إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حادثة الافك .. فقه السيرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حادثة الافك .. فقه السيرة

    إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
    أمَّا بعد، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
    انتهى بنا الحديثُ في الدرس السابق عند غزوة أُحُدٍ، وأنَّها كانت أثرًا من آثار غزوة بدر، فأراد بها المشركون أن يأخذوا بثأر قتلاهم في بدر.
    انتهى بنا الحديثُ إلى أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في أول النهار صفَّ المجاهدين وجعل ظهرَهم للجبل، وعيَّن فوق الجبل خمسين حارسًا من أمهر الرُّماة، وأمرهم بالثَّبات في مكانهم، وألا يبرحوا مكانَهم حتى يأذن لهم، مهما كانت نتائج المعركة، وعرفنا أنَّه بدأت المعركة بسم الله، فمكَّن الله -تبارك وتعالى- للمسلمين من المشركين، فقتلوا حملةَ الرَّاية التسعة، فكلَّما تسقط يحملها آخر فيُقتَل، وكلَّما تسقط يحملها آخر فيُقتَل، وتبع المسلمون المشركين بعدما فروا وولوا مُدبرين، ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب: 26] وجعلوا يجمعون المغانم.
    هنا لما نظر الرُّماة الذين هم فوق الجبل إلى إخوانهم في الميدان يجمعون الغنائم قال بعضُهم: لِمَ البقاء ها هنا وقد نصر الله رسوله؟
    لماذا نقعد هنا، الحمد لله ربنا نصر المسلمين، والمشركين ولوا مُدبرين.
    فقال لهم أميرُهم: أنسيتم عهد رسول الله ألا تبرحوا مكانكم حتى يأذن لكم؟
    قالوا: إنَّما أراد أن نحمي ظهرَ الجيش حتى ينصره الله، وقد نصرهم الله، والله لنأتين القومَ فنصيب معهم من الغنائم.
    فنزل أربعون من الخمسين، وبقي عشرة، فنظر خالدُ بن الوليد -وكان يومها مع المشركين- فرأى أنَّ الجبل قد انكشف، ولم يبقَ عليه غيرُ عشرةٍ، فاستدار في نفرٍ من فرسان المشركين وعلوا جبل الرُّماة، فقتلوا العشرة الذين ثبتوا، ثم دخلوا في المسلمين من ورائهم فأصابوا منهم ما أصابوا.
    وصرخ عدو الله إبليس في المسلمين: أي عباد الله، أُخراكم. أي قد جاءكم العدو من ورائكم، فرجعت أُولاهم على أُخراهم فاجتلدت أُولاهم مع أُخراهم، فصار المسلمون أنفسهم يضربون بعضًا، فهذا راجع وهذا مُتقدم، حتى عميت بصائرُهم فلم يلتفتوا إلى شيءٍ، وجعل بعضُهم يضرب بعضًا، ونظر حذيفةُ بن اليمان فرأى أباه والسيوف تعمل فيه، فقال: أبي أبي. تقتلون أبي! فما انحجزوا عنه حتى قتلوه.
    ونظر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فرأى أصحابه قد ولوا عنه مُدبرين، فجعل يُنادي: «إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ»، فسمع المشركون صوته -صلى الله عليه وسلم- فعرفوه، فأقبلوا عليه يُريدون قتله، ولكن الله عصمه، فأنزل ملائكته تُقاتل دونه.
    عن سعد بن أبي وقَّاصٍ -رضي الله عنه- قال: رأيتُ يوم أُحُدٍ رجلين عليهما ثيابٌ بيضٌ يُقاتلان دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبرائيل وميكائيل.
    فقام سعدُ بن أبي وقَّاصٍ -رضي الله عنه- بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يرد المُشركين، ونثر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- له كنانته، وجمع له أبويه، ولم يجمعها لغيره، فقال: «ارْمِ سَعْد، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي».
    وترَّس أبو طلحة -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجعل يصد السِّهام عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيتلقَّفها في صدره ونحره وظهره، وجعل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «ارْمِ أَبَا طَلْحَةَ، ارْمِ أَبَا طَلْحَةَ».
    وكلَّما مرَّ رجلٌ من المسلمين معه سهام قال: «انْثُرْهَا لِأَبِي طَلْحَةَ، فَيَرْمِي أَبُو طَلْحَةَ»، وينظر رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أين وقع السهم؟ وأبو طلحة يقول: "دُونك يا رسول الله، لا يُصيبك سهمٌ من سهامهم، نحري دون نحرك".
    ومع كلِّ ذلك خلص المشركون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأدموا وجهَه، وكسروا رَبَاعِيَتَه، ودخلت حلقتا المِغْفَر في وجنتيه، ووقع -صلى الله عليه وسلم- في حفرةٍ، وسال الدمُ على وجهه الشَّريف، فجعل يقول: «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ؟ اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ عَلَى قَوْمٍ دَمُّوا وَجْهَ نَبِيِّهِ»، ثم أخذ -صلى الله عليه وسلم- في الانسحاب بالبقية الباقية حوله، حتى انتهى بهم إلى الشِّعْب.
    وأرادت قريشٌ أن تمنع هذا الانسحاب ولكن دون جَدْوَى، فانتهى -صلى الله عليه وسلم- بأصحابه إلى الشِّعْب الذي قد نزل فيه في أول القتال، فانتهزها أبو سفيان فرصةً ليُولي الأدبارَ هو الآخر، وخاف أن تكون الجولةُ الثالثةُ للمسلمين كما كانت لهم الجولة الأولى، إلا أنَّه وقف يَشْمُت بالمسلمين ويفخر بآلهته، وجعل يُنادي: أفي القوم محمد؟
    فقال -صلى الله عليه وسلم: «لَا تُجِيبُوهُ».
    قال: أفي القوم ابن أبي قُحافة.
    فقال -صلى الله عليه وسلم: «لَا تُجِيبُوهُ».
    قال: أفي القوم ابن الخطاب؟
    فقال أبو سفيان لما لم يُجبه أحدٌ: لقد قُتِل هؤلاء، لو كانوا أحياء لأجابوني.
    فلم يملك عمرُ نفسه حتى قال: كذبتَ عدو الله، لقد أبقى الله لك ما يُخزيك.
    فقال أبو سفيان: اعْلُ هُبَل، اعْلُ هُبَل. وهُبَل هو الإله الذي يعبده.
    فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تُجِيبُوهُ؟». أي رُدُّوا عليه.
    قالوا: وما نقول يا رسول الله؟
    قال: «قُولُوا: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ».
    فقال أبو سفيان: لنا العُزَّى، ولا عُزَّى لكم.
    فقال -صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تُجِيبُوهُ؟».
    قالوا: ماذا نقول يا رسول الله؟
    قال: «قُولُوا: اللهُ مَوْلَانَا، وَلَا مَوْلَى لَكُمْ».
    فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر -أي غلبتمونا البارحة في يوم بدر، واليوم غلبناكم نحن، فهكذا تعادلنا- والحرب سِجَال، وتجدون مُثْلَةً -أي ستجدون من قتلاكم مَن مُثِّلَ به- لم آمُر بها –أي لم أقل لأحدٍ يُمَثِّل بالقتلى، ولكن لم أغضب لما فعلوا- ولم تَسُؤني -أي ستجدون في قتلاكم مُثْلَةً مَثَّلَها المشركون بقتلاكم لم آمرهم بها، ولكنني ما استأتُ لها.
    مَثَّل المشركون يوم أُحُدٍ بقتلى المسلمين، فجدعوا أنوفَهم وآذانَهم، وبقروا بطونَهم، حتى إنَّ هندًا بنت عُتبة بقرت بطنَ حمزة -رضي الله عنه- واستخرجت كبدَه فلاكَتْهَا ثم لفظتها، ومثَّلوا بأنس بن النَّضر، وكانت به بضعٌ وثمانون ما بين ضربةٍ بسيفٍ، ورميةٍ بسهمٍ، وطعنةٍ برُمحٍ، حتى ما عرفه أحدٌ إلا أخته عرفته ببنانه، ثم ولى المشركون مُدبرين.
    فقام النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُثني على ربِّه، وقال لأصحابه: «قُومُوا لِأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِمَا هُوَ أَهْلُهُ».
    فقام المسلمون وراءه صفوفًا، فرفع يديه وقال: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَعِّدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ وَبَرَكَتِكَ وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَوْنَ يَوْمَ الْعِيلَةِ، وَالْأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا، وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الْفَجَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، إِلَهَ الْحَقِّ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ».
    ثم قام -صلى الله عليه وسلم- يتفقد أصحابَه ويجمع الشُّهداء، وحمل نفرٌ من المسلمين شهداءَهم ليدفنوهم بالمدينة في مقابر أهليهم، فنادى مُنادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ادفنوا الشُّهداء في مضاجعهم.
    وقام -صلى الله عليه وسلم- بنفسه يُشرِف على دفنهم، وأمر أن يُدفنوا في ثيابهم ودمائهم، لم يُغَسِّلهم، ولم يُصلِّ عليهم، وكان ربما جمع الشَّهيدين والثلاثة في قبرٍ واحدٍ، لكنَّه كان يقول: «أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟». أي هؤلاء الشُّهداء مَن معه في صدره قرآن أكثر؟ فكان يُقدِّمه في جهة اللَّحْد إلى القبلة؛ تكريمًا لأهل القرآن، فأهل القرآن يُكرَّمون في حياتهم، ويُكرَّمون بعد مماتهم، ويوم القيامة يُكرِّموهم الله -تبارك وتعالى- ويُتوِّجهم بتاج الوقار والكرامة.
    فلمَّا فرغ من دفن الشُّهداء قام ينظر إليهم ويشهد لهم شهادةً لا تُرد أبدًا -إن شاء الله- فجعل يقول للشُّهداء: «أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ، مَا مِنْ جَرِيحٍ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْزِفُ جُرْحُهُ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ».
    ثم دخل -صلى الله عليه وسلم- المدينة آخر نهار السبت السَّابع من شوال من السنة الثالثة للهجرة.
    وهكذا كانت أُحُد جولتين اثنتين: الجولة الأولى في بداية النَّهار للمُسلمين، والجولة الثانية للمُشركين.
    فهل نقول أنَّ المسلمين هُزِموا في أُحُدٍ؟
    الجواب: لا، لا نقول إنَّ المسلمين هُزِموا في أُحُدٍ. لماذا؟
    لأنَّ الله -سبحانه وتعالى - سمَّى ما يناله المسلمون فتحًا ونصرًا، وسمَّى ما يناله المشركون نصيبًا، ولم يُسمه فتحًا ولا نصرًا.
    قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 141]، فسمَّى الله -تبارك وتعالى- ما يكون للمؤمنين فتحًا ونصرًا، وسمَّى ما يكون للمشركين نصيبًا، ولم يُسمه فتحًا، فلذلك لا نستطيع أن نُسمِّي ما ناله المشركون يوم أُحُدٍ نصرًا، ولا أن نُسمِّي ما أصاب المسلمين هزيمةً. لماذا؟
    لأنَّ المسلمين لم يُولُّوا الأدبارَ، ولم يفِرُّوا من الكفَّار، وإنَّما انحازوا فقط نحو الجبل، وأبو سفيان لما نال ما نال وأخذ نصيبَه الذي قُدِّر له، آثر أن يُسرع بالانصراف بمَن معه خارج أرض المعركة؛ خوفًا أن تضيع منه الدَّولة، أو يخسر بعد ذلك الجولة.
    ولم يقم أبو سفيان بجيشه الذي قالوا أنَّه انتصر بأرض المعركة ثلاثة أيام كما أقام النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بأرض بدرٍ ثلاثة أيام، بل لم يُفكِّر أبو سفيان في جمع الغنائم من أرض المعركة، فضلًا عن أن يُفكِّر في اقتحام المدينة المنورة، ولذلك لم يَعُدَّ المسلمون ما أصابهم في أحدٍ هزيمةً؛ بل عدُّوه نصرًا كما قال ابنُ عباسٍ -رضي الله عنهما: "ما نصر الله -تبارك وتعالى- في موطنٍ كما نصر يوم أُحُدٍ".
    أي لم ينصر الله رسولَه والمؤمنين في أيِّ معركةٍ كما نصرهم يوم أُحُدٍ.
    فأنكر عليه بعضُهم وقالوا: كيف تُسمِّي هذا نصرًا وقد قُتِل منهم مَن قتل، وأُصيب منهم مَن أُصيب؟!
    قال: "بيني وبينكم كتاب الله -عز وجل". أي كتاب الله يحكم بيني وبينكم.
    فالله -عز وجل- يقول في يوم أُحُدٍ: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ﴾ [آل عمران: 152]، والحَسُّ هو القتل والاستئصال، وإنَّما دالت الدَّولةُ على المسلمين لما عصوا الرسولَ وفشلوا وتنازعوا في الأمر: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152].
    ونزلت في غزوة أُحُدٍ آياتٌ تربوا على ستين آيةً تُلقِّن المسلمين الدُّروس المُستفادة، وتُعلِّمهم أسبابَ النصر وأسبابَ الهزيمة، فاستفادوا مما نزل في حقِّهم في سورة آل عمران، وعملوا به فلم يُهزَموا بعده بفضل الله -تبارك وتعالى.
    إلا أنَّه كان من الآثار السَّيئة التي ترتبت على عصيان الرُّماة وفشلهم وتنازعهم في الأمر يوم أُحُد أن طمع أبو سفيان في استئصال المسلمين وإبادتهم، وبعث يُهدد بذلك، وإن كان لم يفعل لكن بعث رسائل تهديد.
    كما تجرَّأ المنافقون على إظهار ما في قلوبهم من الشَّماتة والعداوة للمسلمين.
    وتجرَّأت اليهودُ أيضًا على ذلك، وكان ذلك خطرًا يُهدد المدينة من الدَّاخل.
    وكذلك تجرَّأت القبائل العربية المُجاورة للمسلمين، وطمعت في استئصالهم وإبادتهم وإطفاء نور الدَّعوة الذي بعث الله به نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم.
    وبالفعل بدأت القبائلُ العربية المجاورة للمدينة والقريبة منها في التَّحرش بالمسلمين، وكان من هذه القبائل بنو المُصْطَلِق، وكان منهم مُساعدة لأبي سفيان في يوم أُحُدٍ، فلمَّا كان ما كان في أُحُدٍ تجرَّأوا على المسلمين، وفكَّروا في مُهاجمتهم في المدينة، فسار فيهم رئيسُهم الحارث ابن أبي ضِرار بن المُصْطَلِق فدعاهم إلى حرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم خرج إلى القبائل الجباورة وحرَّضهم على حرب النبي -صلى الله عليه وسلم- فأجابوه لذلك، وتجمَّعت جموعٌ لهذه الغاية الدَّنيئة الخسيسة: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ﴾ [التوبة: 32].
    ووصل الخبرُ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ بني المُصْطَلِق جمعوا الجموع لغزوة المدينة، فبعث العيونَ -الجواسيس- يتأكَّدون من هذا الخبر، وهذا هو أدب التَّثبُّت من الأخبار: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6].
    جاء الخبر لرسول الله أنَّ بني المصطلق يريدون الهجوم على المدينة، فبعث يتأكَّد أولًا، فبعث مَن يأتيه بالخبر، فأكَّدوا الخبرَ، أنَّ بني المصطلق يتجهَّزون للهجوم على المدينة.
    فكان لابُدَّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من التَّحرك السَّريع نحو هذه الجموع؛ لتفريقها وتلقينها درسًا قاسيًا لا تنساه، يكون رادعًا لغيرها من القبائل التي تُفكِّر أن تَحْذُوا حذوها في حرب الرسول وغزو المدينة.
    فخرج -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه إلى بني المُصطلق، فباغتوهم -فاجؤوهم- في ساعةٍ لم يتوقَّعوها، بل لم يتوقَّعوا الهجومَ أصلًا؛ لأنَّهم كانوا يظنون كلَّ الظن أنَّ هذه المصائب التي أصابت المسلمين قد أضعفتهم، فلم يروعهم وهم على بئرٍ يُقال لها "المُرَيْسِيع" إلا والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في جيشه.
    ففجأةً وهم يسقون من البئر وجدوا الجيشَ؛ فتفرَّقوا يمينًا وشمالًا وولوا الأدبار، فلم يُقتَل منهم إلا عشرة، وأُسِروا كلهم.
    وسبى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- النِّساء والذَّراري، وغنم الأموال دون أي مقاومةٍ تُذكَر، وبهذا لقَّن -صلى الله عليه وسلم- بني المُصْطَلِق وغيرَهم من القبائل الجكاورة درسًا لا ينسونه، فأراهم من نفسه أنَّ به وبالمسلمين قوةً قادرةً على حماية المدينة، ورد كلِّ مَن يُريدها بسوءٍ.
    ورجع -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بالأسرى والسَّبايا والذَّراري والغنائم والأموال.
    وكانت في السَّبي جُويرية بنت الحارث بن أبي ضِرار بن المُصْطَلِق ملك بني المُصْطَلِق، فوقعت في سهم واحدٍ من الصَّحابة، فلمَّا وُزِّع السبيُ على الج اهدين كانت من نصيب واحدٍ من الصَّحابة، فكاتبته.
    ما معنى كاتبته؟
    أي اتَّفقت معه أن تُعطيه مبلغًا من المال ويُعتقها ويردها إلى أهلها.
    فجاءت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تستعين على كتابتها، فقالت له: يا رسول الله، أنا فعلت كذا وأُريدك أن تُساعدني.
    فرأى -عليه الصلاة والسلام- بحُسن رأيه ودقَّة نظره أن يُكرمها ويرفع من شأنها، ويُنزلها منزلتها اللائقة بها كبنت ملكٍ أو رئيس قومٍ.
    فهي قد أتت إليه تقول: ساعدني حتى أدفع لصاحبي؛ كي أرجع لأهلي.
    فعرض عليها أن يدفع عنها كتابتَها وتكون مهرَها ويتزوَّجها، فوافقت-رضي الله عنها.
    عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: وقعت جُويرية بنتُ الحارث بن أبي ضِرار بن المُصْطَلِق في سهم ثابت بن قيس بن شَمَّاس، أو ابن عمٍّ له، وكانت امرأةً مُلَّاحَةً، لها في العين حظٌّ.
    أي كانت على قدرٍ من الجمال والحُسن والبهاء.
    قالت: فجات تسأل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- في كتابتها، فلمَّا قامت على الباب فرأيتها كرهتُ مقامها، وعرفت أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سيرى منها مثلَ الذي رأيت.
    فقالت: يا رسول الله، إني جُويرية بنت الحارث، وقد كان من أمري ما لا يخفى عليك، وإنِّي وقعتُ في سهم ثابت بن قيس فكاتبته على نفسي، وجئتُك يا رسول الله أستعينك على كتابتي.
    فقال -صلى الله عليه وسلم: «أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟». ما رأيك في مسألةٍ وأمرٍ أحسن مما تعرضينه؟
    قالت: وما هو يا رسول الله؟
    قال: «أَدْفَعُ عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجَكِ».
    قالت: قد فعلت.
    فما هو أن تزوَّجها، حتى قال أصحابُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أصهارُ رسول الله تحت أيدينا. أي صاروا مُصاهرين للرسول وهم عند عبيدٌ، فالصَّحابة لما رأوا الرسولَ تزوَّج جُويرية قالوا: أصهار رسول الله تحت أيدينا!
    فبادروا فأطلقوا سراحَ السَّبايا كلهنَّ، قالت عائشة: "فما رأيتُ امرأةً كانت أعظم بركةً على قومها منها، أُعتِق بسببها أكثر من مائة أهل بيتٍ من بني المُصطلق".
    وكان لهذا التَّصرف من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه أثره العظيم في نفوس بني المُصطلق، حيث رأوا أنَّ هذا التَّصرف لا يمكن أن يكون تصرف ملكٍ؟ لماذا؟
    لأنَّ الملوك لا يفعلون هذا الفعل، ولا يُحسنون هذا الإحسان، وإنَّما الملوك كما قال ربُّ العالمين: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل: 34]، لكن محمدًا لم يفعل شيئًا من ذلك، بل رفع من شأن جُويرية، وأكرمها وأعزَّها، وتزوَّجها، ورفع بذلك الزَّواج المبارك من شأن أبيها، وأُطلِق أكثر من مائة أهل بيتٍ بسبب هذا الزواج المُبارك.
    فلمَّا رأى الحارثُ بن أبي ضِرار هذا التَّصرف أيقن أنَّه لا يمكن أن يكون تصرُّف ملكٍ، وأنَّ هذه الأخلاق إنَّما هي أخلاق النُّبوة، وأيقن أنَّ محمدًا لابُدَّ أن يكون رسول الله حقًّا، فأسلم ودعا قومه بني المُصطلق للإسلام، فأسلموا وحسُن إسلامهم، وكانوا بعد ذلك حُماة الإسلام والدُّعاة إليه -رضي الله عنهم وعن أصحاب رسول الله أجمعين.
    هذه هي غزوة بني المُصطَلِق.
    حدث في هذه الغزوة حادثتان عظيمتان:
    أولهما كادت أن تُفرِّق جمعَ المسلمين، وتُمَزِّق شملَهم، فتدارك رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الأمرَ بفطنته وذكائه وحُسن رأيه وكياسته السياسية وحنكته السياسية، وقضى على المشكلة والنِّزاع الذي حصل.
    والمشكلة الثانية أو الحادثة الثانية عالجها ربُّ العالمين -سبحانه وتعالى- بنفسه، وأظهر فيها الحقائق.
    هاتان الحادثتان اللَّتان حدثتا في غزوة بني المُصطلق هما:
    الأولى: كان قد خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بني المُصطلق نفرٌ من المشركين، فكان خروجُهم شوكةً وسط ورود النَّصر، وصبرًا وسط حلاوة الغنيمة، وكدرًا عكَّر صفوَ القلوب المؤمنة.
    بدر هؤلاء المنافقون إلى بلبلة الموقف، وزعزعة الرأي، وإثارة الفتنة، وغرس بذور الفُرقة في النُّفوس، وإثارة العصبية الجاهلية. كيف تم ذلك؟
    عن جابرٍ -رضي الله عنه- قال: كنا في غزاةٍ -قال سفيان: يرون أنَّها غزوة بني المُصطلق- فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار -كسع: أي ضربه برجله- فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المُهاجري: يا للمُهاجرين. فسمع ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟».
    قالوا: يا رسول الله، كسع رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار.
    قال: «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». لا تقولوا: أنت من المُهاجرين، وأنا من الأنصار. ولا تقولوا: أنت كذا وأنا كذا، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ [آل عمران: 103].
    قال: «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وانتهت القضية.
    فسمع عبدُ الله بن أُبي بالخبر، أنَّ واحدًا من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار، فقال: أوَقد فعلوها؟ لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ.
    يعني -لعنه الله- بالأعزِّ نفسه، وبالأذلِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
    فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عُنق هذا المُنافق.
    فقال -صلى الله عليه وسلم: «دَعْهُ يَا عُمَر، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».
    قال الإمامُ النَّووي -رحمه الله: "قول النبي لعمر: «دَعْهُ، لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، فيه ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من الحِلْم، وفيه ترك بعض الأمور المُختارة، والصَّبر على بعض المفاسد؛ خوفًا من أن تترتب على ذلك مفسدةٌ أعظم منه.
    وكان -عليه الصلاة والسلام- يتألَّف الناسَ، ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم؛ لتقوى شوكةُ المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكَّن الإيمانُ من قلوب المُؤلفة، ويرغب غيرُهم في الإسلام، وكان يُعطيهم الأموالَ الجزيلة، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى؛ ولأنَّهم في الظَّاهر مسلمون، وقد أُمِر بالحكم بالظَّاهر وترك السَّرائر إلى ربِّ العالمين سبحانه؛ ولأنَّهم كانوا معدُودين في أصحابه ويُجاهدون معه، إمَّا حميَّة أو لطلب دنيا، أو عصبية، أو غير ذلك".

  • #2
    رد: حادثة الافك .. فقه السيرة

    ولقد كان لهذا التَّصرف الجليل ولهذا الحلم والعفو من الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ابن أُبي أثرُه في نفوس الصحابة كلهم، ولا سيَّما في نفس عبد الله بن عبد الله بن أُبي، فما أن رجعوا إلى المدينة حتى قام عبدُ الله بن عبد الله بن أُبي على بابها، وطفق الناسُ يمرون حتى إذا مرَّ عليه أبوه وأرد أن يدخل، قال: تأخَّر.
    الابن يقول للأب: تأخَّر، ارجع، والله لا تمر ولا تدخل المدينة حتى تُقِرَّ بأنَّك الذَّليل ورسول الله العزيز.
    ففعل مُكرهًا، وصدق الله إذ يقول: ï´؟لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم برُوحٍ مِّنْهُ وَيدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَï´¾ [المجادلة: 22].
    أمَّا الحادثة الثانية التي تولى الله -تبارك وتعالى- بنفسه علاجَها وإظهار الحقِّ فيها وإبطال الباطل فيها، فهي حادثة الإِفْك، تلك الشَّائعة التي روَّجها أيضًا عبدُ الله بن أُبي ضد أُمِّنا عائشة المُبَرَّأة من فوق سبع سماوات -رضي الله عنها وأرضاها.
    فما هي هذه القصة -قصة الإفك وحادثة الإفك؟ وكيف ظهر؟ وكيف نشأ؟ وكيف تلقَّاه الناس؟ وكيف نزل الوحي بفصل الخطاب في المسألة؟
    لنترك صاحبةَ الشَّأن -رضي الله عنها- أُمَّنا عائشة -رضي الله عنها- تُحدِّثنا عمَّا كان من أمرها من حديث الإفك أو حادثة الإفك.
    عن أمِّ المؤمنين عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم ورضي لله عنها- قالت: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يخرج في سفرٍ أقرع بين أزواجه، فأيتهنَّ خرج سهمُها خرج بها معه.
    كان -عليه الصلاة والسلام- حين يريد أن يُسافر يعمل قرعةً بين النساء أمّهات المؤمنين، يريد واحدةً معه فمَن يأخذ؟ يعمل قرعة، فأيّة امرأةٍ خرج سهمها أخذها معه.
    قالت -رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها فخرج سهمي، فخرجتُ بعدما أُنزل الحجاب، فسرنا حتى إذا فرغ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوته تلك وقَفَل -أي رجع- ودنونا من المدينة، آذن رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ليلةً بالرَّحيل.
    فأنت تعلم أنَّهم كانوا يُسافرون بالبر مسافات طويلة، وبين الحين والآخر يستريحون في الطريق، فيتغدون، ويتعشون، ويرتاحون، وينامون، ثم يمشون.
    تقول أنَّه لما رجع -عليه الصلاة والسلام- من الغزوة واقترب من المدينة نزل منزلًا للراحة، ثم أمر المُنادي أن يُنادي: هيا اركبوا كي نمشي.
    قالت: فقمتُ حين آذنوا بالرَّحيل فمشيتُ حتى جاوزت الجيشَ.
    أي أنَّه حين قال: اركبوا. أرادت قضاء الحاجة، فذهبت بعيدًا فقضت حاجتها.
    تقول: فلمَّا قضيتُ من شأني أقبلت إلى الرَّحْل.
    فقد كانت تركب هَوْدَجًا، والهَودَج عبارة عن كنبتين تُوضعان على الجمل، إحداهما على اليمين والأخرى على اليسار، ويغطوها بستارةٍ كبيرةٍ مرفوعة على أربع خشبات، وتكون هي بالدَّاخل، وكان جماعةٌ من الناس مُوَكَّلين بأن يرفعوا الهَوْدَج وينزلونه.
    قالت: فلمَّا قضيتُ شأني أقبلت إلى الرَّحل فلمستُ صدي فإذا عقدٌ لي من جذع أظفار قد انقطع.
    فقد كانت لابسةً شيئًا في صدرها فانقطع ولم تجده.
    قالت: فرجعتُ فالتمستُ عقدي -أي أخذت تبحث عن العقد- فحبسني ابتغاؤه –أي تأخَّرت وهي تبحث عنه- وأقبل الرَّهطُ الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هَودَجِي فرحلوه على بعيري الذي كنتُ أركب وهم يحسبون أني فيه.
    فالهَوْدَج عبارة عن غرفةٍ أو خيمةٍ صغيرةٍ مُتَنَقِّلة، والرسول قال: اركبوا، فجاء المكلفون بتحميل عائشة وتنزيلها فحملوا الهَوْدَجَ وهم يظنونها فيه، ومشوا.
    طيب، كيف لجماعةٍ أن يحملوا هودجًا ولم يشعروا أنَّ الساكنة غير موجودةٍ بهذا البيت؟!
    قالت: وكان النِّساء إذ ذاك خِفافًا لم يثقلن، ولم يغشهنَّ اللحمُ، إنَّما يأكلن العَلَقَةَ من الطعام، فلم يستنكر القومُ خِفَّة الهودج فحملوه، وكنتُ جاريةً حديثةَ السن.
    فالرسول -عليه الصلاة والسلام- تزوَّجها في السنة الثانية تقريبًا من الهجرة وهي بنت تسع سنين، وغزوة بني المُصطلق كانت سنة خمس تقريبًا، فيكون عندها وقتئذٍ اثنا عشر أو ثلاث عشر سنة، فهي جارية صغيرة، ليس لها جثة، فالرِّجال حين حملوا الهودجَ لم يشعروا بالفارق في الوزن.
    قالت: فبعثوا الجمل وساروا، فوجدتُ عقدي بعدما استمر الجيشُ – أي أنَّها لما وجدت العقد رجعت- فجئتُ منازلهم وليس بها داعٍ ولا مُجيب –أي رجعت للمكان الذي نزلت فيه فلم تجد أحدًا.
    قالت: فتيمَّمتُ منزلي الذي كنتُ فيه، وظننتُ أنَّهم سيفقدونني فيرجعون إليّ.
    أين تذهب في الصَّحراء؟! قالت: أفضل شيءٍ أظل جالسةً في نفس المكان؛ لأنَّهم متى شعروا أنني لستُ في الهودج سيرجعون إليَّ، فحين يرجعون إلى المكان يجدونني.
    قالت: فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمتُ، وكان صفوانُ بن المُعَطَّل السُّلَمي عرَّس من وراء الجيش -عرَّس أي بات بالليل- فَأَدْلَجَ -أي أصبح الصباح مبكرًا يمشي- فأصبح عند منزلي، فرأى سوادَ إنسانٍ نائم- أي رأى واحدًا نائمًا ومُغَطًّا، فلم يعرف مَن هو، رجل أو امرأة؟- فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب.
    يعني لما نامت -رضي الله عنها- كأنَّ وجهها انكشف كما يفعل النَّائم، فلمَّا دنا صفوانُ رآها.
    قالت: فاستيقظتُ باسترجاعه: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله! أي تركوا أم المؤمنين ومشوا؟! هذه مُصيبة! فاسترجع.
    قالت: فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني، فخَمَّرت وجهي بجلبابي.
    فهي لما قامت من النوم ورأت أنَّ وجهها مكشوف غططت وجهها.
    تقول -رضي الله عنها: والله ما كلَّمني بكلمةٍ، ولا سمعتُ منه كلمةً غير استرجاعه: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم!.
    وهوى حتى أناخ راحلته –أي برك الجمل- ووطئ على يديها فركبتُها.
    فأعطى لها ظهره، وبرك الجمل، اركبي فركبت.
    قالت: فانطلق يقود بي الرَّاحلة حتى أتينا الجيشَ وقد نزلوا مُوغِرين في نحر الظَّهيرة، فهلك مَن هلك في شأني.
    فابن أُبي -لعنه الله- حين رأى امرأةً راكبةً الجمل، ورجلٌ يقود بها. قال: مَن هذا؟
    قالوا: صفوان.
    قال: ومَن الرَّاكبة؟
    قالوا: عائشة.
    قال -لعنه لله: انظروا إلى امرأة نبيكم باتت مع رجلٍ أجنبي، ثم أصبح يقود بها، والله ما سلمت منه ولا سلم منها -لعنه الله.
    قالت: وكان الذي تولى كِبْرَ الإفك عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة، فاشتكيتُ شهرًا -مرضت- والناس يُفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر.
    فهي مريضة تجلس في البيت ملازمة للفراش، والناس يتكلَّمون في الخبر، تلك الكلمة الأَفَّاكَة الأثيمة التي قالها ابنُ أُبي لاكتها الألسنُ والناس تتكلم، وعائشة في البيت ملازمة للفراش لا تعرف شيئًا.
    قالت: ولكن يُريبُني في وجعي أني لا أرى من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اللُّطْفَ الذي كنتُ أرى منه حين أشتكي.
    تعلمون أنَّ عائشة هي أحب نساء النبي إليه، وقد صرح بذلك، فقيل: يا رسول الله، مَن أحب الناس إليك؟ قال: «عَائِشَةُ». قالوا: لسنا عن هذا نسأل.
    فكان يُحبها حبًّا جمًّا.
    فتقول: لما كنتُ أمرض كنت أرى منه اللُّطْفَ والمُداعبة والدَّلال، فهي زوجة حبيبة مريضة، فزوجها الحبيب يُؤنِسها ويُلاطفها ويُداعبها، لكن هذه المرة هي مريضة وتقول: لم أجد منه ما كنتُ أجده كل مرةٍ من الرسول في المرض.
    قالت: إنَّما يدخل فيُسلم، ثم يقول: «كيف تِيكُم؟» ثم ينصرف.
    قالت: فخرجتُ أنا وأم مِسْطَح.
    ومسطح هذا واحدٌ من المسلمين الصَّادقين، وكان ممن خاضوا في حادثة الإفك، فقد كانوا ثلاثةً -رجلان وامرأة- مسلمين صادقين خاضوا في الإفك مع المنافقين.
    تقول: فخرجتُ أنا وأم مِسْطَح قِبَل المناصِع وهي مُتبَرَّزنا.
    فالعرب كانوا لا يتَّخذون دورات المياه في البيوت، فكان عيبًا ومكروهًا، فالبيت للسكن والإقامة والراحة فقط، لكن قضاء الحاجة في الصَّحراء بالخارج.
    قالت: وكنا لا نخرج إلا ليلًا إلى ليلٍ.
    فالنساء حتى تخرج وتقضي حاجتها من اللَّيل إلى الليل.
    قالت: وذلك قبل أن نتَّخذ الكُنُف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الْأُوَل في التَّبرز قِبَل الغائط.
    والأصل في الغائط: المكان المُنخفض في الأرض، فكان الواحد حتى يقضي حاجته يبحث عن أخفض مكانٍ؛ حتى إذا جلس يكون مستورًا ولا يراه أحدٌ.
    تقول: وكنا نتأذَّى بالكُنُف أن نتَّخذها عند بيوتنا، فأقبلتُ أنا وأم مِسْطَح حين فرغنا من شأننا نمشي –أي خرجت هي وأم مسطح في ليلةٍ من الليالي فقضت الحاجة ورجعت- فعثرت أمُّ مسطح في جلبابها -عثرث وهي تمشي- فقالت: تَعِسَ مسطح -الأم تدعو على ابنها.
    فقالت عائشة: بئس ما قلت.
    سبحان الله! انظر ماذا يقول مسطح؟! وماذا تقول أم المؤمنين؟!
    قالت: تعس مسطح. قالت عائشة: بئس ما قلتِ، أتسُبين رجلًا شهد بدرًا؟
    فقالت أمُّ مسطح: ألم تسمعي ما قال؟
    أنتِ يا ابنتي تُدافعين عنه! ألم تعلمي ما يقوله فيكِ؟
    قالت: قلتُ: وما قال؟
    فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددتُ مرضًا إلى مرضي.
    فلمَّا رجعتُ إلى بيتي دخل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فسلَّم، وقال: «كَيْفَ تِيكُمْ؟»
    قلت: أتأذن أن آتي أبوي؟ أي أتسمح لي يا رسول الله أن أذهب إلى بيت أبوي؟
    قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبرَ من قبلهما. أنظر هل عرف أبي وأمي هذا الكلام أم لا؟ وهل هذا الكلام صحيح أم خطأ؟
    تقول: فأذن لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- فأتيتُ أبوي فقلتُ: يا أُمَّتاه، ما هذا الذي يتحدث الناسُ به؟
    فقالت أمُّها: أي بُنَيَّة، هَوِّني عليك، فوالله لقلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وَضِيئةٌ عند رجلٍ يُحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.
    هذه يا ابنتي عادة الضَّرائر، فحين يكون الرجل متزوِّجًا من اثنين، أو ثلاثة، أو أربعة دائمًا يحصل بين الضَّرائر هذا الكلام، فلا تغضبي، فما حدث إنَّما هو شيءٌ يكون بين الضَّرائر.
    فقلت: سبحان الله! ولقد تحدَّث الناسُ بهذا؟
    قالت: فبكيتُ تلك اللَّيلة لم يَرْقَأْ لي دمعٌ، ولم أكتحل بنومٍ.
    فهي طوال الليل تبكي، فلم تنم، ولم يتوقف الدمعُ من عينيها.
    قالت: ثم أصبحتُ أبكي، فدعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- عليَّ بن أبي طالب وأسامةَ بن زيدٍ حين استلبث الوحي.
    فالقرآن لم ينزل، وجبريل لم يأتِ، ولا يعلم الغيبَ إلا الله، فالرسول هو رسول الله حقًّا لكن لا يعلم عائشة بريئة أو غير بريئة، فضلًا عن أبيها وأمِّها فهما لا يعرفان، والوحي لم ينزل.
    فدعا أسامةَ وعليًّا يستشيرهما.
    قالت: فأمَّا أسامة فقد أشار على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بما يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الوُد الذي لهم.
    فقال أسامة: يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم إلا خيرًا. أي هم أهلك، ولا نعلم عن أهلك إلا خيرًا.
    وأمَّا علي فقال: يا رسول الله، لم يُضيق الله عليك، والنِّساء سواها كثير.
    وطبعًا علي هو ابن عم الرسول، وعلي قد فداه بروحه ليلة الهجرة حين نام في فراشه -كما شرحنا في درسٍ سابقٍ- فطبعًا يضره ويُؤذيه أن يرى رسول الله مهمومًا، فهذا هو سبب إشارة عليٍّ بأن يتزوَّج؛ لأنَّ الرسول مشغول برسالةٍ مهمَّةٍ يُريد تبليغها، فلا يشغل بالَه بالنِّساء، فليُطلقها ويرتاح ويفرغ لما كلَّفه الله به.
    قال: يا رسول الله، لم يُضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجاريةَ تصدُقك.
    والجارية هي بَرِيرَة أَمَة عائشة، فقال له: اسألها وانظر ما تقول لك.
    قالت -رضي الله عنها: فدعا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بريرةَ. قال: «أَي بَرِيرَةَ، هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يُرِيبُكِ؟»، هل رأيت يا ابنتي على عائشة شيئًا يجعلك تشكين فيها؟
    قالت بريرة: والذي بعثك بالحقِّ، إن رأيتُ منها أمرًا أَغْمُصُه عليها أكثر من أنَّها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فيأتي الدَّاجِن فيأكله.
    والله يا رسول الله، ما أخذت على عائشة شيئًا غير أنَّها بنت صغيرة، فنعجن العجين ونقول: انتبهي يا عائشة للعجين حتى لا تأكله الدَّواجن، فتنام وتترك العجين، فتأتي الدَّواجن فتأكله.
    قالت: فقام رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- من يومه فاستعذر من عبد الله بن أُبي بن سلول، فقال -صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي».
    قالت: فقام سعدُ بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أنا والله أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقَه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك.
    قالت: فقام سعدُ بن عُبادة وهو سيد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلًا صالحًا، فاحتملته الحَمِيَّةُ، فقال لسعد بن معاذ: كذبتَ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله.
    فقام أُسَيد بنُ حُضَير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عُبادة: كذبتَ، لعمر الله لنقتُلنَّه، إنَّك لمنافقٌ تُجادل عن المنافقين.
    فتثاور الحيَّان الأوس والخزرج حتى كادوا يقتتلون ورسول الله قائمٌ على المنبر، فلم يزل يُخَفِّضهم حتى سكتوا وسكت.
    قالت: وبكيتُ يومي ذلك، لا يَرْقَأ لي دمع، ولا أكتحل بنومٍ، فأصبحتُ عند أبوي وقد بكيتُ ليلتين ويومًا، وهما يظنَّان أنَّ البكاء فالقٌ كبدي.
    وإلى هنا انتهى وقتُ الدرس، ولم ينتهِ الحديثُ.
    فماذا كان بعد ذلك؟ وكيف برَّأ اللهُ -تبارك وتعالى أُمَّنَا عائشة -رضي الله عنها- من فوق سبع سماوات؟
    هذا -إن شاء الله- نعرفه في الدرس القادم، فإلى ذلك الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    تعليق

    يعمل...
    X