَ فأبت، ثم أسلمت بعد ذلك، فسُرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لإسلامها، وعرض عليها أن يعتقها ويتزوَّجها، فاختارت الرقَّ على العتق، فلم تزل عنده -صلى الله عليه وسلم- حتى تُوفي عنها.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
كنا قد انتهينا في الدرس السابق إلى الاستماع إلى أمِّنا عائشة -رضي الله عنها- وهي تحكي لنا نبأ الإفك الذي روَّجه زعيمُ المنافقين ورأس النِّفاق عبد الله بن أُبَي أثناء رجوعهم من غزوة بني المُصطَلِق، وانتهينا إلى إخبارها -رضي الله عنها- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صعِد المنبر يومًا فاستعذر من ذلك الرجل الذي قال في أهله ما قال، وتثاور الحيَّان الأوسُ والخزرجُ حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ على المنبر، فلم يزل يُخفِّضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت -رضي الله عنها- بعد ذلك: "وبكيتُ يومي ذلك، فلا يرقأ لي دمعٌ، ولا أكتحل بنومٍ، فأصبحت عند أبوي وقد بكيتُ ليلتين ويومًا، وهما يظنان أنَّ البكاء فالقٌ كبدي".
قالت -رضي الله عنها: "فبينما أنا جالسةٌ أبكي إذ استأذنت امرأةٌ من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّم ثم جلس".
قالت: "ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني بشيءٍ".
قالت: "فتشهَّد -صلى الله عليه وسلم- حين جلس، ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئكَ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَلَمَّ بِذَنْبٍ ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهِ وَتَابَ إِلَى اللهِ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»".
ومعنى ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم هل هي بريئة أم لا؟ لأنَّ هذا أمر غيب لم يطَّلع عليه، ولا يعلم الغيبَ إلا الله.
فكان لكلامه -صلى الله عليه وسلم- في نفسها -رضي الله عنها- أثرٌ بالغٌ.
قالت: "فما قضى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مقالته قلُصَ دمعي". هذا الدمع الذي استمر يومين لما سمعتُ هذا الكلام جفَّ، حتى ما أُحسُّ منه قطرةً، فقلت لأبي: "أجِبْ عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قال".
فقال أبو بكر -رضي الله عنه: "والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم!".
كيف أبرئك وأنا لا أعلم.
"فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم!".
قالت -رضي الله عنها: "وأنا جاريةٌ حديثة السنِّ لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلتُ: إني والله قد علمتُ أنَّكم قد سمعتم هذا الحديثَ حتى استقرَّ في نفوسكم، فلئن قلتُ لكم إني بريئةٌ -والله يعلم أني بريئة- لا تُصدِّقوني، ولئن اعترفتُ لكم بأمرٍ -الله يعلم أني منه بريئة- لتُصدِّقوني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف -ونسيت -رضي الله عنها- من شدَّة الحزن اسم يعقوب -عليه السلام- فقالت: أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18] ".
قالت: "ثم تحوَّلت فاضطجعتُ على فراشي، وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأنَّ الله مُبَرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن يُنزِّل الله فيَّ قرآنًا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يُتلى، وما كنتُ أرجو إلا أن يرى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في نومه رؤيا يُبرِّئني اللهُ بها".
الإنسان -يا إخواني- كلَّما كانت نفسُه عنده صغيرةً كلَّما كانت عند الله كبيرةً، فكلَّما احتقر الإنسانُ نفسَه وازدراها كلَّما عظمت عند الله -عز وجل- فعائشة تقول: أنا أعرف أنني بريئة، وربنا سيُبَرِّئني، لكن كلَّ ما كنتُ أتمنَّاه أنَّ الله يُرِي رسولَه في المنام رؤيا يعرف منها أنني بريئة، أمَّا أن ينزل اللهُ فيَّ قرآنًا فهذا ما كان يخطر على بالي أبدًا، مَن أنا حتى ينزل الله فيَّ قرآنًا؟!
فلَّما احتقرت نفسَها عظُمَت عند ربها.
قالت: "فوَالله ما رام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسه، ولا أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- فجاءه جبريل فأخذه من البُرَحَاء حين ينزل عليه ما كان يأخذه، حتى لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في يومٍ شاتٍ"، وذلك من شدَّة الوحي وثِقَلِه.
قالت: "فسُرِّيَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك، فكانت أول كلمةٍ قالها: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ؛ فَإِنَّ الهَق قَدْ بَرَّأَكِ»". ونزلت الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ وهو ابن أَبَي، ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11].
قالت -رضي الله عنها: "فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله فاحمديه. فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله -عز وجل- فهو الذي أنزل براءتي".
قالت: "فلمَّا نزلت الآياتُ بالبراءة قال أبو بكر وكان يُنفِق على مِسْطَح". ومِسْطَح هذا رجل من فقراء المهاجرين قريب لأبي بكر، فقير، فكان أبو بكر يُنفِق عليه؛ لقرابته وفقره، وكان مِسْطَح من الذين خاضوا في هذا الحديث -حديث الإفك- فغضب أبو بكرٍ على مسطح؛ لأنَّه لم يُراعِ حُرمةَ القرابة، ولم يُراعِ فضلَ أبي بكرٍ وإحسانه إليه.
فقال أبو بكر: والله لا أُنفقُ على مِسْطَحٍ شيئًا أبدًا وقد قال في عائشةَ ما قال.
فلم يترك اللهُ أبا بكرٍ نفسه، وأنزل عليه قول الله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ﴾ الإيلاء: الحلف. ﴿وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]. فما هو أن تلاها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على أبي بكرٍ حتى قال: بلى، والله إني لأحبُّ أن يغفر اللهُ لي، والله لا أقطع عن مِسْطَحٍ شيئًا بعد ذلك اليوم".
وهكذا برَّأ الله -سبحانه وتعالى- أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- الصِّديقة بنت الصديق، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- برَّأها الله تعالى من فوق سبع سماوات مما قال فيها أهلُ الإفك: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ [النور: 26].
فمَن لم يعتقد براءتها فقد كفر؛ لأنَّه كذَّب اللهُ -عز وجل.
إذا كان الإنسان إلى اليوم يتَّهم أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- فهو كافر وإن زعم الإسلام.
كان هذا حديث الإفك الذي حدث أثناء عودتهم من غزوة بني المُصطَلِق، بيَّنَّاه، وبيَّنَّا فيه كيف برَّأ الله -تبارك وتعالى- أمَّنا عائشة -رضي الله عنها؟ وكيف توعَّد المنافقين الذين روَّجوا هذا الإفك؟
بعد ذلك كانت غزوة الخَنْدَق:
وغزوة الخَنْدَق أو غزوة الأحزاب نقول فيها:
عرفنا من السيرة أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المدينة وبها ثلاث طوائف من اليهود: بنو قَيْنُقَاع، وبنو النَّضير، وبنو قُريظة.
أمَّا بنو النَّضير وبنو قَيْنُقَاع فقد أجلاهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وكانوا بعد غزوة بدرٍ قد استاؤوا جدًّا من انتصار المسلمين في بدرٍ، وحزنوا لذلك النصر حزنًا شديدًا، فهمُّوا بما لم ينالوا، فهمُّوا بحرب رسول الله والمسلمين؛ ليُنسوهم فرحتهم بيوم بدرٍ، فجعل الله كيدَهم في نحورهم، ومكَّن رسولَه منهم، فأجلاهم عن المدينة؛ فخرجوا منها إلى خَيبَر، وبقي بنو قُريظة في المدينة.
فلمَّا كان يوم أُحُدٍ وأصاب المسلمين ما أصابهم فرحت اليهودُ بهذا المُصاب، وطمعوا في استئصال المسلمين، فخرج حُيَيُّ بن أَخْطَب وأبو رافع بن أبي الحقيق في نفرٍ من اليهود إلى قريشٍ، فدعوهم إلى حرب محمدٍ والمسلمين، فأجابهم أبو سفيان لذلك، فتركوه وانطلقوا إلى القبائل المجاورة، فأتوها قبيلةً قبيلةً، ودعوهم إلى ما دعوا قريشًا إليه، وأخبروهم أنَّ أبا سفيان مُوافقٌ على هذه الحرب، فوافقت القبائلُ على ما دعوهم إليه، وتواعدوا على الخروج إلى المدينة، واجتمع منهم نحو عشرة آلاف مقاتلٍ.
فلمَّا بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خروجُ أولئك الأحزاب جمع أصحابَه واستشارهم كعادته -عليه الصلاة والسلام- ماذا نفعل؟ كيف نردُّ هذا الجيش الجرَّار القادم إلى المدينة؟
فأُشِير عليه بحفر الخَنْدَق، وقيل أنَّ الذي أشار بذلك سلمانُ الفارسي -رضي الله عنه- فعمِلَ -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه في حفر الخندق بنفسه، فكان يحفر بيده، ويحمل التُّرابَ بيده -عليه الصلاة والسلام- وجعل يغدو ويروح ويقول وهو معهم في العمل:
وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوا عَلَيْنَا
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
ثم يقول: أبينا أبينا، ويمد بها صوته.
وأخذ المنافقون يتسللون لواذًا ويرجعون إلى المدينة، وأخذ بعضُهم يتظاهر بالاستئذان كذبًا وافتراءً: ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ [الأحزاب: 13].
أمَّا المؤمنون الصَّادقون فقد ثبتوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجدُّوا في حفر الخندق حتى انتهوا منه في أيامٍ قليلةٍ، وجاء المشركون من القبائل المختلفة ووجدوا الخندقَ، وكانت مكيدةً حربيةً لا تعرفها العرب، فوقفوا أمام هذا الخندق حيارى كيف يتصرفون؟
فأخذت الحميَّةُ الجاهليَّة ثلاثةً منهم؛ فأخذوا يدورون حول الخندق يبحثون عن مكانٍ ضيِّقٍ يستطيعون الاقتحامَ منه، فرأوا مكانًا ضيِّقًا في الخندق فاقتحموا بخيلهم، ثم تقدَّم أشقاهم ودعا إلى المُبارزة: مَن يُبارز؟
فخرج إليه عليٌّ -رضي الله عنه- فتجاولا وتصاولا، فضربه عليٌّ فقتله، فلاذ الباقون بالفرار وولوا الأدبار.
فثارت ثائرةُ حُيَيِّ بن أَخْطَب النَّضري الذي كان قد دعا قريشًا والقبائل العربية لهذه الحرب، وأخذ يُفكِّر في حيلةٍ ماكرةٍ أخرى، فأتى يهودَ بني قُريظة -الفرقة الثالثة الباقية في المدينة- فأتى كبيرَهم وصاحب عقدهم وعهدهم كعبًا القُرَظيَّ، وكانوا في الحصن، فنادى: يا كعب، افتح لي. فأغلق دونه الأبواب، وقال: ويحك يا حُيي، إنَّك رجلٌ مشؤُومٌ، وقد أعطيتُ محمدًا عهدًا وميثاقًا ولم أرَ منه إلا وفاءً وصدقًا، فما أنا بناقضٍ عهده.
هذا كلام كعب القُرَظِي رئيس وكبير بني قُريظة.
وحُيي بن أَخْطَب رئيس بني النَّضير يقول له: افتح لي، أريد أُكلمك.
قال له: أنت رجل شؤمٍ، أنا بيني وبين محمدٍ عهد، ولم أرَ منه إلا كلّ أمانٍ ووفاءٍ والتزامٍ بالعهد، وأنا لن أنقض عهده.
فما زال حُيي بكعبٍ يُغرِيه حتى فتح له، فدخل عليه فأخذ يُبيِّن له حجم الجيوش الجرَّارة التي جاءت من قريشٍ ومن القبائل العربية حتى أقنعه أنَّ النصر محسومٌ للألوف المُؤلَّفة التي جاءت، وأنَّ المسلمين سينتهون في هذا اليوم، فما زال به حتى وافق على أن ينقض عهدَه مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ويُحاربه مع تلك الأحزاب التي جاءت.
وفي استجابة كعب القُرَظِي إلى حُيي بن أَخْطَب ونقض عهده مع رسول الله مع اعترافه بأنَّه لم يرَ من رسول الله إلا وفاءً وصدقًا دليلٌ على أنَّ اليهود أهلُ غدرٍ وخيانةٍ، فإذا كانت بينهم وبين المسلمين مُعاهدات سلامٍ يلتزمون بها ما داموا يرون أنَّ في الالتزام مصلحتهم، فإذا رأوا أنَّ في الغدر ونقض العهد مصلحتهم نقضوا عهدهم وغدروا.
وبلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ بني قُريظة نقضوا عهدهم، فبعث من أصحابه مَن يتأكَّد له من ذلك، فجاء الخبر أنَّ بني قُريظة قد نقضوا عهدهم وميثاقهم.
وفي ذلك يقول ربنا -عز وجل: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾ [الأحزاب: 10].
فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ يعني الأمر اشتدَّ علينا. قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا». فقالوا: اللَّهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
ودعا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: «اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ، وَسَرِيعَ الْحِسَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ»، فاستجاب الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل على الأحزاب ريحًا وجنودًا لم يروها، وأُطفِئت نارهم، وقُلِعَت خيامهم، فرأوا أن ينجوا بأنفسهم ويرجعوا إلى بيوتهم.
وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].
فلمَّا رجعت الأحزابُ تجُرُّ أذيالَ الخيبة والخسران لم ينالوا شيئًا مما أرادوه، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَا»، نحن نسير إليهم، وكان هذا عَلَمًا من أعلام النبوة، ففعلًا بعد غزوة الخندق قريشٌ لم تأتِ المدينةَ لحربٍ، وإنَّما النبيُّ هو الذي سار إليهم كما قال: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَا».
فلمَّا ردَّ الله الذين كفروا بغيظهم ورجعوا إلى مكَّة وإلى حيث جاءوا من القبائل المجاورة دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ورجعت بنو قُريظة إلى حصونهم، ودخل حُيي بن أُخْطَب مع كعب القُرَظِي حصنه وفاءً له بالعهد؛ لأنَّه قال له: لك عليَّ إن لم يكن ما نُريد أن أرجع معك حتى يُصيبني ما أصابك.
فرجع بنو قُريظة ودخلوا حصونَهم، ورجع حُيَيُّ بن أَخْطَب النَّضري ودخل مع كعبٍ حصنه، ورجع النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- ودخل المدينة، فبينما هو -عليه الصلاة والسلام- يغسل التُّرابَ عن جسده –فقد قلنا أنَّه كان يحفر بيده ويحمل التراب بيده- فبينما هو قد وضع سلاحَه وأخذ يغسل الترابَ عن جسده إذ جاءه جبريلُ -عليه السلام- فقال: «أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قال: «نَعَمْ». قال: «وَاللهِ مَا وَضَعْنَاهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ». نحن الملائكة كنا معكم في الأحزاب ولم نضع أسلحتنا بعد، اخرج إليهم، قال: «إِلَى أَيْنَ؟» قال: «هَا هُنَا»، وأشار بيده إلى بني قُريظة.
فدعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ فأعطاه الرايةَ، فانطلق بها إلى بني قُريظة، ثم لبس النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سلاحَه ونادى في المسلمين: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فطار المسلمون زُرُفَاتٍ ووُحْدَانًا، وهم على يقينٍ من النصر المُؤَزَّر الذي ينتظرهم؛ تحقيقًا لوعد الله -عز وجل- ولاسيَّما أنَّ جبريل قد سبقهم إلى بني قُريظة.
فحاصر المسلمون بني قُريظة في حصونهم، وطال الحصارُ، وأخذوا يُفكِّرون ماذا يصنعون؟
وبينما هم مُحاصَرُون صعدت امرأةٌ منهم على سطحٍ وأخذت رحًى كبيرةً ورمتها من فوق السَّطح على رجلٍ من الأنصار فقتلته.
فحاول بنو قُريظة أن يأخذوا من رسول الله عفوًا مُطلقًا أو مُقيَّدًا، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا.
فلمَّا طال الحصارُ قذف الله في قلوبهم الرعبَ؛ فطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينزلوا على حكمه دون شروطٍ، فلمَّا وافق -عليه الصلاة والسلام- قام حلفاؤهم -وهم الأوس فقد كانت بنو قُريظة حليفةً للأوس- إلى رسول الله يسألونه أن يهبهم لهم وأن يعفو عنهم كما استوهَبَ من قبل الخزرج يهود بنو قَيْنُقَاع، فقال -عليه الصلاة والسلام: «أَيُرْضِيكُمْ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْكُمْ؟» منكم أي من الأوس، قالوا: نعم. فجعل حكمهم إلى كبيرهم سعد بن مُعاذ -رضي الله عنه- فجيء به -رضي الله عنه- فالتَفَّ به أهلُه وإخوانه يسترحمونه ويستعطفونه: إخواننا وحلفاؤنا. حتى يُخفف فيهم الحكم، ولكنَّه -رضي الله عنه- لم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وقال: "أرى أن تُقتَل مُقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُقسَّم أموالهم".
فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ»، هذا حكم الله -عز وجل.
فسبى النِّساءَ والذَّراري، وقتل المُقاتلة من الرِّجال، ولم تُقتَل من نساء بني قُريظة امرأةٌ إلا تلك المرأة التي كانت قد صعِدت السطحَ وألقت الرَّحَى فقتلت رجلًا من الأنصار -رضي الله عنه- ولم يُقتَل من الصِّبيان صبيٌّ واحدٌ.
وفي بني قُريظة أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 26، 27].
فلمَّا قتل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رجالَهم أخذ يُقسِّم أموالهم ونساءهم بعد أن أخرج منها الخمس، واصطفى -صلى الله عليه وسلم- لنفسه من نسائهم ريحانة، فعرض عليها الإسلامَ فأبت، ثم أسلمت بعد ذلك، فسُرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لإسلامها، وعرض عليها أن يعتقها ويتزوَّجها، فاختارت الرقَّ على العتق، فلم تزل عنده -صلى الله عليه وسلم- حتى تُوفي عنها.
تعليق