إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

غزوة الأحزاب وغزوة مؤتة .. فقه السيرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غزوة الأحزاب وغزوة مؤتة .. فقه السيرة

    إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
    اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
    أمَّا بعد، فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
    كنا قد انتهينا في الدرس السابق إلى الاستماع إلى أمِّنا عائشة -رضي الله عنها- وهي تحكي لنا نبأ الإفك الذي روَّجه زعيمُ المنافقين ورأس النِّفاق عبد الله بن أُبَي أثناء رجوعهم من غزوة بني المُصطَلِق، وانتهينا إلى إخبارها -رضي الله عنها- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- صعِد المنبر يومًا فاستعذر من ذلك الرجل الذي قال في أهله ما قال، وتثاور الحيَّان الأوسُ والخزرجُ حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائمٌ على المنبر، فلم يزل يُخفِّضهم حتى سكتوا وسكت.
    قالت -رضي الله عنها- بعد ذلك: "وبكيتُ يومي ذلك، فلا يرقأ لي دمعٌ، ولا أكتحل بنومٍ، فأصبحت عند أبوي وقد بكيتُ ليلتين ويومًا، وهما يظنان أنَّ البكاء فالقٌ كبدي".
    قالت -رضي الله عنها: "فبينما أنا جالسةٌ أبكي إذ استأذنت امرأةٌ من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّم ثم جلس".
    قالت: "ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني بشيءٍ".
    قالت: "فتشهَّد -صلى الله عليه وسلم- حين جلس، ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ، يَا عَائِشَةُ، إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئكَ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَلَمَّ بِذَنْبٍ ثُمَّ اعْتَرَفَ بِهِ وَتَابَ إِلَى اللهِ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ»".
    ومعنى ذلك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يعلم هل هي بريئة أم لا؟ لأنَّ هذا أمر غيب لم يطَّلع عليه، ولا يعلم الغيبَ إلا الله.
    فكان لكلامه -صلى الله عليه وسلم- في نفسها -رضي الله عنها- أثرٌ بالغٌ.
    قالت: "فما قضى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مقالته قلُصَ دمعي". هذا الدمع الذي استمر يومين لما سمعتُ هذا الكلام جفَّ، حتى ما أُحسُّ منه قطرةً، فقلت لأبي: "أجِبْ عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما قال".
    فقال أبو بكر -رضي الله عنه: "والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم!".
    كيف أبرئك وأنا لا أعلم.
    "فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
    قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم!".
    قالت -رضي الله عنها: "وأنا جاريةٌ حديثة السنِّ لا أقرأ كثيرًا من القرآن، فقلتُ: إني والله قد علمتُ أنَّكم قد سمعتم هذا الحديثَ حتى استقرَّ في نفوسكم، فلئن قلتُ لكم إني بريئةٌ -والله يعلم أني بريئة- لا تُصدِّقوني، ولئن اعترفتُ لكم بأمرٍ -الله يعلم أني منه بريئة- لتُصدِّقوني، فوالله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف -ونسيت -رضي الله عنها- من شدَّة الحزن اسم يعقوب -عليه السلام- فقالت: أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18] ".
    قالت: "ثم تحوَّلت فاضطجعتُ على فراشي، وأنا والله حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأنَّ الله مُبَرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنتُ أظن أن يُنزِّل الله فيَّ قرآنًا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمرٍ يُتلى، وما كنتُ أرجو إلا أن يرى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في نومه رؤيا يُبرِّئني اللهُ بها".
    الإنسان -يا إخواني- كلَّما كانت نفسُه عنده صغيرةً كلَّما كانت عند الله كبيرةً، فكلَّما احتقر الإنسانُ نفسَه وازدراها كلَّما عظمت عند الله -عز وجل- فعائشة تقول: أنا أعرف أنني بريئة، وربنا سيُبَرِّئني، لكن كلَّ ما كنتُ أتمنَّاه أنَّ الله يُرِي رسولَه في المنام رؤيا يعرف منها أنني بريئة، أمَّا أن ينزل اللهُ فيَّ قرآنًا فهذا ما كان يخطر على بالي أبدًا، مَن أنا حتى ينزل الله فيَّ قرآنًا؟!
    فلَّما احتقرت نفسَها عظُمَت عند ربها.
    قالت: "فوَالله ما رام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- مجلسه، ولا أحد من أهل البيت، حتى أنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- فجاءه جبريل فأخذه من البُرَحَاء حين ينزل عليه ما كان يأخذه، حتى لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في يومٍ شاتٍ"، وذلك من شدَّة الوحي وثِقَلِه.
    قالت: "فسُرِّيَ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يضحك، فكانت أول كلمةٍ قالها: «أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ؛ فَإِنَّ الهَق قَدْ بَرَّأَكِ»". ونزلت الآيات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ وهو ابن أَبَي، ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 11].
    قالت -رضي الله عنها: "فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله فاحمديه. فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله -عز وجل- فهو الذي أنزل براءتي".
    قالت: "فلمَّا نزلت الآياتُ بالبراءة قال أبو بكر وكان يُنفِق على مِسْطَح". ومِسْطَح هذا رجل من فقراء المهاجرين قريب لأبي بكر، فقير، فكان أبو بكر يُنفِق عليه؛ لقرابته وفقره، وكان مِسْطَح من الذين خاضوا في هذا الحديث -حديث الإفك- فغضب أبو بكرٍ على مسطح؛ لأنَّه لم يُراعِ حُرمةَ القرابة، ولم يُراعِ فضلَ أبي بكرٍ وإحسانه إليه.
    فقال أبو بكر: والله لا أُنفقُ على مِسْطَحٍ شيئًا أبدًا وقد قال في عائشةَ ما قال.
    فلم يترك اللهُ أبا بكرٍ نفسه، وأنزل عليه قول الله: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ﴾ الإيلاء: الحلف. ﴿وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22]. فما هو أن تلاها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على أبي بكرٍ حتى قال: بلى، والله إني لأحبُّ أن يغفر اللهُ لي، والله لا أقطع عن مِسْطَحٍ شيئًا بعد ذلك اليوم".
    وهكذا برَّأ الله -سبحانه وتعالى- أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- الصِّديقة بنت الصديق، زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- برَّأها الله تعالى من فوق سبع سماوات مما قال فيها أهلُ الإفك: ﴿أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ [النور: 26].
    فمَن لم يعتقد براءتها فقد كفر؛ لأنَّه كذَّب اللهُ -عز وجل.
    إذا كان الإنسان إلى اليوم يتَّهم أمَّنا عائشة -رضي الله عنها- فهو كافر وإن زعم الإسلام.
    كان هذا حديث الإفك الذي حدث أثناء عودتهم من غزوة بني المُصطَلِق، بيَّنَّاه، وبيَّنَّا فيه كيف برَّأ الله -تبارك وتعالى- أمَّنا عائشة -رضي الله عنها؟ وكيف توعَّد المنافقين الذين روَّجوا هذا الإفك؟
    بعد ذلك كانت غزوة الخَنْدَق:
    وغزوة الخَنْدَق أو غزوة الأحزاب نقول فيها:
    عرفنا من السيرة أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المدينة وبها ثلاث طوائف من اليهود: بنو قَيْنُقَاع، وبنو النَّضير، وبنو قُريظة.
    أمَّا بنو النَّضير وبنو قَيْنُقَاع فقد أجلاهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وكانوا بعد غزوة بدرٍ قد استاؤوا جدًّا من انتصار المسلمين في بدرٍ، وحزنوا لذلك النصر حزنًا شديدًا، فهمُّوا بما لم ينالوا، فهمُّوا بحرب رسول الله والمسلمين؛ ليُنسوهم فرحتهم بيوم بدرٍ، فجعل الله كيدَهم في نحورهم، ومكَّن رسولَه منهم، فأجلاهم عن المدينة؛ فخرجوا منها إلى خَيبَر، وبقي بنو قُريظة في المدينة.
    فلمَّا كان يوم أُحُدٍ وأصاب المسلمين ما أصابهم فرحت اليهودُ بهذا المُصاب، وطمعوا في استئصال المسلمين، فخرج حُيَيُّ بن أَخْطَب وأبو رافع بن أبي الحقيق في نفرٍ من اليهود إلى قريشٍ، فدعوهم إلى حرب محمدٍ والمسلمين، فأجابهم أبو سفيان لذلك، فتركوه وانطلقوا إلى القبائل المجاورة، فأتوها قبيلةً قبيلةً، ودعوهم إلى ما دعوا قريشًا إليه، وأخبروهم أنَّ أبا سفيان مُوافقٌ على هذه الحرب، فوافقت القبائلُ على ما دعوهم إليه، وتواعدوا على الخروج إلى المدينة، واجتمع منهم نحو عشرة آلاف مقاتلٍ.
    فلمَّا بلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- خروجُ أولئك الأحزاب جمع أصحابَه واستشارهم كعادته -عليه الصلاة والسلام- ماذا نفعل؟ كيف نردُّ هذا الجيش الجرَّار القادم إلى المدينة؟
    فأُشِير عليه بحفر الخَنْدَق، وقيل أنَّ الذي أشار بذلك سلمانُ الفارسي -رضي الله عنه- فعمِلَ -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه في حفر الخندق بنفسه، فكان يحفر بيده، ويحمل التُّرابَ بيده -عليه الصلاة والسلام- وجعل يغدو ويروح ويقول وهو معهم في العمل:
    وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا
    وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

    فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
    وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا

    وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوا عَلَيْنَا
    وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا

    ثم يقول: أبينا أبينا، ويمد بها صوته.
    وأخذ المنافقون يتسللون لواذًا ويرجعون إلى المدينة، وأخذ بعضُهم يتظاهر بالاستئذان كذبًا وافتراءً: ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ [الأحزاب: 13].
    أمَّا المؤمنون الصَّادقون فقد ثبتوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجدُّوا في حفر الخندق حتى انتهوا منه في أيامٍ قليلةٍ، وجاء المشركون من القبائل المختلفة ووجدوا الخندقَ، وكانت مكيدةً حربيةً لا تعرفها العرب، فوقفوا أمام هذا الخندق حيارى كيف يتصرفون؟
    فأخذت الحميَّةُ الجاهليَّة ثلاثةً منهم؛ فأخذوا يدورون حول الخندق يبحثون عن مكانٍ ضيِّقٍ يستطيعون الاقتحامَ منه، فرأوا مكانًا ضيِّقًا في الخندق فاقتحموا بخيلهم، ثم تقدَّم أشقاهم ودعا إلى المُبارزة: مَن يُبارز؟
    فخرج إليه عليٌّ -رضي الله عنه- فتجاولا وتصاولا، فضربه عليٌّ فقتله، فلاذ الباقون بالفرار وولوا الأدبار.
    فثارت ثائرةُ حُيَيِّ بن أَخْطَب النَّضري الذي كان قد دعا قريشًا والقبائل العربية لهذه الحرب، وأخذ يُفكِّر في حيلةٍ ماكرةٍ أخرى، فأتى يهودَ بني قُريظة -الفرقة الثالثة الباقية في المدينة- فأتى كبيرَهم وصاحب عقدهم وعهدهم كعبًا القُرَظيَّ، وكانوا في الحصن، فنادى: يا كعب، افتح لي. فأغلق دونه الأبواب، وقال: ويحك يا حُيي، إنَّك رجلٌ مشؤُومٌ، وقد أعطيتُ محمدًا عهدًا وميثاقًا ولم أرَ منه إلا وفاءً وصدقًا، فما أنا بناقضٍ عهده.
    هذا كلام كعب القُرَظِي رئيس وكبير بني قُريظة.
    وحُيي بن أَخْطَب رئيس بني النَّضير يقول له: افتح لي، أريد أُكلمك.
    قال له: أنت رجل شؤمٍ، أنا بيني وبين محمدٍ عهد، ولم أرَ منه إلا كلّ أمانٍ ووفاءٍ والتزامٍ بالعهد، وأنا لن أنقض عهده.
    فما زال حُيي بكعبٍ يُغرِيه حتى فتح له، فدخل عليه فأخذ يُبيِّن له حجم الجيوش الجرَّارة التي جاءت من قريشٍ ومن القبائل العربية حتى أقنعه أنَّ النصر محسومٌ للألوف المُؤلَّفة التي جاءت، وأنَّ المسلمين سينتهون في هذا اليوم، فما زال به حتى وافق على أن ينقض عهدَه مع النبي -عليه الصلاة والسلام- ويُحاربه مع تلك الأحزاب التي جاءت.
    وفي استجابة كعب القُرَظِي إلى حُيي بن أَخْطَب ونقض عهده مع رسول الله مع اعترافه بأنَّه لم يرَ من رسول الله إلا وفاءً وصدقًا دليلٌ على أنَّ اليهود أهلُ غدرٍ وخيانةٍ، فإذا كانت بينهم وبين المسلمين مُعاهدات سلامٍ يلتزمون بها ما داموا يرون أنَّ في الالتزام مصلحتهم، فإذا رأوا أنَّ في الغدر ونقض العهد مصلحتهم نقضوا عهدهم وغدروا.
    وبلغ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ بني قُريظة نقضوا عهدهم، فبعث من أصحابه مَن يتأكَّد له من ذلك، فجاء الخبر أنَّ بني قُريظة قد نقضوا عهدهم وميثاقهم.
    وفي ذلك يقول ربنا -عز وجل: ﴿إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾ [الأحزاب: 10].
    فأتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ يعني الأمر اشتدَّ علينا. قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا، وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا». فقالوا: اللَّهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
    ودعا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الأحزاب فقال: «اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ، وَسَرِيعَ الْحِسَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ»، فاستجاب الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فأرسل على الأحزاب ريحًا وجنودًا لم يروها، وأُطفِئت نارهم، وقُلِعَت خيامهم، فرأوا أن ينجوا بأنفسهم ويرجعوا إلى بيوتهم.
    وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ [الأحزاب: 25].
    فلمَّا رجعت الأحزابُ تجُرُّ أذيالَ الخيبة والخسران لم ينالوا شيئًا مما أرادوه، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَا»، نحن نسير إليهم، وكان هذا عَلَمًا من أعلام النبوة، ففعلًا بعد غزوة الخندق قريشٌ لم تأتِ المدينةَ لحربٍ، وإنَّما النبيُّ هو الذي سار إليهم كما قال: «الْآنَ نَغْزُوهُمْ، وَلَا يَغْزُونَا».
    فلمَّا ردَّ الله الذين كفروا بغيظهم ورجعوا إلى مكَّة وإلى حيث جاءوا من القبائل المجاورة دخل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينة، ورجعت بنو قُريظة إلى حصونهم، ودخل حُيي بن أُخْطَب مع كعب القُرَظِي حصنه وفاءً له بالعهد؛ لأنَّه قال له: لك عليَّ إن لم يكن ما نُريد أن أرجع معك حتى يُصيبني ما أصابك.
    فرجع بنو قُريظة ودخلوا حصونَهم، ورجع حُيَيُّ بن أَخْطَب النَّضري ودخل مع كعبٍ حصنه، ورجع النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- ودخل المدينة، فبينما هو -عليه الصلاة والسلام- يغسل التُّرابَ عن جسده –فقد قلنا أنَّه كان يحفر بيده ويحمل التراب بيده- فبينما هو قد وضع سلاحَه وأخذ يغسل الترابَ عن جسده إذ جاءه جبريلُ -عليه السلام- فقال: «أَوَضَعْتَ السِّلَاحَ يَا رَسُولَ اللهِ؟» قال: «نَعَمْ». قال: «وَاللهِ مَا وَضَعْنَاهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ». نحن الملائكة كنا معكم في الأحزاب ولم نضع أسلحتنا بعد، اخرج إليهم، قال: «إِلَى أَيْنَ؟» قال: «هَا هُنَا»، وأشار بيده إلى بني قُريظة.
    فدعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالبٍ فأعطاه الرايةَ، فانطلق بها إلى بني قُريظة، ثم لبس النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- سلاحَه ونادى في المسلمين: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فطار المسلمون زُرُفَاتٍ ووُحْدَانًا، وهم على يقينٍ من النصر المُؤَزَّر الذي ينتظرهم؛ تحقيقًا لوعد الله -عز وجل- ولاسيَّما أنَّ جبريل قد سبقهم إلى بني قُريظة.
    فحاصر المسلمون بني قُريظة في حصونهم، وطال الحصارُ، وأخذوا يُفكِّرون ماذا يصنعون؟
    وبينما هم مُحاصَرُون صعدت امرأةٌ منهم على سطحٍ وأخذت رحًى كبيرةً ورمتها من فوق السَّطح على رجلٍ من الأنصار فقتلته.
    فحاول بنو قُريظة أن يأخذوا من رسول الله عفوًا مُطلقًا أو مُقيَّدًا، ولكن هيهات هيهات أن ينالوا.
    فلمَّا طال الحصارُ قذف الله في قلوبهم الرعبَ؛ فطلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن ينزلوا على حكمه دون شروطٍ، فلمَّا وافق -عليه الصلاة والسلام- قام حلفاؤهم -وهم الأوس فقد كانت بنو قُريظة حليفةً للأوس- إلى رسول الله يسألونه أن يهبهم لهم وأن يعفو عنهم كما استوهَبَ من قبل الخزرج يهود بنو قَيْنُقَاع، فقال -عليه الصلاة والسلام: «أَيُرْضِيكُمْ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ وَاحِدٌ مِنْكُمْ؟» منكم أي من الأوس، قالوا: نعم. فجعل حكمهم إلى كبيرهم سعد بن مُعاذ -رضي الله عنه- فجيء به -رضي الله عنه- فالتَفَّ به أهلُه وإخوانه يسترحمونه ويستعطفونه: إخواننا وحلفاؤنا. حتى يُخفف فيهم الحكم، ولكنَّه -رضي الله عنه- لم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وقال: "أرى أن تُقتَل مُقاتلتُهم، وتُسبَى ذراريهم، وتُقسَّم أموالهم".
    فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ»، هذا حكم الله -عز وجل.
    فسبى النِّساءَ والذَّراري، وقتل المُقاتلة من الرِّجال، ولم تُقتَل من نساء بني قُريظة امرأةٌ إلا تلك المرأة التي كانت قد صعِدت السطحَ وألقت الرَّحَى فقتلت رجلًا من الأنصار -رضي الله عنه- ولم يُقتَل من الصِّبيان صبيٌّ واحدٌ.
    وفي بني قُريظة أنزل الله تعالى قوله: ﴿وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 26، 27].
    فلمَّا قتل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رجالَهم أخذ يُقسِّم أموالهم ونساءهم بعد أن أخرج منها الخمس، واصطفى -صلى الله عليه وسلم- لنفسه من نسائهم ريحانة، فعرض عليها الإسلامَ فأبت، ثم أسلمت بعد ذلك، فسُرَّ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لإسلامها، وعرض عليها أن يعتقها ويتزوَّجها، فاختارت الرقَّ على العتق، فلم تزل عنده -صلى الله عليه وسلم- حتى تُوفي عنها.

  • #2
    رد: غزوة الأحزاب وغزوة مؤتة .. فقه السيرة

    بعد ذلك كان صُلح الحُدَيبية في السنة السادسة من الهجرة:
    وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وهو بالمدينة قد رأى رؤيا في المنام أنَّه داخلٌ مكَّة وطائفٌ بالبيت، ورؤيا الأنبياء وحيٌ من الله، ففسَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الرُّؤيا على أنَّها إذنٌ من الله -عز وجل- بدخول مكة، فأذَّن مؤذنٌ في الناس بأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مُعْتَمِرٌ، فأجابه إلى العمرة ألف وأربعمائة من المؤمنين الصَّادقين، وأمَّا المنافقون فقد ظنُّوا بالله ظنَّ السَّوء، فظنُّوا أنَّ محمدًا وأصحابه إن دنوا من مكَّة فإنَّ العرب سيستأصلونهم ويُبيدونهم؛ فلا يرجع واحدٌ منهم البَتَّة.
    وخرج -عليه الصلاة والسلام- في صحبه الكرام من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، فلمَّا كانوا بذي الحُلَيْفَة -وهي ميقات أهل المدينة للإحرام- قلَّد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- البُدْنَ وأشعرها، ثم أحرم بالعمرة، لا يشكُّ أحدٌ من أصحابه أبدًا أنَّهم قادمون مكَّة وطائفون بالبيت العتيق؛ من أجل الرُّؤيا التي أخبرهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه رآها.
    فلمَّا كانوا بعُسْفَان -قريبًا من مكة- بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ قريشًا قد جمَّعوا الجموعَ، وخرجوا بالأحباش يُريدون أن يُقاتلوه ويصدوه عن البيت، فاستشار -عليه الصلاة والسلام- أصحابه ما يفعل؟ فقال لهم: «إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ نَمِيلَ عَلَى ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ -يعني الصِّبيان والنِّساء- فَنُصِيبَهُمْ، فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوتُورِينَ مَحْرُوبِينَ، وَإِنْ يَجِيئُوا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللهُ؟ أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟».
    فقال أبو بكر -رضي الله عنه: "الله ورسوله أعلم أننا لم نجئ لقتالٍ، وإنَّما جئنا مُعتمرين، يا رسول الله، اقصد البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلناه".
    فقال -عليه الصلاة والسلام: «فَرُوحُوا إِذَنْ».
    فراحوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيُّ -عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا مَعَ خَيْلٍ مِنَ الْعَرَبِ؛ فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ»، أي اهربوا منه، فانحازوا ذات اليمين، فلم يشعر بهم خالدٌ حتى رأى الغبارَ صاعدًا؛ فانطلق.
    وسار النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كان بالثَّنِيَّة التي يهبط منها عليهم بركت الراحلةُ؛ فقال الصَّحابةُ: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ.
    فقال -عليه الصلاة والسلام: «مَا خَلَأَتِ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ»، الذي يمنع الناقةَ أن تمشي اللهُ الذي منع الفيلَ لما جاء أبرهةُ ليهدم الكعبة: «وَاللهِ لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا».
    فلمَّا بركت الناقةُ وكلَّما قادوها تأبى أن تمشي؛ أدرك الرسولُ -عليه الصلاة والسلام- أنَّ هذا أمرٌ من الله، وأنَّ الخير أنَّهم إذا دعوه إلى الصُّلح يُجيبهم مهما كانت الشُّروط.
    - وضع الحرب بين المسلمين وقريشٍ عشر سنين.
    - وأنَّ مَن شاء أن يدخل في عهد محمدٍ دخل، ومَن شاء أن يدخل في عهد قريشٍ دخل.
    - وأنَّ مَن جاء من عند محمدٍ إلى قريشٍ لا يردُّوه، وأنَّ مَن جاء من قريشٍ إلى محمدٍ ردَّه إليهم.
    وهذا الذي كان يعترض عليه الصحابةُ؛ كيف نُرجِع مَن جاءنا منهم، ومن جاءهم منا لا يُرجِعونه؟!
    - وأن يأمن الناسُ بعضهم من بعضٍ.
    - وأنَّه لا خيانةَ ولا غدرَ.
    وتمَّت المُصالحةُ وكُتبت، فأمر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه أن ينحروا هديَهم، ويحلقوا رؤوسَهم، ويتحللوا من عمرتهم.
    يقول الله -تبارك وتعالى: ï´؟فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِï´¾ [البقرة: 196]، فالمُحْرِم حين يقصد مكَّةَ للعمرة أو الحج وقد ساق هديه، ثم يُصَدُّ عن دخول مكة لأداء نُسُكِه؛ فعليه أن ينحر هديَه في المكان الذي حُصِرَ فيه، ويحلق رأسه، ويتحلل، ولا شيءَ عليه.
    ثم رجع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة.
    وقد كان في هذا الصُّلح حِكَمٌ وأسرارٌ كبيرة، وقد سمَّاه الله تعالى فتحًا.
    عن زيدِ بن أسلمَ عن أبيه أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسير في بعض أسفاره، وعمر بن الخطاب يسير معه ليلًا، فسأله عمرُ عن شيءٍ فلم يُجبه رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ثم سأله فلم يُجبه، فقال عمر: ثكلتك أمُّك يا عمر، نذرت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مراتٍ كلُّ ذلك لا يُجيبك!
    قال عمر: فحرَّكتُ بعيري ثم تقدَّمت أمام المسلمين، وخشيتُ أن ينزل فيَّ قرآن، فما نشبت أن سمعت صارخًا يصرخ بي، فقلتُ: لقد خشيتُ أن يكون قد نزل فيَّ قرآنٌ، وجئتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّمتُ عليه فقال: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ». ثم قرأ: ï´؟إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًاï´¾ [الفتح: 1، 2].
    وهكذا كان صُلح الحُدَيبية بحقٍّ فتحًا مُبينًا كما سمَّاه الله تعالى، وحُقَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يفرح بنزول هذه السُّورة عليه، وأن يقول لعمر: «لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ سُورَةٌ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ».
    فجعل الله -تبارك وتعالى- صُلحَ الحُديبية فتحًا مُبينًا.

    تعليق


    • #3
      رد: غزوة الأحزاب وغزوة مؤتة .. فقه السيرة

      وبعد صُلح الحُدَيبِيَة كانت غزوة خيبر:
      وقد عرفنا من الدروس السَّابقة أنَّ أعداء الإسلام كانوا ثلاثة أقسامٍ: قريش، وأعراب البادية، ويهود خيبر.
      فلمَّا صالح رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قريشًا صُلح الحُدَيبية أمِن بذلك شرَّ أقوى الفِرَق الثلاث، فأمِن شرَّ قريشٍ، فلم يَرُق لليهود هذا الصُّلح، وأخذوا يُوطِّدون علاقتَهم بأعراب البادية؛ لتكوين جبهةٍ جديدةٍ لمقاومة الإسلام بدلًا من الجبهة التي دخلت في صُلحٍ مع الإسلام.
      فرأى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يغزو خيبرَ؛ ليكسر شوكةَ اليهود، ويُرْغِم أنوفَهم؛ حتى لا يسعوا بعد ذلك في الأرض فسادًا، وبذلك يأمن الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- على المدينة، ويتفرَّغ لنشر الدين وتعليم الإسلام.
      فما أن رجع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من الحُدَيبية في ذي الحجَّة من السنة السادسة للهجرة حتى خرج بعد شهرٍ واحدٍ في المحرم من السنة السَّابعة للهجرة إلى خيبرَ، وهو على يقينٍ من النصر والفتح كما وعده الله -تبارك وتعالى- أثناء عودتهم من صُلح الحُدَيبية؛ حيث قال الله تعالى في السورة التي أنزلها أثناء عودة النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحُدَيبية -سورة الفتح: ï´؟لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًاï´¾ [الفتح: 18، 19].
      فدعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخروج إلى خيبرَ، ونهى مَن قعد عن الخروج إلى الحُدَيبية من المنافقين عن الخروج معه، فنحن قلنا: لما دعا -عليه الصلاة والسلام- إلى العُمرة بعد الرُّؤيا التي رآها نشط المؤمنون الصَّادقون، أمَّا المنافقون فقد ظنُّوا بالله ظنَّ السَّوء، وأيقنوا أنَّ محمدًا وأصحابه لن يرجعوا من مكَّة، وسيقضي عليهم العربُ جميعًا، ولا يسلم منهم أحدٌ؛ فتخلَّفوا.
      فلمَّا رجع -عليه الصلاة والسلام- من الحُدَيبية نهى المنافقين الذين قعدوا عن الحُدَيبية أن يخرجوا معه إلى خيبرَ؛ طاعةً لله -عز وجل- حيث قال: ï´؟سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًاï´¾ [الفتح: 15]، فقعد المنافقون وخرج رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى خيبرَ ومعه المؤمنون الصَّادقون.
      فأتى خيبرَ وحاصرهم في حصونهم، وطال الحصارُ، وتراشق الجيشان بالنَّبْل والحصى، وقُتِل من هؤلاء ومن هؤلاء.
      فلمَّا طال الحصارُ وتأخَّر الفتحُ قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ»، فلمَّا كان الغدّ دعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عليًّا فجيء به فأعطاه الرَّاية.
      فقال علي: يا رسول الله، أُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟
      يعني حتى يُسلِموا ويشهدوا أن لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله؟
      فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَخْبِرْهُمْ بِحَقِّ اللهِ فِيهِ، فَوَاللهِ لَأَنْ يَهْدِي بِكَ اللهُ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُنْ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ».
      وطال الحصارُ وفتح الله على يد عليٍّ -رضي الله عنه- هذا الحصن، ثم تتابعت الحصونُ حصنًا بعد حصنٍ، ومكَّن الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- من يهود خيبر.
      وعاد النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة وقسَّم المغانم كما أمره الله -تبارك وتعالى.
      وأثناء القسمة أدركه مُهاجرةُ الحبشة -جعفر بن أبي طالب وأصحابه- فضرب لهم بسهمٍ، ولم يُسْهِم -صلى الله عليه وسلم- لمَن غاب عن خيبرَ إلا لمُهاجرة الحبشة.
      وكان في السَّبي صفية بنت حُيَي بن أَخْطَب، فاصطفاها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، ثم دعاها للإسلام فأسلمت، فأعتقها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل عتقَها صداقها وبنى بها، وأَوْلَمَ عليها بالتَّمر والسَّمن، ولم يكن في وليمتها لحمٌ قط.
      ولما دخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ دخل فرحًا مسرورًا مُستبشرًا بفتح الله -تبارك وتعالى- له، حيث حقق له وللمسلمين ما وعدهم به: ï´؟وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًاï´¾ [الفتح: 19، 20].
      فبصلح الحُديبية أمِنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- شرَّ أقوى أعدائه -كما قلنا وهم قريش- وبفتح خيبر قضى -صلى الله عليه وسلم- على الجناح الثاني من قوى الشَّر -قوى اليهود.
      وبذلك استقرَّت الأوضاعُ في المدينة، وأمِنَ -صلى الله عليه وسلم- على المدينة عاصمة الدولة الإسلامية التي أسَّسها، ولم يبقَ أمامه من أعدائه سوى أعراب البادية المُتفرِّقين في السُّهول والوُديان، وهم مهما بلغت قوَّتُهم فليس منهم خوفٌ، ولذلك لم يغزهم رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بنفسه، وإنَّما أخذ يبعث إليهم سراياه سريةً بعد سريةٍ يدعونهم إلى الإسلام، فإن أسلموا كان خيرًا لهم، وإن حاربوا قُوتلوا.
      وفكر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في توسيع دائرة الدَّعوة، والوصول بها إلى ملوك ورؤساء الدول الكبيرة؛ لأنَّ رسول الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- رسول العالمين، ورسالته ليست قوميةً ولا عربيةً: ï´؟تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًاï´¾ [الفرقان: 1]، ï´؟وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَï´¾ [الأنبياء: 107]، ï´؟قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًاï´¾ [الأعراف: 158].
      فلمَّا أمِنَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- شرَّ قريشٍ بصلح الحُديبية، وقضى على شرِّ اليهود بغزوة خيبر، أخذ يُفكِّر في توسيع الدَّائرة وتبليغ الدَّعوة إلى كلِّ الدول.
      وكانت فارس تحتل أجزاءً كبيرةً من جنوب الجزيرة، وكان الرومُ يحتلون أجزاءً من شمالها، فأراد رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبعث إلى هؤلاء الملوك والرُّؤساء كتبًا يدعوهم فيها إلى الإسلام، فكتب إلى كِسْرَى وقَيْصَر، وكتب إلى النَّجاشِي.
      وليس النَّجاشي الذي كتب إليه النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- هو النَّجاشي الذي أسلم.
      فلمَّا عزم -صلى الله عليه وسلم- على إرسال الكتب والرَّسائل إلى الملوك ليدعوهم إلى الإسلام، قيل له: إنَّ العجم لا يقبلون كتابًا إلا مختومًا. وما زال من ذلك التاريخ الختم معروفًا، فأي رسالةٍ لابُدَّ أن تُختَم بختم صاحبها؛ حتى تكون مُوثَّقةً.
      قيل له: إنَّ العجم لا يقبلون إلا كتابًا مختومًا، فحتى تبعث كتابًا إلى ملكٍ لابُدَّ أن يكون لك ختم تختم به.
      فاتَّخذ -عليه الصلاة والسلام- خاتمًا، ونقشه: "محمد رسول الله"، وكتب -عليه الصلاة والسلام- أول ما كتب إلى هِرَقْل عظيم الروم، فكتب إليه كتابًا يقول فيه: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
      مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ.
      سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ؛ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيين: ï´؟يَا أَهْل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَï´¾ [آل عمران: 64]».
      وختم -صلى الله عليه وسلم- هذا الكتاب وبعث به واحدًا من أصحابه هو دِحْيَة الكلبي، فدفعه دحية إلى عظيم بُصْرَى، فسلَّمه لهرقل، فلمَّا قرأ هرقلُ الكتابَ أراد أن يستفسر عن هذا الذي بعث إليه كتابًا، وأن يتعرف أحواله، وكان العربُ من قريشٍ وغيرهم يخرجون بتجارتهم إلى الشَّام -بلاد الروم- فقال هرقلُ لحاشيته: هل عندنا أحدٌ من العرب؟ هل في بلادنا أحدٌ من العرب؟
      قالوا: نعم.
      فجيء بنفرٍ من العرب وفيهم أبو سفيان، فقد سافر إلى الشام لتجارةٍ، فدخل أبو سفيان والنَّفر الذين معه على هِرَقل، فأجلسهم وجعل أبا سفيان أمامه، وجعل أصحابَه وراءه، وقال: إني سائلٌ هذا عن ذلك الرجل الذي يزعم أنَّه نبيٌّ، فإن كَذَبَني فأشيروا إليَّ.
      أنا سأسأل هذا الرجل عن ذلك الذي عندكم يزعم أنَّ الله أرسله، سأسأله عن أحواله، فإن صدق أيِّدوه، وإن كذب كذِّبوه، وأنتم وراءه لن يراكم، يعني لن يعرف من كذَّبه.
      فسأل هرقلُ أبا سفيان أسئلةً، والتُّرْجُمان يُترجم.
      فقال له: كيف نسبه فيكم؟ أخبرني عن نسب هذا الرجل الذي يزعم أنَّه نبيٌّ، كيف نسبه فيكم؟
      قال: هو فينا ذو نسبٍ. يعني من عائلةٍ ومن قومٍ.
      قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قط قبله؟
      يعني هل أحدٌ قال أنَّه نبيٌّ قبل محمد؟
      قال: لا.
      قال: هل كان من آبائه مَن مَلَك؟
      يعني هل آباؤه كان فيهم ملوك ويُريد أن يسترد مملكةَ آبائه؟
      قال: لا.
      قال: أشراف الناس يتَّبعونه أم ضُعفاؤهم؟
      قال: بل ضُعفاؤهم.
      قال: هل يزيدون أم ينقصون؟
      قال: بل يزيدون.
      قال: هل يرتد أحدٌ منهم عن دينه سخطةً عليه؟
      هل أحدٌ ممن دخل الإسلامَ ومشى مع محمدٍ رجع عنه مرةً أخرى؟
      قال: لا.
      قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب؟
      قال: لا.
      قال: هل يغدر؟
      قال: لا، ونحن معه في مدَّةٍ -صُلح الحُديبية، فنحن مُتَّفقون معه على وضع الحرب عشر سنين- ولا ندري ما هو فاعلٌ فيها.
      فأبو سفيان يُريد أن يطعن في النبيِّ بأيِّ وسيلةٍ، فلم يجد أيَّ فرصةٍ ليكذب؛ لأنَّ إخوانه وراءه لو كذب سيُكذِّبونه، فلم يجد أيَّ كلمةٍ يطعن بها في رسول الله غير أنَّه قال: بيننا وبينه عهدٌ، ولا نعرف هل سيُوفِّي بعهده أم لا؟!
      فكَّون هرقلُ من خلال هذه الأسئلة وأجوبة أبي سفيان عليها صورةً لشخصية الرسول -عليه الصلاة والسلام- وأيقن أنَّه رسول الله حقًّا، فقال لأبي سفيان: هل قاتلتُموه؟
      قال: نعم.
      قال: كيف كانت الحربُ بينكم وبينه؟
      قال: سِجَال، نغلبه مرةً، ويغلبنا مرةً.
      قال: فبماذا يأمركم؟
      قال: يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تُشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقوله آباؤُكم، ويأمرنا بالصلاة، والصَّدقة، والعفاف، والصِّلة.
      فكما قلتُ: من خلال جواب أبي سفيان لهرقل عن الأسئلة كوَّن هرقلُ صورةً لشخصية رسول الله في نظره، وأيقن أنَّه رسول الله حقًّا، وقال لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضعَ قدميَّ هاتين، ولقد كنتُ أعلم أنَّه سيخرج.
      وذلك لأنَّ الله -تبارك وتعالى- أكثر في التَّوراة والإنجيل من نعت النبي -صلى الله عليه وسلم- والحديث عنه، ولذلك قال تعالى: ï´؟الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُï´¾ [البقرة: 146]، كيف يعرفونه ولم يروه؟ من كثرة نُعوت الله -تبارك وتعالى- له في التوراة والإنجيل.
      فهِرَقل لما سأل أبا سفيان وأجابه كوَّن شخصيَّة لرسول الله في نظره، وعرف أنَّه رسول الله حقًّا، وقال: إن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضعَ قدميَّ هاتين، ولقد كنتُ أعلم أنَّه سيخرج، ولكن ما كنتُ أظن أنَّه منكم، ولو أعلم أني أصل إليه لتَجَشَّمْتُ لقاءه، ولو كنتُ عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأه.
      قال أبو سفيان: فما فرغ من قراءة الكتاب حتى ارتفعت الأصواتُ عنده، وكَثُر اللَّغَطُ، وأمر بإخراجنا فأُخرِجنا، فلمَّا خرجنا قلتُ لأصحابي: لقد عَظُمَ أمر ابن أبي كبشة، إنَّه يخافه ملكُ بني الأصفر! ملك الروم يخاف من محمدٍ!
      قال أبو سفيان: وما زلتُ مُوقنًا أنَّه سيظهر -أي محمدًا صلى الله عليه وسلم- على الناس وعلى أعدائه منذ قال هرقل ما قال، حتى أدخل الله عليَّ الإسلامَ. فأبو سفيان أسلم بعد ذلك -رضي الله عنه.
      ثم دعا هرقلُ عظماءَ الروم وجمعهم في دارٍ له، ثم أمر بالأبواب فغُلِّقت، ثم قال هرقل لكبار أصحابه من الروم: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرُّشد، وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟
      إذن هرقل أيقن أنَّ محمدًا رسول الله، فأشار على أصحابه، يعني لو أردتم دوام ملككم وعزّكم تعالوا نتَّبع هذا النبي.
      فحاصوا حَيْصَةَ حُمُر الوحش، وأسرعوا نحو الأبواب -يهربون حتى لا يسمعوا هذا الكلام- فوجدوا الأبوابَ مُغلقةً.
      فقال هرقل: ردُّوهم عليَّ. فردُّوهم عليه، فقال: إني قلتُ مقالتي آنفًا أختبر بها شدَّتكم على دينكم.
      فهو حين وجدهم غير مُوافقين قال: أنا أختبركم حتى أراكم مُتمسكين بالدين أم لا؟ وقد رأيتُ منكم الذي أحببت، وأنا بهذا رضيتُ عنكم؛ فسجدوا له، ورضوا عنه، وانصرفوا.
      وكذلك بعث -صلى الله عليه وسلم- رسلَه وكتبه إلى ملوك ورؤساء الدول الأخرى، وبذلك سمعوا عن دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم.
      فلمَّا بعث -صلى الله عليه وسلم- كتبه إلى الملوك والرؤساء يدعوهم فيها إلى الإسلام كانوا فريقين، أي كان الملوك والرؤساء فريقين في الاستقبال:
      - فبعضهم أحسن استقبال رُسُل رسول الله الذين بعثهم بالكتب.
      - وبعضهم أساء استقبالهم.
      غير أنَّه لم يُقتَل من رُسُل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا الحارث بن عُمَير الأزدي، وكان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بعثه بكتابه إلى ملك الروم، فلمَّا دخل أرضهم اعترضه شُرَحبيلُ بن عمرو الغسَّانيُّ أحد أمراء ملك الروم على أرض الشام، فأوثقه رباطًا، ثم قدَّمه فضرب عنقه.
      فأساء ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين؛ لأنَّ الرُّسُل لا يُقتلون، فالرُّسل هم مَن نُسميهم الآن "سُفراء الدول"، فحتى في حالة الحروب يكون هناك تفاوض، فالدَّولتان المُتحاربتان يكون لكلِّ دولةٍ سفير عند الأخرى، فالسَّفير هذا يذهب، والسفير هذا يأتي، فالسَّفير له أمانٌ حتى في حالة الحرب، فلا يجوز أن يُقتَل؛ لأنَّه داخلٌ من أجل أن يتفاوض، فله أمانٌ.
      فالحارث بن عُمَير قتله شُرَحبيل بن عمرو الغسَّاني أحد أمراء ملك الروم على أرض الشام، فاستاء النبي من هذا التَّصرف، فأصر المسلمون على الانتقام والقصاص من هذا الباغي الأثيم، فكانت غزوة مُؤْتَة.
      فجهَّز النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جيشًا لغزو الروم عدَّته ثلاثة آلاف مُقاتلٍ، وأمَّر عليهم زيد بن حارثة، وقال -عليه الصلاة والسلام: «إِنْ أُصِيبَ زَيْدٌ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَلِي الْإِمَارَةَ بَعْدَهُ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ».
      إذن هو جهَّز الجيش وعيَّن الأمير وقال: إن قُتِل أميرٌ فالأمير الذي يليه فلان، وإن قُتِل الثاني فالأمير الثالث فلان.
      وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة من الهجرة.
      وتجهَّز الجيشُ وقاده الأمير زيدُ بن حارثة، فأوصاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في خاصَّة نفسه بتقوى الله وبمَن معه من المسلمين خيرًا.
      وكان هذا دأبه -صلى الله عليه وسلم- فكان إذا بعث بعثًا أمَّر عليه أميرًا ووصاه في خاصَّة نفسه بتقوى الله وبمَن معه من المسلمين خيرًا.
      وودَّع رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك الجيش المُتوجه إلى أرض الشَّام.
      وتحرَّك الجيشُ باسم الله وعلى بركة الله، مُتوكِّلين على الله، قاصدين أرض الشَّام.
      فلمَّا انتهوا إلى مَعَانٍ -وهي مدينة معروفة على الحدود الأردنية الآن- بلغهم أنَّ الرومَ قد تجهَّزوا لهم، وجمعوا مائتي ألف مقاتلٍ، مائة ألفٍ من الروم، ومائة ألفٍ ثانية من نصارى العرب، فالعدد غير مُتكافئ نهائيًّا، فثلاثة آلاف في مُقابلة مائتي ألف!
      فبات الجيشُ المسلم بمعانٍ ليلتين يتشاور في الأمر، أيتقدَّمون على بركة الله مُعتصمين واثقين بالله، أم يبعثون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَن يُخبره الخبر فيرى رأيه ويُشير عليهم بتقدُّمهم أو تراجعوهم؟ فإمَّا أن يُمدهم بمددٍ من عنده، أو يرسل لهم كتائب أخرى، أو يأمرهم بأمره.
      فقام عبدُ الله بن رَواحة -رضي الله عنه- وقال: يا قوم، والله إنَّ الذي تهربون منه للذي خرجتم تطلبونه.
      أنتم أتيتم تبتغون الشَّهادةَ وترجُونها: ï´؟وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِï´¾ [آل عمران: 169، 170]، هذا الذي أتيتم لأجله.
      قال: والله ما نُقاتل القوم بعُدَّة ولا عددٍ ولا كثرةٍ، والله ما نُقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فامضوا يا قوم على بركة الله، فوالله ما هي إلا إحدى الحُسنيين: إمَّا الظَّفر والنَّصر وإمَّا الشَّهادة.
      هذا كلام عبد الله بن رواحة لإخوانه لما تشاوروا ماذا نفعل؟ أنتقدم للقتال ونحن ثلاثة آلاف وأمامنا مائتي ألف، أم نرسل للرسول نُشاوره ويُشير علينا: فإمَّا يبعث لنا مددًا من إخواننا أو يرى رأيه؟ فلمَّا قال ذلك عبدُ الله بن رواحة قالوا: صدق ابنُ رواحة. وتشجَّعوا وتحرَّكوا نحو الروم، حتى إذا كانوا بمُؤتة -وهي التي تُسمَّى الآن مدينة الكَرْك من بلاد الأردن- التقى الجمعان.
      قال أبو هريرةَ -وكانت هذه الغزوة أول غزوةٍ يحضرها أبو هريرة؛ لأنَّه أسلم بعد صُلح الحُدَيبية: فلمَّا دنا المشركون رأيت ما لا قِبَل لأحدٍ به، رأيت عددًا وعُدَّةً وسلاحًا وخيلًا ودِيباجًا وحريرًا وذهبًا، فبرق بصري، فقال لي ثابتُ بن أرقم: يا أبا هريرة، كأنَّك ترى جموعًا كثيرةً. قال: إي والله. قال: إنَّك لم تشهد معنا بدرًا، إنَّا لا نُنصَر بالكثرة.
      أنت ترى يا أبا هريرة جيشًا كبيرًا ونحن قليل؟ قال: نعم. قال: لا يهمك هذا: ï´؟كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِï´¾ [البقرة: 249]، يا أبا هريرة، أنت لم تكن معنا يوم بدرٍ، فنحن كنا في بدرٍ ثلاثمائة، وكان المشركون ألفًا، وربنا نصرنا: ï´؟وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌï´¾ [آل عمران: 123].
      فالتحم الجيشان، ودخل ثلاثةُ آلافٍ في مائتي ألف مقاتلٍ -ما شاء الله لا قوةَ إلا بالله- أيُّ شجاعةٍ هذه؟! ثلاثة آلافٍ يدخلون ويلتحمون مع مائتي ألف! وهل هناك مُحرِّكٌ للثلاثة آلاف إلا الحرص على الجنة، وأنَّهم شمُّوا رائحتها، وعرفوا أنَّها دانية منهم قُطُوفها؟!
      دخل ثلاثةُ آلاف مقاتلٍ في مائتي ألف، يحمل الرَّايةَ الأميرُ زيد بن حارثة، فقاتل -رضي الله عنه- حتى قُتِل، فأخذ الرايةَ جعفرُ بن أبي طالبٍ ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم- وحملها بيده وهو راكبٌ فرسه، وأخذ يُقاتِل القومَ حتى أرهقه القتالُ؛ فنزل عن فرسه، فعقرها، ورفع الرايةَ بيده، والسيف في يده الأخرى، وأخذ يُقاتِل القومَ حتى قُتِل -رضي الله عنه- فأخذ الرايةَ الأمير الثالث، فقاتل حتى قُتِل، فرفع الرايةَ ثابتُ بن أرقم، وقال: يا قوم، اصطلحوا على أميرٍ.
      قالوا: أنت.
      قال: ما أنا بفاعل، لستُ لها.
      فاصطلحوا بعد قتل الأمراء الثلاثة: "زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة" على أن يكون خالدُ بن الوليد هو الأمير.
      وكانت هذه أيضًا أول غزوةٍ يشهدها خالدٌ في صفوف المسلمين؛ لأنَّه أسلم أيضًا بعد صُلح الحُديبية.
      فأخذ الرايةَ خالدٌ الذي سمَّاه رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- "سيف الله المسلول"، فأخذ الرايةَ ففتح الله عليه.
      والحمد لله الذي بنعمته تتم الصَّالحات، ربنا تقبَّل منا إنَّك أنت السَّميع العليم، وتُبْ علينا إنَّك أنت التَّواب الرَّحيم.
      هذا والحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
      والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

      تعليق

      يعمل...
      X